الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/الرئيس ويلسون

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/الرئيس ويلسون

بتاريخ: 1 - 6 - 1918


وأمريكا الحديثة

لقد كانت أمريكا ابتكاراً من ابتكارات أوروبا، وخلقاً من خلقها، وهي اليوم من حدود المكسيك إلى رأس هورن في أقصى جنوبها أشبه شيء بإسبانيا والبرتغال لأنها تتكلم بلسانيهما، وتتخلق بأخلاقهما، وتحوي سلالات وذراري من أحفادهما وأما الولايات المتحدة وكندا فصورة من بريطانيا وفرنسا.

على أن أمريكا ليست نسخة حقيقية أصلية من أوروبا، فإن أولئك الطلائع الغربيين الذي انحدروا إليها بقلوب مخاطرة، وأرواح وثابة جريئة، ومادئ جليلة صادقة، لم يفروا من أوطانهم لكي يؤسسوا بناء الاستبداد في الناحية الأخرى، فإن الانكليز البيوريتان وإخوانهم الإيقوسيين الأولين كانوا على جانب عظيم من الشعور بالواجب وتقديس الحقوق الدينية والسياسية، فلم يعانوا المشقة في إبدال الحكومة الملكية القائمة على أساس من قوة الماضي والتاريخ والبطش ديمقراطية جميلة، وشادوا بناء حكومة الأمة وراء نوابها المختارين، وأصبحت أمريكا حكومات جمهورية وشعوباً من الجمهوريين.

بينما أوروبا تنظر إلى هذا التطور الغريب، والانتقال المدهش، إذ بالحرب الكبرى قد نشبت في العالم المتحضر بأسره، فأثارت مبدأين متعارضين، متقابلين، هما الحق والقوة، ولم يلبث أن قامت الحرب النفسية في قلوب الأمريكيين، بين الدولار - الريال - وبين العقيدة الروحانية القديمة، مبدأ واشنطن وبن، ولبث حزب الحق ينتظر الموقف الذي ستقفه أمريكا في هذه الحرب، ولكن ذلك الرئيس الذي ألقى إليه تقاليد العالم الجديد نهض أمام شعبه فأعلن الحيدة في الحرب ورفض أن يدلي بسهم في تلك المجزرة، لأن هذا الرئيس ودرو ويلسون رجل ثاقب الرأي، بصير بالأمور، ولم تستطع الأحداث يوماً أن تسوقه إلى مخاطرة مجازفة، لأنه انحدر من أسرة كان مبدأها الاحتفاظ بالمشاعر الدينية منذ القدم، ثم نشأ نشأة علمية، وغذى من القانون، ولذلك لم يسلك نفسه وأمته في سلك المحاربين.

والرئيس ويلسون ولد عام 1865 في ولاية فرجينيا، من والدة إيرلندية المنبت وأب إيقوسي المحتد، وكان أبوه قسيساً فدفعه إلى الجامعة إذ شب عن الطوق، وأتم تعليمه الابتدائي والعالي ووضع كتابه الذي ظفر من أجله بشهادة الدكتوراه ووسمه بع الحكومة المؤتمريةعام 1885 ثم عين أستاذاً للتشريع في إحدى الجامعات حتى كان عام 1902 وإذ ذاك أسندت إليه رئاسة تلك الجامعة، ونهض به الحزب الديمقراطي فتقلد وظيفة محافظ نيويورك في اليوم الثاني من شهر نوفمبر سنة 1910 ولم يمض عامان حتى سما إلى رئاسة جمهورية الولايات المتحدة، وأعيد انتخابه عام 1916.

ولعل أكبر المهام التي يعانيها رجل واحد أن يعهد إليه الحرص على مستقبل مائة مليون، وأن يجد أمامه قرنين عنيدين، وعدوين لدودين وهما روزفلت وتافت الرئيسان السابقان وكان من ذلك أنه في عام 1914 فقد شيئاً كثيراً من أصوات أنصاره، ثم ألفى نحو عشرة ملايين من أهل جمهوريته يمتون إلى الألمان بالود أو القرابة ولكن روزفلت جعل يقول إن لأمريكا معدة قوية وستهضم بسرعة الأغذية الغريبة عنها ولم تلبث الولايات المتحدة أن انقسمت أقساماً واختلفت في الحرب شيعا، ولكن الرئيس ويلسون أبى إلا أن يحاول إلى النهاية الحرص على الحيدة الدائمة، فوقف في نادي الصحافة يخطب قائلاً: إن هذا الشجار قد ساق المتشاجرين المسهمين به إلى حدود نسوا فيها واجب المسؤولية، وقد جعل قوم يقولون لي إذا كان نصف الدنيا قد جن جنونه، فلماذا نأبى أن نندفع وراءهم، ولماذا لا ندخل في صميم الزوبعة ثم نعود إلى الإصلاح والبناء إذ تمر العاصفة، ويسكن الريح!.

ولكن ألمانيا أرادت إلا أن تكون هذه الحيدة مستحيلة الإنفاذ، بذلك الحصر البحري الذي قامت به في أول الحرب، إذ أغرقت الباخرة لوزيتانيا، وكانت تقل بين مسافريها 124 أمريكياً.

