الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/أناطول فرانس

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/أناطول فرانس

بتاريخ: 1 - 9 - 1918


ومختارات من كتبه

يعيش اليوم في العالم شيخ أربى على السبعين، ولا يزال يشارك الدنيا في شؤونها بنشاط الفتيان، ويعني بالبحث في أسرار الحياة وفلسفتها بحدة الشباب، وهمة الأقوياء، وقد ظفر بالسيادة في الأدب، وامتلك القمة العالية في التفكير، وأصبحت كتبه وتواليفه فرحة رواد الأدب وعشاقه، وأفكاره وخواطره حديث أهل الفكر وسادته، إذ جاء بآراء جديدة، وانحرف في الفلسفة عن سبيل الفلاسفة الذين تقدموه فقذف إلى الدنيا بنظريات طلية طريفة، وهو محبوب من كل قارئ متأدب، أصاب الإعجاب عند كثير من المهذبين، ذلكم هو أناتول فرانس، الكاتب الذائع الذكر في فرنسا، الطائر الشهرة في كل مملكة يفتح فيها كتاب، ويدرس فيها أدب.

وهو اليوم قد بلغ صميم الشيخوخة، وانتهى إلى سن القعود والوهن، ولكنه لا يزال يكتب ويفكر ويسهم في كل ما يشغل أذهان الكتاب، إذ كان مولده عام 1844 ولعل الفضل في نبوغه أنه منذ طفولته وعهد شبيبته كان يعيش بين المجلدات الضخمة والتواليف العظيمة، محاط في كل مكان بالكتب والأسفار، فقد كان أبوه ورّاقاً كتبياً يصيب رزقه من بيع الكتب، فنشأ أناتول مجلداً صغيراً متحركاً في المكتبة، ينقل الكتاب من الدرج إلى الدرج ويحمل السفر الممتع من ناحية إلى ناحية ولا يفوته أن يلقى نظرة على عنوان الكتاب ليعرف اسم المؤلف، حتى إذا شب عن الطوق جعل يوغل في فهم الكتاب أثر الكتاب، فكان كل ذلك غذاءً طيباً لذهنه الخصيب زاده نبوغاً ومدى فسيحاً تجري فيه عبقبريته، ونحن نقتطف قطعاً قصيرة مختلفة من طائفة من تواليفه.

مختارات من كتاب صديقي

بين كتب أناتول فرانس مؤلف وسمه بهذا العنوان كتاب صديقي وهو تاريخ أناتول فرانس، ووصف لحياته، وأغرب ما في كتب هذا الفيلسوف الغريب أن بطل كل كتاب من كتبه وقصة من قصصه، كأنه صورة من أناتول فرانس نفسه، ورسم حقيقي لخلقه، وكتاب صديقي هذا سفر بديع رائع تلتقي فيه الفلسفة الفكهة، بالأدب المطرب الخفيف الروح.

1 الكوكب

أتمت ابنتي سوزان في هذا المساء اثني عشر شهراً من عمرها وقد امتلأت في الاثني عشر شهراً هذه التي عاشتها في هذه الدنيا القديمة والكوكب العجوز المسن، بالشيء الكثير من علم الحياة، وخبرت العالم، ولو أن رجلاً استطاع أن يكشف في مدى اثني عشر عاماً الحجب عما اهتدت إليه ابنتي سوزان في اثني عشر شهراً، إذن لكان رجلاً إلهياً مقدساً خالداً، والأطفال الصغار لا تزال لهم عبقرية مجهولة لا تدركها الأبصار، وهم يصلون إلى إدراك الحياة بنشاط يفوق طاقة القوة الإنسانية، وخفة لا تزال تقرب من الخفة الشيطانية.

