الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 3/أثار المتقدمين والمتأخرين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 3/أثار المتقدمين والمتأخرين

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 3
أثار المتقدمين والمتأخرين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 11 - 1911


فصل من رسالة في الحاسد والمحسود

لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

1

والحسن أبقاك الله داء ينهك الجسد ويفسد الاود علاجه عسر وصابه ضجر وهو باب غامض وأمر متعذر وما ظهر منه فلا يداوى وما بطن منه فمداويه في عناء ولذلك قال ﷺ دب اليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء. وقال بعض الناس لجلسائه أي الناس أقل غفلة فقال بعضهم صاحب ليل إنما همه أن يصبح فقال أنه لكذا وليس كذا وقال بعضهم المسافر إنما همه أن يقطع سفره فقال أنه لكذا وليس كذا وقال بعضهم المسافر إنما همه أن يقطع سفره فقال أنه لكذا وليس كذا فقالوا له فأخبرنا بأقل الناس غفلة فقال الحاسد إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها فلا يغفل أبداً ويروى عن الحسن أنه قال الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس وما أتى المحسود من حاسده إلا من قبل فضل الله عنده ونعمته عليه قال الله عز وجل: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً}.

والحسد عقيد الكفر وحليف الباطل وضد الحق وحرب البيان فقد ذم الله أهل الكتاب به فقال: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم: منه تتولد العداوة وهو سبب كل قطيعة ومنتج كل وحشة. ومفرق كل جماعة وقاطع كل رحم من الأقرباء ومحدث التفرق بين القرباء وملقح الشر بين الحلفاء يكمن في الصدر كمون النار في الحجر - ولو لم يدخل على الحاسد بعد تراكم الغموم على قلبه واستكمان الحزن في جوفه وكثرة مضضه ووسواس ضميره وتنغص عمره وكدر نفسه ونكد عيشه إلا استصغاره نعمة الله وسخطه على سيده بما أفاد غيره وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه وأن لايرزق أحداً سواه لكان عند ذوي العقول مرجوماً وكان لديهم في القياس مظلوماً وقد قال بعض الأعراب ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم والحاسد مخذول وموزور والمحسود محبوب ومنصور والحاسد مغموم ومهج والمحسود مفشي ومسرور.