وإذ بلغ هذا الحادث أسماع الأمريكان ضجت الولايات المتحدة، وقامت المظاهرات والجلبة والصياح، فلم يكن من الرئيس ويلسون إلا أن أخرج شعبه من هذه الفتنة سالماً، لأنه علم أن ليس الغضب المؤقت هو الذي يستطيع أن يحل عقدة تلك الحرب، ولكن توقع الفائدة الكبرى هي التي يريدها هذا الشعب المختنق بالتجار وأهل الأدب والمزارعين وكان مبدأ ذلك الرجل العظيم الذي حررهم من الأسر، ونعني به جورج واشنطن مقدساً لديهم، معبوداً في قلوبهم، إذ علمهم أن لا يعقدوا محالفة ما بينهم وبين أية دولة غربية.

وظلت عقيدة مونرو عزيزة لديهم، وهي تقضي بالامتناع عن التداخل في شؤون الغرب، وهذه العقيدة نشأت منذ عام 1823 يوم كان مونرو رئيساً للجمهورية فأدرك ويلسون كل ذلك وجعل يضرب على نغمته حتى استطاع أن يسود على العواطف، ويمتلك في قبضة يده مشاعر الشعب، حتى أقبل عام 1916 بانتخاباته، إذ كان قد مضى عليه في الرئاسة أربعة أعوام وهو الزمن المحدد لبقاء الرئيس، والانتخاب للرئاسة في الولايات المتحدة حادث عظيم، وشان مذكور، يعدون له العدة أشهراً، ويظلون يهيئون له واجبه ليالي وأياماً، ويشترك كل فرد من الأمة فيه اشتراكاً عملياً محسوساً ولا يفتأ الشعب في سعي متواصل، وتحت تأثير عظيم، من شهر مايو حتى أوائل شهر نوفمبر.

أما الحزب الجمهوري، فكان تحت زعامة روزفلت، وقد بايع رجلاً يسمى هيو، وأما الحزب الديمقراطي، فظل على مبدئه الذي سنه لنفسه منذ عام 1912 فاختار ودرو ويلسون، وكذلك بقيت الولايات المتحدة تلك المدة في نزاع وجدل، وتصويت حتى كان اليوم الثامن من نوفمبر إذ بويع ويلسون ظافراً بأصوات تبلغ 251 صوتاً إزاء 242 لمنافسة، وإذ ذاك أظهر الرجل نفسه، وكشف الحجب عن مضمره، فكتب دعوة عامة إلى الشباب الأمريكيين يقول فيها: إن الذين ينظرون إلينا من مسافة بعيدة، لا يشعرون بما يخفق بين جوانحنا من هزة المبدأ الروحاني الحار الذي يثب في أعماق نفوسنا، إنهم لا يدركون أننا وراء نشاطنا المادي الذي شدنا بفضله بناء سامياً شامخاً من المجد الصناعي المزهر لا زلنا أمة من الإيدياليين طلاب الكمال الإنساني، نبذل الحياة مسترخصة في سبيل الفكرة، كما نبذلها في سبيل الريال!.

فلما كان اليوم الرابع من شهر فبراير سنة 1917 أطارت أسلاك البرق في العالم كله النبأ بأن الولايات المتحدة موشكة أن تقطع علاقاتها وألمانيا وأن ويلسون قد دفع بجواز السفر إلى الكونت برنستورف سفير الألمان في جمهوريته وبعث أمراً إلى مسيو جيرارد سفيره في برلين أن يقفل عائداً إلى أمريكا.

ومضى ويلسون إلى مقر الحكومة لكي يقرأ على المؤتمر إعلان قطع العلاقات وكانت الحجرة غاصة بالقوم، وقد جلس جميع النواب في مقاعدهم، وساد السكوت، فلما أقبل يخطر في المجلس نهض الجميع فصفقوا له أحر تصفيق فلم يكد يفه بالكلمة الأولى من خطابه حتى عاد السكون إلى نصابه، وكان من قوله: لقد ساقتنا الظروف إلى تأكيد حقوقنا تأكيداً فعلياً حاراً صريحاً ولعلنا مشتركون في هذه المجزرة بأشد ما يكون من قوتنا على الرغم منا.

على أن استمرار الاعتداء على السفائن الأمريكية في عرض البحار من غوائل الغواصات، ولاسيما السفينة فيجلانسيا والسفينة ممفيس وغرق عدد عظيم من الأمريكيين جعل إعلان الحرب مؤكداً لا ريب فيه، وكذلك كان شهر فبراير عام 1917 تاريخاً مشهوداً في سجل الولايات المتحدة منذ حرب الاستقلال، إذ أعلن ويلسون الحرب على ألمانيا، وهو يقول: إنه لأمر رائع مخيف أن يساق هذا الشعب العظيم الهادئ إلى الحرب، بل إلى أكبر حروب الدنيا هدماً وتخريباً ولكن الحرص على الحق أثمن من الحرص على السلم.