فهلا تعتقدون أيها الناس أن هؤلاء المخلوقات الدقيقة تنظر وتحس وتتكلم وتقارن وتفكر وتتذكر، هل ترونهم وهم يمشون ويدرجون ويغدون ويروحون، أتشهدونهم وهم يلعبون ويلهون، بل أعجب أمورهم، وآخذها باللب، وأبعثها على الحيرة والذهول أنهم يلعبون، لأن اللعب هو أساس جميع الفنون، هو المادة التي استمد منها العالم جميع الآداب والعلوم، أليس شكسبير عمركم الله إلا لعباً وعرائس، وأغاني وأناشيد ولسوزان سلة كبيرة مفعمة باللعب، منها لعب من صنع الطبيعة، وأخريات من صنع الصانع، ومن يد العامل، بين حيوانات من الخشب وأولاد من المطاط، ومنها كثيرات لم تخلق لتكون لعباً فأسعدها الحظ أن أصبحت على يد سوزان كذلك، فمن أكياس نقود قديمة ومن صندوقات محطمة، ومن مساطر ومن مقصات ومن دليل من دلائل السكة الحديد ومن كراسة بالية ممزقة، وفي كل يوم تخرجها سوزان فترتبها فوق مخدتها وتدفعها إلى أمها، ولا تعلم لها شكلاً، ولا ترى فارقاً بين هذه الأشياء الصغيرة، وبين الأشياء الأخرى التي في العالم، وعندها إن العالم بأجمعه ليس إلا لعبة عظيمة مقطوعة ومرسومة.

فلو أننا تعمقنا في نظر هذه الفكرة التي تجول في تلك الروح الصغيرة، وهذه العقيدة في الطبيعة وفي الحياة، إذن لا عجبنا هذا المنطق، ولكن نحكم عليها من ناحية أفكارنا، لا من ناحية أفكارها هي وخواطرها، ولأنها لا تملك العقل الذي لنا نحن نحكم بأن ليس لها عقل، فياللظلم وياللجور وياللطيش، ولكني أنا الذي أعرف كيف أنظر إلى الأمور من ناحية حقائقها أرى روحاً وعقلاً حيث لا يرى الناس إلا ثرثرة وغرائب لا اتصال بينها ولا رابطة.

على أنني لا أحب أن أروح طائشاً أمامكم وأرمى بالغلو في حب ابنتي إلى حد العبادة فلست عابد أطفال، ولست أقول أن ابنتي أجمل وأذكى من أية طفلة أخرى، ولست أغالي وأذهب بعيداً في الوصف، بل أقول لأمها صديقتي العزيزة ها نحن قد ظفرنا بطفلة جميلة ذكية.

قالت زوجتي: حمداً لله أنه خلقها كذلك وراحت تعد الفراش لرقاد الطفلة وجاءت تأخذها إلى النوم ولكن سوزان أصرت بعناد شديد على أن تظل يقظى، ولا تأوى إلى المهاد المعد لها، لأنها جعلت تغيب يديها الصغيرتين في جوف دولاب في الحجرة مفعم بالأمتعة.

قلت لزوجتي انظري ما أجملها في هذا الدولاب أن سوزان ليست بديعة فيما تعرف فقط بل إنها لأبدع فيما لا تعرف، إن جهلها بالأشياء مع اهتمامها بها، لا يزال يدل على أنها أوتيت روحاً من الشعر!

فلم أكد أفه بهذه الكلمات حتى التفتت إلى زوجتي ضاحكة ساخرة مني وأنشأت تقول، لك الله! أتقول أن سوزان شاعرة! أتتكلم عن شاعرية طفلتك! ولكن ابنتك لا تتلهى إلا في المطبخ بل لقد رأيتها منذ أيام مشرقة الوجه متهللة الوجه وهي في وسط الزبالة وكناسة المطبخ، فهل تسمي هذا منها شعراً؟

قلت: بلا ريب يا زوجتي، بلا ريب أن الطبيعة بأسرها تلوح لديها طهارة تامة كاملة حتى لا نرى في العالم شيئاً قذراً مطلقاً، حتى ولا في مقطف الزبالة ولهذا ترينها غائبة مضطجعة بالأمس وهي فرحة مسرورة في وسط أوراق القرنبيط وقشور البصل وشراشير الجزر، تلك مسرة عظيمة لها لأنها تغير الطبيعة عندها بقوة ملائكية وكل ما تلمسه بيدها يشعرها بفكرة الجلال والجمال،. . .

