مجلة البيان للبرقوقي/العدد 40/يوميات قائد بحري
→ الأحزاب الروسية | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 40 يوميات قائد بحري [[مؤلف:|]] |
آداب ← |
بتاريخ: 1 - 3 - 1918 |
هذه اليوميات التي ننشرها اليوم للناس هي أبدع ما خرج في هذه الحرب إذ هي مذكرات حقيقية يلتقي فيها الحب بالقصص ويجتمع في تضاعيفها المأساة بالدرام، وهي خليقة بأن تنسب إلى عقل روائي عظيم كعقل فيكتور هوجو وهي دليل قائم على أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال.
وواضع هذه اليوميات هو اللفتنننت كولونل هانز فون تير بنجر قائد الغواصة نمرة 13، وكانت وفاته منذ عدة أسابيع وتناقلت صحائف الغرب خبر موته لأنه قضى منتحراً إذ قتل فجأة وهو لا يدري الفتاة الجميلة التي كانت خطيبته، عندما نسف سفينة أبيها وقتل رجال غواصة شقيقها، فثار الحزن بفؤاده فلم يتمالك جأشه في الغداة ولو ين أن قذف بنفسه من أعلى سطح الغواصة إلى اللج المتقاذف واختفى في لحظة عن عالم الفضاء إلى قاع الأوقيانوس فلما عادت الغواصة إلى مربضها جمع رجالها متاع القائد ومن بينها هذه اليوميات التي كان يحرص عليها أشد الحرص، وأودعوها ذمة صديق له قريب في كوبنهاجن.
واليوميات طويلة شائقة تقع في مجلد، ومفعمة بالملاحظات والقطع الرائعة ولكن الجزء الذي نشر في الصحف منها هو الذي نبسطه الآن للقراء. . . . .
5 مارس سنة 1914
لم يكن أبهج لدي وأعز فرحة منذ قدومي إلى ستكهولم من لقائي بصديقي سفن لارسن إذ صادفته وهو يرتشف رشفات القهوة في رحبة الملهى، فانطلقنا إلى داره وهناك التقينا بوالده لارس لاسن ووالدته وشقيقته مينا وقد رأيتهم قوماً كراماً محببين جذابى النفوس، أما الوالد فشيخ ممراح يملأ جو المكان الذي ينزل به ضحكاً ولهواً والفتاة صبيحة الوجه حسناء المعارف أذكرتني إذ وقع بصري عليها بالفتاة جريتشن في رواية فوست التي شهدت تمثيلها ذات يوم لا أذكره.
ورأيت أن سفن قد اطلع كثيراً ودرس جملة من العلوم منذ آخر عهدي به في المدرسة وأصبح يحدث الجلوس بلهجة الثبت الثقة في كل موضوع وفن، وكان الحديث الذي دار بيننا في تلك الجلسة الفكهة عن الجمال ولعل ذلك وحي من وحي نظرات شقيقته، فسألته إذ ذاك أن توقع لنا نغماً على المعزف البيانو.
فلم تتدلل ولم تتمنع، وإنما سألتني في مقابل النزول لي عن ملتمسي أن أغضي النظر عما أجده من النقص في توقيعها وقامت في الحال إلى البيانو وأطلقت أناملها تلعب بالنغم لعباً فبعد أن وقعت بضعة ألحان معروفة سألتها مرة أخرى أن تضرب لنا لحناً من بتهوفن فأنشأت توقع لحن ضوء القمر وكان أعز الألحان لدي وأبهجها لنفسي وانطلقت روحي في عالم الحلم والخيال، وكان توقيع الفتاة جميلاً، وكان السحر الذي فعلته في فؤادي عظيماً. . . . .
5 إبريل سنة 1914
أيكون في الدنيا بأسرها سعادة أكبر من السعادة التي أحسها الآن. . . . أن مينا تحبني وقد نبأتني ذلك اليوم، لقد مضت ثلاثة أسابيع وأنا لا أستطيع أن أجمع شوارد خواطري وأوابد أحلامي فأدونها في يوميتي بل جعلت أنظر إلى صفحاتها البيضاء مذهول اللب لا أستطيع أن أستنزل ما في صدري صدر الصحف ومضيت أعجب كيف أنني لم أتبين فيها نظراتها المفعمة بالحب، وكيف كنت أبله أحمق إذ لم أتشجع من قبل فأسألها أن تكون لي. .
