☰ جدول المحتويات
الباب السابع : في الابتداع . هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية؟
قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه : هل يدخل في الأمور العادية أم لا ؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها ، وهي عامة الباب ، إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية ، وإما أعمال جوارح من قول أو فعل ، وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة ، والخوارج والمعتزلة ، وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه .
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع ، كالمكوس والمحدثة من المظالم ، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة ، وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة ، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان ولبس الطيالس وتوسيع الأكمام ، وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح ، فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها ، وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع ، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة ، وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا ، وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام ، وذهب إليه بعض السلف .
فروى أبو نعيم الحافظ ، عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد ـ قال محمد بن القاسم الطوسي ـ فقال : اشتر لي كبشين عظيمين ودفع إلي دراهم ، فاشتريت له وأعطاني عشرة أخرى ، وقال لي : اشتر بها دقيقاً ولا تنخله واخبزه ، قال : فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به ، فقال : نخلت هذا ؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال : اشتر به دقيقاً ولا تنخله واخبزه وحملته إليه ، فقال لي : يا أبا عبد الله العقيقة سنة ، ونخل الدقيق بدعة ، ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة ، ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة . ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهوية حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه الصلاة والسلام :
"عليكم بالسواد الأعظم" فقال : محمد واصحابه ، حسبما يأتي ـ إن شاء الله ـ في موضعه من هذا الكتاب .
وأيضاً ، فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لأنه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية ، فكلاهما مشروع من قبل الشارع ، فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر .
ووجه ثالث ، وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته . فتدخل فيما تقدم تمثيله ، لأنها من جنس واحد .
ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال : "قال رسول الله ﷺ : إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها ، قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم " ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ،" عن النبي ﷺ أنه قال :
من كره من أميره شيئاً فليصبر" ، وفي رواية " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ، مات ميتة جاهلية " .
وفي الصحيح أيضاً :
"إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة " . و" عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال : يتقارب الزمان ، ويقبض العلم ، ويلقى الشح ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج ، قال : يا رسول الله أيما هو ؟ قال : القتل القتل" . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال النبي ﷺ :
"إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج والهرج القتل" .
و"عن حذيفة رضي الله عنه . قال : حدثنا رسول الله ﷺ حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر . حدثنا : أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم علموا من القرآن ، ثم علموا من السنة" وحدثنا عن رفعها ثم قال : "ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ، ثم ينام النومة فتقبض ، فيبقى أثرها مثل أثر المجل ، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه ينتثر وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة . فيقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً . ويقال للرجل : ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده ! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" الحديث .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :
" لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان ، يكون بينهما مقتلة عظيمة ، دعواهما واحدة ، حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه رسول وحتى يقبض العلم ، ثم قال : وحتى يتطاول الناس في البنيان" إلى آخر الحديث .
وعن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :
" يخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقرؤون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يقولون من قول خير البرية ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض الدنيا" ، وفي ذلك الحسن قال : يصبح محرماً لدم أخيه وعرضه وماله ، ويمسي مستحلاً له ، كأنه تأوله على الحديث الآخر .
"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" ، والله أعلم .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ، ويشرب الخمر ، وتكثر النساء ، ويقل الرجال ، حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد" .
ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :
"إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا صار المغنم دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه ، وبر صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها . فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وزلزلة وخسفاً ، أو مسخاً وقذفاً" .
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا .
وفيه : " ساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم " وفيه : " ظهرت القيان والمعازف " ، وفي آخره : " فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وزلزلة ، وخسفاً ، ومسخاً ، وقذفاً ، وآيات تتابع ، كنظام بال قطع سلكه فتتابع" .
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي ﷺ أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو ـ في الحقيقة ـ تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها ، فلما عوضوا منها غيرها ، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعاً ، كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات .
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع ما قاله الأولون .
أما ما تقدم عن القرافي وشيخه فقد مر الجواب عنه ، فإنها معاص في الجملة ، ومخالفات للمشروع ، كلمكوس والمظالم وتقديم الجهال على العلماء وغير ذلك .
والمباح منها كالمناخل ، إن فرض مباحاً ـ كما قالوا ـ فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع فيه .
وإن فرض مكروهاً ـ كما أشار إليه محمد بن أسلم ـ فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات ، إذ في الأمر : أول ما أحدث بعد رسول الله ﷺ المناخل ـ أو كما قال ـ فأخذه بظاهر اللفظ من أخذ به ، كمحمد بن أسلم .
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى : "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" الآية ، لا من جهة أنه بدعة .
وقولهم : كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات مسلم ، وليس كلامنا في الجواز العقلي ، وإنما الكلام في الوقوع ، وفيه النزاع .
وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد ، إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات ، أو ما يشير إلى ذلك المعنى ، وأيضاً إن عدوا كل محدث العادات بدعة ، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعاً ، وهذا شنيع ، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والإسم ، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم ، هذا من المستنكر جداً .
نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكلام والسنة .
وأيضاً ، فقد يكون التزام الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعباً ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والأحوال ، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثم معارض .
وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى متقدم الزمان ، فإن الخير كان أظهر ، والشر كان أخفى وأقل ، بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس ، والشر فيه أظهر والخير أخفى .
وأما كون تلك الأشياء بدعاً فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة فراجع النظر فيها تجده كذلك .
والصواب في المسألة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين ، وتحقق المقصود في الطريقتين ، وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب ، فلنفرده في فصل على حدته والله الموفق للصواب .
فصل أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين
أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين : أحدهما : أن يكون من قبيل التعبدات .والثاني : أن يكون من قبيل العادات .
فأما الأول : فلا نظر فيه ها هنا .
وأما الثاني : وهو العادي فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها ، فمنهم من يرشدألأ كلامه إلى أن العاديات كالعباديات ، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها ، فكذلك العاديات ، وهو كلام محمد بن اسلم ، حيث كره في سنة العقيقة مخالة من قبله في أمر عادي ، وهو استعمال المناخل ، مع العلم بأنه معقول المعنى نظراً منه ـ والله أعلم ـ إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد ، ويظهر أيضاً من كلام من قال : أول ما أحدث الناس بعد رسول الله ﷺ المناخل .
ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال : لولا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت . والسكنى أمر عادي بلا إشكال .
وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلاً في قسم العباديات ، فدخول الابتداع فيه ظاهر ،والأكثرون على خلاف هذا ، وعليه نبني الكلام فنقول :
ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد ، لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي ، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي ، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي ، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي ، لأن أحكامها معقولة المعنى ، ولا بد فيها من التعبد ، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها ، كانت اقتضاء أو تخييراً ، فإن التخيير في التعبدات إلزام ، كما أن الاقتضاء إلزام ـ حسبما تقرر برهانه في كتاب الموافقات ـ وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد ، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه ، صح دخوله في العاديات كالعباديات ، وإلا فلا .
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ، ويتبين ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي من جواز وضع المكوس في معاملات الناس ، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً ما ، أو في حالة ما ، لنيل حطام الدنيا ، على هئية غصب الغاصب ، وسرقة السارق ، وقطع القاطع للطريق ، وما أشبه ذلك ، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائماً ، أو في أوقات محدودة ، على كيفيات مضروبة ، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة ، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك .
فأما الثاني فظاهر أنه بدعة ، إذ هو تشريع زائدة ، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة ، والديات المضروبة ، والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعبدين ، بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة ،واللوازم المحتومة ، أو ما أشبه ذلك ، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك ، لأنه شرع مستدرك وسن في التكليف مهيع ، فتصير المكوس على هذا الفرض لها ، نظران : نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ، ونظر من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف ، فاجتمع فيها نهيان : نهي عن المعصية ، ونهي عن البدعة ، وليس ذلك موجوداً في البدع في القسم الأول ، وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعاً موضوعاً على الناس أمر وجوب أو ندب ، إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية ، بل نفس التشريع هو نفس الممنوع .
وكذلك تقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق التوريث ، هو من قبيل ما تقدم ، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتياً في الدين ، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها ، محرم في الدين ، وكون ذلك يتخذ ديدناً حتى يصير الابن مستحقاً لرتبة الأب ـ وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب ـ بطريق الوراثة أو غير ذلك ، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بدعة بلا إشكال ، زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم ، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله ، وهو الذي بينه النبي ﷺ بقوله :
"حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم .
وأما إقامة الأئمة والقضاء وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا ، وذلك صحيح ، فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جداً ، وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعاً خارجاً عن قبيل المصالح المرسلة ، بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به ، أو يكون ذلك مما يعد خاصاً بالأئمة دون غيرهم ، كما يزعم بعضهم : أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان ، أو يقول : إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم ، وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم .
ويشبهه على قرب زخرفة المساجد ، إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله ، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان ، حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقاً في سبيل الله ، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره ، أو قصد ذلك في فعله أولاً بأنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن الله به ، وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه الزخارف ، بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرفع ـ هذا إن صح ما قال ، وإلا فلا يعول على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين ، وأحرى ألا ينبني عليه حكم .
وأما مسألة المناخل فقد مر ما فيها ، والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع فلا نطول به ، وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق ، فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها ، وقد تقدم أيضاً فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه .
وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات على ما أريد تحقيقه ، فنقول : إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة ، يمكن ردها إلى أصول هي كلها أو غالبها بدع ، وهي قلة العلم وظهور الجهل ، والشح وقبض الأمانة ، وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر ، وكون المغنم دولاً ، والزكاة مغرماً ، وارتفاع الأصوات في المساجد ، وتقديم الأحداث ولعن آخر الأمة أولها ، وخروج الدجالين ، ومفارقة الجماعة .
أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفرغ للدنيا ، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم ـ حسبما جاء في الحديث الصحيح :
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس "إلى آخره ـ وذلك أن الناس لا بد لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم ، وإلا وقع الهرج وفسد النظام ، فيضطرون إلى الخروج إلى من انتصب لهم منصب الهداية ، وهو الذي يسمونه عالماً ، فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين ، لأن الفرض أنه جاهل ، فيضلهم عن الصراط المستقيم : كما إنه ضال عنه . وهذا عين الابتداع ، لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة . ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فتؤتى الناس من قبله ، وسيأتي لهذا المعنى بسط أوسع من هذا إن شاء الله .
وأما الشح ، فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام . وذلك أن الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم . كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس . ويليه أنواع القرض الجائز . ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر . وبالإسقاط كما قال : "وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون " ، وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح . ثم نقص الإحسان بالوجوه الأول . فتسامح الناس بالقرض . ثم نقض ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع . كالربا والسلف الذي يجر النفع فيجعل بيعاً في الظاهر ، ويجري في الناس شرعاً شائعاً ، ويدين له العامة ، وينصبون هذه المعاملات متاجر ، وأصلها الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة ، فإذا كان كذلك فالحري أن يصير ذلك ابتداعاً في الدين ، وأن يجعل من أشراط الساعة .
فإن قيل : هذا انتجاع من مكان بعيد ، وتكلف لا دليل عليه . فالجواب : أنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قبل به ، فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
"إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" .
ورواه أبو داود أيضاً وقال فيه :
"إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" .
فتأملوا كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس ، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالأموال . وهو معقول في نفسه ، فإن الرجل لا يتبايع أبداً هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه في حاجته ، إلا أن يكون سفيهاً لا عقل له .
ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود أيضاً عن علي رضي الله عنه قال :
سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ، ولم يؤمر بذلك . قال الله تعالى : "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" ، وينشد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر . ألا أن بيع المضطر حرام : الكسلك أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه ، إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه .
وهذه الأحاديث الثلاثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ مما يعضد بعضه بعضاً ، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع . قال بعضهم : عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما أحب ، فيبيعها ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك ، ففسر بيع المضطر ببيع العينة ، وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل ـ حسبما هو مبسوط في الفقهيات ـ فقد صار الشح إذاً سبباً في دخول هذه المفاسد في البيوع .
فإن قيل : كلامنا في البدعة في فساد المعصية ، لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه .
فالجواب : أن مدخل البدعة ها هنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس ، فقد عده العلماء من البدع المحدثات ، حتى قال ابن المبارك في كتابوضع في الحيل : من وضع هذا فهو كافر ، ومن سمع به فرضي به فهو كافر ، ومن حمله من كورة فهو كافر ، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر ، وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة ، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد .
وقال إسحاق بن راهوية ، عن سفيان بن عبد الملك : أن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالإرتداد، وذلك في أيام أبي غشان : فذكر شيئاً . ثم قال ابن المبارك وهو مغضب : أحدثوا في الإسلام ، ومن كان أمر بهذا فهو كافر . ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر ، ثم قال ابن مبارك : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا ، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ، ولو كان يحسنها لم يجد من يمضيها فيهم ، حتى جاء هؤلاء .
وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالاً ، وللواجب حتى يكون غير واجب . وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين ، كما أجازوا نكاح المحلل ، وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثاً لمن طلقها ، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة ، وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح ، وأنها تتضمن ابتداعاً كما تتضمن معاصي جمة .
وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة ، وهي من سماة أهل النفاق ، ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعاً ، وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم كما حكيت عن كثير من الأمراء ، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسداً ، فأخفوه لتظهر صحته ، فإن بيعه الثوب بمائة وخمسين إلى أجل ، لكنهما أظهرا وساطة الثوب ، وأنه هو المبيع والمشتري ، وليس كذلك ، بدليل الواقع .
وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلاً بلسان حاله ومقاله : انا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه مني . ثم يهبه ، فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى ، والجميع في الحالين ، بل في الحولين في تصريف المال سواء ، أليس هذا خلاف الأمانة ؟ والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه ، فالعمل بخلاف خيانة .
