مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/رسائل النساء
→ الملايو | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 41 رسائل النساء [[مؤلف:|]] |
في سبيل الكلام ← |
بتاريخ: 1 - 4 - 1918 |
أو صورة فلسفية من روح المرأة
عيناك
من الآنسة انطوانيت ليجراند إلى صاحب السيادة الفيكونت هرفيه دي لافريير: إني لأشك الآن يا سيدي هرفيه - إذ أكتب إليك - في أن اسمي الذي ستجده في ذيل هذه الرسالة سيذكرك شيئاً ويحدثك عن أشياء فقد وقعت لك ولا ريب صيدات كثيرة، وتواتت لك مغازلات عدة، بل أنني لأعد خاطئة إذا سميت الشيء الذي وقع بيننا حادثاً، إذ لم يكن لديك شيء يستحق الذكر بل لقد نسيت بعد لحظة تلك الفتاة الصغيرة ذات الثوب الأسود، التي تبعتها ذات ليلة من ليالي الشهر المنصرم في شارع بداسي دانجلا حتى ميدان الأهرام - هل تذكر الآن ذلك - هناك دانيتي فهمت إليّ وحدثتني فإذا بنا قد مشينا ونحن لا نشعر جنباً إلى جنب حتى شارع مدنتورجي، وهو الشارع الذي يلم على دارنا، وقد كنت أنت في ثوب رسمي وفي صدرك ربطة عنق بيضاء وفي حذاءين لامعتين، إني لأذكرك الآن وأتصور جميع ثوبك، ولقد كان يخيل إلي إذ ذاك جميلاً ومعيباً معاً أن أمشي إليك في بهرة الطريق، متحدثين كأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ أمد طويل، وكنت إذ ذاك في خجل ولكني كنت مع ذلك في غبطة وابتهاج، ورحت أحدث النفس قائلة، إنه الآن يمشي بجانبي على أعين السابلة ومن حسن الحظ أن اليوم يجود بنفسه وإن الليل يوشك يعم الأرض فهو ولا ريب لا يجدني دميمة ولا يرى ثوبي قبيحاً غير مشرق، فلما عانقتني عناقك الحار وضممتني إليك تلك الضم الشديدة ونحن واقفان في ظل ذلك الباب الكبير - حقاً لقد كنا إذ ذاك في جنة - وسلمت علي للوداع كنت أعلم جيداً أنني على الرغم مما قلت لك سأوافيك إلى الموعد الذي ضربت مساء الغد التالي في الطابق الواقع في شارع التراس، أواه، لو أنك تعلم ماذا اختلج في رأسي واضطرب في فؤادي، بعد تلك اللحظة، فلما قلت لك، ونحن في الطريق عائدين أدراجنا، إنني ليس لي أحباب ولا أعرف عشاقاً، وإنني لم آثم قبل اليوم ولم ألتمس إثماً، ضحكت أنت عن مزاح واهتز شاربك ابتهاجاً واستوقفتني قليلاً وتأملت عيني، وأنشأت تقول، أعاقلة رزينة إلى الآن؟ أتكون عاقلة فتاة باريسية صغيرة مثلك، بتينك العينين وهذا الفم العذب، أعاقلة في الربيع التاسع عشر، ورأيت أنا إنك لم تصدقني إلا قليلاً، على أنها كانت الحقيقة الصادقة وأني لا أزال أستطيع عليها قسماً الآن، لو أنك كنت بجانبي، وتستطيع في هذه اللحظة لي تصديقاً لأن هناك لحظات من الزمن لا يجد الإنسان فيها روحاً إلى المزاح أو رغباً في الكذب.