مينا. . .! لي. . . . إلهي هل أنا جدير بهذه النعمة الكبرى، أتراني خليقاً بأن أظفر بهذه المنحة الإلهية وهي قلب مينا. . . .؟
20 يوليو سنة 1914
ألقيت بالقلم جانباً ولبثت أتسمع صيحات الغلمان باعة الصحف وهم يعدون في الشارع في هذه الساعة الواهنة من الليل، إنهم يصرخون بأن الحرب موشكة أن تقع وكانت الجريدة التي يبيعونها تريد أن تقنع قراءها بأن من المحتمل أن تساق أوروبا بأجمعها إلى حرب كبرى من جراء شكاة النمسا من الصرب. . . ياللسخافة وياللتكهن!! إن حرباً أوروبية تنشب اليوم لا تكاد تلبث أسبوعاً حتى تجر الخراب والإفلاس إلى كل شعب ومملكة، إني سأذهب إلى المضجع فأهبط في وادي النوم هادئاً لا خوف ولا رهب من هذه الحرب الموهومة.
أما إذا وقعت الحرب حقاً، فإنني من رديف البحرية، وأعلم علم الغواصات وأنا إلى الحرب ذاهب ولا ريب وقد كنا في هذا المساء في حديث طويل أنا وسفن عن الغواصات وكان هو كذلك يعلم خافية أمرها ويرى أنها ستدخل في الحرب وستقوم بالجزء الأكبر منها، وكان هذا هو الرأي الذي اجتمعنا عليها في هذا المساء. . . .
31 يوليو سنة 1914
لقد تحقق المستحيل ووقع المحظور، وقامت الحرب وأنا غداً شاخص إلى كييل ولعل إصدار الأمر إلي بالسفر إلى كييل هو في سبيل خدمة الغواصات.
أما والد مينا ووالدتها - لهما الله - فقالا أنهما لا يعتقدان الحرب ماكثة أسبوعاً أو أسبوعين على الأكثر وأنه إذا خمدت الحرب بعد تلك المدة القصيرة وعدت إليهما تزوجت من الفتاة على الفور.
30 سبتمبر سنة 1914
للمرة الثانية منذ تلقيت قيادة الغواصة رقم 13 عدت إلى كييل طلباً للوقود والميرة ومع ذلك لم أتلق كتاباً من مينا!
أترى خطابي لم يبلغ إليها ولكنها تعلم أنها تستطيع أن تكتب إلي من كييل، لا يعقل أنها طردتني من فؤادها بهذه السرعة، كلا إنها مخلصة القلب نبيلة الفؤاد عظيمة الذهن فلا تطاوعها النفس على أن تحل رجلاً غيري مكاني من قلبها لمجرد أنني بعيد عن نظرها ولكن من يعلم. . . . رباه. . . إن هذه الخالجة من الشك تحرق فؤادي. .
في الرابع والعشرين من أغسطس أغرقنا سفينة.
والتهم اليم من رجالها وكانوا مئة، اثنين وعشرين رجلاً، واتفق أن الموج قذف إليها على لوح من الخشب صبياً من البحارة متشبثاً للنجاة مجاهداً، فالتقطناه من اليم وإذا به لا يكاد يعض على الثانية عشر، وعلمت من الصبي أن أباه وأخوه له ثلاثة ذهبوا إلى فرنسا وأنشأ الصبي يقول. . . وبقيت أنا الرجل الوحيد في الأسرة. .
فسألته عما إذا كان يشعر بحزن لتركه أمه، ولعله لم يكن لديه من الوقت من قبل سعة للتفكير فيها، فلما أذكرته الآن ذلك انفجرت عيناه دمعاً وأجهش بالبكاء وطلب العودة إلى وطنه وجعل يحدثني أنه أفلت من الأسرة ناسياً أن أمه وشقيقته مفتقدتاه محزونات عليه.
