مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/حالة الأدب اليوم
→ سنة 2900 | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 42 حالة الأدب اليوم [[مؤلف:|]] |
الرئيس ويلسون ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1918 |
أيها السادة:
ما دمنا نحتفل اليوم بمجلة البيان فلا شك في أنا نحتفل بالأدب والأدباء، فقد أخذت هذه المجلة من أول عهدها إلى اليوم بناصر الأدب، مقدمة إياه على كل فن أو باب آخر، جاعلة له المقام الأسمى في كل ما تعنى به من اجتماعيات وتواريخ وغيرها، بل أنا لا أغالي إذا قلت أن مجلة البيان قصرت نفسها على نصرة الآداب والكتابة حيث جعلت جل همها بل كل همها النظر إلى ما يختص بالأدب من جهة ما تعالجه من سواه من الموضوعات، كما أنها جعلت غرضها الإصلاحي الذي ترمي إليه - ولكل منا نحو الإصلاح غرض - جعلته إعلاء شأن الأدب وإدخال الإصلاح إليه.
لهذا كانت تعني بنشر ما يظهر من آي الأدب وبدائع الشعر عنايتها بنقدهما جميعاً واسمحوا لي أيها السادة أن أقول أني لست أقصد بالنقد ما يسرع إلى ذهن الكثيرين تصوره من البحث وراء عيوب الشيء واستظهارها واتخاذ ذلك وسيلة للطعن على الشيء والانتقاص منه، ولكني أقصد بالنقد تمحيص الشيء والنظر إليه بعين نافذة وعادلة معاً واستظهار الحسن منه والسيء، وتلك هي وحدها الطريقة المثلى، وهي الطريقة التي اتبعها كبار كتاب الغرب، وهي أيضاً الطريقة التي عالج البيان الأخذ بها في كل ما تعرض لنقده من أعمال الأدب ورجاله.
على هذه الطريقة في النقد أيها السادة، على هذه الطريقة الحيادية التي لا تعرف التعصب المذموم ولا تهتم إلا بقول الحق، أريد أن ألقي على حضراتكم كلمة موجزة في حال الأدب عندنا اليوم، وقبل أن أتقدم بشيء منها أتقدم بالاعتذار إليكم عنها، أتقدم بنقدها على هذا الأساس، وهو أنا نعيش في زمن توترت فيه أعصاب العالم كله واتجهت نظراته نحو نقطة غامضة يريد أن يجد حولها شعاعاً يبصره بما تحتويه، هذه النقطة الغامضة هي المستقبل، ولقد بلغ من توتر الأعصاب أن نسيت الأذهان التفكير فيما سواها إلا ما تعلق بالحياة المادية حياة البطون والأبدان، والأدب أبعد الفنون عن التفكير في حياة البطون والأبدان، كما أنه لا يستطيع أن يتمركز حول هذه النقطة الغامضة السوداء لأن من أهم خواصه التوسع والانتشار في كل نواحي الحياة من إحاطة بظواهرها وامتداد إلى خوافيها وهجران إياها للهيام وسط الأجداث والتسرب بين الرفات وارتفاع عن هذا وذاك إلى أجواء الحزن والسرور والحب والكراهية واللذة والألم والترف والزهد والنعيم والبؤس وسائر ما في الحياة عذا ذلك من إحساسات ومشاعر ومظاهر ومناظر وعادات وأخلاق وعواطف ومنافع وما في الموت من سكينة ووقار ومن جمود وفناء وما بعد الموت من عوالم تملؤها الأرواح في سعادتها وتعسها وفي هيمنتها وتسبيحها وفي بقائها وتطورها، فمهما كان الاضطراب الذي يهز جوف العالم اليوم عظيماً فإنه منبع لأدب عظيم قوي في الغد، ولكنه فيما يتعلق بالحاضر وفيما يتعلق بنا نحن مخفت صوت الأديب المترنم فلا تسمعه الآذان المأخوذة بأرعاد المدافع وهزيم الطيارات ولا تهتز له القلوب الواجفة أمام الأخطار المحدقة من كل صوب وحدب.
لهذا كان الكلام في حال الأدب اليوم عرضة لأن يقع فيه شيء من الاضطراب ولأن ينسي صاحبه كثيراً من الأشياء المتعلقة بهذا الفن لأنه كما قدمت لحضراتكم مأخوذ بغيره، فإذا تكلمت أنا اليوم ووقعت فيما أخشاه فأرجوكم المعذرة، وما كنت لأقف وأتكلم في مسألة شأنها ما ذكرت إلا لما على كل محب للأدب من واجب نصرة مجلة البيان وتعضيدها.
