الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/إيطالية وطرابلس الغرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/إيطالية وطرابلس الغرب

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 4
إيطالية وطرابلس الغرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 12 - 1911


فذلكة تقويمهما وتاريخهما

ألم بهذه البلاد العربية الآمنة في سربها ما ألم من طمع إيطالية الأحمق وجشع الغول الأوربي الذي لانعرف له غاية ولا ندرك له نهاية اللهم إلا أن يأتي المشرقيون عامة والمسلمون منهم خاصة على الذماء الباقي من الفضيلة والكرم والحياء والإيثار (حب الغير) والمروءة والرحمة والدين ويستبدلوا بها اللؤم والقحة والأثرة (حب الذات) والقسوة والإلحاد (غفرانك اللهم) ويعدوا لتلك الأمم - التي تسمي نفسها كذباً على الله والناس أمم التمدين وما تمدينها إلا التوحش المنظم - مااستطاعوى من قوة ومن مدافع وأساطيل وطيارات (أبابيل) ويعلموا أن السياسة والدولة ليست إلا كما قال أبو تمام:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب

استغفر الله بل يحتذوا حذو آبائهم الأولين الذين جمعوا إلى الفضيلة والدين عزة الجانب وقوة البأس والاعتصام بحبل القوة والعلم حتى خضعت هذه الدول المدلة علينا الآن بسلطانها إلى سلطانهم واغتذت بلبان معارفهم فيستعدوا مجدهم ويسترجعوا عزهم وسلطانهم ولا يبعد بعد ذلك أن تخفق أعلامهم في أجواء أوروبة كرة أخرى فإن هذا الدهر بالناس قلب.

إن دان يوماً لشخص ... ففي غد يتقلب

وقديماً وطئت أقدام العرب أرض أوروبة واستولوا على بلدانها أدهاراً طويلة وسادوهم وبهروهم بعلومهم واختراعاتهم حتى ذعروا منها وعدوها سحراً وحرم قساوستهم الانتفاع بها وكان ذلك في قصبة بلاد هذه الدولة الإيطالية التي استولى العرب على جانب عظيم من بلادها نيفاً ومائتي سنة وأنت تحت نير الأغاير مئات السنين ولم تتنسم ريح الاستقلال إلا بأخرة من سائر الأمم وجاءت اليوم ناسية أو متناسية فضل العرب عليها وانقضت كما ينقض الذئب الطاوي بغرة من فريسته على هذه الولايات العربية لتذيع فيه ما تذيع وتأتي على تلك الأخلاق الطاهرة والسجايا العربية الكريمة فإنا لله ولا حول ولا قوة إلا به. وليس من حق البيان ولا من (مبدئه) الآن أن يرخى عنان القلم في مثل هذا الشأن الذي قام به كتاب العربية ووفوه حقه في الصحف اليومية وإنما الذي علينا أن نقول كلمة على تقويم البلدين (إيطالية وطرابلس) وتاريخهما بأجزا اختصار

