الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 34/صور هزلية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 34/صور هزلية

بتاريخ: 20 - 3 - 1917


من أخلاق الناس

أنا

هل سمعتم أيها القراء بنبأ رجل نصفه من الفخار الذي صنعه الله منه، ونصفه الآخر عفريت من شر ما جاء في دفاتر مواليد العفاريت، عفريت ملتهب الرأس تتطاير منه نار ساطعة تتطاول إلى السماء، وإن كان نصفه الأسفل، هذا النصف الذي تجتمع فيه فضيلة الأنبياء برذيلة المجرمين، يجر نفسه على الأرض، ويمشي بين الناس، بيناً نصفه الأعلى، هذا النصف الناري الملتهب، يطل من عالم الجان والملائكة، على عالم الطين والوحل.

وهذا التركيب الذي ركب به هذا المخلوق العجيب هو الماركة المسجلة التي طبعها الله فوقه ليدل مخلوقاته على أنه قادر على أن يجعل من الكائنات مزيجاً واحداً، ويخلق من جميع العقاقير والعناصر والسموم - التي يركب منها في معمله أجزاء كونه - مادة مفردة، وإن مثل هذا المخلوق هو ضرب من السلطة التي صنعتها القدرة الإلهية للناس لتكون وسيلة لأجل فتح نفسهم قبل أن يأكلوا الحياة أكلاً، وهو من مقويات الشهية، لأن كثيرين من الناس خلقوا في هذه الحياة ليكونوا لها فاكهة ونقلاً، ولعل الأولين خير للناس من الآخرين، لأن الذي يبدأ بأكل الفلفل والحريف يستطيع أن يلتهم طعامه ويئنيه بالفاكهة، ولكنه إذا بدأ بالفاكهة لم يستطع أن يستمرئ طعامه، أو ينال منه المقدار الكبير، لأن الفاكهة في نفسها مغذية، وكل فصيلة التوابل في مرارتها، وكل ما اشتدت لذعتها في الفم، وحرارتها في المعدة. اشتد هجوم الآكل على الطعام، وفتك بجميع ما في خوانه من المخلوقات التي لا يزال كل فخره وزهوه في أنه فضلها بقوة النطق، ومن الأعواد الخضراء التي وثبت من المصدر الذي وثب هو منه - وهو التراب!

أيها القراء إنكم لم تسمعوا ولا ريب بخبر هذا المخلوق الخرافي، ولم تقعوا على فتوغرافيتهفي معروضات الصور، ولم تروه في صندوق الدنيا الذي يطوف في الأزقة لفرجة الصبية والأولاد، وتودون ولا ريب أن تسمعوا طرفاً من أخلاقه، وتقرأوا نزراً من مزاياه وخصائصه، وتفهموا شيئاً عن هذه المناقضة الغريبة التي جاءت لتعارض قوالبكم الجميلة التي خرجت من يد الطبيعة في كل هدوء ولين - إذن فليكن ما تريدون أيها القراء إن هذا العفريت الإنساني هو أنا - أنا الذي أعيش الآن معكم وأكلمكم، وأخرج بعض الأحيان في الظلام لتخويفكم، وأختفي حيناً عن أنظاركم، حتى لا تروا سر التركيب الذي ركبت، والهيئة التي فيها صورت، وكثيرون منكم رأوني وشهدوا دلائل كثيرة من عفريتيتي. وبينات واضحة من إنسانيتي، ولكنهم يصرون مع ذلك على إنكاري، ويمرون مغمضي الجفون بقوتي، ويقولون إنني تزوير على الطبيعة، وأكذوبة على الحياة، وإنني رسم فقط لا حقيقة، وتسويدة لصورة بني آدم، وإنني مصور بمقياس 1 من الطبيعة

1000

البشرية الصحيحة، إلى آخر ما يقولون من الأقاويل التي يسمع أمثالها العفاريت في الليل من أفواه العجائز عند ما يجلسن حول الموقدة مع الأصبية الصغار يلقين إليهم حواديت الغول وأبو رجل مسلوخة. . . فلا يسع العفاريت إلا أن تضحك، لأنها تعرف نفسها أكثر من العجائز.