الأدب في مصر اليوم أيها السادة خافت الصوت معقول اللسان، لعل صوته أشد خفوتاً في بلادنا منه في كل بلد آخر، بل ربما كان الخفوت في وصفه غير كاف لأنه في الحقيقة مختنق الاختناق كله، فلا نكاد نسمع بعمل يظهر من أعمال الأدب ذي قيمة، ولا أحسب ذلك شخصياً بالنسبة لي وراجعاً لأني لا أقرأ ما يظهر، بل أحسبه حقيقة واقعة، ولا شيء أدل على ذلك من أن جرائدنا - حتى الأسبوعية منها - مجلاتنا لم تتناول بالنقد إلا رواية ماجدولين التي استنبطها قلم الأستاذ السيد مصطفى لطفي المنفلوطي من رواية (تحت ظلال الزيفون)، وإلا قصيدة حافظ بك ابراهيم في مناقب عمر، أما ما سوى ذلك من المؤلفات والقصائد في الأدب فلم ينل من حق البقاء أكثر من يوم نشر، اللهم إلا بعض دواوين شعرية جمع فيها أصحابها المقطوعات التي كانوا قد نشروها من قبل في الصحف ويعثر الإنسان في بعضها على شيء جيد.
والسبب في هذا الخفوت، أو الاختناق، ووجوده عندنا أضعاف ما هو عند غيرنا أن أدبنا كان ولا يزال إلى اليوم صحافياً، أقصد أنه أدب قصير النفس غير مكتمل مواد الحياة، أدب هو ابن ساعته أو يومه، فكانت تروجه الصحافة التي كانت تعنى به عناية غير قليلة، وكانت تسمح له أن يلبس صفات حياتها هي، وصفاتها الانتشار والرواج على ألسن العامة والخاصة كل فيما يروق في نظره، فلما احتبست الصحف المصرية الكبرى احتبس هذا الأدب في صدور أصحابه، ولقد ظلوا بدأ هذه الحرب ولا تزال تجول في خواطرهم هواجس منه أظهرها بعضهم على صفحات بعض الصحف السيارة ثم أخمدت جذوتها فيهم نيران أقوى منها تلتهم العالم بأسره.
لكن بعض الكتاب استمر يثمر، لم تجمد قريحته أمام الجمود العام الذي أصابنا بل رأيناه مستمراً في طريقه، على أنه لم يستطع أن يتخلص من التأثر بالجمود العام بل سرت إلى روحه الكتابية ريح من النفس العامة فصرت ترى الآنسة مي وقد عرفناها فيما مضى ذات قلم عصبي مرتعش كله الصور والإحساسات والمشاعر والخيالات تدخل بنا في جمود الفلسفة الناشفة معظم الأحايين، والآنسة مي سيدة، أي يجب أن يفيض قلمها بالعواطف الناطقة لا بالصور المبهوتة ولا بالفلسفة الناشفة.
ذكرت لحضراتكم أن أحسن ما ظهر في عالم الأدب أخيراً أو بالأحرى أكثر ما نال شهرة، ماجدولين والعمرية، وماجدولين مستنبطة، والعمرية قصة شعرية تنقصها الروح الشعرية، ولهذا يجب أن نفتش في غير عالم الشعر والنثر علنا نجد روحاً غير الروح الجامدة المتأثرة بالحرب المذهولة أمام فظائعها.
الكتاب الذين استمروا يثمرون هم من الكتاب الذين ظهروا إبان هذه الحرب أي الذين كانوا قبلها مكتفين بعجالات يدرجونها في الجرائد، أو كانوا مشغولين بأشياء أخرى غير الأدب، هؤلاء الأشخاص جميعاً بقيت متغلبة عليهم فكرة الكتابة للنشر قبل الكتابة للأدب، فلما لم يجدوا في الصحف معينهم حولوا نظرهم شطر مسارح التمثيل فكتبوا روايات لا شك أن من بينها ما يغتبط المصري له، ولسنا ندعي أن غبطتنا ناشئة عن أنا وجدنا بين هؤلاء نابغة كشكسبير أو راسين أو موليير أو جيت وأضرابهم من كبار كتاب الأمم الأخرى، وإنما اغتباطنا لأن فكرة الظهور أمام الملأ المصري بالرأي والفكر لم تخمد من نفوس الشباب المصري، فأدى ذلك بأحسن ما تهيئه له ملكته وتمليه عليه موهبته، والنبوغ يستلزم الجمع بين بذل الجهد وحسن الملكة فإذا قدم إخواننا الشباب المثل لبذل الجهد فربما كانوا السبب في ظهور النابغة عاجلاً أو آجلاً ومن بينهم هم أو من بين جيرانهم.
هؤلاء الكتاب التمثيليون وضعوا نصب أعينهم معالجة أمراض اجتماعية متفشية في البلاد بالطعن عليها أو الاستهزاء بها أو إظهار أصحابها مظهر السخرية، وقد نجحت بعض القطع التي وضعوها، ولكن لم يكن نجاحها ناشئاً عن اعتبار السامعين بالمثل الذي يقدم ولكن لأن في هذه القطع أجزاء حازت الصفات اللازمة في القطع التمثيلية، أي حازت روعة المظهر ودقة الوضع وحسن الأداء من الممثلين.
نعم أيها السادة، فليس التمثيل مدرسة كما يزعمون، ولكنه سلوة النفس المتعبة عن بعض نصبها، والنفس المتعبة لا تتسلى بالنصيحة ولكن بالعاطفة القوية ظاهرة أمامها تذكرها شيئاً من عظمة النفس الإنسانية فتتسلى بذلك عما تلاقي في الحياة من الصغائر، أو رقة العواطف فترجع إلى ماضي الشباب أو تترنم بحلو حاضره، أو مضحكات الحياة فتتسلى بذلك عن محزناتها، التمثيل سلوة للنفس كما أن الغناء والموسيقى سلوة لها، كلاهما ينسيها هم الحاضر ويحملها على جناح الخيال والعاطفة والأمل إلى حيث ترى خيراً مما كان أمامها فتبيت مغتبطة مسرورة.
لهذا أيها السادة كان أحسن وقت يسمع فيه المغني أو الموسيقي أو التمثيل أول الليل حين نرجع متعوبين من عملنا وفي أشد الحاجة إلى ما يسلينا، حين نكون مستعدين لنسيان أنفسنا لنذهب مع صوت الكمنجا أو ترنم المغني أو حماس الممثل إلى أبعد الغايات.
ولهذا وجب أن يعني الكاتب التمثيلي بأثر روايته من هذه الجهة جهة استفزاز العاطف لينسى السامع نفسه ويذهب مع الممثل إلى حيث يشاء غير مهتم بإهداء النصيحة للنصيحة.
على أنا مهما قلنا في هذا الباب وسابقه فإنا لا نزال نتكلم عن الأدب الصحيح، الأدب الذي نحترمه ونعني بالإشادة به وإعلاء شأن ما يروقنا منه، ولكن هناك نوعاً جديداً من التمثيل الهزلي أبدعته الحرب الحاضرة لتسلي به النفوس المثقلة بكل شيء والمتقززة من كل شيء، نوعاً تعيساً، نوعاً قذراً، ولكنه يستهوي بقذارته مع عظيم الأسف نفوساً كثيرة جداً ونفوساً لا تكتفي بما يجب من مشاهدة ما يظهر منه مرة ولكنها تستظهره وتتغنى به أغنيات العرب بأشعار أصحاب المعلقات هذا النوع الجديد هو ما يسمونه الكوميديا فرانكو أراب، أو إذا أردنا أن نطلق عليه اسم كبراء رجال الفن من أهله فهو أدب كشكش والبربري.
ربما يكون خطأ مني ذكرى هذا النوع حين التكلم أمام حضراتكم عن الأدب ولكن ساقني لذلك ما أرى من تهافت كثير من شبابنا الراقي عليه، وتهافت الشباب الراقي من شأنه أن يبعث إلى هذا النوع حياة لا شك ستنتهي بانتهاء الحرب التي كانت سبباً في قيامه ولكنها تكون إلى ذلك الحين حياة قوية تؤثر في أعصاب المجموع القاهري ومن يلجأ إليه تأثيراً سيئاً.
من ذلك ترون أيها السادة حال الأدب اليوم، اختناق الأنواع المهمة منه، وجمود ما يظهر أو ضعفه، وفوق هذا وذاك انصراف الجمهور عنه، ولا شيء أتعس على الأدب والأديب من انصراف الجمهور.
إنا لم نتعود في هذه البلاد تقدير أعمال الأدب تقديراً عالياً، ولذلك لم يخرج أدبنا يوماً عن أن يكون أدباً صحافياً، لم يستقل بذاته ولم تتكون له حياة خاصة، ولا عجب فحياة الأدب مرآة حياة الأمة، ولكنا كنا إلى زمن أخير نهتم لهذا الأدب الصحافي ونعني به ولو بعض العناية، وكان هذا الأدب الصحافي نفسه يقوم أساساً لبعض أعمال أدبية وأخرى أدبية اجتماعية لا بأس بها، ولكنا اليوم قد فقدنا حتى هذا الأدب الصحافي ولم يبق لنا إلا مقاطيع الشعراء وبعض قطع كتاب التمثيل.
ولست أريد أن أظهر أسفاً على هذه الحال فالأسف لا يجدي نفعاً، ولكني أريد أن أقول أن هؤلاء الذين استمروا يثمرون يستحقون كل إعجاب، لأنهم ظلوا لم يغيرهم التيار العام تيار اليأس الروحي والأمل المادي، ومن هؤلاء كتاب مجلة البيان، فليحيى البيان.