إيطالية

فذلكة تقويمها وتاريخها

إيطالية مملكة في جنوب أوروبة تضم إليها شبه جزيرة إيطالية الممتدة في البحر الأبيض المتوسط كذنب السرحان وجزيرتي صقلية وسردينية وهي واقعة بين 38َ 36ْ و 40َ 46ْ من العرض الشمالي وبين 30َ 6ْ و 33َ 18ْ من الطول الشرقي. وهذه المملكة محصنة تحصناً طبيعياً من جهة فرنسة وسويسرة والنمسة بجبال الألب وتبلغ مساحتها مع صقلية وسردينية 110 ألاف ميلاً مربعاً فمساحتها تقل عن مساحة الجزائر البريطانية بنحو عشرة أميال ويبلغ عدد سكانها 33 مليوناً وهم جنس واحد مؤلف من أمم شتى تداولت البلاد ففي الجنوب وصقلية ترى مزيجاً من العربي والإيطالي الأصلي وفي الشمال ترى العنصر الجرمانى ظاهراً غير أن الغالبين (السلت) والرومانيين هما العنصران الكبيران اللذان يتألف منهما أكثر الصنف الإيطالي الحديث: وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه اللفظة (إيطالية) فذهب بعضهم إلى أنها مأخوذة من إيتالوس اليونانية ومعناها عجل أو ثور وإنما سميت كذلك لكثرة البقر فيها وذهب آخرون إلى أنها مسماة كذلك باسم ملك يدعى إيتالوس. ومن مشهور مدائن هذه المملكة (رومة) وهي قصبة هاتيك البلاد وفيها يقيم البابا و (نابولي) وهي ميناء حربية على كثب من بركان ويزوف و (ميلان) وهي واقعة في سهول لمبردية و (جنوى) على خليج جنوى أحد خلجان البحر الأبيض والبندقية (فينيس) في شمال البحر الأدرياتيكي و (مسينة) إحدى مدائن جزيرة صقلية على البوغاز المسمي بهذا الاسم (بوغاز مسينة) و (بلرم) قصبة صقلية بساحل هذه الجزيرة الشمالي و (برندزي) بجنوب إيطالية الشرقي على البحر الأدرياتيكي - والمذهب السائد في هذه البلاد هو المذهب الكاثوليكي الذي يقوم عليه البابا ولها من المستعمرات مستعمرة الارتيرة وبلاد الصومال وكلتاهما في أفريقية -

فذلكة تاريخها قامت إيطالية على أنقاض القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية وذلك أنه بعد أن سقط هذا القسم ذاعت الفوضى في هذه البلاد وانتهت باستيلاء القوط عليها وعبرت على ذلك حيناً من الدهر ثم فتحها الامبراطور يوستنيانوس في منتصف القرن السادس للميلاد وسنة 568 غزاها اللمبرديون واسوافيها مملكة عظيمة لا يزال اسمها يطلق على قسم منها الآن. وفي أواخر القرن الثامن هدد اللمبرديون رومة وكانت لم تزل تحت حكم البطارقة فاستنجد البابا (ببين) ملك فرنسة فزحف ببين على إيطالية وفتح الأكسر وخسية ثم تخلى عنها للكنيسة واقتفى شرلمان انتصارات أبيه ففتح مملكة اللمبرديين سنة 774م وضمها إلى الامبراطورية الفرنسية وفي عيد الميلاد من سنة 800 البس البابا لاون الثالث شرلمان تاج الامبراطورية الرومانية فأحيا بذلك الامبراطورية الغربية وفي ستة 843 قسمت امبراطورية شرلمان بين حفدته فكانت الولايات الإيطالية من نصيب لوثير أحد حفدة شرلمان

وفي غضون ذلك شرع العرب بعد أن فتحوا جزيرة اقريطش (كريد) في فتح صقلية وجنوب إيطالية وذلك أن صقلية كانت تابعة لمملكة الرومان الشرقية ومقرها في القسطنطينية وكان عليها وال من قبل امبراطور الرومان يسمي قسطنطين وكانت أفريقية تونس والجزائر وطرابلس الغرب تحت ولاية زيادرة الله ابن الأغلب كان والياً عليها من قبل الدولة العباسية ففي سنة 212 هجرية استعمل قسطنطين والي صقلية على أسطوله قائداً رومياً يسمي فيمي (يوفيميوس) وكان حازم شجاعاً فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها وبقي هناك مدة وبعد ذلك كتب امبراطور الروم إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه فنمي الخبر إلى فيمي فانتقض وتعصب له أصحابه وسار إلى مدينة سرقوسة أحد مدائن صقلية فملكها فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية فسير إليه فيمى جيشاً فقبضوا عليه وقتلوه واستولى فيمي على صقلية وخوطب بالملك وولى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة فاتفق بلاطه هو وابن عم له يسمي ميخائيل كان والياً على بلرم وجمعاً عسكراً كثيراً وقاتلا فيمى فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجداً بزيادة الله بن الأغلب فسير معه جيشاً في أسطول واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان وأقلعوا من سوسة (هي الآن من أعمال ولاية تونس واقعة على البحر الأبيض المتوسط على مسافة 110 كيلو متراً من تونس إلى الجنوب الشرقي) فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والروم الذين معه وغنموا أموالهم وهرب بلاطة إلى قلورية (كلابرة - جنوب إيطالية) فقتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة وجرت وقائع كثيرة بين الروم وبين المسلمين امتدت سنين طوالا وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية - ولما استولى عبيد الله المهدي على أفريقية ودانت له وبعث العمال في نواحيها بعث على جزيرة صقلية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي من وجوه قواده فذهب إلى صقلية ومهد الأمور واكتسح بلاد قلورية (كلابرة) وتغلغل في أحشائها وبني بمدينة ريو مسجداً كبيراً في وسط المدينة - وجملة القول أن العرب بلغوا من الفتوحات في إيطالية ان استولوا على معظم البلدان الجنوبية وقرعوا أبواب رومة وحالفهم أهل نابلي وتمتعوا بخيرات إيطالية وسادوا أهلها وعبروا على ذلك حيناً من الدهر وبقيت صقلية في يد المسلمين نيفاً وخمسين ومائتين جعلوها في أثنائها بلاداً عربية بحتة فكنت لا ترى في شوارعها إلا العمائم والبرانس والخفاف والنساء بالخمار والنقاب والأزار: وقد زارها ابن حوقل الرحالة المشهور في منتصف القرن الرابع الهجري وقال فيما قال عنها: وقصبة صقلية مدينة بلرم وهي مدينة كبيرة سورها شاهق متسع مبني من حجر وجامعها كان بيعة وفيها وفي الحارات المحيطة بها نيف وثلثمائة مسجد وقد رأيت في بعض الشوارع على مقدار رمية سهم عشرة مساجد بعضها تجاه بعض: وقد أنجبت من العرب المسلمين علماء وشعراء وفلاسفة وفقهاء - ذكرنا بعضهم في كتاب حضارة العرب في الأندلس - أما كيف أخذت صقلية من يد العرب فإنك ترى ذلك مفصلاً في ترجمة ابن حمديس الصقلي المذكورة في العدد الثاني من البيان صحيفة 124 وما يليها - هذا ولما تقلص ظل العرب من جنوب إيطالية خضعت إيطالية الجنوبية إلى مملكة الروم في القسطنطينة ومضت على ذلك نحواً من قرن وكان سائر إيطالية عدا ذلك تحت نيرجرمانية ثم استظهر النرمنديون على العرب والروم وملكوا جنوب إيطالية وصقلية وسنأتي على باقي تاريخ إيطالية القديم والحديث في مقال آخر واف وننتقل الآن إلى ذكر فذلكة تاريخ طرابلس الغرب وتقويمها.

طرابلس الغرب تقويمها وتاريخها

طرابلس الغرب ولاية عثمانية على ريف أفريقية الشمالية يحدها شمالاً بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وجنوباً صحراء ليبية وفزان - وشرقاً صحراء ليبية ومصر - وغرباً تونس والجزائر واقعة بين 23ْ 15َ 33ْ عرضاً شمالياً - وبين 10ْ، 20ْ طولاً شرقياً على وجه التقريب وتبلغ مساحتها نحوا من 1. 050. 000 كيلو متراً مربعاً فتكون مساحتها مثلى فرنسة وثلاثة أمثال مساحة إيطالية ومع ذلك لا يكاد عدد سكانها يعدو ألف ألف نسمة وهم ما بين بربر (مغاربة) وعرب (نزحوا إليها قبل الفتح الإسلامي وبعده) وترك وزنوج ومالطيين وإيطاليين. وجميع العرب والترك والبربر مسلمون عدا فئة قليلة من اليهود

وهي تنقسم الآن إلى خمس متصرفيات (1) متصرفية طرابلس وقصبتها مدينة طرابلس وهي على أنفٍ داخل في البحر ويبلغ سكانها نحواً من (60) ألف نسمة معظمهم مسلمون وهي مرفأ مأمون محصن بالقلاع أشبه بمضيق ويحيط بها صور قديم من الجهات الثلاث واستحكامات وماقل على هضاب طبيعية وهي مركز تجارة الولاية كلها مع ما وليها من داخل أفريقية وأكثر تجارها من اليهود وتتصل تجارتها في البحر مع مالطة وبلاد اليونان ومرسيلية وتريستة وسائر بلاد المشرق - وتسير منها القوافل إلى كل ما جاورها من البلاد - ويكتنف المدينة حدائق ورياض وأرض خصبة وفي المدينة آثار هياكل وسدود رومانية أهمها (قوس النصر) المشيد سنة 164م وهو مبني بالمرمر وعليه كثير من النقوش الجميلة وفيها مسجد كبير قائم على ستة عشر عاموداً من المرمر وكان في القديم بيعة للنصارى. وستة مساجد أخرى كبيرة عدا المساجد الصغيرة والزوايا. وثلاث كنائس للنصارى. ودير للفرانسيسكانيين. وثلاثة معابد لليهود. وحمامات وأسواق. وشوارعها ضيقة معوجة وأكثر بيوتها طبقة واحدة. وينسب إليها كثير من العلماء والأدباء مثل عمر بن عبد العزيز بن عبيد بن يوسف الطرابلسي المالكي المتوفي في بغداد سنة 510 هجرية - وأبي الحسن علي بن عبد الله ابن مخلوف صاحب تاريخ طرابلس الغرب المتوفي في مكة سنة 522 هجرية - ومحمد بن شعبان الذي قدم الاستانة سنة 1016 هجرية وولاه شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر قضاء بلده وله من التآليف كتاب تشنيف المسمع في شرح المجمع وهو شرح مجمع البحرين.

(2) متصرفية الجبل الغربي. وقصبتها غدامس الواقعة وسط الصحراء ويبلغ سكانها نيفاً وخمسة آلاف.

(3) متصرفية (خمس) - ومن مدنها (خمس) و (لبدة) و (مصراطة) و (سرت) وكلها على الساحل إلى الشرق من مدينة طرابلس.

(4) متصرفية (فزان) وهي جنوبي الولاية وقاعدتها مدينة (مرزوق) والى الجنوب منها واحة (غات) وهي قضاء تابع لمتصرفية (فزان).

(5) متصرفية (برقة) وأكثر سكان هذه المتصرفية عرب سنوسيون. وقاعدتها مدينة (بني غازي) ومن مدنها (درنة) وهي فرضة بحرية فيها تلغراف لا سلكي ترسل الاشارات البرقية منه إلى رودس. والى الجنوب منها واحة الكفرة سميت بذلك نسبة إلى قبيلة من السود كانت مقيمة فيها.

وهواء هذه البلاد معتدل إلا صحاريها فإنه فيها جاف - وهي وفيرة الريع في بعض جهاتها الجبلية ولاسيما حول مدينة طرابلس وبرقة. ويكثر فيها النحل وعسله الجيد والنخل والفواكه والزيتون وفيها الخيول المطهمة والنعام والغنم. وفي شواطئها معادن الذهب ومغاوص الاسفنج والمرجان. وفيها معامل للمنسوجات الصوفية والحريرية والقطنية. ولاسيما الطنافس والدباغة.

وفي (برقة) ينابيع كثيرة ومراع طيبة يسرح فيها الأعراب غنمهم وماشيتهم. وفي سهول برقة يقيم كثير من السنوسيين الذين لهم نفوذ عظيم في تلك البقاع.

والسنوسيون ينسبون إلى رئيسهم الأول السيد محمد بن علي السنوسي الحسني المتصل نسبه بالحسن بن علي بن أبي طالب ولد في أوائل القرن الثالث عشر الهجري في (مستغانم) من أعمال الجزائر ونشأ بها وطلب العلم بمدينة (فاس) ثم ارتحل منها وأخذ يجول في الصحراء يحث الناس على الصلاح والتقى وجاء إلى مصر ثم رحل منها إلى مكة وتقابل مع الأستاذ الشيخ أحمد بن أدريس الشريف الفاسي أشهر أهل عصره في العلم والصلاح فسار به في الطريقة الصوفية فما لبث أن برع السيد السنوسي في العمل يتعاليمها فكافأه الشيخ الشريف على جده ذاك فألبسه خلعة الخلافة على المريدين وأمره بإعطاء العهود والمواثيق فلما ظفر بطلبته بني زاوية بجبل أبي قبيس ثم رحل إلى الجبل الأخضر بأرض طرابلس في أواسط القرن الثالث عشر الهجري وأقام به ما يقرب من الثماني سنوات أسس فيه كثيراً من الززوايا واجتمع عليه خلق لا يحصيهم العد. ثم اشتقاقت نفسه إلى البلاد المقدسة فأسرع في العودة إلى مكة وأقام بزاوية بجبل أبي قبيس سبع سنين يعلم الناس الحديث والفقه وغيرهما فذاع صيته واشتهر أمره في الهدى والرشد.

ثم رحل مع أستاذه الشريف الفاسي إلى اليمن فتوفي أستاذه بها فعاد السيد السنوسي إلى مكة وأقام فيها يعمل على طريقته. ثم اضطرب جو السياسية بمكة فرحل السيد السنوسي منها إلى مصر فبنى له عباس باشا الأول والي مصر زاوية على مقربة من باب الحديد خارج القاهرة فعدل عنها إلى كرداسة وهي إحدى قرى مديرية الجيزة وكانت شهرته بالتقوى والصلاح قد أفعمت هذا القطر فتكاثر الناس عليه تكاثر الجراد على جيد الثمار. فلم يلبث إلا ريثما تحول إلى الجبل الأخضر السابق الذكر ورمم هناك قصراً قديماً وسماه بالعزيات وأقام به حولين ولما أنس حب أهل البادية لطريقته. وكان يبغض القرب من الحكومات لكثرة ما بها من الوشايات - استخبر العرب عن أجود البقاع هواء وأجملها جواً فحدثوه عن الجغبوب وهو على ثلاثة أيام من واحدة سيوه فرحل إليه وأقام به ثلاثة أعوام يعمل على طريقته السالفة حتى أتاه الأجل المحتوم سنة 1276 فدفن هناك رحمه الله رحمة واسعة - وقد كان مولعاً بالتأليف ومن أشهرها (إيقاظ الوسنان في العمل بالسنة والقرآن) و (السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين) و (المنهل الرائق في الأسانيد والطرائق) و (الشموس الشارقة في سماء مشايخ المغاربة والمشارقة).

ثم قام بالأمر بعد ابنه السيد محمد المهدي السنوسي. ومعه أخوه السيد محمد الشريف ينشر طريقة أبيه فتزايد عدد المريدين ودخل الناس في طريقته أفواجاً واتبعه ملك (وداي) وجميع أهل مملكته - وكانت الدولة العلية قد أرادت منه أن يحضر إلا الاستانة فأبى وترك الجغبوب وابتعد عنها ونزل بالكفرة على طريق وداي ومنزلته عند قومه لا تساميها منزلة أحد من الملوك والعظماء وكان قد دعاه أيضاً محمد أحمد المتمهدي السوداني ورغبه في الإسراع إليه ليعقد له على الخلافة بعد ولي العهد فأبى ذلك عليه.

وكانت همته منصرفة إلى توطيد عرى الوفاق بين المريدين وتنشيطهم إلى التمسك بالدين القويم فازدادوا به وثوقاً ولمنزلته تعظيماً حتى ظنوا أنه المهدي المنتظر

وفي سنة 1900 م تقدم الفرنسيون إلى البلاد التابعة له ففتحوا (برنو) وقتلوا سلطانهم رابح الزبير ثم استولوا على (باقرمي) ولما لم ينجح السنوسي في رد صدماتهم غمه ذلك كثيراً فضى نحبه سنة 1902م فنقلت حثته إلى (قرو) إحدى أعمال (وداي).

ثم خلقه ابن أخيه واسمه أحمد الشريف وهو رئيس السنوسين الآن.

فأما عدد السنوسيين فإنه لا يعرفه أحد وذلك لكثرة عددهم وتفرقهم في البلاد الكثيرة المتباعدة والصحارى الشاسعة فهم منتشرون بكثرة في طرابلس وبرقة والجانب الشرقي من الصحراء الكبرى - ووداي جيمعها سنوسيون وكذلك يوجد عدد وافر في تونس والجزائر وبرنو ودارفور والجانب الغربي من الصحراء الكبرى وكذلك في مكة والمدينة وأكثر بقاع الحجاز (وسيأتي الكلام على تاريخ طرابلس في العدد السابع لضيق موضعه هنا).