أواه، يا مسيو هرفي، إنني الآن في أسوأ حال، وكنت منتعشة القوى، بتوردة الوجنة، عمر الصيف وحياة الربيع، فلما هبت أرواح الشتاء، وطلعت وماكر البرد، عادت إلى ذات الصدر، وأنا أقول لك الآن أنني لم أكن يوماً قوية الصحة، وكيف أكونها، والصناعة التي أحترفها شديدة الخطر على الصدور الرقيقة، واللهي الضعيفة، فنحن أبداً خالعات ثوباً لنجرب أثواباً أو مشداً أو شملة عارية الصدر، على مقربة من حرارة المواقد، وفتحات الأبواب يدخل منها الهواء البارد فيصدم الظهر، وفي كل ذلك واقفات نجري من ناحية إلى ناحية، أو جامدات في أماكننا كالصورة الجيرية الموضوعة في صدور محلات الأزياء ولكني لا أريد أن أحدثك أحاديث حزينة ولا أريد أن أبسط لك سوء ما صنعت بي حرفة الوقوف في محال الأثواب، فلست أحمل لك ضغناً، ولست أحس لك حقداً، ولكن لي ملتمساً إليك أطلب أن أبتهج بتحقيقه وأنت لن ترفض هذه الضراعة إذا جئت على آخر سطر من كتابي هذا.
لقد كنت قلت لك ذلك المساء الذي التقينا فيه إذ ضربت لي موعدك، كلا، كلا، ولكنك أدركت جيداً أنني كنت أقصد بذلك أن أقول، نعم، نعم، فلما كان اليوم الموعود، خرجت من المصنع قبل وقت الخروج بساعة فعدوت ألتمس البيت لكي أبدع الزينة، وأتم التطرية، وقلت لشقيقتي الكبرى أنني ذاهبة إلى دار التمثيل وصواحب لي فصدقت الخبر، وكانت خلية الذهن من خافية الأمر، ولتعلم أنني كنت فاتنة رائعة السمت عندما بلغت إلى ناحية شارع تراس، الذي كنت قد طلبت إلي أن أرتقب قدومك إليه عند الساعة التاسعة من المساء، ولم أكن إذ ذاك بثوبي الأسود الذي شهدته بل كنت مرتدية ثوباً جميلاً أزرق اللون مفصلاً على المنوال الذي تحاك به في مصنعنا أثواب الأميرات فجئت إلي الموعد متهللة الأسارير متفتحة الفؤاد، لا خجل أشعر به ولا ندامة، فقد فكرت منذ فهت أنت بكلمتك الأولى أنه لا يليق بنا أن نكون نحن الفقيرات عاقلات رزينات طول الحياة، وإن أبدع السوانح أن تتزوج الفتاة الآثمة بالفتي الذي أثم معها، على أنك تدرك يا مسيو هرفي أنني لم أفكر في أنك ستتزوجني إذ كنت أعلم أنك ستنطلق بعد ذلك عني لكي تتزوج فتاة غنية عريضة الجاه ولكن ذلك لم يحزنني بل لقد كنت في غبطة وابتهاج إذ أتصور أنك ستحبني برهة من الزمن، وأنني سأكون لك دون أن أكون قد هبطت من قبل أن ألقاك في أحضان رجل سواك، فكأنك ستكون في تلك البرهة من الحب زوجي، فقد كنت حقاً تلذني ولا تستطيع أن تتصور التأثير الذي أحدثته في فؤادي وقد رأيت رجالاً كثراً يجيئون إلى المصنع ماشنين إلى أكتاف سيداتهم أو حبابئهم، ولكن لم يكن في هؤلاء الرجال رجل له شاربك وأسنانك الجميلة وعيناك البديعتان، ولاسيما عيناك، عيناك، حتى أنني لما وقفت في شارع تيراس أستطلع قدومك، انطلقت أتخيل تينك العينين وأحدث نفسي أننا إذا احتوتنا حجرة واحدة سأجترئ فأقبلك في عينيك أحر القبل.
انتظرت ساعة فساعتين، ثم انتظرت حتى منتصف الليل، وأنا أتمشى فوق الافريز حتى لا يستوقف منظري المارة فيستريبون بي، لقد دنا مني جمع من الشباب يقولون لي كلما نكراء وكنت في حيرة لا أعرف كيف أتجنبهم لأنني خشيت أن أبتعد عن المكان مخافة أن أفقدك، فلما دقت الساعة الأولى بعد منتصف الليل وألفيت مكاتب الحافلة - الأومنيبوس - قد أقفلت أبوابها وأطفأت أنوارها أجمعت الرأي على العود إلى البيت حتى لا أزعج شقيقتي.