والحسد رحمك الله أو خطيئة ظهرت في السموات وأول معصية حدثت في الأرض خص به أفضل الملائكة فصي ربه وقايسه في خلقه واستكبر عليه فقال خلقني من نار وخلقته من طين فلعنه وجعله إبليساً وأنزله من جواره بعد أن كان أنيساً وشوه خلقه تشويهاً وموه على مثليه تمويهاً نسى به عزم ربه فواقع الخطيئة فارتدع المحسود وتاب عليه وهدى ومضى اللعين الحاسد في حسده فشقى وغوى وأما في الأرض فابنا آدم حسد أحدهما أخاه فعصي ربه وأثكل أباه وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فقد حمله الحسد إلى غايته القسوة وبلغ أقصى حدود العقوق فأنساه من رحمته جميع الحقوق إذا لقى الحجر عليه تفادخا وأصبح عليه نادماً صارخاً ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنياً أن يوبخه على المال فيقول جمعه حراماً ومنعه أيتاماً وغلب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماً وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على عطيعتهم في الظاهر فقال لقد كفروا معروفك وأظهروا في الناس ذمك ليس أمثالهم يوصلون فأنهم لا يشكرون وإن وجد لهم خصماً أعانه عليه ظلماً. وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشه أو تفضل عليه بمعروف كفره. أو دعاه إلى نصر خذله وإن حضر مدحه ذمه وإن سئل عنه همزه. وإن كانت عنده شهادة كتمها. وإن كانت منه إليه ذلة عظمها. يحب أن يعاد ولا يعود. ويرى عليه القعود. وإن كان المحسود عالما قال مبتدع لرأه متبع حاطب ليل. ومبتغى نيل. لا يدري ماحمل. قدر ترك العمل. فأقبل على الحيل قد أقبل بوجوه الناس إليه وما أحمقهم إذ انثانوا عليه فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته. وأقل رعيته. وأسوأ طعمته وإن كان المحسود ذادِين قال يتصنع أن يوصى إليه. ويحج بشيء عليه ويصوم لتقبل شهادته. ويظهر النسك ليودع المال بيته. ويقرأ في المسجد ليزوج جاره ابنته. ويحضر الجنائز لتعرف شهرته. وما لقيت حاسداً قط إلا تبين مكنونه بتغير لونه. وتخوص عينه. وإخفاء سلامه. والاقبال على غيرك. والاعراض عنك والاستثقال لحديثك. والخلاف لرأيك وكان عبد الله ابن ابي قبل نفاقه نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همته. ونيل شيمته. وانقياد العشيرة له بالسيادة. واذ عانهم بالرياسة وما استوجب ذلك إلا بعد ما استجمع لهم لبه. وتبين لهم عقله وفقد بينهم جهله. ورأوه لذلك أهلاً لما أطاق حملاً فلما بعث الله نبيه ﷺ وقدم المدينة ورأى غيره تشمخ بأنفه. فهدم أسلامه لحسده. وأظهر نفاقه وما صار منافقاً حتى صار حسواداً. ولا صار حسوداً حتى صار حقوداً. فحمق بعد اللب. وجهل بعد العقل. وتبوأ النار بعد الجنة. ولقد خطب النبي ﷺ بالمدينة فشكاه إلى الأنصار فقالوا يا رسول الله لا تلمه فأنا كنا عقدنا له الخرز قبل قدومك لنتوجه ولو سلم للمخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان ومن السؤدد في ارتفاع فوضعه الله لحسده وأظهر نفاقة ولذلك قال القائل:

طال على الحاسد أحزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه

دعه فقد اشتعلت في جوفه ... ما هاج من حر نيرانه

العين أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه

فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه

للرسالة بقية

القراءة والمطالعة

لفيلسوف الإنكليز اللورد باكون

الكتب أنس في الوحدة ولذة في الخلوة. وزينة في المحفل وصقال الخاطر ومشحذ القريحة تترك الرجل عليماً بتصريف المسائل وسياسة الشؤون والرجل المحنك الحاذق رما أجاد إنفاذ الأمور والحكم في الجزيئيات على انفراد ولكنك إذا أردت رب مشورة وأخا نظر وتدبير فابغه بين الكتب والدفاتر والتمسه بين الصحف والمحابر هذا وانفاق جميع أوقات المرء في القراءة نوع من الكسل والاسترخاء وقصر العلوم والمعارف على التحلي بها والتزين ضرب من التصنع والرجوع إليها عند كل مشكل والصدور عن رأيها في كل أمر صنف من الخطل وضعف العقل وإنما الكتب تهذب الفطرة. والحنكة تهذبها فهي ثقاف الطبع والتجربة ثقافها والملكات الغريزية كالنبات تحتاج من العلم إلى مشذب والعلم يعطيك الآراء مبهمة تحتاج من التجربة إلى حدود فاصلات. وموضحات بينات وأهل المكر والدهاء يحقرون الكتب والقراءة وذووا السذاجة يعجبون بها وأولوا العقل والأدب ينتفعون بفوائدها فأن لها خلاف المعلومات المستفادة منها فضل بصيرة ونظر تتوفر للذي يقرن القراءة بالتأمل ويشفع النظر في نواحي الصحف بالنظر في نواحي الأمور وإذا تناولت الكتاب فلا تجعل همك معارضة ما تقرأ ومناقضته ولا التسليم به والتصديق ولا اللهو ودفع الملل وإنما نقد الكلام ووزنه - واعلم أن من الكتب ما يتذوق ومنها ما يسترط (يزدرد ويبتلع) وقليل جداً ما يمضغ ويهضم وبيان ذلك أن من الكتب ما يتصفح ومنها ما يقرأ لكن بغير تدقيق وتدبر وقليل ما يقرأ كله مع التأمل والانعام ومن الكتب مايكلف الرجل أن يقرأها ثم يعطيه أحسنها وإنما يكون ذلك في القل قيمة وقدراً والمختارات فيما عدا ذلك كالمياه المقطرة لا طعم لها. والقراءة تترك الرجل مفعم الوعاء فياض الإناء والجدال يتركه سريع الخاطر شديد العارضة والكتابة تصيره محكم الحساب مستجمع الفكر فلذلك إذا كان الرجل قليل الكتابة احتاج إلى أن يكون قوي الذاكرة ضنين الحافظة وإذا كان قليل المناظرة استحق أن يكون طلق البديهة حاضر الذهن وإذا كان قليل القراءة وجب أن يكون كثير الدهاء حتى يوهم الناس أنه عالم بالذي لايعلم والتاريخ يترك قارئه حكيماً والشعر يتركه لبيباً والحساب يجعله سريع الذهن والفلسفة الطبيعية تصيره عميق النظر. وعلم الأخلاق يدعه شديد الوقار كثير الجد وعلوم البلاغة والمنطق ترده قديراً على المحاجة جلداً على المجادلة: وما من عورة في الذهن إلا ولها من بعض العلوم سداد ولا مرض في العقل إلا وله دواء في هذا الفن أو ذاك كما تداوى الأمراض البدنية بأنواع الألعاب فالكرة لمرض الكلى والرماية لداء الرئة والصدر والسير اللين لعلة البطن وركوب الجياد للدوار والصداع فكذلك إذا كان بعقل الرجل شرود فعالجه بعلوم الحساب لأنه إذا شرد به ذهنه أثناء البرهان أدنى شرود اضطر إلى إعادة الدليل وإذا أتى الرجل من ضعف تمييز ومعرفة بالفروق فداوه بالأدب لأن الكتاب قوم يجزئون الذرة ويقسمون الهباءة وإذا كان يعجز عن تشبيه الشيء بالشيء والاستشهاد على ذلك الأمر بذاك فاجعل له جولة في قضايا المحاكم وهكذا لكل داء من علل الذهن دواء.

خطرة ضمير

للأديب المفضال محمد أفندي صادق عنبر

يا نائياً والفؤاد في أثره ... مضناك سله إن شئت عن خبره

قد عزه شوقه فأسهره ... يا ويح للمستهام من سهره

يطوى من الليل برده تعبا ... لم يشك من طوله ولا قصره مرددا في نجومه بصرا ... حتى تمل النجوم من بصره

كلما لاح بينها قمر ... هفا به شوقه إلى قمره

يا رحمتا للمحب ما صنعت ... به عيون المها على حذره

كم يشتكي من صدود فاتنه ... إذا غفا عاذلوه في سحره

ويرسل الدمع من محاجره ... يسيل منظومه بمنتثره

يا ساكن القلب وهو ملتهب ... سلمت من حره ومن شرره

رفقاً بمضنى غدا على خطر ... وراح من حبه على خطره

من مسعد الصب في هوي رشأ ... الحسن في دله وفي خفره

والغصن يهتز في غلالته ... والبدر بادٍ منها لمنتظره

منية العاشقين ناظره ... ومنية العاشقين في حوره

يا خائف السحر لا مررت به ... فالسحر في لحظه وفي سمره

ويا صريع العيون خذ حذراً ... من فاتك الطرف جد منكسره

ما أنس لا أنس ساعة عدلت ... عمري مد الإله في عمره

نعمت فيها من أنسه طرباً ... بالحسن يبدو في الجم من صوره

يؤنسني والعذول يضجره ... أفديه في أنسه وفي ضجره

رحماك يا هاجري بلغت مدى ... هجر الذي أنت منتهى وطره

تجد في التيه ما يجد به ... هداك مهلا أسرفت في ضرره

يا نظرة قد جنت عليّ وهل ... جنى على مغرم سوى نظره

لم أجن غير الهوى وما ظفرت ... يداي إلا بالمر من ثمره