مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/الاشتراكية
→ فتاوى في الحب والزواج | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 43 الاشتراكية [[مؤلف:|]] |
أبطال الحرب ← |
بتاريخ: 1 - 9 - 1918 |
تعريفها وأركانها
من الصعب أن يأتي الإنسان بتعريف موجز وشامل لجميع العناصر المكونة للشيء المراد تعريفه خصوصاً إذا كان هذا الشيء مبهماً غامض المعنى كالاشتراكية فإنها لا تزال إلى الآن مفككة الأوصال تتشكل بأي شكل يراد منها وتقبل أي تعريف يعطى لها ولذا اختلف الاقتصاديون في تعريفها اختلافاً بيناً وذهبوا فيها مذاهب شتى وقل أن تجد اثنين متفقين في تكييفها وتبيان معالمها وحدودها، فقد اقترحت جريدة الفيجارو في 5 فبراير سنة 1892 على قرائها أن يوافدوها بتعريف الاشتراكية وعينت المسيو دي مولان حكماً لفحص ما يرد لها من الأجوبة فورد عليها ما يربى على الستمائة تعريف، ولضيق المقال نضرب صفحاً عن هذا الخلاف ونكتفي بتعريف المسيو ديشان فإنه أقرب إلى الصواب.
قال المسيو ديشان: الاشتراكية هي إلغاء الملكية الفردية وجعلها ملكية اجتماعية طلباً للمساواة في مرافق الحياة ومراعاة لصالح الفرد وحب العدل.
ومن هذا التعريف يستنتج أن الاشتراكية تتكون من ثلاثة أركان وهي أولاً المساواة، ثانياً إلغاء الملكية الفردية والاستعاضة عنها بالملكية الاجتماعية، ثالثاً الحامل على هذا التغيير وهو مراعاة العدل وإيثار صالح الفرد على الجماعة.
يقول الاشتراكيون أن الأغنياء بتملكهم رؤوس الأموال قد تملكوا زمام الإنسانية وسخروها في خدمتهم وامتصوا دمها ولم يتركوا لها إلا ما يسد الرمق ويمكنها من مداومة خدمتها لهم، يريد الاشتراكيون المساواة بين الأفراد في مرافق الحياة ومصادر الرزق وذلك لينتفي الظلم بين الناس فلا يتخذ بعضهم بعضاً إرقاء يشغلهم ويسخرهم في توفير أسباب رفاهيته ويرهقهم تعباً ونصباً.
لا تعبأ الاشتراكية بالهيئة الاجتماعية ولا تهتم بسعادتها وإنما تهتم بسعادة الأفراد خصوصاً المعوزين والفقراء دون تمييز بينهم بخلاف الفردية فإنها وإن اهتمت بسعادة الفرد وتوفير أسباب هنائه إلا أن بغيتها الحقيقة هي تقوية الهيئة الاجتماعية وتثبيت أركانها، فسعادة الفرد لدى الفردية وسيلة أما لدى الاشتراكية فغاية، إن المساواة التي تنشدها الاشتراكية هي المساواة الحقيقية في الانتفاع بالثروة والاستفادة بمرافق الرزق لا المساواة أمام القانون فقط فهذه من شأن الأحزاب السياسية وهي مساواة اسمية لا حقيقية لها.
وليس من الاشتراكية كذلك محو الفروق الطبيعية التي قد توجد بين الأفراد ومحاولة جعل الناس سواء في القوي الجثمانية والعقلية والأدبية لاستحالة تحقيق هذه الرغبة، ولكن ماذا تفيد هذه الفروق وما عساها أن تأتي به إذا لم يكن لها أثر في الخارج ونتيجة ظاهرة في الحياة للمتفوقين من أبناء البشر الذين خصوا بموهبة سامية أو قوة جثمانية عظيمة، إن عدم الاعتداد بهذه الفروق في توزيع الأرزاق مدعاة لإزالتها ووسيلة لجعل الناس سواء في المدارك والقوى، ولكن هذه الغاية التي قد تؤدي إليها الاشتراكية ليست بالغاية المباشرة التي ينشدها الاشتراكيون إنما غايتهم هي هدم جميع الفروق الصناعية التي أوجدها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
ظهرت فكرة المساواة في الوجود من قرون عديدة وهي فكرة لذيذة تصبو إليها النفوس وترنو إليها الأنظار لجمالها الفتان، ولم تعدم الإنسانية في زمن ما أبطالاً يدعون الناس إلى الرفق بالفقراء والإحسان إليهم وإلى محاربة الفقر ومحو دائرته من الوجود وإشراك الناس جميعاً في الأموال بالتساوي، فأفلاطون كان يمقت الفروق الشاسعة التي توجد بين الأفراد بسبب الغنى والفقر وكان ينادي بضرورة محو هذه الفروق ومساواة المواطنين الأحرار في الانتفاع بالأموال، وهذه أفكار شبيهة بالاشتراكية استهوت عقول بعض العلماء فقالوا إن الاشتراكية مذهب قديم وإن أفلاطون هو المؤسس لها وهذا خطأ عظيم فإن أفلاطون لم يقترح المساواة بين الناس لأنه كان يرى في عدم المساواة ظلماً وإجحافاً شأن الاشتراكية وإنما لأنه كان يرى أن المساواة تكسب المدينة الراحة والسكينة وعلى الأخص تزيدها قوة واقتداراً.
فأفلاطون لا يعبأ بالفرد بل على العكس يضحيه في سبيل المدينة والاستزادة من قوتها.
وعلاوة على ذلك إن المساواة التي يطلبها أفلاطون قاصرة على طبقات مخصوصة لا تشمل جميع سكان المدينة ولا يتمتع بها غير الأحرار أما الأرقاء فلا حق لهم فيها ويجب أن يكونوا بمعزل عنها يعملون لتوفير أسباب الرخاء والرفاهية للأحرار بل كان أفلاطون يرى أن وجود الرق ضروري ولازم لسعادة المدينة، فالمساواة التي كان يطلبها أفلاطون مساواة أرستقراطية أما المساواة الاشتراكية فهي مساواة ديمقراطية يشترك فيها جميع الأفراد من كل الأمم والشعوب دون قيد ولا شرط.
إن لفظة الاشتراكية حديثة جداً وضعت حوال سنتي 1835 و 1836 ثم شاع استعمالها بعد ذلك، ولم يلتفت علماء ذلك العصر إلى الحالة الفكرية التي كان عليها العالم في قديم الزمان وغرتهم فكرة المساواة التي كانت تتردد على ألسنة الفلاسفة القدماء وظنوا أنها اشتراكية مع أنها ليست من الاشتراكية في شيء فإنها مساواة قاصرة على طبقة أو فئة مخصوصة كما سبق بيانه ولأن الحامل عليها هو حب النفع العام وتقليل الشقاء بقدر الإمكان وذلك لا لأن البؤس ظلم وإجحاف بل لأنه مؤلم للعواطف الشريفة: أما الاشتراكيون فإنهم يرون في عدم المساواة ظلماً وإجحافاً ويبغضون الأغنياء ويمقتونهم من كل جوارحهم فالمساواة التي كان يطلبها الفلاسفة القدماء هي مساواة هادئة وقاصرة على الأحرار لاقتسام الأرزاق فيما بينهم دون أن يكلفوا أنفسهم مؤنة العمل فإن العبيد كانوا هم المكلفين به وإذن فهي مساواة استهلاكية بخلاف الاشتراكية فإنها لا تنشد المساواة في الاستهلاك فقط وإنما تنشد المساواة في العمل أيضاً.
إن الاشتراكية مذهب عام لا يخص أمة دون أخرى بل يعطف على الجميع خصوصاً البؤساء والفقراء ورائده حب العدل والتغالي في خدمة الفرد.
وإذ ثبت أن المساواة الاشتراكية تشمل جميع الأفراد ولا تستثني منهم أحداً ظهر أن المسيحية بعيدة عن الاشتراكية وإن جمعيات الرهبان التي تأسست في القرون الوسطى لم تكن اشتراكية بالمعنى الحقيقي ولو أنها كانت مقامة على دعائم المساواة الحقة فإنها كانت قاصرة على أفرادها خاصة لا تتعدى إلى سواهم ولا تسعى إلى نشر المساواة بين الأفراد الآخرين ولا إلى قلب النظام الاقتصادي بل كانت عائشة بمعزل عن العالم تزرع أرضها على الشيوع وتقتات منها على الشيوع لا يهمها من الحياة الاقتصادية الخارجية شيء.
نعم كان السيد المسيح عليه السلام يعطف على الفقراء ويمقت الأغنياء ويحتقر المال ولا يقبل إنساناً ضمن أتباعه إلا إذا تجرد من أمواله وأملاكه وطرح عن كاهله شواغل الدنيا، ولكنه مع هذا لم يكن اشتراكياً فليس من رأيه عدم التداخل في شؤون الحكومة بدليل قوله أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ولم نر من بين أقواله ما يدعو إلى المساواة بين البشر.
ومما لا شك فيه أن الدين الإسلامي مشفق بالفقراء رؤوف بالمعوزين لم يدخر وسعاً في حث المؤمنين على الصدقة وتحبيب الإحسان إلى قلوبهم ولم يترك الفقراء تحت رحمة الأغنياء إن شاءوا أعطوا وإن شاءوا منعوا، بل جعل له نصيباً من الأموال ففرض الزكاة وخصهم بجزء منها حتى لا يكونوا هدفاً للموت جوعاً وأجاز الرق ولم يحرمه تحريماً باتاً ولكنه يمقته ويعطف على الأرقاء ويرثي لحالهم ويدعو إلى معاملتهم بالرفق والي عتقهم حتى جعل العتق كفارة عن الذنوب غير أنه أبقى للأغنياء أموالهم وأملاكهم وأباح لهم التمتع بها ولم يلغ الملكية ولم يشرك الفقراء في أموال الأغنياء وإنما أشركهم في الغلة فقط ولكن بدون مساواة فإن الزكاة مهما بلغت لا تبلغ النصف وجملة القول إن الدين الإسلامي دين غير اشتراكي بالمعنى الحقيقي أيضاً
عبده البرقوقي