قلت مواسياً الطفل: أتعدني إذا أرسلتك إلى وطنك أنك غير فاعل أمراً آخر يجرح فؤاد أمك؟
فأجاب أعدك ذلك يا سيدي، إني لأعدك كل شيء إلا. . . . . . وهنا تمهل متردداً
قلت. . ماذا. . .؟
قال. . . إلا. . . إلا. . إلا أن يحول شيء بيني وبين قتال أولئك الألمان الملاعين. .!
فضحكت ملء قلبي وعجبت كيف يلقي الأطفال كراهية الشعوب ولعل الصبي تعلم ذلك من والدته. .
وفي المساء بعينه أشرت إلى سفينة نرويجية كانت تمخر العباب ونقلت الصغير إليها بعد أن استوثقت من القبطان بأن ينزله ساحل وطنه فسر القبطان ذلك وأنبأني أنه كان شاخصاً بالصدفة إلى لندن وكانت قرية الفتى عن كثب منها، والآن أسائل نفسي هل ترى الصبي تاركاً أحد هؤلاء الألمان الملاعين في نجوة من شره إذا وقعت في يديه. . . . .
بلغني الآن منذ آونة بأنني سأتلقى قيادة غواصة كبرى فلم أندم على تركي هذه الغواصة رقم 13 لأنها لم تكن تعجبني. . . . .
15 أكتوبر سنة 1915
الأيام الثلاثة التي مضت كانت أرهب الأيام في حياتي ولن تمحي ذكراها من خاطري.
لم تكن الغواصة التي استلمت قيادتها وهي الغواصة رقم 34 أرحب صدراً من تلك المسكينة التي تركتها وأفخم حالاً فقط بل كان بحارتها أقل وحشية من أولئك وأرفق قسوة ثم زد على ذلك أن معي صديقي العزيز فرتزلونج، وهو يتلوني في القيادة. . .
وعجيب من القضاء والقدر أن يعبث بنا هذا العبث ويقذفنا بتلك الدعابات، إنني عندما تركت استوكهولم لم يكن فرتز قد تلقى بعد الأوامر بالانضمام إلى الصفوف وجعل يقول: وإذا دعيت إليها أبيتها إذ كان يعد الحرب عودة إلى الوحشية ذهابة بالمدنية، مفسدة للكولتور الذي أقمناه ورفعنا بنيانه، ولم يكن في دعاة السلم من هو أشد حمية منه.
فلما سألته ماذا غيّره وأحاله جندياً، أنشأ يقول بصراحته المعتادة: لم أتغير ولم يتبدل ذهني، إنني لا أزال أعد الحرب جرماً وفعلة خاطئة ولكن ماذا أصنع لقد وجدتني زنبلكاً صغيراً في وسط ملايين من قطع هذه الماكينة العظيمة التي يسمونها الوطن. . ومن العار الأكبر أن لا يؤدي هذا الزنبلك الصغير عمله والأداة متحركة دائرة ولذلك ها أنا ذا. . .!
كان الثالث عشر من أكتوبر يوم شغل شاغل إذ كنت موكلاً بتوصيل رسالة من أهم الرسائل إلى انجلترا، وكانت في رمز علمت منه أنها تختص بالحصر البحري وكان عليّ أن أدفع بها إلى ربان سفينة سويدية نبئت أنها تبعد عشرة أميال من ثغر يار موث وعليه هو أن يتم الباقي، ولما كانت الرسالة ينبغي أن تكون لدى الربان في الساعة الثامنة من المساء ولم يبق على الموعد إلا خمس ساعات أطلقت لقاربي الحد الأقصى من سرعته.
وستبقى الخمسة أميال الأخرى ماثلة في خاطري يد الدهر، فقد سدد أحد القوارب الانكليزية المستكشفة المرمى علينا ولكنه أخطأنا بأربعين ياردة، فغطسنا في الحال وأجبناه بناسفة من نسائفنا.
ويلوح لي أن الطوربيد أصاب مخزن بارود تلك السفينة.
ولم أجد من الوقت متسعاً لإنقاذ القوم، لأن الرسالة التي كلفت بها كانت تستحثني فتركتهم لأمرهم يفعل القضاء بهم ما يريد. . .
أول يناير سنة 1915
كنا على قاب قوسين أو أدنى من الهلاك في أول أيام العام الجديد لو لم تنقذنا المعجزة، فقد كادت تهوى بنا سفينة كبرى من سفن الأعداء.
وذلك أنني قبل وشك الساعة الثالثة من الصباح انطلقت أستلم من فرتز نوبتي في الحراسة، وكان يرقب الغواصة الليل كله، ولم يغمض لي جفن طول تلك المدة، ولم يأخذ عيني الكرى، وأسهدتني وساوس مختلجة في صدري من تلك الوساوس التي تهجس في الخاطر، قبل وقوع مصاب، أو حادث سيء، ذلك الإحساس الأليم الذي يشعر به الإنسان من حين إلى آخر قبل نزول النازلة، ولكن كنت أرد السبب إلى ذكرى مينا وكنت أوجس شراً أن يكون قد ألم بها أمر أو وقعت لها ملمة، ولم تستطع الصلاة، ولم يغن الابتهال - ذلك البلسم العذب الذي يدمل جراحات النفوس ويطفئ آلام الذهن - عني في تلك المرة شيئاً، ولم يفد في تخفيف جزعي، وتهدئة اضطرابي.
وكان فرتز قد أنهكه التعب، فسره أن يفلت من الحراسة ومضى إلى مخدعه طلباً للراحة، ولم يكد يتركني، حتى سمعت صوتاً لا يجهله رجال الغواصات، صوتاً بدا خافتاً ولكنه عاد يشتد شيئاً فشيئاً، وهو صوت حركة آلة باخرة، وكنا نسير في رفق غاطسين في اليم نحواً من خمسة عشر قدماً، وللحال حولت مجرى الغواصة بعيداً عن جهة الباخرة واقتربت قليلاً من سطح الماء، لأستخدم المنظار وتبينت فوق دائرة ذلك المنظار شكل السفينة.
أول إبريل سنة 1915
يلوح لي أن في هذه المجزرة شيئاً من البهجة والسرور فقد أصبح لديّ إرسال ناسفة في طريقها إلى الموت أمراً لا يزيد في تأثيره عن قذف كرة الكركيت إلى الناحية الأخرى من الملعب، وما أشبه تهالك النفوس على الباخرة المغرقة وسقوطهم إلى اليم كتساقط الأهداف إذ تصدمها الكرة.
كنت علم الله أريد لهواً، وأطلب سلوى، إن مينا لم تبرح في ذاكرتي ولا أزال أحملها في خفقة فؤادي، وفي هذا القنص تحت أديم الماء ما يهدئ من ثائرة ذهني بعض الهدوء، وقد قال لي فريتز إن من حسن حظي أنني لست مولعاً بالشراب وإلا لقد كنت عليه ملحاً، وكنت سأكون من السكر منزوفاً طول الوقت وقد حاولت أن أجد في هذه اليوميات العزيزة عليّ، مانعاً يحول بيني وبين الجنون. . . .
30 مارس سنة 1916
تراءت لي مينا ليلة الأمس في الحلم، وعلى الرغم من كثرة ما شغلت خاطري بتذكارها طول نهاري، وعديد ضراعاتي وصلاتي من أجلها كانت هذه أول مرة بانت لي في الرؤيا. .
لقد كان حلماً مضطرباً مشوشاً ولم أستطع أن أتذكر إلا اليسير منه، إذ أفقت ويلوح لي أنه حلم مزعج يحمل في أثره شراً وسوءاً لأنه قد ترك أثراً حزيناً وظلاً ثقيلاً على القلب.
في السابع والعشرين من هذا الشهر أغرقنا سفينة نرويجية تحمل لحوماً من الأرجنتين وقد كنا أنذرناها بقنبلة فلم تعتد بالنذر فأرسلنا إليها أخرى فأطارت جهازها اللاسلكي، والفضل في ذلك للرامي هالبرت، فهو يعتز بأنه لا يرسل رسولاً من رسل الموت إلا بلغ هدفه، وإذ ذاك وقفت السفينة وهرع البحارة إلى قوارب النجاة، فأطلقنا على الجارية ثلاثاً أخرى فأجهزت عليها، وانطلقنا نعين القوم ونرعى القوارب ورأينا أنهم على مسافة قصيرة من الساحل، مقدارها مائتا ميل فزدناهم ميرة وأمددناهم بكفافهم من الطعام والشراب، إذ كانت أحمال سفينتهم من اللحوم قد غرقت معها.
وكان من بين البحارة رجل قزم أصفر البشرة، أسود الشعر أشبه شيء بالإسباني منه بالنرويجي. . وسمعناه يغمغم لغة من اللغات إذ ابتعد القارب عنا.
قال إيجلو أحد بحارتنا وكان منه قريباً: إنه يريد أن يذهب الإمبراطور إلى الجحيم!
قال هالبرت وقد وضع يده على مسدسه: هل تأذن لي يا سيدي بأن أرسل هذا الرجل إلى الجحيم ليعلن أهلها أن جلالة إمبراطورنا يرفض الذهاب إليها!
وكان هذا القول المجوني منه جداً وعزماً صادقاً.
قلت اسأله وكيف عرفت أنه يقول سوءاً عن الإمبراطور؟
فأجاب: إني سمعته لأني أعرف النرويجية!
وكان القارب لحسن الحظ قد انطلق عنا مبتعداً فلم أر إلا أن أقول: لعلك مصيب رجلاً غيره إذا أنت أطلقت الرصاص على هذه المسافة الكبيرة.
وكنت لا أريد أن أظهر أمام البحارة شيئاً من عدم الاكتراث لإهانة سخيفة كهذه، ولكني مع ذلك كرهت أن يقتل رجل من أجل كلمة طائشة لا معنى لها. . . . . .
2 إبريل سنة 1916
رأيت مينا في المنام مرة أخرى، وكان حلم الأمس ذاك الحلم الفائت بعينه وأنا الآن مستطيع تذكر الحلمين، رأيت مينا في رفقة أبيها وسفن شقيقها، وكانت أمها في الناحية الأخرى بمكان قصيّ بعيد، وكانت واقفة تشير إلى مينا تطلب قدومها إليها، وكانت ذراعا مينا متفتحتين إليّ تطلبان احتضاناً، ولكني عندما هممت بالذهاب إليها وقع انفجار هائل، أخفاها قليلاً عني، ولكن لم يلبث أن تبدّد الدخان فرأيت مينا واقفة بجانب أمها، ترسل القبلات بأناملها إلى وجنتي وإلى أبيها وشقيقها.
قال صديقي فرتز عندما أنبأته نبأ هذا الحلم: إذا كان لهذه الرؤيا معنى فلا يكون ذلك إلا أنك لن تلبث حتى ترى الآنسة مينا.
على أن تفسيره لم يمح ما عراني من الاضطراب لهذا الحلم وما كنت أشعر به من آلام، ولا أستطيع أن أجتنب تخيل مصاب شديد وقع بمينا أو لا شك واقع أو أمر نزل وانقضى.
6 إبريل سنة 1916
لقد قتلت أعز إنسان لديّ على الأرض. . . أنا قاتل مينا. . . غفرانك ربي وعفوك. . . أواه. . . أواه. . .
10 أكتوبر سنة 1916
مضى زمان طويل منذ ذلك اليوم الرائع الهائل إلى هذه الساعة! لم أكن أعتقد أنني سأعيش هذه المدة المتطاولة، فقد علمت من فرتز أنه وجدني طريحاً والجملة الأخيرة من يوميتي لم تتم وإنني لبثت ثلاثة أيام سوياً في حمى شديدة، أهذي هذيان من به جنة ولم أستطع أن أتمالك جأشي وأعود إلى لبي إلا في هذه الساعة، ولم يكن لدى جلد على متابعة اليوميات إلا الآن.
في السادس من شهر إبريل المنصرم رأيت سفينة سويدية تنوء بأحمالها، راجفة في مهب الريح، تعدو صوب السواحل الانكليزية، فأطلق هالبرت قذائفه فأصابت واحدة منها صاريها فهوى متحطماً إلى أديمها، وأحدث وقوعه اضطراباً عظيماً في السفينة فلاح لنا أنها توشك على الغرق، فلما تدانى قارب النجاة منا، بلغ مني العجب مبلغه إذ رأيت فيه لارسن والد مينا وشقيقها سفن، وعلى الرغم من أنني أحسست أشد الحزن إذ خطر لي أن هذا اللقاء قد كلف الشيخ عظيماً، لأنني لم ألبث أن أوحي إليّ أن السفينة المغرقة هي ولا ريب سفينته التجارية التي كان يصيب الرزق منها، فإنني لم ألبث أن شعرت بروح من السعادة يسري في جميع أجزاء بدني، لأني علمت أنني سأظفر الآن بأنباء عن مينا.
فصحت بهما والقارب لا يزال على بعد مائتي خطوة منا أنشدكما الله أين مينا؟ قال لارسن الشيخ وهو يشير إلى البقعة التي سقطت عندها السفينة هناك!
فلم أدرك المعنى الذي أراده من تلك الكلمة وحسبته يتكلم على سبيل الاستعارة والمجاز كأنما يريد أن يقول أن الفتاة كانت تحب تلك السفينة أشد الحب وأنها ستروح دامية الفؤاد إذ تعلم بنبأ تلك الفادحة ولكنني عندما اقترب القارب وأدركت حقيقة المصاب العظيم تراخت ركبتاي وكدت أسقط لو لم أستند على ذراع هالبرت ورجل من البحارة، فقد علمت أن قطعة كبيرة انتثرت من الصارى فصدمت مينا وهي خارجة من حجرتها فأماتتها لساعتها، وأسقطتها تحت الأنقاض وعلم أبوها وشقيقها أن القضاء قد نفذ وشهدا السفينة مسرعة إلى الغرق وأن ليس لهما سعة من الوقت، فلم يجدا لهما سبيلاً إلا أن ينزلا قارب النجاة ويتركا رفات مينا يهوي إلى قاع الأوقيانوس.
فجاهدت قواي وانطلقت بالرجلين إلى حجرتي، وهناك تلقيت منهما تفصيل القصة.
قال سفن شقيقها: فلو أنك كتبت إلينا. . .! أنك لم ترسل إلينا إلا كتاباً واحداً، ثم أعقب ذلك. . .! السكوت التام!.
فصحت عجباً. . لك الله أيها الرجل! لقد كتبت عدة من الرسائل أناشدكم فيها إلا ما أرسلتم إلى تذكاران مينا!. .
قال الشيخ: ولكننا لم نتلق إلا واحدة منها، تلك التي قلت فيها إنك وإن كنت قد دعيت إلى خدمة الغواصات غير متوقع أن تغيب طويلاً عن استكهولم!. .
قلت: ومن كان يظن أن هذه الحرب الملعونة ستطول هذا الأمد الرخيّ كله؟
قال الشيخ: لقد حاولت مينا أن تحتمل آلام الفراق بشجاعة وصبر ولكنها عادت تأخذ في النحول والهزال، ولم تكن تشكو ولم تكن تتأوه ثم لم يمض زمن حتى انقطعت عن الكلام عنك دفعة واحدة لأنها كانت تعلم أننا كنا نعتقد أنك قد نسيتها وطردتها من قلبك، ولم تكن تحتمل أن تسمع كلمة سوء من إنسان عنك!
فلما أقبل ديسمبر الماضي، توفي الله زوجتي، وكانت تلك نكبة أخرى أشفقنا منها أن تذهب بحياة الطفلة المسكينة، وقد ذبلت الوجنتان وغارت العينان، فاشتريت تلك السفينة - تلك التي أغرقتها منذ لحيظات - وأجمعت على أن أصحب مينا في سفراتي واستعنت على قيادة الجارية بسفن.
وكنا عائدين من الساحل الغربي لإفريقيا نحمل أحمالاً إلى انجلترا وكان قضاء ثلاثة أشهر في عرض البحر كافياً لكي يرد لون الورد إلى وجنة الفتاة، وأوشكت مينا أن تعود إليّ جمالها الأول، كآخر عهدك برؤيته، ولاح لنا الابتهاج مسرع إلينا وإننا لكذلك - وتلك عجائب القدر - إذ بك قد عرضت لنا في طريقنا، فبددت هناءنا إلى الأبد!
فما سمعت من الرجل أن زوجته قد توفيت، تذكرت الحلم وما تراءت لي فيه تلك المرأة الصالحة فنبأته بالخبر كيف أنني رأيتها واقفة عن كثب تشير إلى مينا أن تقدم إليها وإنني رأيت بعد الانفجار مينا بجانب أمها، تقذف في الهواء قبلات حارة إلينا.
فتبادلنا العزاء، ما استطعنا سبيلاً إليه، وأمددنا قارب الرجلين بالميرة الواجبة فركباه شاخصين إلى الساحل الانكليزي.
وعمدت إذ ذاك إلى يومياتي، أدون أحداث اليوم، ولكنني لم أكد أخط سطرين، حتى علت عيني غشاوة مظلمة، وأعقبها النسيان المطلق، ولما فتحت عيني مرة أخرى بعد ثلاثة أيام رأيت فريتز وكمفر بجانب سريري، وجعل فريتز يقول لي: إنه كان مجمعاً إذا أنا لم أفق على أن يقود الغواصة إلى مربضها لكي يكفل لي من التمريض العناية التامة.
الله للرجلين، ما أكرم فؤاديهما. . . . .
12 إبريل سنة 1917
ليكن عدد ما في يومياتي هذه من الكلم سخطات ولعنات، ماذا أصبح العالم الآن في ناظري. . . . جحيماً وعذاباً مقيماً. . .!
مينا من قبل ثم الآن شقيقها بل صديقي الكريم عليّ سفن لارسن وعشرة من بحارته!. . لقد كرهت رسل الحرب ومستطيريها.
الواجب، الواجب، لا شيء غير الواجب، لا كلمة واحدة تقال عن الإنسانية!!
القتل والنسف، والتحطيم والتدمير بالقذائف والمهلكات، يوماً فيوماً، حتى يستدير العالم، وتستحيل دورة السنين، رباه، ما أشد سآمتي اليوم من كل ذلك، وما أكرهني فيه، ولم كل هذا التقاتل والتطاحن، لا شيء إلا أن حاكماً لا يريد أن يذعن إلى حاكم آخر. . . .!
والآن إذا كان لا بد من القتل، فإنني سأقتل كنمر مفترس، سأحطم كل شيء في طريقي، إلى الجحيم رجال الحرب جميعاً، إذن فسأجيد القيام بواجبي، سأكون وحشاً ضارياً. . .
25 مايو سنة 1917
لا بد من أنني كنت مجنوناً إذ كتبت الجزء الأخير من يومياتي
إنني لا أتذكر مطلقاً أنني كتبتها، ولم أفتح يومياتي منذ ذلك العهد إلا الآن.
كان سفن ولارسن والده ضابطين على سطح الباخرة آدا، فلما نزلا قارب النجاة بعد الغرق، ثار الجنون برأس سفن من أثر هذه المجازر التي أحدثتها فوثب من القارب طافراً إلى عنقي يريد أن يدقه، وكان هالبرت بجانبي فضربه فوق رأسه بمؤخرة مسدسه فسقط سفن منحدراً إليّ أليم فوثبت وراءه، ولكنه كان قد هوى إلى الأعماق ولا يزال في إغمائه، وبحثنا عنه كثيراً فلم نعثر بأثر منه.
أما والده المسكين، وقد فقد زوجته وطفلته وابنه - فلم يعتب ولم يلم، كان فؤاده في أشد اليأس، فجلس في مكانه من قارب النجاة يهز رأسه في صمت، ولبثت أرقب القارب وهو يبعد عنا ذاهباً في صميم الأمواج، فشهدت الرجل من خلال المنظار لا يزال يهز رأسه.
إن بعض العزاء الذي أشعر به الآن أستمده من الجلوس ملياً أمام صورة مينا وقد جللتها بالسواد وببضعة أبيات في رثائها، نظمتها في خاطري، ما أعجبني كيف استطعت تصويرها بريشتي في هذه الصورة الحية الرائعة. . .!
هنا انقطع سير اليوميات فجأة.
وقد حدث أحد البحارة الذين كانوا في السفينة النرويجية الملقبة فوكلاند والتي أغرقتها الغواصة بعد ذلك بما رأي من جنون القائد وكيف قذف بنفسه إلى اليم ولا تزال تجري على شفتيه هذه اللفظة الرائعة مينا! مينا!.