☰ جدول المحتويات
- الباب العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الإبتداع فضلت عن الهدى بعد البيان هذا وجه أول
- الثاني قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع
- الثالث قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم
- الرابع قول من قال : أن كل شيء فان حتى ذات الباري ما عدا الوجه
- الخامس قول من زعم أن لله جنباً
- السادس قول من قال في قوله ﷺ لا تسبوا الدهر .أن فيه مذهب الدهرية
- النوع الثاني الجهل بالمقاصدأن الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء
- فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال
- و الثاني أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن
- عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم الآيات والأحاديث فظنوا أن في الشريعة تناقضاً أحدها تناقض آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ في الصور
- والثاني تناقض آية فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا
- والثالث تناقض الآيات في مدة خلق السموات والأرض
- و الرابع مخالفة آية وإذ أخذ ربك من بني آدم الحديث أن الله خلق آدم
- مخالفة القضاء لحكم القرآن بالجلد
- و السادس لزوم تجزئة حد الرجم بحق الإماء
- منع نكاح المرأة على عمتها وخالتها وكون ما يحرم بالرضاع يحرم بالنسب مع عدم ذكره في القرآن في محرمات النكاح
- و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
- و العاشر تدافع حديث توضئته ﷺ وهو جنب لأجل النوم وحديث نومه وهو جنب
- فصل النوع الثالث أي من مناشئ الإبتداع وهو تحسين الظن بالعقل أن الله جعل للعقول في إدراكها حداً
- انقسام المعلومات إلى ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على الأخبار
- ووجه آخر :هو أن العقل لما ثبت أنه قاصر
- ووجه ثالث انقسام العلم إلى البديهي والضروري وغيره
- بحث خوارق العادات وإنكار المصرين على العادات لها
- مناظرة شعيب بن أبي سعيد لراهب في الشام
- حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد
- إيضاح مطلب تحكيم العقل في الشرع بعشرة أمثلة
- الأول والثاني مسألتا الصراط والميزان
- والثالث مسألة عذاب القبر
- والرابع مسألة سؤال الملكين للميت
- والخامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الجوارح و السابع رؤية الله في الآخرة
- والثامن كلام الباري والتاسع إثبات الصفات
- والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى وبيان فساد ذلك وكون الله تعالى له الحجة البالغة والمشيئة المطلقة
- السلف ـ آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه
- فصل النوع الرابع أي من مناشئ الإبتداع وهو إتباع الهوى
- تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم
- المكلف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة أحدها أن يكون مجتهداً فيها حكمه ما أداه إليه إجتهاده
- الثاني أن يكون مقلداً صرفاً
- الثالث أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين
- اجتهاد العامي في اختيار من يقلد
- أمر مالك و الشافعي بالاتباع دون تقليدهما
- عشرة أمثلة لاتباع الهوى والتقليد أحدها : قول من جعل إتباع الآباء في أصل الدين هو الرجوع إليه
- والثاني رأي الإمامية و الثالث مذهب الفرقة المهدوية و الرابع رأي بعض المقلدة لمذهب إمام
- والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان من المتصوفة
- والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر
- والسابع رأي نابتة أن ما عليه الجمهور اليوم صحيح بإطلاق كإلزام الدعاء بالإجتماع عقب الصلوات
- والثامن رأي قوم ممن تقدم زمان المصنف ومن أهله اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم
- والتاسع ما حكى الله عن الأحبار والرهبان في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا أي العمل بأقوالهم في الحلال والحرام
- العاشر رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين
- مذهب الصحابة في الإتباع وتحكيمه في النزاع وشواهد ذلك
- التنازع على الإمارة وقتال مانعي الزكاة
- بعث أسامة
- قول عمر في الثلاث الهادمات الدين
- نصيحة علي لكميل بن زياد
- ترجمة البخاري لباب العمل بالشورى
- فصل إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال
الباب العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الإبتداع فضلت عن الهدى بعد البيان هذا وجه أول
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنها على الصراط المستقيم وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيات الطريق . فوقع بينهم الاختلاف إذاً في تعيينه وبيانه ، حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها ، حتى قال من قال : كل مجتهد في العقليات أو النقليات مصيب . فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق ، وذلك من أعظم الإختلاف ، إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف العلماء فيها على بضع وسبعين قولاً إلا هذه المسألة فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليه النبي ﷺ واصحابه من أغمض المسائل .
ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين لمن بعد الصحابة لم يقع خلاف
ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف أصلاً ، لأن الاختلاف مع تعيين محله محال ، والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد ، لأنه على ذلك الوجه مخرج عن الإسلام ، وكلامنا في الفرق .
ووجه ثالث أن البدع لا تقع من راسخ في العلم
ووجه ثالث : أنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم ، وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها . والشهادة بأن فلاناً راسخ في العلم وفلاناً غير راسخ ، في غاية الصعوبة ، فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ ، وغير قاصر النظر ، فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النزاع إما في العلامة ، وإما في مناطها .
ومثال ذلك أن علامة الخروج من الجماعة الفرقة المنبه عليها بقوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" والفرقة ـ بشهادة الجميع ـ إضافية فكل طائفة تزعم أنها هي الجماعة ومن سواها مفارق للجماعة .
ومن العلامات اتباع ما تشابه من الأدلة ، وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك وأنها هي التي اتبعت أم الكتاب دون الأخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر المواضع بالتأويل على عكس الأخرى .
ومنها اتباع الهوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها وتبرىء نفسها منه، فلا يمكن في الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات ، وإذا لم يتفقوا عليها لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات ، وأنهم في التحصيل متفقون عليها ، وبذلك صارت علامات : فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات .
ووجه رابع فهمنا من مقاصد الشرع الستر على هذه الأمة وكون تعيين الصراط المستقيم بالإجتهاد لا يقتضي الإتفاق
ووجه رابع : وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة وإن حصل التعيين بالاجتهاد ، فالاجتهاد لا يقتضي الاتفاق على محله .
ألا ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين لا يمكن الاتفاق عليهما عادة ؟ فلو تعينوا بالنص لم يبق إشكال . بل أمر الخوارج على ما كانوا عليه ، وإن كان النبي ﷺ قد عينهم وعين علامتهم في المخدج حيث قال : " آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، ومثل البضعة تدردر" الحديث . وهم الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، إذ لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم ينتهوا ، فما الظن بمن ليس له في القتل تعيين ؟
ووجه خامس في قول الله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
ووجه خامس : وهو ما تقدم تقريره في قوله سبحانه وتعالى : "ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين*إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" الآية ـ يشعر في هذا المطلوب أن الخلاف لا يرتفع ، مع ما يعضده من الحديث الذي فرغنا من بيانه ، وهو حديث الفرق إذ الآية لا تشعر بخصوص مواضع الخلاف ، لإمكان أن يبقى الخلاف في الأديان دون دين الإسلام ، لكن الحديث بين أنه واقع في الأمة أيضاً ، فانتظمته الآية بلا إشكال
فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي لا ينقطع الخلاف فيه ، وإن ادعي فيه القطع دون الظن فهو نظري لا ضروري ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة ـ بحول الله ـ مسلكاً وسطاً يذعن إلى قبوله عقل الموفق ويقر بصحنه العالم بكليات الشريعة وجزئياتها ، والله الموفق للصواب . فنقول :
لا بد من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب ، وذلك أن الإحداث في الشريعة إنما يقع من جهة الجهل ، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل ، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق ، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة ، وقد مر في ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة ، إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع ، فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان وتارة تجتمع الثلاث ، فأما جهة الجهل فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد ، وتارة تتعلق بالمقاصد ، وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرع ، وتارة يقدم عليه ، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد ، وأما جهة اتباع الهوى ، فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل ، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد ، فالجميع أربعة أنواع : وهي الجهل بأدوات الفهم والجهل بالمقاصد ، وتحسيم الظن بالعقل ، واتباع الهوى . فلنتكلم على كل واحد منها وبالله التوفيق .
النوع الأول الجهل بأدوات المقاصد ن الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا يفهم إلا من ألفاظ لغة العرب وأساليبها
إن الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه ، بمعنى أنه جاء في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب ، قال الله تعالى : "إنا جعلناه قرآنا عربيا" وقال تعالى : "قرآنا عربيا غير ذي عوج" وقال تعالى : "نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين" وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلىالله عليه وسلم ، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً ، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم ، فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه ، ولم يداخله شيء بل نفي عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى : "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" .
وقال تعالى في موضع آخر : "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته" .
هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعاً للسان العرب ، وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها .
أساليب العربية في العام والخاص وما يراد ظاهراً وما لا يراد
أما ألفاظها فظاهرة للعيان ، وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها ، وأن تخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يراد به الظاهر ، ويستغنى بأوله عن آخره ، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص ، ويستدل إلى هذا ببعض الكلام ، وعاماً ظاهراً يراد به الخاص ، وظاهراً يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر ، والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره .
وتبتدىء الشيء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره ، أو بين آخره عن أوله ، ويتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة ، وهذا عندها من أفصح كلامها ، لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله ، وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة ،وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة .
فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها ، إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفها من زوال كلامهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه في علم ذلك .
فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ، وقال تعالى : "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه ، وكل دابة على الله رزقها ، "ويعلم مستقرها ومستودعها" .
وقال الله تعالى : "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه" فقوله : " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله " إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى ، وقوله : " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " عام فيمن أطاق ومن لم يطق ، فهو عام المعنى .
وقوله تعالى : "حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما" فهذا من العام المراد به الخاص ، لأنهما لم ستطعما جميع أهل القرية .
وقال تعالى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" فهذا عام لم يخرج عنه أحد من الناس . وقال إثر هذا : "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فهذا خاص ، لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين .
وقال تعالى : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم . وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضاً وهم قد خرجوا . لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم . وعلى جميع الناس ، وعلى ما بين ذلك . فيصح أن يقال : إن الناس قد جمعوا لكم . والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر .
وقال تعالى : "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له" فالمراد بالناس هنا الذين اتخذوا من دون الله إلهاً ، دون الإطفال والمجانين والمؤمنين .
وقال تعالى : "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" فظاهرا السؤال عن القرية نفسها ، وسياق قوله تعالى : "إذ يعدون في السبت" إلى آخر الاية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق .
وكذلك قوله تعلى : "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة" الآية ، فإنه لما قال كانت ظالمة دل على أن المراد أهلها .
وقال تعالى : "واسأل القرية التي كنا فيها" الآية ، فالمعنى بين أن المراد أهل القرية ، ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك ، لأن القرية والعير لا يخبران بصدقهم .
هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه ، وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب ، لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها ، وهم أهل النحو والتصريف ، وأهل المعاني والبيان ، وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة ، وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال ، فجميعه نزل به القرآن . ولذلك أطلق عليه عبارة العربي .
أحدهما أن يكون عربياً أو كالعربي في لسانه
فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً أمران
أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربياً . أو كالعربي في كونه عارفاً بلسان العرب . بالغاً فيه مبالغ العرب . أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم . وليس المراد أن يكون حافظاً كحفظهم وجامعاً كجمعهم ، وإنما المراد أن تصير فهمه عربياً في الجملة . وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين . إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة ، فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به .
قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها يعني لسان العرب ـ وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به ـ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ، ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث لا يعرفه غير محمودة ، وكان في تخطئته غير معذور ، إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه .
وما قاله حق ، فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف ـ وقد نهينا عن التكلف ـ ودخول تحت معنى الحديث ، حيث قال عليه الصلاة والسلام :
"حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً" الحديث ، لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة .
وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ، ويصلح بها منطقه ؟ قال : نعم ! فليتعلمها ، فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك .
وعن الحسن قا ل: أهلكتهم العجمة ، يتأولون على غير تأويله .
الأمر الثاني أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره من علماء العربية
والأمر الثاني : أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أ ن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية ، فقد يكون إماماً فيها ، ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات . فالأولى في حقه الاحتياط ، إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها ... وقد نقل شيء من هذا ... عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيرهم .
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات وألارض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر . فقال أحدهما : أنا فطرتها . أي أنا ابتدأتها .
وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : "أو يأخذهم على تخوف" فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة .
كلام الشافعي في فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب
قا ل الشافعي : لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً ،وأكثرها ألفاظاً .
قال : ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي . ولكنه لا يذهب منه شيء على عامته حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن ، وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال :وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ،ولا يعلمه إلا من نقله عنها ،ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها،وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله .
هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد ، فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أديت ، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر ، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها ، فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء لله ـ موافقاً لما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه الكرام .
روي "عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قلنا يا رسول الله . من خير الناس ؟ قال : ذو القلب المخموم واللسان الصادق قلنا : قد عرفنا اللسان الصادق ، فما ذو القلب المخموم ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا حسد ، قلنا فمن على أثره ؟ قال : الذي ينسى الدنيا ويحب الآخرة . قلنا : ما نعرف هذا فينا إلا رافعاً مولى رسول الله ﷺ ، قلنا : فمن على أثره ؟ قال : مؤمن في خلق حسن ، قلنا : أما هذا فإنه فينا" .
ويروي : "أن رسول الله ﷺ جاءه رجل فقال : يا رسول الله ! أيدالك الرجل امرأته ؟ قال : نعم إذا كان مفلجاً فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ما قلت وما قال لك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ؟ فقال : قال : أيماطل الرجل امرأته ؟ قلت : نعم إذا كان فقيراً ، فقال أبو بكر : ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال : كيف لا وأنا من قريش ، وأرضعت في بني سعد؟" .
أمثلة لوقوع الخطأ في العربية في كلام الله وسنة نبيه أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي
فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ، فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه ،وإلا زل فقال في الشريعة برأيه لا بلسانها .
ولنذكر لذلك ستة أمثلة :
أحدها: قول جابر الجعفي في قوله تعالى : "فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي" أن تأويل هذه الآية لم يجىء بعد ـوكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ، فإنها تقول إن علياً في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي علي من السماء : اخرجوا مع فلان فهذا معنى قوله تعالى: "فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي" الآية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله : لم يجىء بعد .
بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف ، وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ، ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان ، وأن ما قاله جابر لا ينساق .
الثاني قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع
والثاني : قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستلاً بقوله تعالى : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" لأن أربعاً إلى ثلاث إلى اثنتين تسع ، ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية ، فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعاً على التفصيل لا على ما قالوا .
الثالث قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم
والثالث : قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم ، وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم ، ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضاً بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم لم يقل ما قال .
الرابع قول من قال : أن كل شيء فان حتى ذات الباري ما عدا الوجه
والرابع : قول من قال : إن كل فان حتى ذات الله ـ تعالى عما يقولون علواً كبيراً ـ ما عدا الوجه بدليل "كل شيء هالك إلا وجهه" وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال ، فإن للمفسرين فيه تأويلات وقصد هذا القائل ما لا يتجه لغة ولا معنى . وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول : فعلت هذا لوجه فلان : أي لفلان ، فكان معنى الآية : كل شيء هالك إلا هو . وقوله تعالى : "إنما نطعمكم لوجه الله" ومثله قوله تعالى : "كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" .
الخامس قول من زعم أن لله جنباً
والخامس : قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى جنباً ، مستدلاً بقوله : "أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله" وهذا لا معنى للجنب فيه لا حقيقة ولا مجازاً ، لأن العرب تقول : هذا الأمر يصغر في جنب هذا ، أي يصغر بالإضافة إلى آخر ، فكذلك الآية معناها : يا حسرتا على مافرطت في جنب الله أي فيما بيني وبين الله ، إذ أضفت تفريطي إلى أمره ونهيه إياي .
السادس قول من قال في قوله ﷺ لا تسبوا الدهر .أن فيه مذهب الدهرية
والسادس : قول من قال في قول النبي ﷺ : "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" إن هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ، ولم يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ، ولا تنسبوها إليه ، فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر ، فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر ، لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ، ونابته قوارع الدهر ومصائبه . فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر ، فيقولون : لعن الله الدهر ، ومحا الله الدهر . واشباه ذلك وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه ، فكأنهم إنما سبوا الفاعل ، والفاعل هو الله وحده ، فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى .
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه ﷺ ، وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك . لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ، ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه ، وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره ، فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية ـ إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو ـ إن شاء الله ـ داخل في سوادهم الأعظم ، كائن على ما كانوا عليه ، فانتظم في سلك الناجية .
النوع الثاني الجهل بالمقاصدأن الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء
أن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله ﷺ فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها ، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ، ولم يمت رسول الله ﷺ حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم .
فلا يقال : قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ، ولا عموم ينتظمه ، وأن مسائل الجد في الفرائض ، والحرام في الطلاق ، ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى ، وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة فأين الكلام فيها ؟
فيقال في الجواب : أولاً أن قوله تعالى : "اليوم أكملت لكم دينكم" إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ، ولكن المراد كلياتها ، فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان ، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد ، فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتة في الكتاب والسنة ، فلا بد من إعمالها . ولا يسع الناس تركها ، وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالاً للإجتهاد ، ولايوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه . ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل ، فالجزئيات لا نهاية لها ، فلا تنحصر بمرسوم ، وقد نص العلماء على هذا المعنى ، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل .
ثم نقول ثانياً : إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدي إلى الإشكال والالتباس ، وإلا فهو الذي أدى إلى إيراد هذا السؤال ، إذ لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة ،وهي حالة الكلية لم يورد سؤاله ، لأنها موضوعة على الأبدية ، وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية .
وأما الجزئية فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل ، وإذ ذاك قد يتوهم أنها لم تكمل فيكون خلافاً لقوله تعالى : "اليوم أكملت لكم دينكم" وقوله تعالى : "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل" الآية ، ولا شك أن كلام الله هو الصادق ، وما خالفه فهو المخالف . فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها ، وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها ، فإن كانت محتاجاً إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ، ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها ، فهي البدع المحدثات ، إذ لو كانت محتاجاً إليها لما سكت عنها في الشرع ، لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم ، فليست بمحتاج إليها . فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله .
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ، ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة ؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصاً ، بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد ، واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنة ، وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى . فقد ظهر إذاً وجه كمال الدين على أتم الوجوه .
وننتقل منه إلى معنى آخر ، وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرأ عن الإختلاف والتضاد ، ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار ، فقال سبحانه وتعالى : "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " فدل معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف ، فهو يصدق بعضه بعضاً ، ويعضد بعضه بعضاً ، من جهة اللفظ ومن جهة المعنى .
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بخلاف كلام المخلوق .
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته ، وهكذا تجد القصيدة الواحدة ، منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ، ومنها ما لا يكون كذلك .
وأما جهة المعنى ، فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ، ولا تضاد ولا تعارض ، على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ، ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ، ولم يغيروا في وجه إعجازه بشيء مما نفي الله تعالى عنه ، وهم أحرص ما كانوا على الإعتراض فيه والغض من جانبه ، ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه ، لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض ، والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب ، أو توقف المتثبت في الطريق .
وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم ، فلقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله ﷺ أمره لرددناه ، وإيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث .
فوجد الشاهد منه أمران : قوله اتهموا الرأي فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه ، وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله ما وضعنا سيوفنا إلى آخره ، فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي ، وأنه كان شبهةً عرضت وإشكالاً ينبغي أن لا يلتفت إليه ، بل يتهم أولاً ويعتمد على ما جاء في الشرع ، فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غداً ، ولو فرض أنه لا يتبين أبداً فلا حرج ، فإنه متمسك بالعروة الوثقى .
وفي الصحيح "عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله ﷺ ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ﷺ ، فكدت أساوره في الصلاة ، فصبرت حتى سلم ، فلببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ ... فقال : أقرأنيها رسول الله ﷺ . فقلت : كذبت ، فإن رسول الله ﷺ قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ﷺ ، فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها . فقال رسول الله ﷺ : أرسله . اقرأ يا هشام ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله ﷺ : كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر ! القراءة التي أقرأني فقال ـ كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه" .
وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بين لهم جوابه النبي ﷺ ، ولم يكن ذلك دليلاً على أن فيه اختلافاً ، فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف ، فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلاً على وقوع الاختلاف في نفس النبوات . واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلاً على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه ، فكذلك ما نحن فيه .
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ، ثم نبني على هذا معنى آخر ، وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف ، صح أن يكون حكماً بين جميع المختلفين ، لأنه إنما يقرر معنى هو الحق ، والحق لا يختلف في نفسه ، فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه ، قال الله تعالى : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " فهذه الآية وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه ، لأن السنة بيان الكتاب ،وهو دليل على أن الحق فيه واضح ، وأن البيان فيه شاف ، لا شيء بعده يقوم مقامه ، وهكذا فعل الصحابة رضي الله عنهم ، لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة ردوها إلى الكتاب والسنة ، وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى ، لا يجهلها من زوال الفقه ، فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها ، فهو إذاً مما كان عليه الصحابة .
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران :
أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان ، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات ، ولا يخرج عنها البتة ، لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية ،كيف وقد ثبت كمالها وتمامها ؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطرق .
و الثاني أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن
والثاني : أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر ، بل الجميع جار على مهيع واحد ، ومنتظم إلى معنى واحد ، فإذا أداه بادىء الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الإختلاف ، لأن الله قد شهد له أن لا إختلاف فيه . فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع ، أو المسلم من غير اعتراق ، فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين ، أو ليبق باحثاً إلى الموت ولا عليه من ذلك ، فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة . فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها . ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني ، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم .
فأما الأمر الأول : فهو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع ، وإليه مال كل من كان يكذب على النبي ﷺ فيقال له ذلك ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد . فيقول : لم أكذب عليه وإنما كذبت له .
وحكي عن محمد بن سعيد المعروف بالأردني أنه قال : إذا كان الكلام حسناً لم أر بأساً أن أجعل له إسناداً . فلذلك كان يحدث بالموضوعات ، وقد قتل في الزندقة وصلب .
وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة .
وأما الأمر الثاني : فإن قوماً أغفلوه أيضاً ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة ، فأحالوا بالأختلاف عليها تحسيناً للظن بالنظر الأول ، وهذا هو الذي عاب رسول الله ﷺ من حال الخوارج حيث قال : " يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" فوصفهم بعدم الفهم للقرآن ، وعند ذلك خرجوا على أهل الإسلام ، إذ قالوا : لا حكم إلا لله ، وقد حكم الرجال في دين الله ، حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى : "إن الحكم إلا لله" على وجه أذعن بسببه منهم ألفان ، أو من رجع منهم إلى الحق ، وتمادى الباقون على ما كانوا عليه ، اعتقاداً ـ والله أعلم ـ على قول من قال منهم : لا تناظروه ولا تخاصموه فإنه من الذين قال الله فيهم : "بل هم قوم خصمون" .
فتأملوا رحمكم الله كيف كان فهمهم في القرآن . ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواماً حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث ، وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر .
عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم الآيات والأحاديث فظنوا أن في الشريعة تناقضاً أحدها تناقض آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ في الصور
ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة :
أحدها : قول من قال : إن قوله تعالى : "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" يتناقض مع قوله تعالى : "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" .
والثاني تناقض آية فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا
والثاني : قول من قال في قوله تعالى : "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " مضاد لقوله : "وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون" وقوله تعالى : "ولتسألن عما كنتم تعملون" .
والثالث تناقض الآيات في مدة خلق السموات والأرض
والثالث : قول من قال في قوله تعالى : " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " إلى قوله تعالى : "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين " إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء ، وفي الآية الأخرى : "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها " فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء .
ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق ـ أوغيره على ابن عباس رضي الله عنهما ، فخرج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي وهي قوله تعالى : "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" ، "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" ، "ولا يكتمون الله حديثا " ، "والله ربنا ما كنا مشركين" فقد كتموا في هذه الآية :"أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها" إلى قوله تعالى :"والأرض بعد ذلك دحاها" فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : " أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " إلى قوله : "ثم استوى إلى السماء وهي دخان " إلى قوله "طائعين" فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ، وقال : "وكان الله غفورا رحيما " " عزيزا حكيما " "سميعا بصيرا" فكأنه كان ثم مضى فقال ـ يعني ابن عباس : "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " في النفخة الأولى" ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله" فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .
وأما قوله : "ما كنا مشركين" "ولا يكتمون الله حديثا " فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين . فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثاً ، وعنده ، "يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " .
وقوله عز وجل : "خلق الأرض في يومين" "ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات" في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى . وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله : دحاها وقوله تعالى : "خلق الأرض في يومين" فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين . "وكان الله غفورا رحيما " سمى نفسه بذلك ، وذلك ( قوله ) أي لم يزل كذلك ، فإن الله عز وجل لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ،فإن كلا من عند الله .
و الرابع مخالفة آية وإذ أخذ ربك من بني آدم الحديث أن الله خلق آدم
والرابع : قول من قال : إن رسول الله ﷺ قال : "إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى"" الحديث كما وقع مخالف لقول الله تعالى : "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" ! فالحديث أنه أخذهم من ظهر آدم ، والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور آدم ، وهذا إذا تؤمل لا خلاف فيع لأن هيمكن الجمع بينهما ، بأن يخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة والسلام دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إلى الدنيا ، ولا محال في هذا بأن يتفطر في تلك الآخذة الأبناء عن الأبناء من غير ترتيب زمان ، وتكون النسبتان معاً صحيحتين في الحقيقة لا على المجاز .