وأنا أيها الناس أحدثكم الآن عن نفسي فأقول إنني خلقت بكل سرعة، ولم يكن هناك وقت كاف لتنظيف قالبي منعكارة الطين الذي صنعت منه، فخرجت يفوح مني - كما يقول ابن الرومي - الحمأ اللازب. وربما تراني يوماً أهب عليك بشذى الملائكة، وأنت واجدني تارةً أسموا إلى مقام سكان الدور الأعلى من الجنة، وطوراً أنحط فأكون من أسفل أضياف جهنم.

ولعل هذا التناقض هو السبب الذي جعلني عن الناس غامضاً، وتركني في الحياة أدق سراً منها.

أنا أيها الناس سيد الكفار، ومع ذلك أنا رأس المؤمنين، وأنا لم أدخل في حياتي مسجداً، ولم أهبط يوماً مصلى أو معبداً، ولكن لي صلاة وحدي، وعبادة بمفردي، وهذه الصلاة هي خلاصة الصلوات الخمس، واختصار جميع كتب الأديان. وهي ضرب من الصلاة الإختزالية التي يراعى فيها الحرص على الوقت، والسرعة في التناول. وقد ترونني يوماً متسخطاً متمرداً على الشرائع متطاولاً على سكان السموات، غير راضٍ بحظي في الدنيا. ولا مبال بالأوصاف المخيفة التي ذكرتها الأديان عن نار جهنم ووقوها، فتظنون ذلك مني كفراً، وتحسبونه مروقاً وزيغاً، ولكن ما يدريكم لعلها كما يقول الشاعر موسيه نوع آخر من أنواع العبادات، وصيغة أخرى من صيغ الصلوات، لأن تسخط المؤمن في بعض الأحيان قد يكون عند الله نوعاً من غضب العاشق، وانحرافاً من انحرافات المتيم العابد، وعارضاً من حسن النية وبلاهة القلب، واذكر أنني يوماً تسخطت وتمردت، فشاءت الأقدار إلا أن أقع في المرض غداة الغد، وأخذت الحمى مني مأخذها، ورأيت طائف الموت يدنو من فراشي، فهجمت عيني الدموع، وتحدرت مني العبرات، وصحت بجميع قوتي. . . يا رب. أنا صغير. أنا أحبك كل الحب. وإنني كنت من أقبل أمزح فقط. أنا ا، بك ولكني لا أريد أن أترك دنياك الآن. أي ربي. اصفح عن عبدك الذي شاءت نزعة المجون التي خلقتها معه. إلا أن يستعملها معك أيضاً، ولعل ملائكة السموات ضحكت إذ ذاك من هذه الهزيمة السريعة التي انهزمتها، وصفح الله عن مجوني، لأنني شفيت في اليوم التالي من المرض!

وأنا أيها القراء أحياكم جميعاً، ومع ذلك أنا أشدكم قحة وجرأة، ولعل فيكم من رآني وأنا في نوبات حيائي، فعدني المثل الأعلى للحياء النسائي وود لو كان نصف هذا الحياء في زوجته أو عشيقته، ثم لم يلبث أن شهدني بعد ساعة أسلط لساناً من نسوة الزرائب، وأحد لفظاً من الحطيئة، ولكن حيائي لا يزال حياء حراً لا صنعة فيه، وقحة نقية لا تعمل فيها، وليست جرءتي وقحتي إلا لغة العفريت الذي يكمن في عواطفي، وأسلوب الشيطان الذي يمرح في ذهني، وأما حيائي فهو صفة من صفات الجزء النقي من وجداني، وهما أبداً في حرب، ودائماً في تنازع، وكثيراً ما يغلب الشيطان، لأنه يحمل علم الشر، والشر أقوى جنوداً، وأشد ساعداً، وأمتن عضلاً من الخير، لأن الخير رجل متسامح، مستضعف، يتمسك أبداً بالمبدأ القائل إذا لطمت على خدك اليمين فأدر خدك اليسار، وقد انتهز الشر هذه الفرصة فألهب خد الخير ضرباً ولطماً!

وكثيراً ما يتفق حيائي مع جزائي، فيضع كلٌ يده في يد صاحبه، ويعقدان الهدنة، ويرضيان بالسلام، وهما لا يظهران متصاحبين مختلطين إلا في رسائلي وخطاباتي، وأنا أرجو الله أن لا يصاب أحد القراء بأن يكون لي حق أو حاجة لديه. لأنه إذا نكب بهذه النكبة، رأى من مذكراتي ورسائلي ما يرى على المجلدات الضخمة، والدفاتر العريضة.

وأنا أشد الناس افتتاناً بالنساء، ومع ذلك أراني أجبن المغازلين وأخوف ما أكون من النظر إلى عيني امرأة.

ولا أعرف لماذا كلفتني شياطين الجن والإنس أن أحمل عنها جميع غرورها، وأتكبد نفقات هذا الغرور وخسائره، لأن الغرور كالشراب يعطيك طرفاً من حلاوة النشوة. ثم هو يثأر بعد ذلك لنفسه منك فيأخذ من عرضك ومالك وبدنك، ويأبى أخيراً إلا أن تعترف له بأنك تحبه ولا تستطيع له سلوا - والغرور في نفسه فضيلة. ولكنها فضيلة تسكن في كوخ صغير على حدود الشر، وقد يطغى عليها مد الشر يوماً فيسحبها إلى ساحله، ويسكنها طابقاً عالياً في أسمى منازله القائمة على ضفافه والحق أقول لكم أيها الناس أنا أشد الشياطين غروراً وغروري يمتاز بأنه غرور فلسفي مبتكر قوي المنطق، ولكنه بعد غرور صخاب أجش الصوت، ولعله خلق معي في يوم راعد، لأنه كثيراً ما يصطدم مع سحابة كبيرة من غرور رجل آخر، فيكون منه دوي شديد ثم ينجلي الصوت عن ماء منبثق كالمطر بعد الرعود، وهذا الماء الغزير هو دموع صاحبي الذي صادم غروري غروره فصرعه.

وأشد ما يكون غروري وأنا في صرعة الشراب وحميا الكأس إذا أصبح بأهل البيت، وأنا أقذف بالحذاء في ناحية وبالطربوش في ركن، والبنطلون في زاوية انظروا إلى أيها السفلة الجاهلون هذا أنا الأديب العظيم، أنا من سادة من حمل الريشة. . . . أنا نابليون القلم. أنا ابن شكسبير وجوت وينتشه. . أنا. . أنا الأديب العظيم!!. . . .

وهنا تثور نزعة الدعابة والتهكم بعمتي العجوز عند سماع كلمة أديب لأنها تظنني أريد بها التربية والتأدب والأخلاق الجميلة. وفي بعض الأحيان تخطئ سماعها، فتظنني أقصد أن أقول أدباتي فيضج الجميع بالضحك.

ولكنهم لا يلبثون أن يجدوا هذا الأديب العظيم غداة الغد ملقي طريحاً، نصفه فوق السرير، ونصفه الآخر مدلى تحته!!

وأما فؤادي أيها القراء فمختلف التربة، متنوع الأديم، منه أقليم قد تعثر فيه بمناجم الذهب والألماس، وأقاليم باردة متجمدة كبحر البلطيق، وفيه قطع متجاورات خصيبة الأرض يانعة الثمر، فارغة الأزاهر، ومنه جزء صخري، حجري، قد لا تعمل فيه المطارق، ولا تستلين منه الفؤوس، ولا تؤثر فيه المعاول، ولكنه قد يلين يوماً فتكون منه دموع سخية وعبرات متحدرة، ولعل الله لم يخلق هذا الجزء الصخري في فؤادي إلا ليكون مصداقاً لقوله جل شأنه وإن من الحجارة لما يشق فيخرج منه الماء.

ع. ح.