مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/الدولة الزائلة
→ شيخ المتشائمين | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 46 الدولة الزائلة [[مؤلف:|]] |
روايات البيان ← |
بتاريخ: 1 - 2 - 1919 |
مقتل القيصر ووصف أخلاقه وشرح سيرته
الكاتب روبرت ويلتون مكاتب صحيفة التيمس في بتروغراد من أكبر الكتاب الذين خبروا روسيا أوسع الخبرة وأقاموا فيها أمداً طويلاً، وقد امتزج بعظمائها وعاشر أكابرها، وأسهم في جميع أنديتها السياسية الكبرى، حتى عد من الثقات في الرأي إذ جاء عن الروسيا أو حكامها، أو شعبها، وقد وضع في الأيام الأخيرة بحثاً مستفيضاً في مجلة مشهورة من مجلات الغرب ذهب فيه مذهباً غريباً ودلى برأيه آية في العجب وهو أن قيصر روسيا لم يقتل ولم يذبح، وإنما لعله يعيش الآن وينعم بالحياة وتتردد فيه أنفاسه. ثم انتقل إلى الكلام عن أخلاق الرجل والبواعث التي بعثت على قتله، والحركة الأخيرة في الروسيا التي أدت إلى سقوط دولة القياصرة، وقد آثرنا أن نطرف القراء بهذا المقال الجديد في الأسطر الآتية:
قال الكاتب:
هل قتل نيقولا الثاني أم لم يقتل. .؟ إن الأنباء التي نشرت بعد الحادث الذي زعموا أنه وقع لم يحققها ثقة معترف بصحته، ولم تأت عليها الأدلة القاطعة، بل لم ينهض لإثبات الحادث إلا ما ورد في الصحف الألمانية وإلا إعلان بالتلغراف اللاسلكي من مجلس حكومة البولشفية، وهذه الأنباء قد اتفقت جميعاً من وجهة واحدة وهي أن القيصر قتله العسكر الذين قاموا على حراسته، وقالوا أنه لم يحاكم القتيل قبل القتل، بل أعدم بالرصاص بلا بحث ولا تحكيم مخافة أن ينقذه عساكر السلوفاك الذين كانوا يدنون إذ ذاك من مدينة أكترنبرج عاصمة مقاطعة اليورال، حيث نقل القيصر أسيراً من مدينة طوبولسك قبل الحادث المزعوم بأشهر. وقد قيل أن القتل حدث في اليوم السادس عشر من شهر يوليو، ثم لا يزال هناك اضطراب واختلاف في هذا التاريخ، إذ تقول بعض البلاغات والأنباء أنه وقع في السادس عشر من شهر يونيو. على أن كثيرين من أصدقائي الروس الذين يعدون ثقات، لا يشك أحد في صدق أنبائهم يكذبون هذه الرواية، ويعتقدون أن القيصر لم يقتل وإنما شبه لهم، وإن إنساناً آخر يشبهه أتم الشبه قتل في مكانه، وهذا هو السبب الذي بعث شكوكي وأقام الريب في فؤادي، ولي الحق في هذا الشك ولي الشفائع لهذه الريبة فق وصفت الصحف منذ زمن كيف جيء بالقائدين المشهورين ألكسيف وكورنيلوف إلى ساحة عمومية في مدينة روستوف على نهر الدون في مبتكر ربيع العام الماضي فأعدما على مرأى من العامة والسابلة، ثم علم القاصي والداني أنهما حيان يرزقان في شهر يوليه.
وكان زعم مقتل القيصر كذلك خطة من الخطط السياسية الألمانية، إذ كانت ألمانيا تطمع في أن تعيد حكومة القيصر إلى عرشها، وتثبت صولجانها في يد قيصرها، فزعموا أنه قتل حتى يثور الكره في قلوب الناس للبولشفية، ويتمنوا لو أن القيصر كان حياً، وتذهب نفوسهم حسرات عليه، حتى إذا حانت الفرصة المناسبة أخرجوه من مكمنه فساقوه إلى عرشه، وقد وقع في التاريخ حوادث من هذا القبيل زعم فيها أن القيصر قتل، ولم يكن قتل ولا صلب، وإنما شبه لهم، فمنذ ثلثمائة عام ادعى كثيرون أنهم قتلوا القيصر بطرس الثالث، مع أن ذلك القيصر الأسبق قد خنق بأمر زوجته التي أصبحت بعده القيصرة كاترين الكبرى، وقد اتفق بعد ذلك أن القيصر ألكسندر الأول الذي زعموا أنه مات فجأة على أثر إعلان حرب القرم، ظهر بعد ذلك أنه كان على قيد الحياة سنين عدة ناسكاً في سيبريا الشاسعة.
وقد حدثني أحد الصدقاء الذين نجوا من مخالب الموت على أيدي زعماء البولشفية في الوقت الذي زعم أن القيصر قتل فيه بأنه لا يستطيع لمقتل القيصر تصديقاً، وراح يقول: أنهم قبضوا علي وحكموا بالإعدام خمس مرات في بضعة اسابيع، وقد عرفت كيف كان من السهل جداً علي أن أنجو من أيديهم، وفي الروسيا خلق كثيرون هم أشبه بالقيصر من الليلة بالبارحة، ولعل الجند الذين كانوا على حراسته أخطأوا ووهموا فيه فظنوا الرجل القيصر، وهو ليس هو، ولعلكم تتذكرون أن الجند الروس في أوائل هذه الحرب كثيراً ما جاؤوا بأسير من الأعداء زاعمين أنه غليوم أو هندنبرج، ولا يكاد يفلت السجين في الروسيا من أيدي السجانين والشرط والحراس حتى يستطيع أن يصيب جوازات سفر مصطنعة بكل سهولة، فمنذ قامت حكومة البولشفية أصبحت إدارات الحكومة تتاجر تجارة عظيمة في كل قرية ومدينة ببيع الأوراق الرسمية أو جوازات السفر بثمن بخس - دراهم معدودات.
وقد رأيت القيصر نيقولا الثاني منذ كان صبياً صغيراً، ثم شهدته فتى يافعاً يمشي إلى جانب زوجه مريم، وهما يلوحان يومذاك زوجين جيدين سعيدين، يضحكان ويبتسمان في وجوه الجميع الذين يحوطونهما، وكان نيقولا يلوح أضعف جثماناً من أخيه جورج الذي قضى نحبه من السل في أنضر مراحل العمر، وقد اجتهد مستر هيث المعلم الإنكليزي الذي ألقي إليه أمر العناية بتأديب الفتى نيقولا في تربيته على الطراز الإنكليزي وقد رأيته بعد ذلك قوي الجثمان صلب العود جهير الصوت إذ جعلت الرياضة والألعاب البدنية التي لقنها على الطراز الإنكليزي رجلاً قوياً من ذلكم الفتى الضعيف النحيف الأعجف القصير القامة، ولكن لسوء الحظ لم تستطع التربية أن تزيل نقائض الخلق ومعائبه، فراح الجثمان قوياً صلباً، ولما يزل جداره الذي يقوم عليه ضعيفاً متأوداً، وكان بطبيعته ذكي الفؤاد، أسوه بأهل جلدته فبقي الرجل ضعيفاً مستليناً مسترخي الإرادة يستمع لكل إنسان، دون أن يحكم فيما يسمع رأياً، أو يدير فكراً، أو بصراً، وأصبح بذلك هدفاً للحاشية، وضحية في أيدي الأدنياء وأهل المآرب السوأى، ولكنه مع ذلك كجميع ضعفاء الإرادة قد ينقلب في بعض الأحيان فيكون أعند خلق الله ولاسيما إذا اعتدى أحد على ما يحبه أو يهواه.
وكانت هذه النقائض الخلقية معروفة عند المقربين منه وأهل البلاط، قبل اعتلائه العرش، فجعلوا يستخدمونها في سبيل مصالحهم وغاياتهم، وكان القيصر من أصحاب الشخصيات المزدوجة، فإن في فؤاده ناحية من الخير، يقابله في الناحية الأخرى الشر كله، وقد قال أحد أقاربه أن الرأي الأول الذي يخطر للقيصر طيب صالح، ولكنه قد ينفذ الرأي الثاني، وهو عند الناس جميعاً أصلح من الأول، وإن كان عند القيصر أسوأ وأدل على الفطرة الشريرة.
ولعل أسوأ ما يقال عن القيصر نيقولا الثاني أنه لم يظهر في حياته شيئاً من الشخصية، بل كانت حياته طوال عمره بلا لون، ولم يكن يبدو في طبيعته شيء من الشر في طفولته أو شبابه، ولم تكن له مخاطرات الشباب وشقاواته ومجازفاته، بل كان ضؤولة من الضوؤلات، وكان هادئاً ساكناً كأتفه الأشياء سكوناً بل كان كل ما يتلذذ به ويتلهى في صباه ورجولته وكهولته هو الجلوس ليلاً على ضباط حرسه القيصري، ومحادثتهم والسمر معهم، واحتساء المقادير الكبيرة من الخمر والمشروبات الكحولية ثم يتلو ذلك الغناء والضحك والرقص والمجون.
ولم تكن له ملذات غير تلك، ولا ملاهي ولا عادات ولا منازع وأميال، وكانت رياضاته منتهى البساطة والهدوء، وكان أحب شيء إليه المشي ولم يكن يميل إلى الصيد والقنص أو ركوب الزوارق، وكانت الغابات التي حفظت لصيده في بولونيا ولثوانيا قلما تراه أو تشهده، وكانت الرسوم الإمبراطورية تقضي عليه أن يمكث دهراً في البحرية والجيش، فاشتغل في كليهما، ولكنه لم يكن مع ذلك جندياً ولا بحرياً، وقد يظن الغربيون أن هذا هو الغباء والبلادة بعينها، ولكن القيصر كان في ذلك كبقية أهل الروسيا، ولا سيما الطبقة الراقية المثرية منهم، فهم أكره الناس للرياضات الخطرة التي تطلب إنهاك البدن، وإتعاب الأعصاب، ولعل السبب في ذلك هو جو الروسيا ومناخها فهو لا يعين الناس على طلب الرياضة بل يعيقهم ويصدهم، وقد كان القيصر يشبه أمته في صفة أخرى، وهي نزعة الأوهام والخرافات.
فقد كان أهل البلاد قبل ظهور الرجل الغريب راسبوتين يعنون أشد العناية بالأمور الروحانية، وكان الدجالون من جميع الأجناس والأشكال والألوان ينزلون بالقصر كأحب الضيوف، وأكرم النازلين، وأعز الزوار، نذكر من هؤلاء الشقي فيلبس والدكتور باباس، فقد طلب أهل القصر حضورهما من باريس خاصة لاستحضار الأرواح في القصر وإلقاء محاضرات في الإسبرايتيواليزم وقد اهتم القيصر والقيصرة بهذا الموضع إذ حضهما عليه أميرتان من أمراء الجبل الأسود كانتا تقيمان في البلاط الروسي وكانت إحداهما الأميرة ميلتزا التي تزوجت بعد ذلك الغراندوق نيقولا قائد الروس المشهور.
وينبغي أن تعلم أن الروس قوم متدينون يضرب بهم المثل في نزعاتهم الدينية واستمساكهم بالخزعبلات والأوهام، والسواد الأعظم من الأهلين فلاحون، يعيشون هدفاً للجهل والخرافة، ولا يشغل أذهانهم إلا أمران، أرضهم والشراب، فهم لا يملون منهما، ولا يبرمون بهما، ولا يشبعون من الأرض ولا يصيبون من الخمر رياً، فهم أعطش الناس إليها، وإن ملأت بها أجوافهم، ولذلك كانت الخمر والخرافة والنزاع إلى تصديق الأوهام كثيراً ما تؤدي بالروس إلى أمور غريبة وطرق عجيبة، وهذا هو منشأت وجود طوائف مختلفة غريبة الأطوار في الروسيا بين متصوفين ونساك ومعذبين لجسومهم في سبيل تطهير أرواحهم، وتشويه أبدانهم، وجذع أنوفهم، وما إلى ذلك من ضروب العذاب، ومنهم خلائق كثيرون يحبسون أنفسهم في دورهم ويطلقون النيران تأكلهم هم وبيوتهم، ومن بين طوائفهم المتعددة طائفة تسمى فلاجلانت يعذبون أنفسهم ويسومونها أشد الخسف، قاصدين بذلك إبادة جنسهم، وانقراض عنصرهم من الأرض بنة، ومنهم طائفة أخرى تسمى محاربي الأرواح، يعملون على إبادة النسل والأملاك والحرث والضرع وقد أدخلت تعاليم المسيحية منذ زمن غير لبعيد ولكن الكنيسة كانت أشد ويلاً وحرباً عليهم من سواها، فبقيت الأوهام على حالها، بل اشتدت وتفاقمت وكره الروس القساوسة والكهنة ورجال الدين حتى أصبح الاعتقاد بينهم سائداً أن الرجل الذي يلقى قسيساً في الطريق يصيبه الشؤم، ويعاجله النحس، طوال نهاره، والفلاحون يبصقون وراءهم إذا التقوا بالقسس في الطرق تفادياً من الشؤم، ولم يكن معشر الدينيين ورجال الكنيسة يصيبون شيئاً من الاحترام في الروسيا، لا من الطبقة العامة والصعاليك ولا من المهذبين ورؤوس القوم وسادات الشعب.
على أن هناك بضعة أفراد من رجال الدين استطاعوا أن يحدثوا تثيراً عظيماً في نفوس القوم، لأنهم كانوا أخوان فضل وقوماً أخياراً، تقاة مخلصين، ومنهم أليادور الذي أثر في قلوب النساء في مقاطعات الفولجا وتبعه منهن ألوف إلى الحج إلى الأماكن المقدسة، وبنى أشياعه كنيسة عظيمة أمنع من الحصن وأمتن جداراً. وهناك جعل يستخف بالسلطات الحكومية والدينية أشد الاستخفاف.
وكان راسبوتين شخصاً آخر من الأشخاص الغامضين ذوي التأثير العجيب السحري الرهيب، ولا سيما أنه كان جاهلاً كأفراد الشعب أمياً لا يقرأ ولا يكتب وفلاحاً شريراً لا خير فيه وقد أشاع عنه الناس قصصاً غريبة، ووضعت عنه حكايات خرافية لا يحصيها العد، ولكن أمر الرجل لا يحتاج إلى كل هذه القصص فإنه لم يكن له تأثير إلا على النسوة، أما الرجال فلم يحدث فيهم حدثاً، وكان راسبوتين هذا اسمه معناه في الروسيا (الخليع الإباحي المتهتك) وفقد كان الرجل في الحقيقة كذلك، وقد كان مولده في قرية صغيرة في سيبريا، واشتغل في أول أمره خادماً في دير فتعلم بضع كلمات من الإنجيل واقتطف منه شذرات كان يسمعها من أفواه سكان الدير وساداته.
وكانت نساء الطبقات العالية والطبقات الدنيا في الروسيا تعتاد بين الحين والحين زيارة الأديرة الواقعة في أنحاء المملكة، وأما النسوة الصغيرات فكن يسعين إليها على القدام، يستجدين في الطريق ويسألن الحسنات، حتى يبلغن الدير فيقدمن تحفاً وهدايا لزعماء الدير وأهله، وأما النسوة الغنيات فكن يركبن القطار أو يسافرن في المركبات وينزلن بأفخم الحجرات من الأديرة، فالتقت يوماً سيدة من الأنجم الزهر في الروسيا براسبوتين في ذلك الدير الذي كان خادماً به، فأعجبت به وراق في عينها فاصطحبته في رجعتها إلى موسكو ولم تكد تحتويه تلك المدينة حتى اصبح يختلف إلى أبهى أبهاء القوم ويزور أفخم أسمارهم، وظل يدنو رويداً رويداً من التعرف بأهل البلاط والتردد على أفواههم.
ولست بحاجة إلى إعادة القصة التي تحكي عنه وكيف أثر في ذهن الإمبراطورة حتى اعتقدت أنه قادر أن يشفي ابنها الصغير من مرضه ويرد غليها حياته، وينقذ أنفاسه وكانت تتردد على شفتيه وكيبف أصبح راسبوتين فمن الخطورة في البلاط جعل له النفوذ الأكبر في حكومة القيصر، وأثار السخط على تلك الحكومة في نفوس الشعب، وجر عليها الويل والحرب، وكيف كان في الجيش إذ طن أنه من صنائع الألمان فعمل على قتله والتخلص من شره، بل اقتصر على ما لم يذكر في الصحف من التفاصيل الحقيقية عن مقتله.
في أواخر سنة 1916 أجمع طائفة من الضباط في بطرغراد على قتل راسبوتين. فجعلوا يقربونه ويتحببون إليه، حتى تمكنوا من دعوته إلى قصر البرنس فيلكس يوزيوف، أحد اقار بالقيصر وأنسبائه من ناحية الزواج، وجاءوا بفتاة من الراقصات تدعى المدموزايل ج. . . لتكون الفخ والطعم للصيد والاحتيال وكان من بين الأضياف الغراندوق ديمتري ابن عم القيصر ونائب مشهور في عالم النواب يدعى بيورشكفتس، فلما اكتمل العقد، وابتدأت المأدبة. راح راسبوتين كعادته يلح على الشراب، ويفرط في احتساء الكؤوس، واشتفاف الأقداح، فلما نتشى وسكر حتى أصبح لا يعي من فرط السكر قدم إليه كأس مسمومة فاجترعها، وانصرفت إذ ذاك الراقصة التي جيء بها لأنها كانت قد أتمت مأموريتها، فلما شربها جعل القوم ينظرون إليه محملقين، منتظرين أنه سيخر ميتاً، فلم يبد عليه شيء من ذلك، ولعل ذلك لأن السم لم يكن فعالاً زعافاً، أو لأنه شرب قبله مقادير كبيرة من الشراب، ولكنه لم يلبث أن اضطرب قدماه، ونهض مترنحاً يريد الباب، فلبث البرنس فليكس وشركاؤه لحظات ينظرون إليه، ثم نهض الأمير بعد ذلك فتبعه وهو معتقد أنه سيراه بعد الباب بخطوات منبسطاً على أرض الحجرة قتيلاً، ولكن لشد ما كانت دهشته إذ رآه واقفاً في الحجرة المداورة تحت أيقونة تمثل صورة المسيح، وهو يكلم أحد خدم القصر، وهو يلوح كأنه يغالب إرادته ويحاول الاستناد والوقوف على رغم قوته، فرفع الأمير إذ ذاك مسدسه وأطلق الرصاص على صدر الرجل، فخر جثة هامدة، وعادة الأمير وقد اطمأن إذا ذاك ووثق أن المسموم قد قتل، فهرع إلى الحجرة الأخرى وأنبأ أصحابه بالخبر، فنهضوا جميعاً وراحوا يشهدون مصرع راسبوتين، فلم يلبثوا أن دهشوا أعظم الدهشة، إذ رأوا الرجل يزحف على الأرض يريد أن يفارق البيت جهد قوته، فأخرج كل مسدسه وأطلق الجميع الرصاص فأجهزوا عليه ثم حملت الجثة بعد ذلك إلى سيارة بالباب ونقلت إلى أحد ارباض المدينة فطرحت في النهر، حيث أخرجت منه غداة الغد.
هذه هي تفاصيل مقتل راسبوتين على حقيقتها كما قصها علي شاهد عيان، ولكن ذيل القصة لا يزال أغرب وأعجب، فقد كان يعتقد براتوبولوف الوزير المجنون الذي أراد أن يجاهد الثورة وكانت تعتقد القيصرة المتهوسة أن موت راسبوتين ولا ريب جالب النحس على الروسيا داك عرشها، ذهاب بريحها، وأما الشعور الذي ثار في أفئدة القتلة فلا يعرف عنه شيئاً، بل أن ما أعرفه هو أنهم في بادئ الأمر ابتهجوا باختفاء هذه الشخصية المفسدة الضالة، ولكن لم تكد تمضي بضعة أشهر حتى بدأ يغلب عليهم الاضطراب وتساروهم الوساوس، ويتلجلج في أذهانهم المريضة أوهام وخرافات، فأما الأميرة الشابة زوجة البرنس فيلكس يوزوبوف فقد قضت أيامها وهي ترسم أشكالاً مبهمة غامضة على الورق وتقول أن يدها تخط على هذى راسبوتين وأنه يمسك بيدها وهي ترسم تلك الأشباح ولم يكن أحد يستطيع أن يزيل من رأسها تلك الفكرة وهي أنها كانت تخط على الورق رسوم أيقونات وصلبان لأن زوجها قتل راسبوتين وكان واقفاً تحت أيقونة بين يدي الله، وتحت حمايته، وكذلك جنت تلك المرأة وتملكتها الاضطرابات العصبية، وأصبحت حزينة حزناً عميقاً لا براءة لها منه ولا شفاء.
أما زوجها البرنس فكذلك أصبح مطرق الرأس حزيناً واجماً إذ جعل يتراءى له شبح راسبوتين واقفاً تحت الأيقونة في اللحظة التي قتله فيها، واعتقد أنه ارتكب أمراً أداً، إذ قتل الرجل وهو واقف بين يدي ربه، واليوم أصبح الأطباء يخافون أن يؤدي هذا الوسواس بالأمير إلى الجنون، ويذهب برشده، والق يقال أن الروس قوم من الغموض وغرابة الأطوار بحيث يختلفون كثيراً عن بقية شعوب الغرب، حتى لا يكاد أحد يستطيع إدراك منه عواطفهم.
ولنعد الآن إلى ما كنا فيه من أمر القيصر نيقولا الثاني فقد عاش ذلك القيصر طوال حياته مهدداً بالموت في كل ساعة على أيدي الفوضويين، ففي أيامه الأولى كان على حافة الموت الزؤام هو وأسرته إذ أراد القوم اغتيالهم بتحطيم القطار الذي كان يقلهم وهم عائدون من القرم، وكانت الشرطة لا تفتأ تكتشف المؤمرات تلو المؤامرات، وكانت القيصرة من جراء ذلك لا تستريح إذا ابتعد القيصر عنها طرفة عين.
وقد شكا إلي الكثيرون من أصدقائي من كبار موظفي الحكومة في الروسيا ووزرائها من تداخل القيصر في الشؤون الحكومية وقلبه كل نظام يحدثونه، وإفساده كل رأي يرونه، لأنه كان أبداً متقلب الرأي، يصدر الرأي ويمحوه، ويتلبث الفكرة ويعدو عليها فيدفعها، ولذلك لم يستطع وزراءه أن يبقوا على سياسة واحدة أو ينفذوا نظاماً مطرداً، ولم يكن القيصر ضعيف الصحة، بليداً مكسالاً، بل كان دؤوباً مجتهداً، فكان يقضي سحابة نهاره وجزءاً من ليله في قراءة الأوراق الرسمية والتأشير عليها والتوقيع بإمضائه وتدوين ملاحظاته في هوامشها، ولكنه كثيراً ما كان يكتب رأياً على الرسالة، ثم لا يلبث في الصحيفة نفسها أن يضع رأياً مناقضاً للرأي الأول معارضاً مهزئاً، وما ذلك إلا لأنه سمع رأيين مختلفين من جلسائه في تلك اللحظة، من أهل البلاد والحاشية قبل أن ينتهي من تلاوة الرسالة كلها، وزاد في خطر فقدان الشخصية لدى ذلك القيصر، حياة النسك التي كان يحياها، وإخلاده إلى بيته ورعاية أسرته، فهو وإن كان الحاكم المطلق على خمس الكرة الأرضية فقد وظل يعيش كرجل من أوساط الناس حول عشيرته، منكباً على دفتر الحساب، لا فكر ولا ابتكار ولا تأمل ولا نجوى، على أنه ليعز على الرجل العبقري ذي العارضة القوية أن يسوس بنفسه ويحسن السياسة في مملكة شاسعة مترامية الأطراف كتلك الدولة العظيمة المساحة، ولم يكن القيصر يرى غير موظفين وعمال حكومة، وكل منهم يمسك بيده معولاً يريد به أن يهدم ركناً من أركان مملكة القيصر، ولذلك لم تكن بين القيصر والعشب صلة ولا اختلاط وهذه البيئة الوبيلة الفاسدة التي عاش فيها القيصر جعلته أقل الناس اكتراثاً بحقائق الحياة وأبعدهم عن الاحتفال بالأحداث التي تجري في جماهير أمته، فلما حدث ذلك الحادث الذي قتل فيه ألوف من الشعب في يوم التتويج بموسكو، لم يكد يعرف القيصر الأمر الذي حدث، أو يتبين هول النكبة التي نزلت بالقوم ولما حملوا إليه الأنباء بالمأساة البحرية التي وقعت في بورت آرثر، أيام نشبت الحرب الروسية اليابانية، لم يبن عليه أي تأثير بل استرسل في لعبة التنس وكان من كراهية القيصرة للشعب الروسي ما زاد في هذا النقص وجعل الشعب لا يشعر بشيء من الحب للأسرة المالكة.