مخالفة القضاء لحكم القرآن بالجلد
والخامس : قول من قال فيما جاء في الحديث : "أن رجلاً قال : يا رسول الله نشدتك الله ! إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله ، فقال خصمه ـ وكان أفقه منه ـ : صدق اقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي في أن أتكلم "، ثم أتى بالحديث . فقال رسول الله ﷺ : "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما الوليدة والغنم فرد عليك ، وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام ، وعلى امرأة هذا الرجم" إلى آخر الحديث . هو مخالف لكتاب الله ، لأنه قد قال : "لأقضين بينكما بكتاب الله" حسبما سأله السائل ، ثم قضى بالرجم والتغريب ، وليس لهما ذكر في كتاب الله .
الجواب : إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد ، كان مسطوراً في القرآن أو لا ، كما قال تعالى : "كتاب الله عليكم" أي حكم الله فرضه ، وكل ما جاء في القرآن من قوله : "كتاب الله عليكم" فمعناه فرضه وحكم به ، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن .
و السادس لزوم تجزئة حد الرجم بحق الإماء
والسادس : قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء "أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من" لا يعقل مع ما جاء في الحديث أن النبي ﷺ رجم ورجمت الأئمة بعده ، لأنه يقتضي أن الرجم ينتصف وهذا غير معقول ، فكيف يكون نصفه على الإماء ؟ ذهاباً منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج ، وليس كذلك ، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر ، بدليل قوله أول الآية : " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " وليس المراد هنا إلا الحرائر ، لأن ذوات الأزواج لا تنكح .
منع نكاح المرأة على عمتها وخالتها وكون ما يحرم بالرضاع يحرم بالنسب مع عدم ذكره في القرآن في محرمات النكاح
والسابع : قولهم : إن الحديث :
"جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها ، ولا على خالتها ، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت ، ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين ، وقال بعد ذلك : "وأحل لكم ما وراء ذلكم" فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها ، وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالاً .
وهذه الأشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على حال .
و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والثامن : قول من قال : إن قوله عليه الصلاة والسلام :
"غسل الجمعة واجب على كل محتلم" مخالف .
لقوله : "من توضأ يوم الجمعة فبها نعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل " .
والمراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة ، بحيث لا يكون تركاً للفرض ، وبه يتفق معنى الحديثين فلا اختلاف .
والتاسع : قولهم جاء في الحديث :
"صلة الرحم تزيد العمر" والله تعالى يقول : "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون" فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة .
وأجيب عنه بأجوبة . ( منها ) : أن يكون في علم الله أن هذا الرجل إن وصل رحمه عاش مائة سنة ، وإلا عاش ثمانين سنة ، مع أن في علمه أنه يفعل بلا بد ، أو أنه لا يفعل أصلاً .
وعلى كلا الوجهين إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم . قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القرافي .
و العاشر تدافع حديث توضئته ﷺ وهو جنب لأجل النوم وحديث نومه وهو جنب
والعاشر : قال في الحديث :
"إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة "، ثم فيه :
"كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً" ، وهذا تدافع . والحديثان معاً لعائشة رضي الله عنها .
والجواب سهل . فالحديثان يدلان على أن الأمرين موسع فيهما ، لأنه إذا فعل أحد الأمرين وأكثر منه ، وفعل الآخر أيضاً وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك ، وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما .
فهذه عشرة أمثلة تبين لك مواقع الإشكال ، وإني رتبتها مع ثلج اليقين ، فإن الذي عليه كل موقن بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف . فمن توهم ذلك فيها فهو لم ينعم النظر ولا أعطى وحي الله حقه . ولذلك قال الله تعالى : "أفلا يتدبرون القرآن" ؟ فحضهم على التدبر أولاً ، ثم أعقبه : "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" فبين أنه لا اختلاف فيه وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به .
فصل النوع الثالث أي من مناشئ الإبتداع وهو تحسين الظن بالعقل أن الله جعل للعقول في إدراكها حداً
النوع الثالث :
أن الله جعل للعقول في إداركها حداً تنتهي إليه لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب . ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون ،إذ لو كان كيف كان يكون ؟ فمعلومات الله لا تتناهى . ومعلومات العبد متناهية . والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى .
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملةً وتفصيلاً ، وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملةً وتفصيلاً ، فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال ، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه ، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص ، سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه ، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تخرجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه .
انقسام المعلومات إلى ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على الأخبار
وأيضاً : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم ضروري لا يمكن التشكيك فيه ، كعلم الإنسان بوجوده ، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الضدين لا يجتمعان .
وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به ، وذلك كعلم المغيبات عنه ، كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو لا ، كعلمه بما تحت رجليه ، إلا أن مغيبه عنه تحت الأرض بمقدار شبر . وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي لم يتقدم له به عهد . فضلاً عم علمه بما في السموات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل . فعلمه لما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن .
وقسم نظري يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها . إلا أن يعلم بها إخباراً .
وقد زعم أهل العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار . فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها ، لأته لو لم تفتقر إلى الإخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأتها حقائق في أنفسها . فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيباً ـ كما هو معلوم في الأصول ـ وإنما المصيب فيها واحد . وهو لا يتعين إلا بالدليل .
وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر . فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة . والآخر شبهة ولا يعين . فلا بد من إخبار بالتعيين .
ولا يقال : إن هذا قول الإمامية : لأنا نقول : بل هو يلزم الجميع ، فإن القول بالمعصوم غير النبي ﷺ يفتقر إلى دليل ، لأنه لم ينص عليه الشارع نصاً يقطع العذر .
فالقول بإثباته نظري ، فهو مما وقع الخلاف فيه . فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف ؟ هذا لا يمكن .
فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول : الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة . وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلتماسها ( ؟ ) .
ونرجع إلى ما بقي من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة ـ أعني القائلين بالتشريع العقلي ـ أن منه نظرياً ، ومنه ما لا يعلم بضرورة ولا نظر ، وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له أصل إلا من جهة الإخبار ، فلا بد فيه من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه ، وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه ،فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكم العقل أصلاً ، فضلاً عن أن يكون له قسم لا حكم له ، وعندهم أنه لا بد من حكم ، فلأجل ذلك نقول : لا بد من الافتقار إلى الخبر ، وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريع . فإن قالوا : بل هو مستقل ، لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الحظر أو الإباحة ـ كما ذهب إليه آخرون .
فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل ، وإن قالوا بالأول فكذلك أيضاً ، لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقاً . قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق ، لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض ، وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقاً إذ وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك ، وما لم يقف فيه فإنه نظري : فيرجع إلى ما تقدم في النظر ، وقد مر أنه لا بد من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار .
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضاً إلية أن المسألة نظرية فلا بد من الإخبار ، وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له .
فإن قالوا : فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الإستقلال .قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار ، لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيهاً لغافل أو إرشاداً لقاصر ، أو إيقاظاً لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضرورياً ، فهو إذا محتاج إليه ، ولا بد للعقل من التنبيه من خارج . وهي فائدة بعث الرسل ، فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان ، وقبح الكذب أيضاً والكفران ، معلوم ضرورة ، وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك . وأمر بهذا ونهى عن ذلك .
فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فا ئدة فيه ، لكنه أتى بذلك فدلنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه . هذا وجه .
ووجه آخر :هو أن العقل لما ثبت أنه قاصر
ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه ، فما ادعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها ، لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه ، وعلى حال دون حال ، والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات ، فإنهم وضعوا أحكاماً على العباد يمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلاً منتظماً وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء ، بل استحسنوا أموراً تجد العقول بعد تنويرهابالشعر تنكرها ، وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق ، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة ، لكنها بالنسبة إلى ما يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار ، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولله الحجة البالغة ، والنعمة السابغة .
فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علماً ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل ، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك ، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عياناً ، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ، ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ، ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية ، وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد ؟ لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ، ولا قصور ولا نقص ، بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات ، وهي من الحكمة .
ووجه ثالث انقسام العلم إلى البديهي والضروري وغيره
ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إلى البديهي الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة ، إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسيط مقدمتين معترف بهما ، فإن كانتا ضروريتين فذاك ، وإن كانت مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين ، وينظر فيهما كما تقدم ، وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين ، فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب ، وإلا لزم التسلسل أو الدور ، وكلاهما محال ، فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري .
وحاصل الأمر أنه لا بد من معرفتها بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة منهما مما عقلناه وعلمناه من مشاهد باطنة ، كالألم واللذة أو بدعي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد ، وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار ، فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار ، وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة ، فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا ، وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيواناً والحيوان حجراً ، وما أشبه ذلك ، لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى .
بحث خوارق العادات وإنكار المصرين على العادات لها
فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها سحراً أو غير ذلك ، كقلب العصا ثعباناً ، وفرق البحر ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمة والأبرص ، ونبع الماء من بين أصابع اليد ، وتكليم الحجر والشجر ، وانشقاق القمر ، إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها ، بل يمكن أن تتخلف ، كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم ، كما خرج من العدم إلى الوجود .
فمبادىء العادات إذاً يمكن عقلاً تخلفها . إذ لو كان عدم التخلف لها عقلياً لم يمكن أن تتخلف لا لنبي ولا لغيره ، ولذلك لم يدع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ، ولا تحدى أحد بكون الاثنين أكثر من الواحد ، مع أن الجميع فعل الله تعالى . وهو متفق عليه بين أهل الإسلام . وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمة والأبرص والأصابع والشجر وغير ذلك ، أمكن في جميع الممكنات ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله .
وأيضاً ، فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا ، فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد ، وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد ، وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسن من يحيض غير معتاد ، وكون الإنسان فيها لا ينام ولا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض لا يأكل ولايشرب أبد الدهر غير معتاد ، وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلى يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد ، وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهاراً من غير حلاب ولا عصر ولا نحل ، وكون الخمر لا تسكر غير معتاد ، وكون ذلك كله بحيث لو استعمله الإنسان دائماً لا يمتلىء ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا من أذنه ولا أنفه ولا ارفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا أقذار غير معتاد ، وكون أحد من أهل الجنة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض غير معتاد .
وكذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذاً بالله ـ وجدت من ذلك كثيراً ، ككون النار لا تأتي عليه حتى يموت ، كما قال تعالى : " لا يموت فيها ولا يحيا " وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها ، كلها خارق للعادة .
فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية ، وإنما هي وضعية يمكن تخلفها . وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأساً وقد أقر بها بعضهم . وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير معتاد .
مناظرة شعيب بن أبي سعيد لراهب في الشام
واسمع في ذلك أثراً غريباً حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهباً كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه . فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها . ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى . قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : افليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء ، قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد . انتهى المقصود من الخبر .
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد ،و هو تنزل للمنكر غير لازم ، ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات .
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخرافه مع أن كون العادي عادياً مطرداً غير صحيح أيضاً ، فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق ، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ، ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيهاً على هذا المعنى المقرر .
حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد
فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكماً بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع ، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل ، لأنه خلاف المعقول والمنقول ، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ، ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك ، تنبيهاً على تقدم الشرع على العقل .
العقل غير حاكم بإطلاق . والشرع حاكم عليه بإطلاق ، خرق العوائد لا ينبغي للعقل إنكاره بإطلاق
والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخباراً تقتضي ظاهراً خرق لعادة الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار يإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه . وهو ظاهر قوله تعالى : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل ، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته ، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق . وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه .
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصفت الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفي عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد .
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة ، كقوله :
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، فإن الجميع أنكروا ظاهره ، إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة ، وأنت تقول :اعتقدوا أنها مرفوعة ، وتأولوا الكلام .
إيضاح مطلب تحكيم العقل في الشرع بعشرة أمثلة
قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول ، وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب ، كما نقول : إن الصراط ثابت ، والجواز عليه قد أخبر الشارع به ، فنحن نصدق به لأنه إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشي عليه ؟ فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار ، والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد ، فإن فرقوا صار ذلك تحكماً . لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلي ، وقد صادفهم النقل ، فالحق الإقرار دون الإنكار .
ولنشرح هذا المطلب بأمثلة عشرة :
الأول والثاني مسألتا الصراط والميزان
أحدها : مسألة الصراط وقد تقدمت :
والثاني : مسألة الميزان ، إذ يمكن إثباته ميزاناً صحيحاً على ما يليق بالدار الآخرة ، وتوزن فيه الأعمال على وجه غيرعادي ، نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض ـ وهي الأعمال ـ لا توزن الموزونات عندنا في العادات ـ وهي الأجسام ، ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه ، أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها . فالأخلق الحمل إما على التسليم ، وهذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم ، إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن . كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط إلا ما ثبت عنهم في الميزان . فعليك به فهو مذهب الصحابة رضي الله عنهم .
فإن قيل : فالتأويل إذاً خارج عن طريقتهم ، فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارجة .
قيل : لا لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضاً أو مع التأويل نظر ( ؟ ) لا يبعد : إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع ، بخلاف من جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها . فإنه مخالف لهم . للسلك في الأحاديث مسلك التأويل أو عدمه لا أثر له لأنه تابع على كلتا الطريقتين لكن التسليم أسلم .
والثالث مسألة عذاب القبر
والثالث : مسألة عذاب القبر ، وهي أسهل . ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية . ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه ، فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها . ولا نرى عليه من ذلك أثراً . وكذلك أهل الأمراض المؤلفة . وأشباه ذلك مما نحن فيه مثلها . فلماذا يجعل استبعاد العقل صاداً في وجه التصديق بأقوال الرسول الله ﷺ ؟
والرابع مسألة سؤال الملكين للميت
والرابع : مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره ، فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا . وقد تقدم أن تحكيمه بإطلاق غير صحيح لقصوره ، وإمكان خرق العوائد ، إما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده ، أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول .
والخامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الجوارح و السابع رؤية الله في الآخرة
والخامس : مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط ، وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها .
والسادس : مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الأحجار والشجار التي شهدت لرسول الله ﷺ بالرسالة .
والسابع : رؤية الله في الآخرة جائزة ، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا ، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك ، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة ، وهو إلى القصور في النظر أميل ، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق .
والثامن كلام الباري والتاسع إثبات الصفات
والثامن : كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفاً مع الكلام الملازم للصوت والحرف ، وهو في حق الباري محال ، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجاً عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب ، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلاً ، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال ، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجرداً .
والتاسع : إثبات الصفات كالكلام ، إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى ـ على القول بإثباتها ـ فلا يمكن أن يكون واحداً مع إثباتها . وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات ، فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه إذا دعي التركيب بالنسبة إلى صفات الباري ؟ فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه ، ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم .
والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى وبيان فساد ذلك وكون الله تعالى له الحجة البالغة والمشيئة المطلقة
والعاشر : تحكيم العقل على الله تعالى ، بحيث يقول : يجب عليه بعثة الرسل ، ويجب عليه الصلاح والأصلح ، ويجب عليه اللطف ، ويجب عليه كذا ـ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء ـ وهذا إنما نشأ من ذلك الأصل المتقدم ، وهو الاعتياد في الإيجاب على العباد . ومن أجل الباري وعظمه لم يجترىء على إطلاق هذه العبارة ، ولا ألم بمعناها في حقه ، لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد محصور ممنوع ، والله تعالى ما يمنعه شيء ، ولا يعارض أحكامه حكم ، فالواجب الوقوف مع قوله : "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" وقوله تعالى : "يفعل ما يشاء" وقوله تعالى : "إن الله يحكم ما يريد" "والله يحكم لا معقب لحكمه" "ذو العرش المجيد * فعال لما يريد" .
السلف ـ آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه
فالحاصل من هذه القصة أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع ، فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله ، بل يكون ملبياً من وراء وراء .
ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة رضي الله عنهم وعليه دأبوا ، وإياه اتخذوا طريقاً إلى الجنة فوصلوا . ودل على ذلك من سيرهم أشياء :
منها : أنه لم ينكر أحد مهنم ما جاء من ذلك ، بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله ﷺ ، ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال . ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية ، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك ، دل على أنهم آمنوا به وأقروه ، كما جاء من غير بحث ولا نظر .
كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه ، نحو الكلام في رأي جهم والقدر ، وكل ما أشبه ذلك . ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل . فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلي ، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل .
قال ابن عبد البر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ يعني العلماء منهم ، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه ، وضرب مثلاً نحو رأي جهم والقدر ـ قال ـ والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً من أهل الحديث والفتوى ، وإنما خالف في ذلك أهل البدع ـ وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله . إلا أن يضطر أحد إلى الكلام ، فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه ، وخشي ضلالة عامة ، أو نحو هذا .
وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى ! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام ، لقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه .
وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبداً ولا تكاد ترى أحداً نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل .
( وقال ) عن الحسن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل في زفر بن الهذيل ـ أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم ـ همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم .
وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ، ولا يعدون عند الجميع في الأمصار في جميع طبقات العلماء ، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتفاق والميز والفهم .
وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ، ونتعلمها شبيهاً بتعلمنا آي القرآن ، وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس ، يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله ، وما توفي رسول الله ﷺ حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك ، وحذره المسلمين في غير موطن . حتى كان من قوله كراهية لذلك .
"ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه . وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم" .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اتقوا الله في دينكم . قال سحنون : يعني الانتهاء عن الجدل فيه ، وخرج ابن وهب عن عمر أيضاً : إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم . قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع . وهو القائل في قصيدته في السنة :
ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرح
وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق ، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا .
وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل . وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن ، إن السنن قوام الدين ، وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلاً حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا .
فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي ﷺ .
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد . كرأي جهم وغيره من أهل الكلام . لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث . فقالوا : لا يجوز أن يرى الله في الآخرة أنه تعالى يقول :"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف" الآية .
فردوا قوله عليه الصلاة والسلام : "إنكم ترون ربكم يوم القيامة" وتأولوا قول اله تعالى : " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره . لقول الله تعالى : "أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته ، وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها ، وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها : وقالوا : لا نعرف حوضاً ولا ميزاناً ، ولا نعقل ما هذا . وردوا السنن في ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري ، وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم ، فراراً من قدم العالم ـ في زعمهم ـ .
وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع . وهذا القول أعم من الأول ، لأن الأول خاص بالاعتقاد ، وهذا عام في العمليات وغيرها .
وقال آخرون ـ قال ابن عبد البر : وهم الجمهور ـ إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات ، ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها .
وهذا القول غير خارج عما تقدم . وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم . وهو معارضة المنصوص . لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي . فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة . فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد . وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن . إما قصداً أو غلطاً وجهلاً ، والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة .
فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم ، علموا معناه أو جهلوه ، جرى لهم على معهودهم أو لا ، وهو المطلوب من نقله ، وليعتبر فيه من قدم الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم الله الربيع بن خثيم حيث يقول : يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ، لا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه : "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" .
وعن معمر بن سليمان ، عن جعفر ، عن رجل من علماء أهل المدينة ، قال : إن الله علم علماً علمه العباد ، وعلم علماً لم يعلمه العباد ، فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعداً . قال :والقدر منه .
وقال الأوزاعي : كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك ، و الأوزاعي ، وسفيان بن سعيد ، و سفيان بن عيينة ، ومعمر بن راشد ، في الأحاديث في الصفات أنهم أمرواها كما جاءت .... نحو الحديث :
"التنزل" .
"وخلق آدم على صورته ، وشبههما" وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور .
وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة" الآية . ثم قال : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فإنها صريحة في هذا الذي قررناه ، فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه ، فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله ﷺ ، إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه ، لأن أحداً لا يرتضي طريقاً ثم ينهى عن سلوكه . كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين ! .
وروي عن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد ﷺ فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة تبيه ﷺ ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فإنهم ـ ورب الكعبة ـ على الهدي المستقيم .
وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم ، فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقاً بعيداً ، ولئن تركتموه يميناً أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً .
وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد ﷺ ، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً ، وأحسنها خلالاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .
والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال ، وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : "ما أنا عليه وأصحابي" .
فصل النوع الرابع أي من مناشئ الإبتداع وهو إتباع الهوى
النوع الرابع :
أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبداً لله . وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات . لكن على وجه كلي يليق بالأصول . فمن أراد الإطلاع عليه فليطالعه من هنالك .
ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يمكن أن يؤتى عليها بالاستيفاء . فلنذكر منها شعبة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها .
تشعب طرق الحق وبيان كون الشريعة حجة على الخلق
فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم . برهم وفاجرهم . لم يختص بها أحداً دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة . حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها .
فأنت ترى أن نبينا محمداً ﷺ مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته . مما اختص بد دون أمته . أو كان عاماً له ولأمته كقوله تعالى : "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك" إلى قوله تعالى : "خالصةً لك من دون المؤمنين" إلى قوله تعالى : "لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج" وقوله تعالى : "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم " وقوله تعالى : "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم . فالسريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين . وهي الطرق الموصل والهادي الأعظم .
ألا ترى إلى قوله تعالى : "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا" فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان . ثم من اتبعه فيه . والكتاب هو الهادي . والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع . ولما استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علماً وعملاً ، صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم ، حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه ، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاءً أولياً ، لا من جهة كونه بشراً عاقلاً ـ مثلاً ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ، ولا لكونه من قريش ـ مثلاً ـ دون غيرهم ، وإلا لزم ذلك في كل قرشي ، ولا لكونه من بني عبد المطلب ، ولا لكونه عربياً ، ولا لغير ذلك ، بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن ، حتى نزل فيه : "وإنك لعلى خلق عظيم" وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه . حتى صار في علمه وعمله على وفقه . فكان الوحي حاكماً وافقاً قائلاً وكان هو عليه الصلاة والسلام مذعناً ملبياً نداءه . واقفاً عند حكمه . وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به . إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر . وبالنهي وهو منته . وبالوعظ وهو متعظ وبالتخوف وهو أول الخائفين . وبالترجية وهو سائق دابة الراجين .
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه . ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه السلام . ولذلك صار عبد الله حقاً . وهو أشرف اسم تسمى به العباد . فقال الله تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً" "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه بصحة العبودية .
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومناراً يهتدون بها إلى الحق ، وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولاً واعتقاداً وعملاً ، لا بحسب عقولهم فقط ، ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط ، لأن الله تعالى إنما اثبت الشرف لا غيرها لقوله تعالى : "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها ، فالشرف إذاً إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة .
تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم
ثم نقول بعد هذا : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم ، وعظم مقدارهم ، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ، بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله ، وأنهم المستحقون شرف المنازل ، وهو مما لا ينازع فيه عاقل .
واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة افضل العلوم وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة ، ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم ـ أعني العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضليتها ـ أم لم نسامحهم ، بعد الاتفاق على الأفضلية ، وإثبات الحرية .
وأيضاً ، فإن علوم الشريعة منها ما يجري محرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية ، ومنها ما يجري مجرى المقاصد ، والذي يجري المقاصد أعلى مما ليس كذلك ـ بلا نزاع بين العقلاء أيضاً ـ كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه ، فإنه كالوسيلة ، فعلم الفقه أعلى .
وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ، ودل على ذلك وقوع الثناء عيهم مقيداً بالاتصاف به ، فهو إذاً العلة في الثناء ، ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ، ومن ذلك صار العلماء حكاماً على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشاداً ، لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق ، فليسوا بحكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك ، إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك ، لاشتراك الجميع فيها ، وإنما صاروا حكاماً على الخلق مرجوعاً إليهم بسبب جملهم للعلم الحاكم ، فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاماً على الخلق إلا من ذلك ، كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضاً ، فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم ، إذ ليسوا حجة إلا من جهته ، فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا أحكاماً ؟ هذا محال .
وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ، ولا في العالم بالهندسة عربي ، فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع ، بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك ، فلا يصح أن يجعل حجة في العلم الحاكم ، لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه ، وهذا المعنى أيضاً في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء .
ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه ، وهو أن العالم بالشريعة إذ اتبع في قوله ، وانقاد إليه الناس في حكمه ، فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها ، لا من جهة أخرى ، فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله ﷺ ، المبلغ عن الله عز وجل ، فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ ، أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقاً ، إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة . وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله ﷺ . وثبت ذلك له عليه الصلاة والسلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة . والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق . فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت . فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث بمقتضاها حتى يساوي النبي ﷺ في الانتصاب للحكم بإطلاق ، بل إنما يكون منتصباً على شرط الحكم بمقتضى الشريعة . بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكماً . إذا كان ـ بالفرقـ خارجاً عن مقتضى الشريعة الحاكمة ، وهو أمر متفق عليه بين العلماء ، ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها لقوله تعالى : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" .
المكلف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة أحدها أن يكون مجتهداً فيها حكمه ما أداه إليه إجتهاده
فإذاً المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :
أحدها : أن يكون مجتهداً فيها ، فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها ، لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة . دون ما ظهر لغيره من المجتهدين . فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب . بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل ، دون ما أداه إليه اجتهاده . ويعد ما ظهر له لغواً كالعدم . لأنه على غير صوب الشريعة الحاكمة . فإذاً ليس قوله بشيء يعتد به في الحكم .
الثاني أن يكون مقلداً صرفاً
والثاني : أن يكون مقلداً صرفاً .خلياً من العلم الحاكم جملة . فلا بد له من قائد يقوده . وحاكم يحكم عليه . وعالم يقتدي به . ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم . والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه . بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر . كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا ان يكون فاقد العقل . وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه . لا من جهة كونه فلاناً أيضاً . وهذه الجملة أيضاً لا يسع الخلاف فيها عقلاً ولا شرعاً .
الثالث أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين
والثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين . لكنه يفهم الدليل وموقعه . ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه . فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره ، أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه . والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه . متوجه شطره : فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي . والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم . فكذلك من نزل منزلته .
ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة : أما النبي ﷺ فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر . وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم فلا نطيل الاستدلال عليه .
فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها ، حاكم بأحكامها جملةً وتفصيلاً ، وأنه من وجد متوجهاً غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكماً ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة .
فيجب إذاً على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان عير مجتهد :
أحدهما : أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ، ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم ، إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعاً له ، ومأخوذاً بأداء تلك الأمانة ، حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطىء فيما يلقى ، أو تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه ، أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف ، توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين ، إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقاً على الإطلاق ، لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأمور ، وما اشبه ذلك .
أما إذا كان هذا المتبع ناظراً في العلم ومتبصراً فيما يلقى إليه كأهل العلم في زماننا ، فإن توصله إلى الحق سهل ، لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه ، وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة .
اجتهاد العامي في اختيار من يقلد
وأما إن كان عامياً صرفاً فيظهر له الإشكال عند ما يرى الاختلاف بين الناقلين للشريعة ، فلا بد له ها هنا من الرجوع آخراً إلى تقليد بعضهم ، إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد ، لأنه محال وخرق للإجماع ، فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكته ، فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معاً محالاً ، وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما . بل هو قول ثالث لا قائل به . ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولاً بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع .
وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحداً ، فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ، ولذلك خالفه ، وإلا لم يخالفه ، والعامي جاهل بمواقع الاجتهاد ، فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما . وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي ، وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية . ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين لا يخفى عليهم مثل ذلك ، لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى ، فإذاً لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكماً بالعلم الحاكم .
والأمر الثاني : أن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعاً وذلك أن العامي ومن جرى مجراه قد يكون متبعاً لبعض العلماء ، إما لكونه أرجح من غيره ، أو عند أهل قطره ، وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره .
وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه ، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولاً ، ثم إلى مخالفة متبوعة ، أما خلافه للشرع فبالعرض ، وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع ، لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها ، فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده .
أمر مالك و الشافعي بالاتباع دون تقليدهما
ومن معنى كلام مالك رحمه الله : ما كان من كلامي موافقاً للكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه . هذا معنى كلامه دون لفظه .
ومن كلام الشافعي رحمه الله : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال ، قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع . ومعناه أنكل ما تتكلمون به على تحري أنه طابق الشريعة الحاكمة، فإن كان كذلك فبها ونعمت ، وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضاً ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها .
لكن يتصور في هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهداً ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه ، وهو الشريعة ، وأن يكون مقلداً لبعض العلماء ، كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا ، أو خلاف ذلك ، لأن هذا القسم مقلدون بالعرض ، فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام ، إذ لم يبلغوا درجته ، فلا يصح تعرضهم للإجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته . فإن فرض انتصابه للإجتهاد فهو مخطىء آثم أصاب أم لم يصب ، لأنه أتى الأمر من غيره ، وانتهك حرمة الدرجة وقفاً ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث لا يدري ، وخطؤه هو المعتاد ، فلا يصح ابتاعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ، ولاخلاف أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر ، وأن مخالفة العامي كالعدم ، وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطىء ، فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده ؟
ولقد زل ـ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال ـ اقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل .
عشرة أمثلة لاتباع الهوى والتقليد أحدها : قول من جعل إتباع الآباء في أصل الدين هو الرجوع إليه
ولنذكر عشرة أمثلة :
أحدها : وهو أشدها ، قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوع إليه دون غيره ، حتى ردوا بذلك براهين الرسالة ، وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا : "إنا وجدنا آباءنا على أمة " . فحين نبهوا على وجه الحجة بقوله تعالى : " قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم " لم يكن لهم جواب إلا الإنكار ، اعتماداً على اتباع الآباء واطراحاً لما سواه ، ولم يزل مثل هذا مذموماً في الشرائع ، كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله : "ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" وعن قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : "قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " إلى آخر ذلك مما في معناه ، فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم .
والثاني رأي الإمامية و الثالث مذهب الفرقة المهدوية و الرابع رأي بعض المقلدة لمذهب إمام
والثاني : رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم ـ في زعمهم ـ وإن خالف ما جاء يه النبي المعصوم حقاً ، وهو محمد ﷺ ، فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال، وإنما أنزل الكتاب ليكون حكماً على الخلق على الإطلاق والعموم .
والثالث : لاحق بالثاني ، وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة ، وافقت حكم الشريعة أو خالفت ، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة ( ؟ ) في عقد إيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي ، وقد تقدم من ذلك أمثلة .
والرابع : رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة ، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم ، حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير ، وفوقوا إليه سهام النقد ، وعدوه من الخارجين عن الجادة ، والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل ، بل بمجرد الاعتياد العامي .
ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتياً من المشرق من هذا الصنف الأمرين ، حتى أصاروه مهجور الفناء ، مهتضم الجانب ، لأنه من العلم بما لا يدي لهم به ، إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ، ولقي أيضاً غيره ، حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله ، وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك ، بحيث أنكروا ما عداه ، وهذا تحكيم الرجال على الحق ، والغلو في محبة المذهب ، وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء ، فمن كان متبعاً لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه ، لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به ، فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره .
والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان من المتصوفة
والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان ممن يدعي التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين ، أو يروم الدخول فيهم ، يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم ، فيتخذونها ديناً وشريعة لأهل الطريقة ، وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح ، لا يلتفتون إلى فتيا مفت ولا نظر عالم ، بل يقولون : إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته ، فكل ما يفعله أو يقلوه حق ، وإن كان مخالفاً فهو أيضاً ممن يقتدى به ، والفقه للعموم ، وهذه طريقة الخصوص !
فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد ﷺ ، وهو عين اتباع الرجال وترك الحق ، مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ، ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا ، وأيضاً فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه ، فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق كل التأدب .
وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم ، وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين ، فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار ، فيعدونها ديناً ، وهي ضد الدين ، فتكون الزلة حجة في الدين .
فكذلك أهل التصوف لا بد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها : هل هي من جملة ما يتخذ ديناً أم لا ؟ والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضاً ، وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالماً بالفقه ، كالجنيد وغيره رحمهم الله .
ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك ، فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق ، وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضاً ، إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري : مذهبنا مبني على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي ﷺ في الأخلاق والأفعال ، والأكل من الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال . ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف ، وحاشاهم من ذلك ، بل اتباع الرجال ، شأن أهل ا لضلال .
والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر
والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه . ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ . أو التغافل من المأخوذ عنه . ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال . ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطأ ، أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية ، وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب ، كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة ، فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء ، والنحويون ايضاً ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ، ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن ، وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة ، فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها ، بناء على أن التي قرؤوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه ، محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء ، فلو كانت خطأ لردوها علينا . وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأساً تحسين ظن الرجال ، وتهمة للعلم ، فصارت بدعة جارية ـ أعني القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحاً بأنها الحق الصريح ، فتعوذ بالله من المخالفة .
ولقد لج بعضهم حين وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا ، فكان القرشي المقرىء أقرب مراماً منهم . حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئاً يعرف بالقرشي ، وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوماً : "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد" فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين ، فراجعه القارىء ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرىء وثبت على التنوين . فانتشر الخير إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقاً لهذا المقرىء ـ فنهض إليه ، فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه ، فقال : أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات ، فقال المقرىء : ما شئت . فقرأ عليه من أول المفصل فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين، فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ، ما هي إلا غير منونة بلا شك . فلج المقرىء ، فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف ، وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو ، فإن الأفعال لا يدخلها التنوين ، فتحير المقرىء ، إلا أنه لم يقنع بهذا ، فقال له ابن مجاهد : بين وبينك المصاحف . فأحصر منه جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين ، فرجع المقرىء إلى الحق . انتهت الحكاية . ويا ليت مسألتنا مثل هذه . ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب .
والسابع رأي نابتة أن ما عليه الجمهور اليوم صحيح بإطلاق كإلزام الدعاء بالإجتماع عقب الصلوات
والسابع : رأي نابتة أيضاً يرون أن عمل الجمهور اليوم ـ من التزام الدعاء بهيئة الإجتماع بإثر الصلوات ، والتزام المؤذنين التثويب بعد الآذان ـ صحيح بإطلاق ، من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها ، وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة المسلمين ، بناءً منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر . فنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء .
فلو كان خطأ لم يعملوا به .
وهذا مما نحن فيه اليوم . تتم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ، ويحسن الظن بمن تأخر ، وربما نوزع بأقوال من تقدم ، فيرميها الرامي بالظنون واحتمال الخطأ ، ولا يرمي بذلك المتأخرين ، الذين هم أولى به بإجماع المسلمين . وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر : هل عليه دليل من الشريعة ؟ لم يأت بشيء أو يأتي بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها ، كقوله هذا خير أو حسن ، وقد قال تعالى : "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" أو يقول : هذا بر ، وقال تعالى : "وتعاونوا على البر والتقوى" فإذا سئل عن أصل كونه خيراً أو براً وقف ، وميله إلى أنه ظهر له بعقله أنه خير وبر ، فجعل التحسين عقلياً ، وهو مذهب أهل الزيغ ، وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات .
ومنهم من طالع كلام القرافي و ابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام . فنقول : هذا من المحدث المستحسن . وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث :
"ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" وقد مر ما فيه . وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها فما رأوه فيها حسناً فهو عند الله حسن ، لأنه جار على أصول الشريعة . والدليل على ذلك الاتفاق . على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعي لم يكن عند الله حسناً حتى يوافق الشريعة . والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين بإتفاق منا ومنهم ، فلا اعتبار بالإحتجاج بالحديث على استحسان شيء واستقباحه بغير دليل شرعي .
ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعي فيها الإجماع من أهل الأقطار ، وهو لم يبرح من قطره ، ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ، ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ، ولا عرف من أخبار الأقطار خبراً ، فهو ممن يسأل عن ذلك يوم القيامة .
وهذا الإضطراب كله منشؤه تحسين الظن بأعمال المتأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك ـ والوقوف مع الرجال دون التحري للحق .
والثامن رأي قوم ممن تقدم زمان المصنف ومن أهله اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم
والثامن : رأي قوم ممن تقدم زماننا هذا ـ فضلاً عن زماننا ـ اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ، ومن رغب إليهم في ذلك ، فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبداً وغير ذلك ، بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسؤول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به ، زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال : اختلاف العلماء رحمة . ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم ، حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول : كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز ـ شذ عن الجماعة أو لا ـ فالمسألة جائزة ، وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب الموافقات ، والحمد لله .
والتاسع ما حكى الله عن الأحبار والرهبان في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا أي العمل بأقوالهم في الحلال والحرام
والتاسع : ما حكى الله عن الأحبار والرهبان قوله : "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" فخرج الترمذي عن" عدي بن حاتم قال : أتيت النبي ﷺ ـ وفي عنقي صليب من ذهب ـ فقال : يا عدي ، اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة : "ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم" قال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكن إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه" حديث غريب .
وفي تفسير سعيد ين منصور قيل لحذيفة ، أرأيت قول الله تعالى : "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" ؟ قال حذيفة : أما أنهم لم يصلوا لهم ، ولكنهم كانوا ما أحلوا لهم من حرام استحلوه ، وما حرموا عليهم من حلال حرموه ، فتلك ربوبيتهم .
وحكى الطبري عن عدي مرفوعاً إلى النبي ﷺ ، وهو قول ابن عباس أيضاً وأبي العالية .
فتأملوا يا أولي الألباب ! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحر للدليل الشرعي ، بل لمجرد العرض العاجل ، عافانا الله من ذلك بفضله .
العاشر رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين
والعاشر : رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين ، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع ، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين ، بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه ، وإلا ردوه .
فالحاصل مما تقدم أن تحيكم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال ، وما توفيقي إلا بالله ، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير .
مذهب الصحابة في الإتباع وتحكيمه في النزاع وشواهد ذلك
ثم نقول :إن هذا مذهب الصحابة رسول الله ﷺ ، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علماً يقيناً . ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة ، حتى قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتى الخبر عن رسول الله ﷺ بأن :
" الأئمة من قريش " أذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبؤوا برأي من رأى غير ذلك ، لعلمهم بأن الحق هو المتقدم على آارء الرجال .
التنازع على الإمارة وقتال مانعي الزكاة
ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور ، فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله : "إلا بحقها" فقال : الزكاة حق المال ، ثم قال : والله منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه
فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :
أحداهما : أنه لم يجعل لأحد سبيلاً إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله ﷺ وإن كان بتأويل ، لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلاً ، وفي القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأساً . ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ، ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالاً ... إلى آخره . مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحتي ظاهر تعضده مسائل شرعية ، وقواعد أصولية ، لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهراً ، فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر ، فالتزمه ، ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديماً للحاكم الحق ، وهو الشرع .
بعث أسامة
والثانية : أن ابا بكر رضي الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء من الفرقتين ، ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضي الله عنه لم يعتبر إلا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل ، فكان ذلك أصلاً في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام ، نظير ما قال الله تعالى : "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة ، فكذلك لم يعد أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذراً يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي ﷺ وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول الله ﷺ مع أسامة بن زيد ـ ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عوناً على قتال أهل الردة فأبى من ذلك ، وقال : ما كنت لأرد بعثاً أنفذه رسول الله ﷺ . فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره .
وعن النبي ﷺ أنه قال : "إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة . قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليكم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع" .
وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع ، فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة على الشرع ؟ هذا مضاد لذلك .
قول عمر في الثلاث الهادمات الدين
ولقد كان كافياً من ذلك خطاب الله لنبيه وأصحابه : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" الآية ، مع أنه قال تعالى : "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وقوله تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " ، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : اغد عالماً أو متعلماً ، ولا تغد إمعةً فيما بين ذلك . قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة فقال : الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال .
نصيحة علي لكميل بن زياد
وعن كميل بن زياد أن علياً رضي الله عنه قال : يا كميل : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ، الحديث إلى أن قال فيه : أف لحامل حق لا بصيرة له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن فتن به ، وإن من الخير كله ، فاعرف الله دينه ... وكفى أن لا يعرف دينه .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ألا لا يقلدون أحدكم دينه رجلاً ، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر . وهذا الكلام من ابن مسعود بين مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف ، وهو النهي عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك .
وفي الصحيح عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا قال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين ، قلت : ما أنت بفاعل . قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك . قال : هما المرءان أهتدي بهما . يعني النبي ﷺ وأبا بكر رضي الله عنه .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر ، قال فيه : فلما دخل قال : يابن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل ، وما تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه ، فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين : إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله .
وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة والسلام : "فأما المؤمن ـ أو المسلم ـ فيقول :محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا ، فيقال : نم صالحاً قد علمنا أنك موقن . وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته" .
وحديث مخاصمة علي والعباس عمر في ميراث رسول الله ﷺ ، وقوله لرهط الحاضرين : هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قال :
" لا نورث ما تركناه صدقة " فأقروا بذلك ـ إلى أن قال لعلي والعباس : " أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاءً غير ذلك حتى تقوم الساعة "ـ إلى آخر الحديث
ترجمة البخاري لباب العمل بالشورى
وترجم البخاري في هذا المعنى ترجمة تقتضي أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم ، وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين . فقال : باب قول الله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم " "وشاورهم في الأمر" وأن المشاورة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى : "فإذا عزمت فتوكل على الله" فإذا عزم الرسول لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله . وشاور النبي ﷺ أصحابه يوم أحد في المقام والخروج ، فرأوا له الخروج ، فلما لبس لأمته قالوا أقم ، فلم يمل إليهم بعد العزم ، وقال :
" لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله" . وشاور علياً وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها ، ( فسمع منهما ) حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ، ولكن حكم بما أمره الله .
وكانت الأئمة بعد النبي ﷺ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وقع في الكتاب والسنة ، لم يتعدوه إلى غيره ، اقتداءً بالنبي ﷺ . ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله ﷺ :
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا : ( لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" ؟ ثم تابعه بعد عمر . فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة ، إذ كان عنده حكم رسول الله ﷺ ثابتاً في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي ﷺ : " من بدل دينه فاقتلوه " وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانواً أو شباناً ، وكتن وقافاً عند كتاب الله .
هذا جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع ، مما يدل على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله ، لا من حيث هم أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم .
وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك أنه قال : ليس كل ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل : "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" .
فصل إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال
إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضاً لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه .
انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى .