الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 40/متن العمرية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 40/متن العمرية

بتاريخ: 1 - 3 - 1918


لحضرة صاحب العزة حافظ بك إبراهيم

وعدنا القراء في الجزء السابق من البيان أن نتبسط شيء في نقد هذه العمرية التي يزعم قوم أن الله تعالى قد عمر بها جانباً من الأدب كان خرباً، وسد بها ثلمة في الشعر العصري كانت واضحة، ودفع بها الفلك الدوار فمر فأسرع فانبثق منها على الأدب العربي عصر جديد،،، هكذا قالت الصحف فيما كتبت أو كتب لها،، وقالت صحيفة أخرى: إنه لم ينشد في عكاظ شاعر أبلغ من صاحب هذه العمرية في عمريته: كأن أصحاب هذه الصحيفة أو كتابها قد أحصوا أسماء الشعراء الذين أنشدوا في عكاظ وقرأوا ما أنشدوه، فإذا كان العلماء قد قالوا إن أسماء الشعراء عكاظ وقصائدهم التي أنشدوها غير معروفة إلا أربعة أو خمسة فلا ندحة لنا من أن نتأول أن كتاب تلك الصحيفة أرواح رجعت إلى الدنيا بعد 1400 سنة وكانت من قبل في أجسام عكاظية، ولعل منها روح النابغة، ولعل صاحبها هو الذي كتب تلك الكلمة فكان له الأمر من قبل ومن بعد، وتم له الحكم بين الشعراء في عكاظ ودرب الجماميز،،

ليس بنا أن نتصدى لمثل هذا ولا نحن موكلون بوضع الصراط والميزان في هذه المجلة لمحاسبة الأخلاق الأدبية ولكنا موفون بما وعدنا على أن نلتزم جانب الإيجاز ما استطعنا وحسبنا الله. . .

لقد حرنا في إدراك الغرض الذي امتثله حافظ حين قرض هذه العمرية لأن الشعراء لا ينظمون إلا لغرض معين، فأما رياضة الخاطر، أو إظهار محاسن الصناعة، أو العمل لفائدة ما، أو قضاء حاجة في النفس، على أنا نجمل من هذه الأغراض كلها فنفرض أن الشاعر قصد إلى أهمها فأراد أن يقدم لهذا العصر المادي أثراً من الروح الإلهي وأن يتحف أدباء العصر بتحفة من الفن، ونضيف إلى هذين أنه يرمي بهذه القصيدة كما يقول هو إلى قضاء حقوق نام قاضيها - وحكاية مناقب عمر للشاهدين وللأعقاب - ثم ننظر في وفاء العمرية بهذه الأغراض وما مبلغها من كل واحد منها.

فأما أثر الروح الإلهي في القصيدة وما يتجلى فيه من الحكمة الرائعة والوصف البارع والإبداع والسمو وفلسفة الحياة وما إلى ذلك من مظاهر الروح والفكر فهو أثر ضئيل جداً لا يكاد يحس على أنه مع ذلك إنما هو من روعة تاريخ الفاروق وسموه الطبيعي وروحانيته لا من نفس الشاعر ولا من قوته الذهبية، فإن حافظاً لم يعرف بالحكمة ولا بالفلسفة ولا هو ممن يضرب الأمثال للناس ويشرح لهم معاني الحياة ولا هو بالشاعر الذي يغوص وراء المعنى إلى سره وصميمه ويتغلغل بروحه في ضمائر الأشياء كما هو حق الشعر، وذلك هو السر في أن أكثر قصائده أنفاس ضيقة وأبيات معدودة لا يطيل فيها ولا يعدد الفصول ولا ينوع الأساليب وبخاصة في نشأته الأولى فلما أدرك أخيراً أن الشعر هو تعبير عن أسرار المعاني في هذا الكون، وأنه لذلك يجري مجرى الشرح والإفصاح عما في الطبيعة من أغراض النفس وما في النفس من معاني الطبيعة فيجب أن تكون أكثر قصائد الشاعر طويلة أو إلى الطول إلا أن يكون من شعراء المقاطيع فيلزمها ولا يكلف نفسه إلا وسعها عمد صاحبنا إلى الإطالة قليلاً ولكنه لم يجد في ذهنه المادة الفلسفية التي تعطيه من أسرار الأشياء وتكشف له عن آثار الشعر في المناسبات المعقودة بين النفس وبين هذه الأسرار، ولا رأي في روحه قوة الجبابرة النفسيين التي تشبه قوة الخلق في توليد المعاني بعضها من بعض وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، ولا أحس في رأسه ذلك الخيال الذي يتلاعب بالصفات والحقائق حتى يجعل من التوهم حساً ويرى العين مالا تراه إلا النفس ويرى النفس ما لا تراه إلا العين، بل رأى - وله الله - أن كل بضاعته حافظة جيدة تواتيه شيء من الألفاظ الجزلة والعبارات المونقة - من صنع غيره طبعاً - والمعاني التي طال عليها القدم، وأكل الدهر عليها وشرب، فعمد إلى الصحف ينظم من أقوالها وآرائها وهجر ما عدا ذلك من فنون الشعر وأغراضه إلا قليلاً، ولقب نفسه بالشاعر الاجتماعي، فإذا كان الموضوع الصحفي مما كثر فيه الكلام وتقلبت الآراء وامتدت أطرافه طالت فيه القصيدة الحافظية وإلا قصرت.

ومن هنا طالت العمرية لأن تاريخ الفاروق رضوان الله عليه طويل الذيل مبسوط الجناحين على الآفاق وهي مع ذلك تصلح شاهداً على ما قدمنا، فإن الشاعر الاجتماعي اختار لأكثر فصولها من أخبار عمر وسيرته ما كان في مادته التاريخية شيء من الطول أو أمكن أن يكون له هذا الطول من سياق الحكاية وذلك كي يسهل عليه النظم وتتسع جوانب القصيدة، وإلا ففي كثير من الأخبار القصيرة التي أضرب عنها ما هو أبلغ في معناه وموقعه وأحسن بمذهب الشاعر وأقرب إلى خياله مما اختار، ولو تأملت الفصول القصيرة في هذه العمرية كعمر وشجرة الرضوان مثلاً، لرأيتها ضعيفة متهالكة حتى في النظم لأن مادة التاريخ والحكاية فيها قليلة ولم تمدها قريحة الشاعر بشيء من روحه فخرجت مخرج الاقتضاب، ولو أن شاعراً فحلا عمد إليها لا خرج من كل فصل منها فصلاً فلسفياً بديعاً، وكان في خبر شجرة الرضوان وحده أبلغ درس لجماعة المسلمين من زوار الأضرحة ونحوهم لو عرف حافظ كيف يجعل ما ليس بشعر شعراً مع أنه جاء بالخبر كله في بيتين لا قيمة لهما.

وعلى أن الشاعر إنما نظم التاريخ نظماً وعلى أنه خلط فيما اختاره من فصول القصيدة فما وقت هذه القصيدة بتاريخ عمر ولا أظهرت لنا شيئاً من أسراره الخاصة به ولا بينت لنا أوليات عمر التي امتاز بها كالتاريخ الهجري وتدوين الدواوين وتمصير الأمصار واتخاذ بيت المال وما إلى ذلك مما هو مادة للاجتماع وللسياسة وللتاريخ، بل كان أكبر الأمر عند حافظ أن ينظم قطعاً قطعاً على النسق التاريخي ومع سهولة هذا العمل فقد جاء بالتاريخ ممسوخاً حتى أن من لم يقرأ تاريخ عمر ويرجع إلى الأصل الذي نقل عنه الشاعر لا يكاد يفهم من القصيدة إلا ما يعطيه ظاهر اللفظ.

والآن نفرض أن حافظاً أراد من قصيدته أن يتحف الصناعة - صناعة الأدب - بتحفة من الفن فهانحن أولاء نقرأ القصيدة ونعيدها ونتدبرها ونقلب النظر فيها فما نراها من أولها إلى آخرها إلا نظماً نظماً وإلا وزناً وزناً، أما المجازات والاستعارات والكنايات وتفويف العبارة وحسن الإشارة والاختراع في أسلوب الأداء ونحو ذلك مما هو من باب الصناعة البيانية التي ترفع طبقة الكلام عن الكلام فما نرى منه شيئاً، بل إنك لتجد هذه الصناعة ركيكة مستهلكة من مثل قوله في دعائه لله فمر سرّي المعاني أن يواتيني كما كان يقول للبارودي في مدحه فمر كل معنى فارسي بطاعتي وقوله أديماً حشوه هم وإنما يقال حشو برديه مثلاً لأحشو أديمه. . صاح الزوال بها وصاح الوهمي لا يسند إلي الزوال الوهمي، وهلم، هذه واحدة - والثانية أن معاني القصيدة كلها خالية من الإبداع والابتكار وما نرى فيها أبدع من هذا البيت في وصف الدولة الإسلامية:

تنبو المعاول عنها وهي قائمة ... والهادمون كثير في نواحيها

على أنه مسلوخ من قول الشاعر: فلو ألف بأن خلفهم هادم كفى ... فكيف ببان خلفه ألف هادم

وانظر الفرق بين روحي الشاعرين روح الحكيم وروح المحتكم، ثم هذا البيت في الدولة أيضاً:

من العناية قد ريشت قوادمها ... ومن صميم التقى ريشت خوافيها

لولا أن فيه خطأ بليغاً وذلك أن القوادم هي أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح والخوافي سبع ريشات بعد السبع المقدمات أو هي ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت فكأن الشاعر يقول ريشت الريشات القوادم وريشت الريشات الخوافي وهذا من الخطأ والقبح كما ترى إنما يقال ريش الجناح ليس غير، ثم هذا البيت:

وفتنة الحسن أن هبت نوافحها ... كفتنة الحرب أن هبت سوافيها

على أن في هذا البيت من سوء الطباق بين الحسن والحرب ومن ضعف التعبير في قوله هبت نوافحها وهبت سوافيها، لأن النوافح والسوافي متغايران في المعنى فيجمل أن يعبر عن فعليهما بلفظين متغايرين يلائم كل منهما المعنى الذي يساق به، ثم قوله - إن الحكومة تغرى مستبديها - وهو يصلح أن يكون مثلاً وليس في القصيدة غيره من هذا النوع ولكن فيه هذه الإضافة التي جاءت حشوا في (مستبديها) ويلحق بهذه الكلمات قوله:

فأنت في زمن المختار منجدها ... وأنت في زمن الصديق منجيها

وفيه جناس لا بأس به وإن كان من أضعف الأنواع لخلوه من النكتة التي تجعل التأثير بالغاً على النحو الذي انفرد به رجال هذا الفن كالبستي والصفدي وغيرهما.

هذا هو كل ما يعجب الناقد أو الأديب من القصيدة على بعد ما بين مشرقها ومغربها وعلى أنها زهاء مائتي بيت فأين هي من صناعة البيان أو صناعة الشعر على أنها في تاريخ رجل أي رجل وعصر أي عصر، وثالثة أن القافية التي اختارها حافظ لقصيدته من أضعف القوافي وأسهلها، لا تدل على شيء من تمكن الرجل من صناعته فإن الهاء فيها هي هذه الهاء ضمير الغائب المؤنث، تتكرر في كل بيت إلا بضعة أبيات فإنها فيها أصلية من بنية الكلمة كقوله: تشبيهاً وتنزيهاً ونحوها، ولو عمد مبتدئ في الشعر إلى النظم على هذا الروي وكرر الهاء كما فعل حافظ ما أعجزه أن يجيء بألف بيت وبألفين وأين هذا الصنيع من قوافي شاعر كابن الرومي على طول قصائده أو قوافي البردة أو الهمزية للإمام البوصيري رحمه الله أو صدى الحرب لشوقي أو كشف الغمة للبارودي أو غيرها مما لا يجهله الأدباء، وما القافية في قوتها وتمكنها إلا طراز الصناعة لا يقصر فيها إلا مقصر ضعيف ولا يستهين بها أو يبتذلها هذا الابتذال إلا شعراء المتون إذ هم لا يريدونها إلا خاتمة للبيت من النظم كما صنع حافظ.

والرابعة أن الأسلوب القصصي في هذه العمرية لا يجري على قاعدة من قواعد القصص والرواية وليس فيه من أثر الفن الروائي شيء بل هو تقليد ضعيف جداً لبعض ما جاء من أساليب القصص في القرآن الكريم وكان هذا أدل على جهل الشاعر بقواعد البلاغة وطرق النظم المعجز، لأن الأساليب القصصية في القرآن تساق على نمط يراد به البلاغة والإعجاز قبل التاريخ والسير وقبل معنى الخبر وشرحه فلا يتأتى لكائن من كان من البلغاء أن يعارضه أو يجري على أسلوبه في كثير ولا قليل لأن التاريخ فيه ليس مفرداً بالوضع بل هو يأتي في سياق الكلام ويراد للتمثيل والموعظة والعبرة ونحو ذلك، فلو أن الشاعر كان بصيراً بمذاهب الكلام لما اختار هذا النسق الذي جاءت به القصيدة فصولاً يدفع بعضها في قفا بعض، ولو أنه كان شاعراً بحق وكان من رجال القرائح وحكماء الكلام لنظم في سيرة عمر رواية كاملة يخرج لنا بها الياذة عربية في مثل روح هوميروس أو نفس الفردوسي أو السعدي أو ملتن أو دانتي أو غيرهم من شعراء الأمم ولكن أني له وهو يرى نفسه من الضعف ما يجعل مثل هذه القصيدة في اعتباره ديواناً، ويرى حوله من النفاق وسوء التقدير ما يجعله في رأي نفسه كأنه تاريخ على حدة والعجيب أن يكون هذا شأن من حوله مع أنه هو نفسه يقول أنه ضعيف الحال واهيها ويقر في قصيدته بأسلوبها وفصولها أن عمر في هذه القصيدة إنما هو أمثلة من عمر لا غير.

وانظر مطلع القصيدة ومقطعها وأين هما من براعة الاستهلال وبراعة المقطع بل انظر هذه المعجزة الكبرى في أساليب الرواية وكيف بدأ تاريخ الرجل بمقتله.

ثم تأمل كيف تنقطع الصلة بين كل فصل من القصيدة وما بعده كأن ليس في البلاغة شيء يسمي حسن التخلص ولا في أصول فن الرواية ما يقضي بتعليق فصل على فصل ومراعاة السياق ونحو ذلك، وكأنه يكفي أن يقال (مقتل عمر) (إسلام عمر) (عمر وبيعة أبي بكر) الخ الخ فهل هو يضع كتاباً في التاريخ أو ينظم متناً من المتون.

وهل يدري القراء لماذا بدأ الشاعر بمقتل عمر. . إنه لم يفعل ذلك إلا فراراً من الموضوع الذي يريد نظمه وعجزاً عن توفيته حقه لأنه إن بدأ بوصف عمر ونشأته ومنزلته في الجاهلية لزمه أن يجري على هذا النسق حتى ينتهي كل ما في حياة الرجل من الشعر والحكمة ثم تنتهي القصيدة بمقتله فإن هو بتر التاريخ أو اقتضب منه أو خلط في نسقه ظهر ذلك للناس واضحاً وظهر معه عجزه وقصوره، فأعد سامعيه وقراءه من أول القصيدة أن لا يلتفتوا إلى النسق التاريخي ولا ينتظروا فيه إلا قطعاً وفصولاً عن عمر وسيرته وكأنه ظن أنه بذلك يذهب بوعيهم وانتباههم. .

لم يبق إذن إلا أن الشاعر أراد بهذه العمرية كما يقول هو حكاية مناقب عمر للشاهدين وللأعقاب فأما للشاهدين فربما وأما للأعقاب فليس هناك إلا أن تأتي نكبة على كل أسفار التاريخ العربي فتذهب بها ولا يبقى إلا متن العمرية وشرحه. .

وللنظر في كيفية حكاية الشاعر لمناقب عمر فقد خرجنا بالقصيدة من باب الشعر إلى باب النظم ثم انتهينا إلى باب حكاية المناقب، وإنها في هذا الباب يعلم الله دون هذه القصص العامية أو المعربة التي نظمت فيها مناقب سيدي أحمد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنهما أو قصة سيدنا يوسف عليه السلام لأن هذه القصص محكمة في بنائها على الأسلوب الروائي وفيها شيء كثير من حسن التخيل وبلاغة التصوير، وقد نظم الغبارى الزجال المشهور قصة سيدنا يوسف في زجل طويل جاء فيه بالمعجب والمطرب بحيث لا تقع عمرية حافظ من قارئه إلا موقع الماء المثلوج ممن امتلأ جوفه رياً وبرداً.

نحن نقر حافظاً على أنه حكى جملة صالحة لا بأس بها في سيرة عمر ومناقبه وأنه جهد الجهد كله في نظمها ولكنا لا نقول أبداً أنه جاء بشعر شاعر أو وفى النظم حقه أو مزج فلسفة الشعر بفلسفة التاريخ بل فيما هو دون ذلك لا نقول أنه محص التاريخ ولا جاء به على وجهه ولا اجتهد فيه برأي بل مسخ وبتر وأخطأ ودل على أنه لا يفهم التاريخ العربي بقريحة عربية وأثبت أنه ضعيف جداً في العلوم الاجتماعية لا يقام لرأيه وزن فيها ولو شئنا أن نورد كل ما في قصيدته من هذه الأغلاط لطال الأمر علينا وعلى القراء ولكنا نورد أمثلة قليلة تومئ إلى ما وراءها قال في الدولة الإسلامية وأسباب سقوطها:

والله ما غالها قدماً وكاد لها ... واجتث دوحتها إلا مواليها جاء بهذا البيت في مقتل عمر بعد أن لعن مولي المغيرة الذي قتله ولقد أقسم حافظ أنه ما غال الدولة ولا كاد لها ولا اجتث دوحتها إلا الموالي وأنه لو قسم لو تعلمون عظيم، فأي برهان يقول حافظ هذا القول وما هو أثر الموالي في هدم الدولة الإسلامية ومن هو الخليفة الذي تولاها منهم وماذا كان لهم من الشأن في القضاء والسياسة والجند.

لعل الشاعر يجهل فيما يجهل أن مولي المغيرة وهو أبو لؤلؤة كان مجوسياً ولولا ذلك ما أقدم على قتل عمر، ولعل الشاعر لم يقرأ فيما قرأ أن عمر لما عرف قاتله قال الحمدلله الذي لم يجعل منيتي على يد من يدعي الإسلام، وإلا فأين أبو لؤلؤة هذا من سائر الموالي ومنهم أئمة الناس وعلماء الأنصار وكان منهم سعيد بن جبير رأس التابعين ونبغ منهم في عصر واحد عطاء بن أبي رباح إمام الناس بمكة وطاوس باليمين ومكحول بالشام ويزيد بن أبي حبيب بمصر والضحاك بن مزاحم بخراسان والحسن البصري بالبصرة وإبراهيم النخعي بالكوفة وغيرهم وغيرهم ممن قام بهم العلم واهتدى الناس بهديهم، وهذا حماد الراوية أمام أهل الأدب الذي تنتهي إليه الأسانيد مولي من الموالي، ولكن شاعرنا الاجتماعي المؤرخ الكبير لا يقرأ ولا يعلم إلا من بعض كتب المحاضرات كالعقد الفريد ونحوه وهي كتب لم توضع للتاريخ والتحقيق وإنما جمعت للمحاضرة والفكاهة.

ثم قال حافظ بعد هذا البيت يعني دولة الإسلام أيضاً:

لو أنها في صميم العرب قد بقيت ... لما نعاها على الأيام ناعيها

وهذا من الجهل بالتاريخ وطبائع الأمم وأحوال الاجتماع وإلا فهل كان يريد الشاعر أن لا يسلم إلا العرب أو أن يفرق الإسلام - وهو دين الإخاء والمساواة - بين العربي والمولي، ولنا أن نفهم من هذا البيت أن الشاعر يريد من البيت الذي قبله أن الموالي كانوا ملوكاً وخلفاء للدولة الإسلامية لأنهم في رأيه هم الذين اجتثوا دوحتها، وهذه مادة جديدة في التاريخ وقد وجب على المؤرخين وأهل البحث أن يسألوا شاعرنا تصحيح كتب التاريخ والأنساب فربما كان معاوية أو عبد الملك أو هشام أو غيرهم من الموالي، وربما كان الديلم والترك ونحوهم من هؤلاء الموالي أيضاً فيجب أن يتناول التصحيح الحافظي كتب اللغة والأدب فوق التاريخ والأنساب. . . وقال في إسلام عمر:

ويوم أسلمت عز الحق وارتفعت ... عن كاهل الدين أثقال يعانيها وصاح فيه (بلال) صيحة خشعت ... لها القلوب ولبت أمر باريها

الذي يفهم من هذين البيتين أن بلالاً مؤذن رسول الله ﷺ أذن جهراً يوم أسلم عمر لأن المسلمين قبل ذلك كانوا مستخفين فخشعت القلوب ولبت دعاءه وهرع الناس إلى الصلاة أو نحو ذلك المعنى مما يتصل ببلال.

ففي أي كتاب هذا يا حافظ؟ أجهلاً بتاريخ الدين فوق الجهل بتاريخ الأمة؟ إن الذي في كتب التاريخ أنه لما أسلم عمر كبر المسلمون (وكانوا نحو أربعين نفساً) تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وفي رواية كبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل مكة وفي رواية ثالثة فكبر رسول الله ﷺ، ولم يقل أحد أن بلالاً كبر أو أذن أو صاح بل لم ينص أحد على أن بلالاً كان من أهل الدار، أما ما يثبت جهل الشاعر بتاريخ الدين فهو أن عمر رضي الله عنه أسلم بمكة في السنة السادسة من النبوة، والأذان شرع بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، وبين هذه وتلك سبع سنوات وأيام، وقالوا في بدء الأذان أن سيدنا رسول الله اهتم للصلاة كيف يعلمون بها فذكروا له راية فلم تعجبه فذكروا له الشبور البوق فقال هو من أمر اليهود فذكروا له الناقوس فقال هو من أمر النصارى فذكروا له النار فقال هي للمجوس فانصرف عبد الله بن زيد والمصطفى صلى الله عليه مهتم لهم فأرى الأذان فغدا إلى النبي فأخبره بذلك فأمره عليه الصلاة والسلام أن يلقيه على بلال، وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة كما في صحيح مسلم وغيره، فأين صيحة بلال يوم إسلام عمر وهو لم يتعلم الأذان إلا بعد ذلك بسبع سنين، كأن الاسم التاريخي عند هذا الشاعر الاجتماعي همزة وصل أو همزة قطع أو نحو ذلك من ضرورات النظم. . أليس ذلك من الكذب على التاريخ. . وقال في مثال من هيبة عمر:

أريت تلك التي لله قد نذرت ... أنشودة لرسول الله تهديها

قالت نذرت لئن عاد النبي لنا ... من غزوة لعلي دفي أغنيها

واستأذنت ومشت بالدف واندفعت ... تشجي بألحانها ما شاء مشجيها

والمصطفى وأبو بكر بجانبه ... لا ينكران عليها من أغانيها

إلى أن قال ما معناه حتى إذا قدم عمر خارت قواها وخبأت دفها في ثوبها فقال رسول الله: قد فر شيطانها لما رأى عمر لأن الشياطين تخشى بأس مخزيها، ويعلم الله أن هذا الأبيات مؤلمة للمصطفى ﷺ مغضبة لعمر رضي الله عنه، مغضبة لكل مسلم يغار على دينه، فأقل ما يؤخذ من هذا الشعر أن السيد الرسول وسيدنا أبا بكر كانا يسمعان الغناء ويشهدان الرقص من امرأة محرمة وأن الشيطان كان بحضرتهما يرى ويسمع لا يفر منهما ولا يهابهما وأن عمر وحده هو ذو الغيرة على الدين وهو الذي يفر منه الشيطان.

ونحن نعجب أشد العجب كيف يمر هذا الكلام على مسامع شيخ الجامع الأزهر وغيره من العلماء الذين حضروا الحفلة الجماميزية ولا ينكرونه ولا يردون على الشاعر بل يدعون هذا السخف ينسرب إلى الشباب والفسقة وينشر عليهم في الصحف فيحتجون به لفسقهم ودعارتهم إذا شهدوا الرقص أو سمعوا الغناء والألحان، ألا يعلم شاعرنا القائل (واندفعت تشجي بألحانها ما شاء مشجيها) - على ما في الخطأ اللغوي في استعمال هذا التعبير لأن الشجو هو الحزن والأسى ولا الطرب) - أن الألحان محرمة قطعاً حتى في الأذان وحتى في قراءة القرآن فكيف يسمعها النبي ﷺ من امرأة تتفنن فيها ألا أن الشاعر الاجتماعي من أجهل الناس بعادات العرب وقد مسخ القصة مسخاً وقلب عادة عربية بحتة إلى حالة عصرية مخنثة وزادها تخنيثاً فجاء بالمرأة ودفها كأنها من نساء قهوة ألف ليلة. . . . والقصة على ما في كتاب أسد الغابة هي بحروفها: خرج رسول الله ﷺ في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت أن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف قال إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها وقعدت عليه فقال رسول الله ﷺ أن الشيطان ليخاف منك يا عمر.

وليس يخفى أن من التعبير في لغة الحديث الشريف أن الغضب من الشيطان واللهو من الشيطان ونحو ذلك فإذا سكن الغضب فقد زال تأثير الشيطان وكذلك في الباقي فكأن الشيطان كف تأثيره على المرأة حين رأى عمر وكأنه خاف حين خافت فهذا هو المعنى، أما أن الشيطان كان حاضراً ثم فر كما عبر الشاعر فهذه إن كانت منقبة لعمر فهي والعياذ بالله ونستغفر الله منقصة لصاحب الشريعة. . .

لم تكن المرأة إلا جارية سوداء أي أمة متبذلة للخدمة والمهنة ولم تصنع شيئاً إلا أنها ضربت بالدف ضرباً حماسياً على عادة نساء العرب من استقبال الفاتحين والغزاة من أبطالهم فانظر كيف وصف الشاعر من ألحانها وتطريبها وانظر مبلغ هذا التفنن والجهل بمقامات الكلام ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هذا قليل من كثير، وحصاة كما قيل من ثبير، ولو أنا تعقبنا هذه العمرية تعقباً تاماً لضاع على قرائنا هذا العدد وأخوان له من بعده ولكن البعرة كما يقولون تدل على البعير، ومن ثم نجتزئ بهذا المقدار في هذا العدد وربما كانت لنا عودة ونختتم القول بأن نضرب المثل لشوقي وحافظ بما قيل، مثل الأديب ذي القريحة مثل دائرة تدار لخارجها فهي في كل دارة تدار تتسع وتزداد عظماً، ومثل الأديب غير ذي القريحة مثل دائرة تدار لداخلها فهي عن قليل تضؤل وتبلغ إلى باطنها والله أعلم.

استدراك

وقع في هذه الكلمة بعض أخطاء مطبعية رأينا أن نبادر بالتنبيه إليها وأن كان قراؤنا من الفطنة بحيث لا تخفى عليهم، بيد أنا ننصح إلى حضراتهم دائماً أن يكلفوا خاطرهم ويتداركوا كل خطأ مطبعي بالتصحيح الذي نلفتهم إليه في كل عدد تلحقه هذه الهنوات التي لا حيلة لنا في البراءة منها وعمال مطابعنا على ما يعلمون - ففي صفحة 108 (ولا من قوته الذهبية) وصوابها (الذهنية) وفي صفحة 109 (تواتيه شيئاً) وصوابها (تؤتيه شيئاً) و 110 (حشوه هم) وصوابها (حشوه همم) و 112 (وهو يرى نفسه) وصوابها (وهو يري في نفسه) و 114 (وإنه لو قسم) وصوابها (وإنه لقسم) و (فأي برهان) وهي (فبأي برهان) و (علماء الأنصار) وهي (وعلماء الأمصار) و (طاوس باليمين) وهي (وطاوس باليمن).

(1) على أن للبيان كلمة على حافظ بك باعتبار كونه شاعراً على النحو الذي نحوناه في الكلام على أحمد لطفي السيد بك ستنشرها في العدد القادم.