وبينا نحن في هذا الحديث إذ تركت سوزان الدولاب ودنت إلى النافذة فتبعتها أمها وأخذتها بين ذراعيها، وكان الليل ساجياً دافئاً والسكون سائداً، فصمتنا نحن الثلاثة.

ففي هذه الهدأة الساحرة رفعت سوزان ذراعيها عالية بقدر ما استطاعت، وبطرف أصبعها أشارت إلى كوكب هناك في بهرة السماء، وهذا الإصبع الدقيق جعل يتلوى بين الفترات كأنما ينادي أحداً.

وكذلك راحت سوزان تكلم الكوكب. . .! وأما حديثها الذي طارحته النجم فلم يكن كلمات وألفاظاً، بل كان حديثاً غامضاً ساحراً، بل أنشودة غريبة، فلم يسع أمها إلا أن قالت وهي تحتضنها حقاً إن الطفلة لشاعرة!.

آراء مسيو جيروم كونيارد

مسيو جيروم كونيارد اسم كتاب وضعه أناتول فرانس ليرسم فيه صورة من صور رجال الدين وآرائهم في الحياة وقصد به إلى التهكم عليهم والسخرية من مذاهبهم في الحياة ونحن نقتطف آراء مسيو جيروم في العلم.

2

الفلسفة والعلوم

إن الإنسان يا بني ليس إلا حيواناً أحمق وليس تقدم روحه إلا نتيجة من نتائج ضلاله واضطرابه ونزقه، ولهذا تراني يا بني أهزأ بذلك الذي يسمونه العلم وتلك التي ينعتونها الفلسفة فهما ليسا عندي إلا صوراً متناقضة وخيالات طائشة وهما فتنة من فتن الشيطان يغوى بها الأرواح، وضلة يستهوي بها النفوس، وأنت فإنك تراني في نجوة من الاعتقاد بتلك الشيطانيات التي تغلب على أذهان العامة، وتسيطر على رؤوس السوقة، وأنا لا أزال مع سادة رجال الدين في أن الشيطان لا يزال في قلوبنا ودمنا، بل نحن عفاريت الشر في صميم وجداننا، وما أشد غضبي من ذلك الذي يدعونه الفيلسوف ديكارت وجميع الفلاسفة الذين سلكوا مسلكه وجروا وراءه في طريقه، فأرادوا أن يجدوا في الطبيعة نظاماً للحياة، وسنناً للوجود، إذ ما هو علم الطبيعة يا بني إلا خيالات تتوارد على مشاعرنا وعواطفنا وماذا عمرك الله قد أحدث العلم، وماذا جاء به كل هؤلاء العلماء، وجميع أولئك الفلاسفة من ديكارت وشيعته إلى هذا الرجل الأحمق الجميل البديع مسيو فونتنل، لم يحدثوا يا بني إلا نظارات يضعونها فوق أعينهم، كتلك التي أضعها الآن فوق أنفي، أجل، ليس تلك المناظير التي يسمونها الميكروسكوبات والتلسكوبات وأخواتها ويغترون بها ويتفاخرون إلا نظارات لا تفترق عن نظاراتي هذه، بل يا فتاي ما تلك الآلات والأدوات التي يملأ بها العلماء مكاتبهم ومعاملهم وخزائنهم؟ ما تلك المناظير والاسطرلابات والبوصلات؟ أليست هي وسائل تعين العواطف على أوهامها، وتمدها في طغيانها وتزيد في الجهل، وتقربنا من الطبيعة وفي معرفة أسرارها كل الأذى والضر بل أن أكبر هؤلاء العلماء الجلة وأولئك المشيخة العظماء لا يختلفون عن العامة في شيء إلا في مقدرتهم على التلهي بأوهامهم التي يهيمون فيها وأغلاطهم المعقدة المتفاقمة التي يصيبونها، إنهم ينظرون إلى الكون من وراء زجاجات متشعبة المناظر، منعكسة الصور، بدلاً من أن ينظروا إليها بأعينهم نفسها خلواً من تلك المناظر، ويشهدوها بأبصارهم كما خلقها الله لهم، ولكنهم يمين الله لا يغيرون من جوهر العين باستخدام نظاراتهم، ولا يبدلون طبيعة الأحجام باستخدام تلك المقاييس ولا يغيرون الأوزان باستعمال تلك الموازين، بل إنهم ليكتشفون من وراء ذلك صوراً ظاهرة ليس غير، إن كراهتي للعلم لتشتد وتثور كلما رأيته بين الناس محبوباً معززاً مكرماً!!

حديقة أبيقور

هذا هو الكتاب البديع من بين كتب أناتول فرانس وتواليفه، لأنه ليس إلا خواطر متفرقة غير موصولة، وآراء منثورة متتابعة في شؤون شتى وموضوعات متباينة، على نحو تواليف نيتشه وخواطره، ولعل أمثال تلك الكتب أخف مساغاً على الروح وأقرب منالاً من النفس.

3

كثير من الناس في هذا العصر تغريهم الحياة بالإيمان بأنا قد بلغنا نهاية الحضارة، وألممنا على خاتمة الدنيا، ووصلنا إلى الدرجة الأخيرة من المدنية، وإن العالم بعدنا سينساق إلى خاتمته، ويهوي إلى الهاوية، ويسرع إلى الفناء والانقراض، وهم في ذلك أشبه بسادة المسيحية القديمة إذ ظنوا أن الدنيا لا تستطيع أن تجوز العام الألف من تاريخ مولد سيدهم ولكنهم لا يزالون متكهنين عصريين، أوتوا ذوق الجيل والمدنية، ولعل ذلك باعثه العزاء والزهو كأنهم يريدون أن يقولوا أن الكون لا تطاوعه نفسه أن يعيش بعدهم.

أما أنا فلست ألمح في الإنسانية أي دليل أو نذير للانقراض، ولست بنهاية الحياة مؤمناً، ولست لها مصدقاً، بل لا أعتقد أننا بلغنا شيئاً عظيماً من المدنية، وجزنا الخطى إلى نصيب وافر من الحضارة بل أرى أن ترقى الإنسانية نهاية في التراخي والبطء والمهل، وإن الفروق والاختلافات التي تبدو بين الجيل والجيل في الأخلاق والآداب من الضؤولة والدقة بحيث لا يكاد يلمسها الحس، ويشعر بها الذهن وإن كانت تدهشنا وتبغتنا وتقع منا على غرة على أننا قلما نلاحظ مظاهر الآداب وفروع الحياة التي لا نزال نجمد عليها كما عض آباؤنا من قبل، ولا تختلف في شيء عن آداب العصور القديمة، بل إن قطار الحياة بطيء، ومركبات المدنية متراخية، والإنسان دأبه الاحتذاء وعبقرية التقليد، وندر ما يحدث، وقل ما يكتشف، وضؤل ما يخترع ويبتكر بل إن قانون الثقل الذي ننسبه إلى الأرض إذ تجتذب إليها الأشياء الصغيرة الحجم عنها لا يزال يطرد في الحياة وفي كل أنواع العلم والحضارة ولقد كنت أجتاز أمس عرض الطريق فرأيت بناة يهدمون داراً قديمة مهجورة وأطلالاً بالية فشهدت الفعلة يحملون الصخر كما كان يحمله من قبل عبيد طيبة ونينوى ورأيت أزواجاً وبعولاً يخرجون من المصلى والمعبد القائم في ناحية من الشارع فيدخلون ألحان الواقع في الناحية الأخرى منه طلباً لأقداح الشراب والتماساً للكأس يلحون عليها ولا أزال أشهد الدنيا تتبع شرائع وقوانين قديمة يوم كان قيصر رومة شاباً يانعاً، فلذلك لا أنى أقول. . . لا شيء جديد تحت الشمس.