وأؤكد لك يا مسيو هرفيه أنني أويت في تلك الليلة إلى المضجع كسيرة الفؤاد محزونة وبت أتقلب في الفراش لا تغمض لي جفن، وبكيت طويلاً وعبثاً حاولت أن أقنع ذهني إذ أقول لنفسي، لعل عائقاً اعتاقه، أو لعل الأسرة حالت دون المجيء لي موعده أو عل شاغلاً من شواغله زجره عن موافاتي، فلم يستطع إنبائي بمعاذيره، إذ كان يجهل عنوان داري. . . وجملة القول أن أشد ما أحزنني وابتأست له أنني لا أعرف السبيل إلى لقائك مرة أخرى فإنني لم أقل لك عن عنواني وأما أنا فأعرف اسمك والنادي الذي تذهب إليه ولكنني لم أجد جلداً على الكتابة إليك وانتهى بي مطاف الفكر إلي أنك لو كنت تحمل في فؤادك شيئاً من الرغبة في فإنك ولا ريب باحث عني فواجدي، إذ تعرف المحل الذي أعمل فيه والساعة التي فيها أنطلق عنه.
وكذلك ظلت بضعة أسابيع إذا انصرفت من محل شغلي أتمشى زمناً أمام الباب، أستطلع الوجوه، وأغيب النظر في معارف السابلة، لعلي مشاهدتك في غمارهم ثم لا ألبث أن أنطلق في رفق صعداً في الشارع عائجة على الشوارع التي مشنا فيها معاً، فلم أكن يوماً لألقاك واستبان لي إذ ذاك أنني لم أخطر في ذهنك مطلقاً، وكان على أن أنساك، أليس كذلك.
وهذا هو ما حدثتني به النفس ولكني لم أستطع عليه صبراً، وكلما مضى يوم زدت لك تذكراً واشتد الحزن بفؤادي، ولشد ما يسوءني أن تضحك يا مسيو هرفيه مما أقول لك الآن فغن رجلاً مثلك من الطبقة الرفيعة السامية له من ملاهيه ومباهجه ما يشغله عن سماع صوت الفؤاد، ونجوى النفس، وأما نحن الفقراء فليس لنا غير المصنع نذبل فيه، وغير المنزل الصامت لا يحتوي لهواً ولا مبهجاً وإذا قيض الله لنا شهود دار التمثيل فذلك هو النعيم الأكبر والحادث الأعظم، فإذا نحن انطلقنا في النهار نجرب قميصاً أو نخبر معطفاً، فنحن إذا الليل هجم مضطجعات في السرر محزونات مكدورات، نفكر في رجل وكذلك مضيت أتذكرك وأفكر فيك حتى سئمت كل شيء، ولقد كنت من قبل فرحة راضية العيش وثيقة الأمل في المستقبل دون أن أعلم ماذا يمسك هذا الأمل، أما اليوم فلا رغبة لي في شيء، ولا شهوة لدي إلى الطعام، ولا نزوع إلى النوم، ولتعتقد أنني خلال الأيام الأخيرة كنت أتمشى أبداً في مقتبل المساء فوق الافريز أمام ناديك ولقد رأيتك ثماني مرات يا مسيو هرفيه ولكني لم أكلمك لأنك قلما كنت تخرج في النادي بمفردك، وإذا فعلت ذلك فقد كنت تثب الوثبة إلى مركبتك، وإذ ذاك جعات أضطرب وأرتجف، حتى لا أستطيع كلاماً ولا مشياً.
حوالي نهاية شهر يونيو ارتحلت أنت إلى الريف، وقد علمت ذلك من الصحيفة التي تجيء غداة كل يوم إلى صاحب المصنع فهدأ ثائري قليلاً في غيبتك إذ علمت أنك لم تعد تحتويك باريس وأن لا وسيلة إلى رؤيتك، وجعلت أقول: إنه سيعود مع الخريف، ونحن لم نكبر بعد، لا أنا ولا هو، وقد جئت حقاً ورأيت عند يوم عودتك إلى باريس، وأنا محدثتك كيف كان اللقاء، وضراعة إليك أن لا تغضب على فإن بي حزناً منه مستطيلاً.
على دقة الساعة التاسعة كنت في موقفي أمام ناديك، وإذا بمركبة وقفت ببابه، ورأيت في المركبة سيدة فخرج إليها من النادي خادم فكلمها وعدا راجعاً إلى النادي وهنا أتوسل إليك أن لا تتألم يا مسيو هرفيه، إذا أنا قلت لك أنني لم أجد تلك السيدة على شيء من الحسن ولا مسحة من الروعة، ولم يكن ثوبها الثوب الذي يتم عن سيدة محترمة كبيرة المكانة، وأخيراً جئت إليها من النادي وقبل أن تصعد إلى المركبة فتتخذ مكانك بجانبها قلت للحوذي شارع تيراس!!.
فإذا بي قد أحسست انقباضاً في فؤادي إذ تذكرت ما قلت لي يوم كان اللقاء إن لدي في شارع تيراس طابقاً أستخدمه لهذا الغرض، فعلمت إذ ذاك ماذا سيحدث بينكما. . . . . . . . . .!
أتظنها حماقة مني وطيشاً ولكن إن أردت الحق فاعلم أنني لم أكن غيري عليك إلى تلك الساعة، ولا أعلم لذلك سبباً إلا أنني كنت أؤمن بأنك ولا ريب لا تستطيع أن تعيش عيشة القديسين والرهبان، ولكنني إذ عرفت المرأة التي ستضاجعها، وعلمت المكان الذي اضطجعتها إليه ثارت ثورة الألم في فؤادي حتى لم أعلم كيف بلغت بي قدماي منزلي، وإذا احتواني البيت انطلقت إلى المخدع فتراميت فوق السرير ووعكتني إذ ذاك الحمى بعد موهن من الليل واحتبس صوتي وأخذ لساني السعال واشتد بي ذلك حتى لقد مضى على الآن وأنا طريحة الفراش شهر كامل ولا أستطيع نهوضاً وأخشى أنني لن أستطيعه أبداً.
وأنت فتعلم يا مسيو هرفيه أنني لا أقرفك بتهمة حزني ومرضي فلم أكن يوماً قوية الصدر متينة اللهي، ولكن لعلك كنت السبب في تعجيل علتي ونضج مرضي وإن كنت خلي الذهن بريء النية والآن وأنت تعرف أن من المزعج المؤلم أن أرتحل عن الأرض وأنا ملمة على الربيع العشرين ولما أشهد يوماً صبوحاً في الحياة، ولما أرتشف كأساً من السعادة، فقد اجترأت على أن ألتمس إليك أمراً وأطلب إليك حاجة لو حققتها أثرت أكبر السرور في نفسي الخافتة، وإن كان في تحقيقها بعض المتعبة لك، وهذا الرجاء الذي أسوقه إليك هو أن تحضر إلي في منزلي للتوديع الأخير إذ كنت لا أستطيع إليك حضوراً، فلا تخش يا مسيو هرفيه ألماً فلست محدثاً أحداً غيري ولا ملتقياً بإنسانة سواي، بل أنت صاعد إلى الطابق الثالث من المنزل رقم 15 فدق الباب وستفتح لك شقيقتي وتكون بيننا خلوة صغيرة واعلم إنني قد أصبحت مهزولة ضامرة ولكن وجهي لا يزال بعد صغيراً رائعاً كعهدك به أول مرة وستحدثني وتنظر إلي - وسأستمع إلى صوتك - وسأشعر بآخر نفثة من السعادة إذا أنت أذنت لي إذ ذاك أن تكون فوق شفتي. . . . . . عيناك!! للمتنبي:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنف ... س أن الحمام مرّ المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق