مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/طريق السعادة
→ الجمال والحب | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 4 طريق السعادة [[مؤلف:|]] |
إيطالية وطرابلس الغرب ← |
بتاريخ: 20 - 12 - 1911 |
عربها عن الإنكليزية احد الأفاضل
حرية الإرادة هي القوة التي تحكم العقل وتهيمن على النفس ولا يتأتى للإنسان الحصول على هذه القوة ما لم يكن له الإدراك الكافي. ولا يراد من ذلك أن يشتغل المرء بالمباحث النفسية العقيمة لأن الغاية من الحياة هي الوصول إلى السعادة وذلك يتم باستقصاء أحوال الطبيعة البشرية والوقوف على سيرة مشاهير العصور الخالية ذكوراً كانوا أم إناثاً وأول درس تلقنه لنا الحياة هو ضبط النفس لأنه مرقاة النجاح وسلم الظفر وبديهي أن غاية كل أمرٍ في الدنيا أن تتم له هذه الأمنية أمنية النجاح والتوفيق في الأعمال. وإذ عرف ذلك وجب علينا أن نبحث في المعنى المراد من النجاح المذكور.
إن النجاح كلمة نسبية لا مطلقة يعبر عنها قوم بالسعادة وآخرون بالقناعة وغيرهم بالمال. وغني عن البيان أن المال كان قوة لا يستهان بها وسيظل كذلك مادامت له اليد الطولى والقدح المعلى في إدارة دفة الأعمال. على أنه ينبغي لنا أن نضع نصب عيوننا أن النجاح في الحياة هو النجاح في الأعمال ولا يعكس فقد قال أحد الفلاسفة أن النجاح لا يستطيع أن يبتاع السعادة وغالى أحد فلاسفة اليونان الزاهدين فقال أن الإنسان قد يشتري الشقاء بالمال. فإذا أحظاك الجد وتوفر لديك المال وجب عليك أن تعرف كيف تستخدمه في قضاء حاجتك وذلك يتضي عقلاً راجحاً وفكراً مستنيراً إن في العقل صفة تؤهله للقبض على عنان القوة والنجاح وبغير هذه الصفة لا تكون الحياة شيئاً لما يتخللها من حبوط المساعي واليأس وبها يبسم الدهر عن ثغر ألمى وتسفر عروس الحياة عن طرف أحوى وتكون جميع العقبات والمصاعب بمنزلة منارات تدلنا على مقدار سيرنا في سبيل النجاح والسعادة بل هي حجر الحكمة الذي يحول كل ما يمسه ذهباً. هذه الصفة هي التفاؤل أي النظر إلى المستقبل بعين الرجاء والأمل بالخير وضدها التشاءم أو النظر إلى المستقبل بمنظار أسود يري الجو أقتم مكفهراً والحياة سوداء كالحة. والتفاؤل كحرية الإرادة هبة سماوية يمكن ازديادها بالتمرن والعمل وتعطيلها بالبطالة والكسل. ولا ريب في أن الغاية من خلق الإنسان هي التفاؤل لأن التشاؤم علة طارئة على العقل لا وجود لها في الطبيعة. فالمتفائل يرى السحب في جو السماء فيقول أن لكل سحابة نوراً أما المتشائم فإذا رأى السحب بيضاء قال أنها نذير بتلبد الغيوم. المتفائل يقول نعم وإن تلبدت الغيوم فإنها لا تحجب الشمس إلا إلى زمن لأن الشمس موجودة خلفها وهي أقوى من كل السحب ومتى حان الوقت فرقتها أشعتها الحارة أيدي سبا.
إن التفاؤل في الأعمال يقصد به الرغبة في العمل والميل إلى إتمامه فالذي يشتهي أمراً ويرغب فيه لايرى أمامه إلا الغرض الذي يسعى إليه. قد يخسر خسائر وقد تعترضه صعوبات ولكنه يعرف أن أمامه غرضاً وإن الوصول إليه أمر لا بد له منه فإذا تطرقت إليه الشكوك فترت عزيمته وتراخت همته لذلك ينبغي نفي الشكوك لأن النجاح موكول للعزائم والعزائم مقرونة بنواصي الفكر وكل يوم تعمل فيه عملاً تسير فيه خطوات في سبيل النجاح ولو لم يسفر العمل عن نتيجة راضية. وكل مسألة تحلها تساعد في إدراك الغاية لأنه تنشئ الشعور بالرضى وتسهل متابعة العمل والسرور به فترى من هذه المقدمات أن كل نجاح مادياً كان أم أدبياً مرتبط بخاصة التفاؤل وأننا كلما امتلكنا ناصية هذه الخاصة (الصفة) ازددنا نجاحاً وسعادة.
ومن ثم وجب على من يروم السعادة أن يكون من المتفائلين إذ التفاؤل رائد النجاح. لأن المتشردين والبلة الذين يزحمون الشوارع على المارة وينامون في الطرقات ليلاً ويكونو عالة على المجتمع الإنساني لم يكونوا كذلك لو كانوا من طائفة المتفائلين. ولا ريب أن بعضهم هووا إلى هذه الوهدة لفقد الذراع القوية التي تنتشلهم من هاوية الخمول ولو كان لهم قوة الاعتماد على النفس التي تنشئ التفاؤل لما كفوا عن الجهاد وبعضهم سقطوا فيها بسبب المسكر إن المسكر ينشيء سدوداً صناعية لأنه يبلد العقل والإنسان يرغب فيه بمحض الإرادة ولو كان الناس كلهم متشائمين لأصبح العالم جحيماً لا يطاق وسكناه علقماً مر المذاق. ومن المؤكد أن في العالم قواماً ينيرون فضاءه كما ينير ضوء الشمس فضاء الكون أولئك هم المتفائلون ولا ريب في أنهم يؤثرون على غيرهم فيحملونهم على مشاكلتهم والتشبه بهم. فإذا أردت أن تكون إنساناً بالمعنى الصحيح وجب عليك مماثلتهم فذلك خير لك ولمن هم حولك واعلم أن تأثير قدوتك كموج البحر يسير في دوائر متسعة فيؤثر في الذين تلاقيهم والذين لا تلاقيهم وتكون قدوتك سبباً في تحسين أحوال العالم ومتى قمت بهذا الواجب عملت خيراً ونلت ثناء الناس وعطفهم وظفرت بالسعادة المثلى والنجاح مادياً وأدبياً.
يظن البعض أن الإنصاف بصفة التفاؤل متعذر فنقول له كلا لأن هذا التفاؤل هو من مقتضيات الطبع لا التطبع وكل ما يجب عليك عمله هو أن تنظر إلى المتسقبل بنظارة بيضاء. تأمل في هذا الموضوع قليلاً وتبسم الا تشعر بسرور من هذا العمل. ارفع عينيك إلى سقف الغرفة التي أنت فيها الا يحول ذلك أفكارك عن الموضوع الذين أنت مفكر فيه. إذا لم تشعر بعد ذلك بتحسن فاخرج إلى خارج مكانك واشخص إلى الجو تذهب عنك الهموم وتنجل عنك الغموم لأن ليس في الطبيعة مكان للتشاؤم. لأن التشاؤم ينشأ بين صغار الأحلام والعقول الضيقة.
إذا طالعت سفر الحياة تجد أن لك عمل جزاء فإني أعرف رجلاً أراد في صباه أن يكون صحافياً فطلب أن ينتظم في سلك الصحافيين فلم يفز بطائل وقدر له أن يشتغل بالتجارة فذهب إلى بيته يائساً كئيباً يود لو أن عجلات الترام مرت عليه وسحقته سحقاً فذهبت بحياته وبنكد طالعه والآن هو رئيس مهنة يربح منها ثلاثة أو أربعة أضعاف ما كان يعطاه لو كان صحافياً فما ظنه بلاءً وشؤماً كان بدء نجاحه وسبب سعادته.
إذا كان عملك اليومي شاقاً فابذل جهدك في اتمهامه عالماً أنه صفحة من صفحات أخلاقك وإن إتقانه يؤهلك إلى النجاح في المستقبل فالمستر غلادستون المشهور كان يكره الحساب في المدرسة إلا أنه قوي على هذه العاطفة وأتقنه فصار بعد ذلك ناظراً للمالية فرئيساً للوزارة. تيقن أن الصعب الذي تفوز به ينشئ فيك الاختبار ويكيف أخلاقك فكن متفائلاً تنل المرام.
فوائد المتاعب - انظر في ماضي حياتك إلى أمرين فقط أولهما كل المسرات التي حصلت لك في الحياة وثانيهما كيف كانت كل تلك المتاعب التي مرت بك بداية أزمنة السعادة والنجح إذ بالتعب تدرك الراحة على حد قول الشاعر:
دعيني أجد السير في طلب العلى ... فسهل العلى في الصعب والصعب في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من أبر النحل
إن مزية العقل على المادة هو أنه يوجد لنفسه الحال التي يكون عليها أخرج إلى الأماكن التي تغشى جوها السحب ترها مطلمة ولا يمتد نظرك إلى بعيد ولكن متى طلعت الشمس من وراء الغيوم يظهر بطلوعها الوف من الأشياء المتوارية. ومعلوم أن الشمس لم تخلقها لأنها كانت حيث هي من قبل وإنما أنت لم ترها قط. وهكذا كل جمال الأرض أمامك تراه إذا اهتممت بالنظر إليه واستخدام ضياء شمس أفكارك عند الحاجة إليه.
إذا أدخلت نور الشمس إلى غرفة سوداء لا تمتص حيطانها منه إلا قليلاً فتبقى مظلمة قابضة مهما كان النور في الخارج أبيض ناصعاً. وعلى الضد من ذلك الغرفة البيضاء فإنها تزهو وتلمع في ضياء الشمس فتنير ولو كان الجو أقتم فإذا أردت أن تجعل عقلك محزناً لضياء الشمس العقلي وجب عليك أن ترفع من أولاً كل الأفكار المظلمة وتستبدل بها أفكاراً سارة مضيئة لأن المرء ينبغي أن يكون حارساً على أبواب عقله ويقبل ما يريده من الأفكار ويرفض مالا يريده.
إن من الامتيازات التي خص بها الإنسان هو أن ينشئ لنفسه متى أراد جنة أرضية بإيجاد أفكار نيرة تضيء حياته. يظن بعض المحدثين أن السماء وجهنم مسائل فكرية أعني أن السماء هي من عمل الفكر النير وجهنم من عمل الفكر المظلم ومهما يكن من بعد ذلك عن دلائل الكتب المنزلة فإن فيه دليلاً على ما يجب على الإنسان أن يكون. فإذا سمح المرء لليأس والحزن بالدخول إلى باحة بيته العقلي وطرد الرجاء والقناعة يخطئ خطأ بيناً. الذي يستولي على قلبه الحب يرى العالم جنة مزدانة بالزهور مؤرجة بالعطور فإذا جاء يوم السوء سمت نفسه وارتفعت ووطأ العالم بقدميه ولا يرضى أن يبدل بحاله حال الملوك لأن الملوك يحسدونه على ما هو عليه إذ ليس لهم ماله. وهذه الحال العقلية أوجدها هو لنفسه وهو قادر على إيجاده في أي وقت شاء.
وإذا قيل إما من علاج لداء التشاؤم قلت بلى لكل دواءٍ دواءٌ والعقل مسود بالأشياء التي يعيرها اهتمامه فإذا قصر المرء فكره على العمل فقد عمي عن كل المؤثرات المحيطة به وإذا مال كل الميل إلى الموسيقى أو إلى التأمل في صورة جميلة فمهما حدث حادث في الخارج لا يؤثر على أفكاره. الولد الصغير وهو عائد إلى منزله مساءً يصفر تشجيعاً لنفسه يريد بذلك أن يستبدل بالخوف الذي يغشاه الشجاعة التي يحدثها الصفير فإذا شعر المرء بالانحطاط عليه أن يطرده بالأفكار المنيرة لأن الرجاء يزيل الخوف والأمل يحدث الشجاعة.
هذا والتوفر على الجهاد في إنارة الأفكار يحي العقول فإذا شعر أحد بتعب مفرط أو جهاد مبرح فليبتسم ويضحك وحينئذ تتوارد عليه الأفكار السعيدة وإذا احس الكسل فلينشد الأناشيد المفرحة وعند ذلك يشعر بنشاط يعينه على استبدال المسرة بالكدر.
إن كل إنسان يكون كما يريد أن يكون فإذا عبس ساعد الكدر على استباحة باحة عقله فكأنه أعطى العدو فرصة لمهاجمته ولكن إذا ابتسم فكأنه رفع راية نقش عليها البيت مملوءٌ سروراً فلا محل للكدر واليأس.
ولا يغيبن عن الذاكرة أن المحيط الذي حولنا يؤثر في أفكارنا فمن الثابت المقرر أن المناظر الجميلة وضياء الشمس تبعث السرور في النفس كذلك إذا أراد الإنسان نقاء أفكاره ينبغي أن يسكن بين عشراء فضلاء فبعض الناس يهتمون بجعل لون غرفة النوم بسيطاً جلباً للراحة ويجعل لون غرفة الجلوس بهجاً لجلب السعادة والسرور ويجعلون لون غرفة الطعام أحمر توليداً للشهية والمرح ويقولون أن اللون الأخضر مفرح فهو يناسب أن يكون لون غرفة العمل.
أما أسباب السعادة فكثيرة منها أن تذكر الكتب السارة التي قرأتها والأحاديث اللذيذة التي سمعتها والمناظر المبهجة التي رأيتها والأماكن الجميلة التي زرتها والأزمنة السعيدة التي قضيتها: تناس متاعبك واعتد السرور مهما غشيك من المصائب وجالس أرباب الزهو والبسط فمعظم الناس ينفرون من الكدرو إذا ابيت الانقباض يضطر عشراؤك أن يجاورك فتنسون كل ماهو ليس بسعيد.
إن الحياة قصد بها البهجة فالنهار منير ولو لم تكن الشمس طالعة والليل يضاء بنور القمر ونور الأمل يشعشع في أظلم الأوقات والإيمان يرينا جزاء الصابرين والمثل الدارج يقول انظر إلى الجانب المنير أن العوائد التي يعتادها الإنسان تنمو بنموه فعليه أن يرفض كل ماهو مظلم ولا يؤذن له بالدخول إلى عتبة عقله ومعلوم أنها لا يمكن أن تدخل ما لم يؤذن لها.
دواء الحياة - ضياء الشمس هو الدواء العظيم بل القوة التي تكسب الأرض حرارة وتجعلها تخرج زهراً والضياء العقلي يذهب المرض ويمنع فتكه ويؤثر في الجسم كله والأطباء يعلمون ما لقوة الفكر من التأثير في الشفاء فالأفكار المظلمة تحط القوى الحيوية والأمل يحي العظام ويعين الجسد على مقاومة فتكات الأمراض. والجسد يؤثر في العقل أيضاً ولذلك كانت نظافة الجسد من الذرائع الطبيعية لسلامة العقل وقد قيل النظافة من الإيمان وقال الحكماء أن الحمام البارد كل صباح يؤثر تأثيراً صحياً في الجسم لانه يهيج الدورة الدموية وينشط العقل ووجود المرء موقوف على سلامة العقل وللمرء سلطة على العقل ولا دخل لأحد في شأنه فهو يضع فيه ما أراد ويدربه على ما يشاء فإذا أردت السعادة فاجعل عقلك موئلا للفرح ومسكناً للسرور فتشتد وتصح وإذا تشآءمت وأظلمت الدنيا في وجهك فالخطأ واقع عليك لا تستحق عليه عطفاً العالم مملوء نوراً وبهجة افتح عينيك لترى النور وتستخدمه حين الحاجة إليه ضياء شمس العقل من هبات الحياة الفضلى فمن له النور فليسلك في النور ولتكن له عبرة بالذين لم يفلحوا لأنهم يسيرون إلى هوة الشقاء وهم لا يدرون.