ومن ذلك أن بعض الناس كان [يحفر الزينة ويرد من الكذب] ، ومعنى الزينة التدليس بالعيوب ، وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم . وايضاً فإن كثيراً من الأمراء يحتاجون أموال الناس اعتقاداً منهم أنها لهم دون المسلمين . ومنهم من يعتقد نوعاً من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من الكفار ، فيجعلونها في بيت المال ، ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلاً على الشريعة بالعقول . فوجه البدعة ها هنا ظاهر .
وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ، ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولاً وقوله :
"سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونها ، ثم قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم" .
وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر ، فخرج أبو داود و أحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :
"لبشرين ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" ـ زاد ابن ماجه ـ " يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات ، يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير " وخرجه البخاري ، عن أبي عامر وأبي مالك الأشعري قال فيه :
" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ، ولينزلن أقوام إلى جنب علم ، تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون : ارجع إلينا غداً ، فيبيتهم الله ويضع العلم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" . وفي سنن أبي داود : "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير" ـ وقال في آخره ـ " يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" .
والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره . وقوله في الحديث : " ولينزلن أقوام " يعني ـ والله أعلم ـ من هؤلاء المستحلين ، والمعنى إن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم ، وهو الجبل ، فيواعدهم إلى الغد ، فيبيتهم الله ـ وهو أخذ العذاب ليلاً ـ ويمسخ منهم آخرين كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل : يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير . وكأن الخسف ها هنا التبييت المذكور في الآخر .
وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر ، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره ، وإنما الخمر عصير العنب النيء ، وهذا رأي طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر .
قال بعضهم : وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الإسم ، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته . قال : وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا : ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت ، وليس هذا باستباحة السبت .
بل الذي يستحل الخمر زاعماً أنه ليس خمراً مع علمه بأن معناه الخمر ومقصوده مقصود الخمر ، أفسد تأويلاً من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياساً ، فلئن كان من القياس ما هو حق ، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل . وهو من القياس الجلي . إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم .
فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالاً لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقاً ، وللرجال في بعض الأحوال ، فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحو ، وابيح منه الحداء وغيره ، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر ، فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون ، إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء .
وقد خرج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي ﷺ قال "يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع" قال بعضهم : يعني العينة . وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي ﷺ قال :
"أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والخز" يريد استحلال الفروج الحرام ، والحر بكسر الحاء المهملة والراء المخففة الفرج ، قالوا : ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة ، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح ، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل ، فإن هذا لم يزل معمولاً في الناس ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً، والواقع كذلك ، فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين في تلك الأزمان صار في أولي الأمر من يفتي بنكاح المحلل ونحوه ، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلاً .
ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشهور أن رسول الله ﷺ : "لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له" .
وروى أحمد ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال : "ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله" فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا ، كما يشعر أن العينة من الربا .وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً قال : "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت بالهدية ، والقتل بالريبة ، والزنا بالنكاح ، والربا بالبيع " ، فإن الثلاثة المذكورة أولاً قد سنت ، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما بإسم الهدية فهو ظاهر ، واستحلال القتل بإسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسية وأبهة الملك ونحو ذلك ، فظاهر أيضاً ، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة .
وقد وصف النبي ﷺ الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال : "إن من ضئضىء هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " ، ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عته :
" يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً " الحديث . يدل عليه تفسير الحسن قال ك يصبح محرماً لدم أحيه وعرضه ويمسي مستحلاً ، إلى آخره .
وقد وضع القتل شرعاً معمولاً به على غير سنة الله وسنة رسوله المتسمي بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث ، فجعل القتل عقاباً في ثمانية عشر صنفاً ، ذكروا منها : الكذب ، والمداهنة ، وأخذهم أيضاً بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك ، وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم ، ومن لم يحضر أدب ، فإن تمادى قتل ، وكل من لم يتأدب بما أدب به ضرب بالسوط المرة والمرتين ، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل ، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل . وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به ، وكل من خالف أمره ، أمر اصحابه فعروه ، فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجراً على الإمامة أو الخطابة ، وكذلك لبس الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حلالاً ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب ، فقدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك الصلاة خلفه .
وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية ، قال العلماء : وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين ، ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله .
وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام ، وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم :
"بدىء الإسلام غريباً وسيعود كما بديء ، فطوبى للغرباء" ، وقال في الكتاب المذكور : جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد ، وأن به قامت السموات والأرض ، وبه تقوم ، ولا ضد له ولا مثل ولا ند انتهى . وكذب ، فالمهدي عيس عليه السلام .
وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح ، وبعد المغرب ، فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا : أصبح ولله الحمد إشعاراً ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ، ولحضور الجماعة ، وللغدو لكل ما يؤمرون به .
وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا ، وجميع ذلك إلى أنه قائل برأيه في العبادات والعادات ، مع زعمه أنه قائل بالرأي . وهو التناقض بعينه . فقد ظهر إذن جريان تلك الأشياء على الابتداع .
وأما كون الزكاة مغرماً ، فالمغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات ، كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره ، بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت ، وكون هذا بدعة ، ظاهر .
وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشىء عن بدعة الجدال في الدين ، فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه أن يكون في المساجد ، ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد ، فما ظنك به في المساجد ؟ فالجدال فيه زيادة الهوى ، فإنه غير مشروع في الأصل . فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين . وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه . كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما . وكمتشابهات القرآن . ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قلت : " تلا رسول الله ﷺ هذه الآية : "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فأحذروهم" وفي الحديث :
"ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل" ، وجاء عنه عليه السلام أنه قال : "لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر" وعنه عليه السلام أنه قال : "إن القرآن يصدق بعضه بعضاً ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه" ، وقال عليه السلام : "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم . فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه" ، وخرج ابن وهب ، عن معاوية بن قرة قال : إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال .
وقال النخعي في قوله تعالى : "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " قال : الجدال والخصومات في الدين .
وقال معن بن عيسى : انصرف مالك يوماً إلى المسجد وهو متكىء على يدي . فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء . فقال : يا أبا عبد الله ! اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك برأيي . فقال له : احذر أن اشهد عليك . قال : والله ما اريد إلا الحق . اسمع مني فإن كان صواباً فقل به أو فتكلم . قال : فإن غلبتني ؟ قال : اتبعني . قال : فإن غلبتك ؟ قال : اتبعتك . قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه ؟ قال : اتبعنا . فقال له مالك : يا عبد الله ! بعث الله محمداً بدين واحد وأراك تنتقل .
وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل .
وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء .
والكلام في ذم الجدال كثير . فإذا كان مذموماً فمن جعله محموداً وعده من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين . ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة ، وذلك مظنة رفع الأصوات .
فإن قيل : عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك ، فرفع الأصوات قد يكون في العلم ، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد ، وإن كان في العلم أو في غير العلم .
قال ابن القاسم في المبسوط : رأيت مالكاً يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد .
وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين : إحداهما : أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لأنه أمر بتعظيمه وتوقيره . والثانية : انه مبني للصلاة ، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار ، فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى .
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبه بين ناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة . فإذا كان كذلك ، فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم ، أعني في أكثر الأمر دون الفلتات ، لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشىء عن الهوى في الشيء المتكلم فيه ، واقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت ، الكلام فيما لم ياذن فيه ، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم .
وأيضاً ، لم يكثر الكلام جداً في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام ، وإلى غرضه تصويب سهام النقد والذم ، فهو إذاً هو . وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية المصري أنه رأى قوماً يتعارون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال : هؤلاء قوم قد ملوا العبادة ، وأقبلوا على الكلام ، اللهم أمت عميرة ، فمات من عامة ذلك في الحج ، فرأى رجل في النوم قائلاً يقول : مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة ، فجاء موت عميرة هذا .
والثاني : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضاً من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولاً به لا نفي ولا يكف عنه فجرى مجرى البدع المحدثات .
وأما تقديم الأحداث على غيرهم ، فمن قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم ، كان ذلك التقديم في ريب العلم أو غيره ، لأن الحدث أبداً أو في غالب الأمر غر لم يتحنك ، ولم يرتض في صناعة رياضة تبلغه مبالغ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ، ولذلك قالوا في المثل :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
هذا إن حملنا على حداثة السن ، وهو نص في ابن مسعود رضي الله عنه ، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة ، ويحتمله قوله : " وكان زعيم القوم أرذلهم " وقوله : " وساد القبيلة فاسقهم " وقوله : " إذا أسند الأمر إلى غير أهله " فالمعنى فيها واحد ، فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه .
ولذلك يحكى عن الشيخ أبي مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم ، فقال : الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد ، وإن كان ابن ثمانين سنة .
فإذاً تقديم الأحداث على غيرهم ، من باب تقديم الجهال على غيرهم ، ولذلك قال فيهم : " سفهاء الأحلام " وقال : " يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم " إلى آخره ، وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج :
" إن من ضئضيء هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم " إلى آخر الحديث ، يعني أنهم لم يتفقهوا فيه ، فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم .
وأما لعن آخر هذه الأمة أولها ، فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة ، فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم ، حين لم يصرفوا الخلافة إلى علي رضي الله عنه بعد رسول الله ﷺ ، وكفرت علياً رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها .
قا ل مصعب الزبيري و ابن نافع : دخل هارون ( يعني الرشيد ) المسجد فركع ، ثم أتى قبر النبي ﷺ فسلم عليه ، ثم أتى مجلس مالك فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، ثم قال لـ مالك : هل لمن سب أصحاب رسول الله ﷺ في الفيء حق ؟ قال : لا ! ولا كرامة ولا مسرة ، قال : من أين قلت ذلك ؟ قال : قال الله عز وجل : "ليغيظ بهم الكفار" فمن عابهم فهو كافر ، ولا حق لكافر في الفيء .
واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى : "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم" إلى آخر الآيات الثلاث قال : فيهم أصحاب رسول الله ﷺ الذين هاجروا معه ، وأنصاره "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه ، وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى كثير .
وأما بعث الدجالين ، فقد كان ذلك جملة ، منهم من تقدم في زمان بني العباس وغيرهم . ومنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقية ، فقد حكى عنه أنه جعل المؤذن يقول : أشهد أن معداً رسول الله ، عوضاً من كلمة الحق أشهد أن محمداً رسول الله فهم المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره ؟ فلما انتهى كلامهم إليه ، قال : أردد عليهم أذانهم لعنهم الله .
ومن يدعي لنفسه العصمة ، فهو شبه من يدعي النبوة ، ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض ، فقد جاوز دعوى النبوة ، وهو المغربي المتسمي بالمهدي .
وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة ، واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات ، والإخبار بالمغيبات ، ومخيلة لخوارق العادات ، تبعه على ذلك من العوام جملة ، ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس ـ وهو مالقة ـ آخذاً ينظر في قوله تعالى : "وخاتم النبيين" وهل يمكن تأويله ؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات ، ليسوغ إمكان بعث نبي بعد محمد ﷺ ، وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله .
ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال : حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب قال : لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس ، فقال أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما : اقرأ قرآنك ، لي شيء تنفصل على قرآننا اليوم ؟ أو في معنى هذا ، فتركها مثلاً بلوذعيته .
وأما مفارقة الجماعة ، فبدعتها ظاهرة ، ولذلك يجازي مفارقتها بالميتة الجاهلية .
وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم .
فهذه ايضاً من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث . وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ، ككثرة النساء وقلة الرجال ، وتطاول الناس في البنيان ، وتقارب الزمان .
فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي ﷺ من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع ، لكن من جهة التعبد ، لا من جهة كونها عادية ، وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة ، والمعصية التي هي ليست ببدعة .
وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها ، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة ، وحصل بذلك اتفاق القولين ، وصار المذهبان مذهباً واحداً ، وبالله التوفيق .
فصل فإن قيل : أما الابتداع ، بمعنى أنه نوع من التشريع
فإن قيل : أما الابتداع ، بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في العاديات من حيث هو توقيت معلوم معقول ، فإيجابه أو إجازته بالرأي ـ كما تقدم من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجية عن الجادة ـ فظاهر .
ومن ذلك ، القول بالتحسين والتقبيح العقلي ، والقول بترك العمل بخبر الواحد ، وما أشبه ذلك .
فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه ، وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به ، وهو أن المعاصي والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ، ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام ، فما كان منها هذا شأنه : هل يعد مثله بدعة أم لا ؟
فالجواب : أن مثل هذه المسألة لها نظران :
أحدهما : نظر من حيث وقوعها واعتقاداً في الأصل ، فلا شك أنها مخالفة لا بدعة ، إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر ، بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا ، واشتهرت أم لا ، وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما ، والمبتدع قد يقام عن بدعة ، والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت ، عياذاً بالله .
والثاني : نظر من جهة ما يقترن بها من خارج ، فالقرائن قد تقترن ، فتكون سبباً في مفسدة حالية ، وفي مفسدة مالية ، كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة .
أما الحالية فبأمرين :
الأول : أن يعمل بها الخواص من الناس عموماً ، وخاصة العلماء خصوصاً ، وتظهر من جهتهم . وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجازتها ، لأن العالم المنتصب مفتياً للناس بعمله كما هو مفت بقوله . فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بمخالفته حصل في اعتقادهم جوازه ، ويقولون : لو كان ممنوعاً أو مكروهاً لامتنع منه العالم .
هذا ، وإن نص على منعه أو كراهته ، فإن عمله معارض لقوله ، فإما أن يقول العامي : إن العالم خالف بذلك ، ويجوز عليه مثل ذلك ، وهم عقلاء الناس ، وهم الأقلون .
وإما أن يقول : إنه وجد فيه رخصة ، فإنه لو كان كما قال لم يأت به فيرجح بين قوله وفعله . والفعل أغلب من القول في جهة التأسي ـ كما تبين في كتاب الموافقات ـ فيعمل العامي بعمل العالم ، تحسيناً للظن به ، فيعتقده جائزاً ، وهؤلاء هم الأكثرون .
فقد صار عمل العالم عند العامي حجة ، كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم في الفتيا ، فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل ، وهذا عين البدعة .
بل لقد وقع مثل في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء ، فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات ، وقراءة الحزب حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة ، وأن منها ما هو حسن ، وكان منهم من ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة ، واحتج بالحزب والدعاء بعد الصلاة ، كما تقدم .
ومنهم من اعتقد أنه ما عمل به إلا لمستند ، فوضعه في كتاب وجعله فقهاً كبعض أماريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد .
وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان ، والعمل به على الغفلة ، ومن هنا تسشنع زلة العالم ، فقد قالوا : ثلاث تهدم الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة ضالون .
وكل ذلك عائد وباله على العالم ، وزلله المذكور عند العلماء يحتمل وجهين :
أحدهما : زلله في النظر حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه وذلك الفتيا بالقول .
والثاني : من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر فلا ينكرها الخواص ولا يرفعون لها رؤوسهم وهم قادرون على الإنكار فلم يفعلوا ، فالعامي من شأنه إذا رأى أمراً يجهل حكمه يعمل العامل به فلا ينكرها عليه ، اعتقد أنه جائز وأنه حسن ، أو أنه مشروع بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه عيب ، أو أنه غير مشروع ، أو أنه ليس من فعل المسلمين . هذا أمر يلزم من ليس بعالم بالشريعة ، لأن مستنده الخواص واعلماء في الجائز مع غير الجائز .
فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار ، مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكر ووجوده القدرة عليه ، فلم يفعل ، دل عند العوام على أنه فعل جائز لا حرج فيه ، فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من كان من العوام فصارت المخالفة بدعة ، كما في القسم الأول .
وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام ، والعلماء ورثة الأنبياء ، فكما أن النبي ﷺ يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره ، كذلك وارثة يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره . واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم ينكرها العلماء ، أو عملوا بها فصارت بعد سنناً ومشروعات ، كزيادتهم مع الآذان : اصبح ولله الحمد و الوضوء للصلاة و تأهبوا ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع ، وربما احتجوا على ذلك بما يفعله بعض الناس وبما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه ، وقد قيدنا في ذلك جزءاً مفرداً فمن أراد الشفاء في المسألة فعليه به ، وبالله التوفيق .
وخرج أبو داود عن[ أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار ، قال ] :
"إهتم النبي ﷺ للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضاً . فلم يعجبه ذلك ـ قال ـ فذكر له القنع ، يعني الشبور ، وفي رواية شبور اليهود فلم يعجبه ، وقال : هو من أمر اليهود ، قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من أمر النصارى ، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله ﷺ ، فأري الأذان في منامه" إلى آخر الحديث .
وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال :
ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه ، فذكروا أن ينوروا ناراً ، أو يضربوا ناقوساً فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة . والقنع والشبور ـ هو البوق ـ وهو القرن الذي وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
فأنت ترى كيف كره النبي ﷺ شأن الكفار فلم يعمل على موافقته . فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد إعلاماً بالأوقات أو غير إعلام بها ، أما الراية فقد وضعت إعلاماً بالأوقات ، وذلك شائع في بلاد المغرب ، حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع .
وأما البوق ، فهو العلم في رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار ، ثم هو علم أيضاً بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداءً وانتهاءً والحديث قد جعل علماً لانتهاء نداء ابن أم مكتوم . قال ابن شهاب : وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت .
وفي مسلم و أبي داود :
" لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم " الحديث . فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما يحتاج إليه من سحوره وغيره ، فالبوق ما شأنه ؟ وقد كرهه عليه الصلاة والسلام ، ومثله النار التي ترفع دائماً في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضاً ، إعلاماً بدخوله ، فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور ، ثم ترفع في المنار إعلاماً بالوقت ، والنار شعار المجوس في الأصل .
قال ابن العربي : أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد ومحمد بن خالد ـ ملكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجباً ويحيى وزيراً ثم ابنه جعفر بن يحيى ـ قال ـ وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة ، فأحيوا المجوسية ، واتخذوا البخور في المساجد ـ وإنما تطيب بالخلوق ـ فزادوا التجمير ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلونها عند الأندلس ببخورها ثابتة . انتهى .
وحاصلة ، أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السلف الصالح ، ولا كانت مما تزين بها المساجد البتة ، ثم أحدث التزيين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به رمضان ، واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد ، حتى لقد سأل بعض عنه : أهو سنة أم لا ؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد ، وذلك بسبب ترك الخواص الإنكار عليهم .
وكذلك أيضاً لما لم يتخذ الناقوس للإعلام ، حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الالآت التي توقد عليها النيران وتزخرف بها المساجد ، زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك ، كما تزخرف الكنائس والبيع .
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ، ذكر النووي أنها من البدع القبيحة ، وأنها ضلالة فاحشة جمع فيها أنواع من القبائح . منها إضاعة المال في غير وجهه ، ومنها إظهار شعائر المجوس ، ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ، ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع . ا هـ .
وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور وذكر أيضاً قبائح سواها . فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر ، أو وضع الرداء ؟ وهو أقرب مراماً وأيسر خطباً من أن تنشأ بدع محدثات ، يعتقدها العوام سنناً بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها .
وأما المفسدة المالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملين بحكم المخالفة ، وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها ، ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة . لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار . لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات .
وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعملهم بالربا فكل من يراهم من العامة صيارف وتجاراً في أسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك، وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزناً بوزن ، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلاً ، والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها ، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم ، ولم يزل العلماء من السلف الصالح ومن بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء ، حتى كانوا يتركون السنن خوفاً من اعتقاد العوام أمراً هو أشد من ترك السنن ، وأولى أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع ، وقد مر بيان هذا في باب البيان من كتاب الموافقات فقد ذكروا أن عثمان رضي الله عنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : أليس قد قصرت مع رسول الله ﷺ ؟ فيقول : بلى ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون : هكذا فرضت .
قال الطرطوشي : تأملوا رحمكم الله ! فإن في القصر قولين لأهل الإسلام :
منهم من يقول : فريضة ، ومن أتم فإنما يتم ويعيد أبداً .
ومنهم من يقول : سنة ، يعيد من أتم في الوقت ، ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان .
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون ( يعني أنهم لا يلتزمون الأضحية ) .
قال حذيفة بن أسد : شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة .
وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبشين أو بديك .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يشتري لحماً بدرهم يوم الأضحى ، ويقول لعكرمة : من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس .
وقال ابن مسعود : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن أنها واجبة .
وقال طاوس : ما رأيت بيتاً أكثر لحماً وخبزاً وعلماً من بيت ابن عباس ، يذبح وينحر كل يوم ، ثم لا يذبح يوم العيد . وإنما يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها واجبة . وكان إماماً يقتدى به .
قال الطرطوشي : والقول في هذا كالذي قبله ، وإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية . أحدهما سنة ، والثاني واجبة ، ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذراً من أن يضع الناس الأمر على غير وجهة فيعتقدونها فريضة .
قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان : إنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها ـ قال ـ ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته ، وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم ، ورأوهم يقولون ذلك .
فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم ، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه ، لكنه لم ير العمل عليه وإن كان مستحباً في الأصل ، لئلا يكون ذريعة لما قال ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في الأضحية ، وعثمان في الإتمام في السفر .
وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان الأصل ، فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ، لأنه كان مفروشاً ، فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن المسجد ، وقال : لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة ، وهذا في مباح ، فكيف به في المكروه أو الممنوع ؟
ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر : ليست بحرام ولا عيب فيها ، وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه .
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفراً ، لأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة ، وبسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها ، والتخلية بينهم وبين اقتنائها ، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك .
ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعاً وليس بمشروع . وهذا الحال متوقع أو واقع ، فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن الستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان ، لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما هي إلى تمام الستة الأيام ، وكذلك وقع عندنا مثله ، وقد مر في الباب الأول .
وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم ، أو من يعمل ببعضها بمرآى من الناس أو في مواقعهم ، فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات في المعاصي أو غيرها .
وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه
وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه .
أحدها : وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع .
والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة ، فيفهمها الجاهل مشروعة .
والثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار ، وهو قادر عليه ، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة .
والرابع : من باب الذرائع ، وهي أن يكون العمل في أصله معروفاً ، إلا أنه يبتدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى .
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ ، بل هي في القرب والبعد على تفاوت ، فالأول هو الحقيق باسم البدعة ، فإنها تؤخذ علة بالنص عليها ، ويليه القسم الثاني ، فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول ، بل قد يكون أبلغ منه في مواضع ـ كما تبين في الأصول ـ غير أنه لا ينزل ها هنا من كل وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله ، ولذلك قالوا : لا تنظر إلى عمل العالم ، ولكن سله بصدقك . وقال الخليل بن أحمد أو غيره :
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
ويليه القسم الثالث، فإن ترك الإنكار ـ مع أن رتبة المنكر رتبة من بعد ذلك منه إقراراً ـ يقتضي أن الفعل غير منكر ، ولكن يتنزل منزلة ما قبله ، لأن الصوارف للقدرة
كثيرة ، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل ، فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة ، مع علمه بكونه مخالفة .
ويليه القسم الرابع ، لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض ، فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلاً ، فلذلك كانت من باب الذرائع ، فهي إذاً لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة ، فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة .
وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات ، والبدعة من خارج ، إلا أنها لازمة لزوماً عادياً ، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث ، والله أعلم .