☰ جدول المحتويات
الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها
لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها ، لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية . وبيان ذلك من جهة النظر ، والنقل الشرعي العام .
أما النظر فمن وجوه :
أحدهما : أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها ، استجلاباً لها ، أو مفاسدها ، استدفاعاً لها . لأنها إما دنيوية أو أخروية .
فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتة لا في ابتداء وضعها أولاً ، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها ، إما في السوابق ، وإما في اللواحق ، لأن وضعها أولاً لم يكن إلا بتعليم الله تعالى .
لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض علم كيف يستجلب مصالح دنياه إذ لم يكن ذلك من معلومة أولاً ، إلا على قول من قال : إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها " وعند ذلك يكون تعليماً غير عقلي . ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة . لكن فرعت العقول من أصولها تفريعاً تتوهم استقلالها به .
ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات ، إذ لم تجر مصالح الفترات على استقامة ، لوجود الفتن والهرج ، وظهور أوجه الفساد .
فلولا أن من الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة ، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين .
وأما المصالح الأخروية ، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها ، وهي العبادات مثلاً . فإن العقل لا يشعر بها على الجملة ، فضلاً عن العلم بها على التفصيل .
ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها .
ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل ، قبل النظر في الشرع ، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه . لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل . والأنبياء أيضاً لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر . وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية .
غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس بعث الله نبياً من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله وهو التعبد لله . فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ، ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها ـ بعض الأصول المعلومة .
فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها أو تلقفوا منها ، فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم ، وجعلوا ذلك عقلياً لا شرعياً ، وليس الأمر كما زعموا .
فالعقل غير مستقل البتة . ولا ينبني على غير أصل ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق . ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي .
ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله .
فعلى الجملة ، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي . فالابتداع مضاد لهذا الأصل ، لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض ، فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل . فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ، ما رام تحصيله من جهتها ، فصارت كالعبث .
هذا إن قلنا : إن الشرائع جاءت لمصالح العباد .
وأما على القول الآخر فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها ، لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور . والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول . وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبة لا ثقة بها ، ويلقي من يدها ما هو على ثقة منه .
والثاني : أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان ، لأن الله تعالى قال فيها : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " .
وفي حديث العرباض بن سارية :
"وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي " الحديث .
وثبت أن النبي ﷺ لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .
فإذا كان كذلك ، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حالة أو مقالة : إن الشريعة لم تتم ، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها ، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه ، لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم .
قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمداً ﷺ خان الرسالة ، لأن الله يقول : " اليوم أكملت لكم دينكم " فما لم يكن يومئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً .
والثالث : أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له ، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة ، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها ، وأن الشر في تعديها ـ إلى غير ذلك ، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم ، وأنه إنما أرسل الرسول ﷺ رحمة للعالمين . فالمبتدع راد لهذا كله ، فإنه يزعم أن ثم طرقاً أخر ، ليس ما حصره الشارع بمحصور ، ولا ما عينه بمتعين ، كأن الشارع يعلم ، ونحن أيضاً نعلم . بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع ، أنه علم ما لم يعلمه الشارع .
وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع ، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين .
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية ، فكتب إليه :
أما بعد ، فإني أوصيك يتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه ﷺ ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته ، فعليك بلزوم السنة ، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق ، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم ، فإنهم على علم وقفوا ، وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى ، وبفضل كانوا فيه أحرى . فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم ، ورغب بنفسه عنهم ، إنهم لهم السابقون ، فقد تكلموا منه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم مقصراً ، وما فوقهم محسر ، لقد قصر عنهم آخرون فغلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم .
ثم ختم الكتاب بحكم مسألته .
فقوله فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها فهو مقصود الاستشهاد .
والرابع : أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع ، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها ، وصار هو المنفرد بذلك ، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون . وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تزل الشرائع ، ولم يبق الخلاف بين الناس . ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام .
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً حيث شرع مع الشارع ، وفتح للاختلاف باباً ، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك .
والخامس : أنه ابتاع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة ، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين . ألا ترى قول الله تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " .
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده ، وهو الحق والهوى ، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك . وقال : " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه " .
فجعل الأمر محصوراً بين أمرين ، اتباع الذكر ، واتباع الهوى ، وقال : " ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " .
وهي مثل ما قبلها . وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه ، فلا أحد أضل منه .
وهذا شأن الميتدع ، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله . وهدى الله هو القرآن . وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين :
أحدهما : أن يكون تابعاً للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال . كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه ، وهو شأن المؤمن التقي .
والآخر : أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول ، كان الأمر والنهي تابعين بالسنة إليه أو غير تابعين وهو المذموم .
والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى .
وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه ، وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين :
أحدهما : الشريعة ، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى ، والآخر : الهوى وهو المذموم ، لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم ، ولم يجعل ثم طريقاً ثالثاً . ومن تتبع الآيات ، ألفى ذلك كذلك .
ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله ، كقوله تعالى : "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين" وقال بعد ذلك : "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم " وقال : "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين " . وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله ، وقال : "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " .
وهو اتباع الهوى في التشريع ، إذ حقيقته افتراء على الله . وقال : "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " أي لا يهديه دون الله شيء . وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى .
وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى ، تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد ، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى ، فهو إذاً اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام .
ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة فلا كلام فيه هنا ، وإن كان أهله قد زلوا أيضاً بالابتداع فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع ، ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل ، أعني في خطئهم في التشريعات والعقليات ، حتى جاءت الرسل فلم يبق لأحد حجة يستقيم إليها "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " ولله الحجة البالغة .
فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر في هذا المقام ، وإن كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله . انتهى .
فصل في النقل الوجه الأول
وأما النقل فمن وجوه :
أحدهما : ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة .
فمن ذلك قول الله تعالى : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله " فهذه الآية أعظم الشواهد . وقد جاء في الحديث تفسيرها ، فصح " من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سألت رسول الله ﷺ عن قوله : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " قال : فإذا رأيتهم فاعرفيهم" .
وصح عنها أنها قالت : " سئل رسول الله ﷺ عن هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى آخر الآية فقال رسول الله ﷺ : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" .
وهذا التفسير مبهم ، ولكنه جاء في رواية عن عائشة أيضاً قالت :" تلا رسول الله ﷺ هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " الآية ـ قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم " وهذا أبين لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن . وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه .
فإذاً الذم إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم ـ وهو أم الكتاب ومعظمه ـ والتمسك بمتشابهه . ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر . فجاء " عن أبي غالب واسمه حزور قال : كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأساً من الخوارج فنصبوا على درج دمشق ، فكنت على ظهر بيت لي فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته ، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال : سبحان الله ! ما يصنع السلطان ببني آدم ! ـ قالها ثلاثاً ـ كلاب جهنم كلاب جهنم شر قتلى تحت ظل السماء ـ ثلاث مرات ـ خير قتلى من قتلوه ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه . ثم التفت إلي فقال : أبا غالب إنك بأرض هم بها كثير فاعاذك الله منهم قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم قال : بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام ، هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت نعم : فقرأ : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " حتى بلغ : " وما يعلم تأويله إلا الله " وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ بهم ثم قرأ : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " إلى قوله " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم . قلت من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي ﷺ ؟ قال : إني إذا لجريء ، بل سمعته من رسول الله ﷺ ، لا مرة ولا مرتين ـ حتى عد سبعاً ـ ثم قال :
إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم قلت : يا أبا أمامة ألا ترى ما فعلوا ؟ قال : " عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " " خرجه إسماعيل القاضي وغيره .
وفي رواية قال : قال " ألا ترى ما فيه السواد الأعظم " وذلك في أول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر . قال : عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وخرجه الترمذي مختصراً وقال فيه : حديث حسن ، وخرجه الطحاوي أيضاً باختلاف في بعض الألفاظ وفيه فقيل له : يا أبا أمامة تقول لهم هذا القول ثم تبكي ! ـ يعني قوله : شر قتلى ـ إلى آخره ـ قال : رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ثم تلا : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " حتى ختمها . ثم قال : هم هؤلاء ثم تلا هذه الآية : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " حتى ختمها . ثم قال : هم هؤلاء .
وذكر الآجري عن طاوس قال : ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن ، فقال يؤمنون بمحكمه ، ويضلون عند متشابهه . وقرأ : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به " .
فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع ، لأن أبا أمامة رضي الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية ، وأنها تتنزل عليهم . وهم من أهل البدع عند العلماء ، إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام ، وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم ، على اختلاف العلماء فيهم .
وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم . وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم ، مع أن لفظ الآية عام وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم .
ألا ترى أن صدر هذه السورة غنما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله ﷺ في اعتقادهم في عيسى عليه السلام ، حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ، بأوجه متشابهة وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير! ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ كالخوارج فهي ظاهرة في العموم .
ثم تلا أبو أمامة الآية الأخرى ، وهي قوله سبحانه : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " إلى قوله : " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " وفسرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى ، فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ، ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم .
ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال : سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " قال : نبذوها ورب الكعبة وراء ظهورهم .
وعن أبي أمامة أيضاً قال : هم الحرورية .
وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : " يوم تبيض وجوه " إلى قوله : " بما كنتم تكفرون " قال مالك : فاي كلام أبين من هذا ؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء . ورواه ابن القاسم وزاد : قال لي مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة . وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد كالذي تقدم للحسن .
وعن قتادة في قوله تعالى : " كالذين تفرقوا واختلفوا " يعني أهل البدع .
وعن ابن عباس في قوله : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال : تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة .
ومن الآيات قوله تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا عليه وهو السنة ، والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع . وليس المراد سبل المعاصي ، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقاً تسلك دائماً على مضاهاة التشريع . وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات .
ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال :
"خط لنا رسول الله ﷺ يوماً خطاً طويلاً ، وخط لنا سليمان خطاً طويلاً ، وخط عن يمينه وعن يساره فقال : هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " ـ يعني الخطوط ـ "فتفرق بكم عن سبيله" ".
وعن عمر بن سلمة الهمداني قال : كنا جلوساً في حلقة ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب . فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان أتى غازياً : ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة . ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ، ثم خط في البطحاء ، خطاً بيده وخط بجنبيه خطوطاً وقال : ترككم نبيكم ﷺ على طرفه وطرفه الآخر في الجنة ، فمن ثبت عليه دخل الجنة ، ومن أخذ في هذه الخطوط هلك .
وفي رواية : يا أبا عبد الرحمن ، ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا رسول الله ﷺ في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ؟ وعليها رجال يدعون من مر بهم : هلم لك ، فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار ، ومن استقام إلى الطريق الأعظم أنتهى به إلى الجنة . ثم تلا ابن مسعود : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " الآية كلها .
وعن مجاهد في قوله : " ولا تتبعوا السبل " قال : البدع والشبهات .
وعن عبد الرحمن بن مهدي : قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال : هي ما لا إسم له غير السنة ، تلا : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " .
قال بكر بن العلاء : يريد ـ إن شاء الله ـ حديث ابن مسعود"أن النبي ﷺ خط له خطاً" ، وذكر الحديث .
فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع لا تحتص ببدعة دون أخرى .
ومن الآيات قول الله تعالى : " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين " فالسبيل القصد هو طريق الحق ، وما سواه جار عن الحق ، أي عادل عنه ، وهي طرق البدع والضلالات ، أعاذنا الله من سلوكها بفضله . وكفى بالجائر أن يحذر منه . فالمساق يدل على التحذير والنهي .
وذكر ابن وضاح قال : سئل عاصم بن بهدلة وقيل له : أبا بكر ، هل رأيت قول الله تعالى : " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين " قال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال :" خط عبد الله خطاً مستقيماً وخط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن شماله ، فقال : خط رسول الله ﷺ هكذا ، فقال للخط المستقيم : هذا سبيل الله وللخطوط التي عن يمينه وشماله : هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه" والسبيل مشتركة قال الله تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " إلى آخرها .
عن التستري : قصد السبيل طريق السنة ، ومنها جائر والتقصير ، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر ، وكلاهما من أوصاف البدع .
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها و منكم جائر . قالوا : يعني هذه الأمة ، فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد .
ومنها قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون" .
هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها ، قالت : " قال رسول الله ﷺ : يا عائشة "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " من هم ؟ قلت : الله وسوله أعلم . قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبةً ، وأنا بريء منهم وهم مني برآء." ؟ .
قال ابن عطية : هذه الآية نعم أهل الأهواء والبدع الشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام . هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد . ويريد ـ والله أعلم ـ بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له ، وسيأتي ذكره بحول الله .
وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة فسألته عن شيء فقال : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت ، قلت : ممن لا يسب السلف ، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحداً بذنب ، فقال عطاء : عرفت فالزم .
وعن الحسن قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوماً يخطبنا ، فقطعوا عليه كلامه ، فتراموا بالبطحاء ، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء ، قال : وسمعنا صوتاً من بعض حجر أزواج النبي ﷺ ، فقيل : هذا صوت أم المؤمنين ، قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برىء ممن فرق دينه واحتزب ، وتلت : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " .
قال القاضي إسماعيل : أحسبه يعني بقوله : أم المؤمنين أم سلمة ، وأن ذلك قد ذكر في يعض الحديث ، وقد كانت عائشة في ذلك الوقت حاجة .
وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة . وعن أبي أمامة هم الخوارج .
قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية ، لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً .
ومنها قوله تعالى : " ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " .
قرىء فارقوا دينهم وفسر عن أبي هريرة أنهم الخوارج . ورواه أبو أمامة مرفوعاً.
وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع . قالوا : روته عائشة رضي الله عنها مرفوعاً إلى النبي ﷺ . وذلك لأن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إسماعيل القاضي وكما تقدم في الآي الأخر .
ومنها قوله تعالى : "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون" .
فعن ابن عباس أن لبسكم شيعاً هو الأهوء المختلفة ، ويكون على هذا قوله : " ويذيق بعضكم بأس بعض " تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا ، كما جرى للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة . وقيل معنى "أو يلبسكم شيعا " ما فيه إلباس من الاختلاف .
وقال مجاهد وأبو العالية : إن الآية لأمة محمد ﷺ . قال أبو العالية : هن أربع ، ظهر اثنتان بعد وفاة النبي ﷺ بخمس وعشرين سنة ، فألبسوا شيعاً وأذيق بعضكم بأس بعض ، وبقيت اثنتان ، فهما ولا بد واقعتان ، الخسف من تحت أرجلكم والمسخ من فوقكم ، وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود .
وفيما نقل عن مجاهد في قول الله : "ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل . "إلا من رحم ربك " قال : فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف .
وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال : لو كانت الأهواء واحداً لقال القائل : لعل الحق فيه . فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق .
وعن عكرمة " ولا يزالون مختلفين " يعني في الأهواء "إلا من رحم ربك " هم أهل السنة .
ونقل أبو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بن الرحمن قال : كنت جالساً عند الحسن ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : "ولا يزالون مختلفين" قال : نعم لا يزالون مختلفين على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم غير مختلف .
وروى ابن وهب ، عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس أن أهل الرحمة لا يختلفون .
ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله .
وفي البخاري عن عمرو عن مصعب قال : سألت أبي عن قوله تعالى : "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا" هم الحرورية ؟ قال : لا : هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداً ﷺ ، وأما النصارى فكذبوا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب . والحرورية "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" وكان شعبه يسميهم الفاسقين .
وفي تفسير سعيد بن منصور ، عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " أهم الحرورية ؟ قال : لا ! أولئك أصحاب الصوامع . ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم : "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " .
وخرج عبد بن حميد في تفسيره هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الآية : "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا" إلى قوله : " يحسنون صنعا " قلت : أهم الحرورية ؟ قال : لا ! هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكفروا بمحمد ﷺ ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحرورية : "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض "
فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله ﷺ ، لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة ، وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه .
والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف .
فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى : "إن الحكم إلا لله" عن قوله : "يحكم به ذوا عدل " وغيرهما .
وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله .
ومنه روى عمرو بن مهاجر قال : بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن غيلان القدري يقول في القدر ، فيعث إليه فحجبه أياماً ، ثم أدخله عليه فقال يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك ؟ قال عمرو بن مهاجر : فأشرت إليه ألا يقول شيئاً . قال فقال : نعم يا أمير المؤمنين : إن الله عز وجل يقول "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا" "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" قال عمر إقرأ إلى آخر السورة : "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما" ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟ قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، وأصم فأسمعتني ، وضالاً فهديتني . فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً وإلا فاصلبه ! قال فأمسك عن الكلام في القدر فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق ، فلما مات عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام تكلم في القدر ، فبعث إليه هشام فقطع يده ، فمر به رجل والذباب على يده ، فقال : يا غيلان! هذا قضاء وقدر . قال : كذبت لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدر . فبعث إليه هشام فصلبه .
والثالث : لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله وهو غاية الفساد في الأرض ، وذلك كثير من أهل البدع شائع ، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام .
وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة كقوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " وقوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" وأشباه ذلك .
وفي الحديث : إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة .
وهذا التفسير في الرواية الأولى لمصعب بن سعد أيضاً فقد وافق أباه على المعنى المذكور .
ثم فسر سعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور : أن ذلك بسبب الزيغ الحاصل فيهم : وذلك قوله تعالى : "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وهو راجع إلى آية أل عمران في قوله : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" . الآية ، فإنه أدخل رضي الله عنه الحرورية في الآيتين بالمعنى ، وهو الزيغ في إحداهما ، والأوصاف المذكورة في الأخرى لأنها فيهم موجودة . فآية الرعد تشمل بلفظها ، لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغةً ، وإن حملناها على الكفار خصوصاً فهي تعطي أيضاً فيهم حكماً من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول . وكذلك آية الصف لأنها خاصة بقوم موسى عليه السلام . ومن هنا كان شبعة يسميهم الفاسقين ـ أعني الحرورية ـ لأن معنى الآية واقع عليهم . وقد جاء فيها : "والله لا يهدي القوم الفاسقين" والزيغ أيضاً كان موجوداً فيهم ، فدخلوا في معنى قوله : "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية ، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ ، وهو الميل عن الحق ابتاعاً للهوى . وإنما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص والله أعلم ، لأنهم أول من ابتدع في دين الله ، فلا يقتضي ذلك تخصيصاً .
وأما المسؤال عنها أولاً ، وهي آية الكهف ، فإن سعداً نفى أن تشمل الحرورية .
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر الأخسرين أعمالاً بالحرورية أيضاً . فروى عبد بن حميد عن ابن الطفيل قال : قام ابن الكواء إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ! من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ؟ قال : منهم أهل حروراء وهو أيضاً منقول في تفسير سفيان الثوري . وفي جامع ابن وهب أنه سأله عن الآية فقال له : ارق إلي أخبرك ـ وكان على المنبر ـ فرقى إليه درجتين ، فتناوله بعصا كانت في يده ، فجعل يضربه بها ، ثم قال له علي : أنت وأصحابك . وخرج عبد بن حميد أيضاً عن محمد بن جبير بن مطعم قال : أخبرني رجل من بني أود أن علياً خطب الناس بالعراق وهو يسمع ، فصاح به ابن الكواء من أقصى المسجد فقال : يا أمير المؤمنين ! من الأخسرين أعمالاً ؟ قال : أنت . فقتل ابن الكواء يوم الخوارج . ونقل بعض أهل التفسير أن ابن الكواء سأله فقال : أنتم أهل حروراء ، وأهل الرياء ، والذين يحبطون الصنيعة بالمنة . فالرواية الأولى تدل على أن أهل حروراء بعض من شملته الآية .
ولما قال سبحانه في وصفهم : "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا" وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء ، دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموماً ، كانوا من أهل الكتاب أولاً ، من حيث قال النبي : "كل بدعة ضلالة" وسيأتي شرح ذلك بعون الله . فقد يجتمع التفسيران في الآية : تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى ، وتفسير علي بأنهم أهل البدعة . لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه ، وهو التأويل بالرأي . فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة ، وأشعر كلام سعد ين أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفاً من أوصاف المبتدعة فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء إما بعموم اللفظ وإما بمعنى الوصف .
وروى ابن وهب "أن النبي ﷺ أتى بكتاب في كتف فقال :
كفى بقوم حمقاً ـ أو قال ضلالاً ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب إلى غير كتابهم فنزلت : "أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " " .
وخرج عبد الحميد عن الحسن قال : قال رسول الله ﷺ :
"من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" إلى آخر الآية " .
وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : "علمت نفس ما قدمت وأخرت" قال : ما قدمت من عمل خيرأو شر ، وما أخرت من سنة يعمل بها من بعده . وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير . فروي عن عبد الله قال : ما قدمت من خير وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها ، فغن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، وما أخرت من سنة سيئة ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً : أخرجه ابن مبارك وغيره .
وجاء عن سفيان بن عيينة وأبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل . واستدلوا بقول الله تعالى : "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين " .
وخرج ابن وهب عن مجاهد في قول الله : "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" يقول : ما قدموا من خير ، وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة .
وخرج أيضاً عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردةً ، أصحاب الأهواء : "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" .
وذكر الآجري عن أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : والذي نفس أبي الجوزاء بيده لأن تمتلىء داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني رجل منهم ، ولقد ، دخلوا في هذه الآية : "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله" إلى قوله : "إن الله عليم بذات الصدور" .
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة ، فلنقتصر على ما ذكرنا ، ففيه ـ إن شاء الله ـ الموعظة لمن اتعظ ، والشفاء لما في الصدور .
فصل الوجه الثاني من النقل
ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله ﷺ ، وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك ـ بحول الله ـ ما هو أقرب إلى الصحة .
فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال :
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لـمسلم :" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام ، لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام . ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية .
وخرج مسلم ، عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته :
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .
وفي رواية قال : " كان رسول الله ﷺ يخطب الناس ، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة" .
وفي رواية للـنسائي "وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة في النار" .
وذكر أن عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبة . وعن ابن مسعود موقوفاً ومرفوعاً : أنه كان يقول :
إنما هما اثنتان ـ الكلام ، والهدى ـ فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، ألا وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، إن كل محدثة بدعة . وفي لفظ غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار كان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس .
وفي رواية أخرى عنه : إنما هما اثنتان ـ الهدى والكلام ـ فأفضل الكلام ـ أو أصدق الكلام ـ كلام الله ، وأحسن الهدى هدى الله بل محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسوا قلوبكم ، ولا يلهينكم الأمل ، فإن كل ما هو آت قريب ، ألا إن بعيداً ما ليس آتياً .
وفي رواية أخرى عنه : أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها ، و " إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين " .
وروى ابن ماجة مرفوعاً عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال : "إياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة" والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود .
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :
"من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" .
وفي الصحيح أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
"من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره . ومثل أجور من أتبعه غير منقوص من أجورهم شيء ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيء" خرجه الترمذي .
وروى الترمذي أيضاً وصححه ، وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال :
"صلى بنا رسول الله ﷺ ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب . فقال قائل : يا رسول الله ؟ كأن هذا موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبداً حبشياً . فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل ضلالة " وروى على وجوه من طرق .
وفي الصحيح "عن حذيفة أنه قال :يا رسول الله ! هل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي قال فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر ؟ قال : نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا . قال نعم هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك" وخرجه البخاري على نحو آخر .
وفي حديث الصحيفة :
" المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً"وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع . والبدع من أقبح الحدث . وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله . وهو وإن كان مختصاً بالمدينة فغيرها أيضاً يدخل في المعنى .
وفي الموطأ من حديث أبي هريرة :
"أن رسول الله ﷺ خرج إلى المقبرة : فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" الحديث ـ إلى أن قال فيه "فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ! ألا هلم ! فيقال : أنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقاً ! فسحقاً! فسحقاً " حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل البدع ، وحمله آخرون على المرتدين عن الاسلام . والذي يدل على الأول ما خرجه خثيمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال : سألت أنس بن مالك فقلت : إن ها هنا قوماً يشهدون علينا بالكفر والشرك ، ويكذبون بالحوض والشفاعة ، فهل سمعت من رسول الله ﷺ في ذلك شيئاً ؟ قال : نعم سمعت رسول الله ﷺ يقول :
"بين العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلاة ، فإذا تركها فقد أشرك . وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال : كعدد نجوم السماء ـ له ميزابان من الجنة ، كلما نضب أمداه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم فلا يطعمون منه قطرة واحدة . من كذب به اليوم لم يصب منه الشراب يومئذ" فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة . فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج ، والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم . مع ما في حديث الموطأ من قول النبي ﷺ : "ألا هلم" لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ، وإلا فلو لم يكونوا من الأمة لم يعرفهم بالعلامة المذكورة .
وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال :
"قام فينا رسول الله ﷺ بالموعظة فقال : إنكم محشورون إلى الله حفاةً عراةً غرلا "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين" قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ـ وإنه يستدعى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول كما قال العبد الصالح : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" .
ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع كحديث الموطأ ، ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي ﷺ .
وفي الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :
"تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" حسن صحيح .
وفي الحديث روايات أخرى سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله . ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع . وفي الصحيح أنه ﷺ قال :
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره .
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
" من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله عز وجل شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى ، وأنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم ﷺ لضللتم " الحديث .
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة ! وفي رواية :
"لو تركتم سنة نبيكم ﷺ لكفرتم" وهو أشد في التحذير .
وفيه أن النبي ﷺ قال :
"إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ـ وفي رواية فيه الهدى ـ من استمسك به وأخذ به كان على الهدى . ومن أخطأه ضل وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة" .
ومما جاء في هذا الباب أيضاً ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :
" سيكون في أمتي دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم ، فإياكم إياهم لا يفتنونكم" .
وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال :
"من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن يتقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً" حديث حسن .
ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها :
" من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الاسلام " .
وعن الحسن أن رسول الله ﷺ قال :
"إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثاً برأيك" .
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
"من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني" .
وخرج الطحاوي أن النبي ﷺ قال :
"ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في دين الله ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل لحرم الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله" .
وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : "ستة لعنهم الله ولعنتهم" وفيه : "والراغب عن سنتي إلى بدع" .
وفي الطحاوي أن رسول الله ﷺ قال :
"إن لكل عابد شرةً ولكل شرة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ـ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" .
وفي معجم البغوي عن مجاهد قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ قال : " ذكروا عند رسول الله ﷺ مولاة لبني عبد المطلب فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار فقال رسول الله ﷺ :
لكني أنام وأصلي ، وأصوم وأفطر ، فمن اقتدى بي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني ، إن لكل عامل شرةً ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى" .
وعن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي ﷺ أنه قال :
"إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي ، وإمام ضلالة وممثل من المسلمين" .
وفي منتقى حديث خثيمة ، عن سليمان ، عن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال :
"سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فيحدثون البدعة ، قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد الله كيف تصنع ؟ لا طاعة لمن عصى الله" .
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ :
"من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقة دخل الجنة فقال رجل : يا رسول الله إن هذا اليوم في الناس لكثير ، قال :وسيكون في قرون بعدي" حديث غريب .
وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال :
"كيف بكم وبزمان ـ أو قال : يوشك أن يأتي زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، اختلفوا فصارت هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ قالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون بما تعرفون ، وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم ـ وتذرون أمر عامتكم" .
وخرج ابن وهب مرسلاً "أن رسول الله ﷺ قال :إياكم والشعاب قالوا : وما الشعاب يا رسول الله ؟ قال الأهواء" .
وخرج أيضاً :
"إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها" . وفي كتاب السنة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل قال : قال : قال رسول الله ﷺ :
"إذا حدث في أمتي البدع وشتم أصحابي ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" .
قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم ؟ قال : إظهار السنة . والأحاديث كثيرة .
وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنما أتى بها عملاً بما أصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب . وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح ، فما زيد من غيره فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله .
فصل الوجه الثالث من النقل
ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع وأهلها وهو كثير .
فما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : أيها الناس ! قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً . وصفق بإحدى يديه على الأخرى . ثم قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ـ أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله . فقد رجم رسول الله ﷺ ورجمنا ـ إلى آخر الحديث .
وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً يعيداً ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً .
وروى عنه من طريق آخر أنه كان يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول : يا معشر القراء ، اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقاً بعيداً ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً . وفي رواية ابن المبارك : فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً . الحديث .
وعنه أيضاً : أخوف ما أخاف على الناس اثنتان : أن يؤثروا ما يرون على ما يعملون وأن يضلوا وهم لا يشعرون . قال سفيان : وهو صاحب البدعة .
وعنه أيضاً : أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً . قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة .
وعنه أنه قال : أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإسلام عروةً عروةً وليطئن نساءكم وهن حيض ، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، وحذو النعل بالنعل ، لا تخطئون طريقهم ولا تخطىء بكم ، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل" لا تصلون إلا ثلاثاً .
وتقول الأخرى : إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة ، ما فيها كافر ولا منافق . حق على الله أن يحشرهما مع الدجال .
وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبي رافع عن النبي ﷺ أنه قال :
"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة .
فلذلك يقول القائل : لقد ضل من كان قبلنا إلى آخره .
وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح .
وخرج أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم .
وخرج عنه ابن وهب أيضاً انه قال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه بذهاب أهله . عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده . وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق .
وعنه أيضاً : ليس عام إلا والذي بعده شر منه . لا أقول : عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم .
وقال أيضاً : كيف أنتم إذا ألبستم فتنةً يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يحدثونها سنة . وإذا غيرت ، قيل : هذا منكر .
وقال أيضاً : أيها الناس ! لا تبتدعوا ولا تنطوا ولا تعمقوا ، وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون .
وعنه أيضاً : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة .
وقد روي معناه مرفوعاً إلى النبي ﷺ :
"عمل قليل في سنة ، خير من عمل كثير في بدعة" .
وعنه أيضاً خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ، ومصور ، ورجل قتل نبياً أو قتله نبي ".
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لست تاركاً شيئاً كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
خرج ابن المبارك عن عمر بن الخطاب : أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام ، فقال عمر لمولى له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه ، فأعلمني . فلما حضر عشاؤه أعلمه ، فأتاه عمر فسلم عليه ، فاستأذن فأذن له فدخل ، فقرب عشاؤه فجاء بثريد لحم فأكل عمر معه منها ، ثم قرب شواء فبسط يزيد يده ، وكف عمر يده ثم قال : والله يا يزيد بن أبي سفيان ، أطعام بعد طعام ؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم .
وعن ابن عمر : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر .
وخرج الآجري عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل القرآن ، فقال : اللهم أمكني منه ، قال : فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين "والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا" فقال عمر : أنت ، هو ؟ فقام غليه محسراً عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل : إن صبيغاً طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه .
وخرج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب أنه قال : عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبداً . وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها ، فإن اقتصاداً في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة ، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً واقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم .
وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن .
وعنه أنه قال : عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع .
وخرج ابن وهب عنه أيضاً قال : من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله ﷺ لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل .
وخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال يوماً : إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ، ويفتح فيه القرآن ، حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل ، والمرأة ، والصغير، والكبير ، والعبد ، والحر، فيوشك قائل أن يقول ، ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة ، وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق .
قال الراوي : قلت لمعاذ : وما يدريني يرحمك الله إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً .
وفي رواية مكان المشتهرات المشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال : ما أراد بهذه الكلمة ؟ ويريد ـ والله أعلم ـ ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس : ما هذه ؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله .
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال : صاحب البدعة لا يزداد اجتهاداً ، صياماً وصلاةً ، إلا ازداد من الله بعداً .
وخرج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال : لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها ، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها .
وعن الفضيل بن عياض : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين .
وعن الحسن : لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك ، أو تخالفه فيمرض قلبك .
وعنه أيضاً في قول الله تعالى : "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" قال : كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم ، فأما اليهود فرفضوه ، وأما النصارى فشق عليهم فزادوا فيه عشراً وآخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة ، فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث قال : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة .
وعن أبي قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ، قال أيوب : وكان ـ والله ـ من الفقهاء ذوي الألباب .
وعنه أيضاً : أنه كان يقول : إن أهل الأهواء أهل ضلالة ، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار .
وعن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك .
وعن أيوب السخياني أنه كان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً .
وعن أبي قلابة : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف .
وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الإسم واجتمعوا على السيف .
وخرج ابن وهب عن سفيان قال : كان رجل فقيه يقول : ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلاً واحداً .
وخرج عنه أنه كان يقول : لا يستقيم قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا موافقاً للسنة .
وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء .
وعن إبراهيم : ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم .
وعن هشام بن حسان قال : لا يقبل الله من صاحب بدعة صياماً ولا صلاةً ولا حجاً ولا جهاداً ولا عمرةً ولا صدقةً ولا عتقاً ولا صرفاً ولا عدلاً ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل ، فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق .
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق ، فخذ في طريق آخر .
وعن بعض السلف : من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه .
وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لابنه : يا عيسى ، أصلح قلبك وأقلل مالك ، وكان يقول : والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات .
قال ابن وضاح : يعني أهل البدع .
وقال رجال لـ أبي بكر بن عياش : يا أبا بكر ، من السني ؟ قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها .
وقال يونس بن عبيد : إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب ، وأغرب منه صاحبها .
وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال : كان يقال يأبى لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها .
وعن أبي العالية : تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه ، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ، ولا تحرفوا يميناً ولا شمالاً وعليكم بسنة نبيكم ، وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا . قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ، وإياكم وهذه الأهواء ، التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء . فحدث الحسن بذلك فقال : رحمه الله ، صدق ونصح .
خرجه ابن وضاح وغيره .
وكان مالك كثيراً ما ينشد :
وخي رأمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
وعن مقاتل بن حيان قال : أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد ﷺ ، أنهم يذكرون النبي ﷺ وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك ، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ، ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق ! فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء ، فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غوراً وأشد اضطراباً ، وأكثر صواعق وأبعد مذهباً من البحر وما فيه ، ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة .
وعن ابن المبارك قال : أعلم أي أخي ! إن الموت كرامةً لكل مسلم لقي الله على السنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان ، وقلة الأعوان ، وظهور البدع . وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع .
وكان إبراهيم التيمي يقول : اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ، ومن اتباع الهوى ، ومن سبل الضلالة ، ومن شبهات الأمور ، ومن الزيغ والخصومات .
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يكتب في كتبه : إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة .
ولما بايعه الناس صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد كتابكم كتاب ، ولا بعد سنتكم سنة ، ولا بعد أمتكم أمة ، ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة . ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ، ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ، ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملاً . ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ثم نزل .
وفيه : قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :
وأحييت في الإسلام علماً وسنةً ولم تبتدع حكماً من الحكم أسحما
ففي كل يوم كنت تهدم بدعةً وتبني لنا من سنة ما تهدما
ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكاً جداً ، وهو أن قال : سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوةً على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه . من عمل بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، واصلاه جهنم وساءت مصيراً.
وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة : منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها ، قطع لمادة الابتداع جملة . وقوله : من عمل بها مهتد ـ إلى آخر الكلام ـ مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك ، وهو قول الله سبحانه وتعالى : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" . ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي ﷺ فهو سنة لا بدعة فيه البتة ، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه ﷺ نص عليه على الخصوص . فقد جاء ما يدل عليه في الجملة ، وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه : "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور" فقرن عليه السلام ـ كما ترى ـ سنة الخلفاء الراشدين بسنته وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم ، وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء . لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها ، وإما متبعون لما فهموا من سنته ﷺ في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله ، لا زائد على ذلك . وسيأتي بيانه بحول الله .
على أن أبا عبد الله الحاكم نقل عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن المعنى فيه أن يعلم أن النبي ﷺ مات وهو على تلك السنة ، وأنه لا يحتاج مع قول النبي ﷺ إلى قول أحد وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه ، فلا زائد إذاً على ما ثبت في السنة النبوية . إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى ، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده، لعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي ﷺ من غير أن يكون له ناسخ ، لأنهم كانوا يأخذون بالأحداث فالأحداث من أمره . وعلى هذا المعنى ، بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ، ورجوعه إليه عند تعارض السنن .
ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، لقوله : الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله. وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع ، فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولاً حسنة وفوائد مهمة .
ومما يعزى لـأبي إلياس الألباني : ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة ، اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، ومن ورع لا يتسع . ولآثار هنا كثيرة .
فصل الوجه الرابع من النقل
ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس . وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية ، لأن كثيراً من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع ،وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم ، ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفراداً به عن أهل البدع ، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله ﷺ لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ لا فضيلة فوقها ، ثم سمي من يليهم التابعين ، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين . ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد . قال : ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهاداً وعباداً فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف . هذا معنى كلامه ، فقد عد هذا اللقب مخصوصاً باتباع السنة ومباينة البدعة . وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم .
وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم نموذجاً يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها ؟ وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ، حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد ﷺ . وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ، ويرون اختراع العبادات طريقاً للتعبد صحيحاً ، وطربقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله .
فقد قال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة .
وقيل لـإبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه "ادعوني أستجب لكم" . ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا ! فقال : ماتت قلوبكم في عشرة أشياء أولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه . والثاني : قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به ، والثالث : ادعيتم حب رسول الله ﷺ وتركتم سنته . والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه . والخامس : قلتم نحب الجنة وما تعملون لها إلى آخر الحكاية .
وقال ذو النون المصري : من علامة حب الله متابعة حبيب الله ﷺ في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته .
وقال : إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء ، الأول : ضعف النية بعمل الآخرة . والثاني : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم . والثالث : غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل . والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله . والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم ﷺ ، والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم .
وقال لرجل أوصاه : ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك ، واتقاء ما نهاك عنه ، فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك ، وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد ، كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ، وإنما للعبد أن يراعي أبداً ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده ، وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على أحكام ما ينغبي، فإن الذي قطع العباد عن ربهم ، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق ، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة ، تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وايديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم . ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالاً تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته ، وفوائد كرامته ، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب ، وتهانوا بالقليل مما هم فيه من العيوب ، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل .
وقال بشر الحافي : رأيت النبي ﷺ في المنام فقال لي : يا بشر ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟قلت : لا يا رسول الله ، قال : لاتباعك سنتي ، وحرمتك للصالحين ، ونصيحتك لإخوانك ، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار.
وقال يحيى بن معاذ الرازي : اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول ، فلكل واحد منها ضد ، فمن سقط عنه وقع في ضده : التوحيد وضده الشرك ، والسنة وضدها البدعة ، والطاعة وضدها المعصية .
وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد : كنت ماراً في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة ، فهتف بي هاتف : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر .
وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني : من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه ، وموافقة السنة في أفعاله ، وصحبته لأهل الصلاح ، وحسن أخلاقه مع الإخوان ، وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ، ومراعاته لأوقاته .
وسئل كيف الطريق إلى الله ؟ فقال : الطرق إلى الله كثيرة ، وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع قولاً وفعلاً وعزماً وعقداً ونيةً ، لأن الله يقول : "وإن تطيعوه تهتدوا" فقيل له : كيف الطريق إلى السنة ؟ فقال : مجانية البدع ، واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام ، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ، ولزوم طريقة الاقتداء وبذلك أمر النبي ﷺ بقوله تعالى : "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم" .
وقال أبو بكر الترمذي : لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة ، وإنما أخذوا ذلك باتباع السنة ومجانية البدعة ، فإن محمد ﷺ كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى .
وقال أبو الحسن الوراق : لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه ﷺ في شرائعه . ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال : الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنة في الشرع . وقال : علامة محبة الله متابعة حبيبه ﷺ .
ومثله عن إبراهيم القمار قال : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه .
وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صواباً ، ومن صوابها إلا ما كان خالصاً ، ومن خالصها إلا ما وافق السنة .
وإبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص ، وكان شديداً على أهل البدع متمسكاً بالكتاب والسنة ، لازماً لطريق المشايخ والأئمة ، حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات .
وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات .
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد والثوري وغيرهما : كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم ، فجاء النبي ﷺ فردهم إلى الشريعة والاتباع ، فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه .
وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ، ولقي الجنيد وغيره : ما الذي لا بد للعبد منه ؟ فقال : ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة .
وقال أبو عثمان المغربي التونسي : هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى : "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه" .
وقال أبو يزيد البسطامي : عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد من العلم ومتابعته ، ولولا اختلاف العلماء لشقيت . واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد ، ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غيرها
وروي عنه أنه قال : قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية ـ كان رجلاً مقصوداً مشهوراً بالزهد ـ قال الرواي : فمضينا ، فلما خرج من نبيه ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة ، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه ، وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله ﷺ فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه ؟ .
وهذا أصل أصله أبو يزيد رحمه الله للقوم : وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلاً منه ، فما ظنك به إذا كان عاملاً بالبدعة كفاحاً ؟ .
وقال : هممت أن أسأل الله أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء ثم قلت : كيف يجوز أن أسأل الله هذا ؟ ولم يسأله رسول الله ﷺ فلم أسأله ؟ ثم إن الله سبحانه كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أم حائط .
وقال : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود وآداب الشريعة .
وقال سهل التستري : كل فعل يفعله العبد بالاقتداء : طاعةً كان أو معصية ، فهو عيش النفس ـ يعني باتباع الهوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعني لأنه لا هوى له فيه ـ واتباع الهوى هو المذموم ، ومقصود القوم تركه البتة .
وقال : أصولنا سبعة أشياء ، التمسك بكتاب الله ، والاقتداء بسنة رسول الله ﷺ ، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق . وقال : قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث : ملازمة التوبة ، ومتابعة السنة ، وترك أذى الخلق . وسئل عن الفتوة فقال : اتباع السنة .
وقال أبو سليمان الداراني : ربما تقع في قلبي النكتة من نكتة القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين ـ الكتاب والسنة .
وقال أحمد بن أبي الحواري : من عمل عملاً بلا اتباع سنة فباطل عمله .
وقال أبو حفص الحداد : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال . وسئل عن البدعة فقال : التعدي في الأحكام ، والتهاون في السنن ، واتباع الآراء والأهواء ، وترك الاتباع والاقتداء قال : وما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أمر صحيح .
وسئل حمدون القصار : متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال : إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في عمله ، أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها .
وقال : من نظر في سير السلف عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال .
وهذه ـ والله أعلم ـ إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم فإنهم أهل السنة .
وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى وإليه يرجعون فيها . قال : ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة ، إلا أن يحال بي دونها .
وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول ﷺ .
وقال : مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة .
وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وقال : هذا مشيد بحديث رسول الله ﷺ .
وقال أبو عثمان الجبري : الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة ، والصحبة مع رسول الله ﷺ باتباع سنته ، ولزوم ظاهر العلم ، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة . إلى آخر ما قال .
ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصاً على نفسه ، ففتح أبو عثمان عينيه وقال ، خلاف السنة يا بني في
الظاهر ، علامة رياء في الباطن .
وقال : من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة ، قال الله تعالى : "وإن تطيعوه تهتدوا" .
قال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه .
وقال محمد بن الفضل البلخي : ذهاب الإسلام من أربعة : لا يعملون بما يعلمون ، ويعملون بما لا يعلمون ، ولا يتعلمون ، ويمنعون الناس من التعلم .
هذا ما قال ، وهو وصف صوفيتنا اليوم ، عياذاً بالله .
وقال : أعرفهم بالله أشدهم مجاهدةً في أوامره ، وأتبعهم لسنة نبيه .
وقال شاة الكرماني : من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشبهات ، وعمر باطنه بدوام المراقبة ، وظاهره باتباع السنة ، وعود نفسه أكل الحلال ، لم تخطىء له فراسه .
وقال أبو سعيد الحراز : كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل .
وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد : من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب ﷺ في أوامره وأفعاله وأخلاقه .
وقال أيضاً : أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز وجل وغفلته عن أوامره ، وغفلته عن آداب معاملته .
وقال إبراهيم الخواص : ليس العالم بكثرة الرواية ، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم .
وسئل عن العافية فقال : العافية أربعة أشياء ، دين بلا بدعة ، وعمل بلا آفة ، وقلب بلا شغل ، ونفس بلا شهوة .
وقال : الصبر ، الثبات على أحكام الكتاب والسنة .
وقال بنان الحمال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية فقال ، : الثقة بالمضمون والقيام بالأوامر ، ومراعاة السر ، والتخلي من الكونين .
وقال أبو حمزة البغدادي : من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول ﷺ في أحواله وأفعاله وأقواله .
وقال أبو إسحاق الرقاشي : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ . ودليله قوله تعالى : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" .
وقال ممشاذ الدينوري : آداب المريد في التزام حرمات المشايخ ، وحرمة الإخوان ، والخروج عن الأسباب ، وحفظ آداب الشرع على نفسه .
وسئل أبو علي الروزباري عمن يسمع الملاهي ويقول : هي لي حلال ، لأني قد وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال . فقال : نعم قد وصل ولكن إلى سقر .
وقال أبو محمد عبد الله بن منازل : لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ، ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلي بالبدع .
وقال أبو يعقوب النهرجوري : أفضل الأحوال ما قارن العلم .
وقال أبو عمرو بن نجيد : كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه .
وقال بندار بن الحسين : صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق .
وقال أبو بكر الطمستاني : الطريق واضح ، والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا ، وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم ، فمن صحب منا الكتاب والسنة ، وتغرب عن نفسه والخلق ، وهاجر بقلبه إلى الله ،
فهو الصادق المصيب .
وقال أبو القاسم النصراباذي : أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة ـ وترك البدع والأهواء ، وتعظيم حرمات المشايخ ، ورؤية أعذار الخلق . والمداومة على الأوراد ، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات .
وكلامهم في هذا الباب يطول . وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخاً ، جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال ـ والسلوك عليه تيه ، واستعماله رمي في عماية ، وأنه مناف لطلب النجاة ، وصاحبه غير محفوظ ، وموكول إلى نفسه ، ومطرود عن نيل الحكمة . وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجموعون على تعظيم الشريعة ، مقيمون على متابعة السنة ، غير مخلين بشيء من آدابها ، أبعد الناس عن البدع وأهلها . ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرق من الفرق الضالة ، ولا من يميل إلى خلاف السنة . وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون وممن يؤخذ عنه الدين أصولاً وفروعاً ومن لم يكن كذلك ، فلا بد من أن يكون فقهياً في دينه بمقدار كفايته .
وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية . فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم ، بل يأتي ببدع محدثات ، وأهواء متبعات ، وينسبها إليهم ، تأويلاً عليهم . من قول محتمل ، أو فعل من قضايا الأحوال ، أو استمساكاً بمصلحة شهد الشرع بإلغائها ، أو ما أشبه ذلك . فكثيراً ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم ، يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعاً ، ويحتج بحكايات هي قضايا أحوال ، إن صحت لم يكن فيها حجة ، لوجوه عدة ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح ، والاتباع الصحيح ، شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه بها .
ولما كان أهل التصرف في طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم في علومهم ، أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعي السنة وذم البدعة في طريقتهم حتى يكون دليلاً لنا من جهتهم ، على أهل البدع عموماً ، وعلى المدعين في طريقهم خصوصاً ، وبالله التوفيق .
فصل الوجه الخامس من النقل
ما جاء منه في ذم الرأي المذموم ، وهو المبني على غير أسس ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة ، لكنه وجه تشريعي فصار نوعاً من الابتداع ، بل هو الجنس فيها ، فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ، ولذلك وصف بوصف الضلال . ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
"إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعاً . ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" .
فإذا كذلك ، فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة .
وخرج ابن المبارك وغيره ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله ﷺ : "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ، ويحلون به ما حرم" .
قال ابن عبد البر : هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالتخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : يحلون الحرام ويحرمون الحلال ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه . فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغيرعلم ، وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة ، فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه .
وخرج ابن المبارك حديثاً ، قال : إن من أشراط الساعة ثلاثاً ، وإحداهن : أن يلتمس العلم عند الأصاغر ، قيل لابن المبارك : من الأصاغر ؟ قال : الذين يقولون برأيهم . فأما صغير يروي عن كبير ، فليس بصغير .
وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم . قال سحنون : يعني البدع .
وفي رواية : إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا .
وفي رواية لـابن وهب : أن أصحاب الرأي أعداء السنة ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياكم .
قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنةً من رسول الله ﷺ ، لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قراؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم .
وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال : السنة ما سنه الله ورسوله ، لا تجعلوا حظ الرأي سنةً للأمة .
وخرج أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيماً حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل .
وعن الشعبي : إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس .
وعن الحسن : إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا وأضلوا .
وعن دراج بن السهم بن أسمح قال : يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحماً ، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضاً ، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن .
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار . فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن ، لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ ، بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفياً للظاهر بالمحتملات ، ونفي عذاب القبر ، ونفي الميزان والصراط . وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض ـ إلى أشياء يطول ذكرها ـ وهي مذكورة في كتب الكلام .
وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع ، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي ، وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر . إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعاً دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، كانت من الأصول أو الفروع ، كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج . وكأن القائل بالتخصيص ـ والله أعلم ـ لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثال مما تتضمنه الاية ، كالمثال المذكور فإنه موافق لما كان مشتهراً في ذلك الزمان ، فهو أولى ما يمثل به ويبقى ما عداه مسكوتاً عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به . وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة . ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران ؟ ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ـ إنما يحملون على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغةً . وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة . ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع .
وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، ورد الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياساً ، دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون ، بالرأي المضارع للظن ، قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياءً ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيراً من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل .
وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي ، وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيع منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه . ألا ترى إلى قوله عله السلام :
"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة" ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز . وبحسب عظم المفسدة في الممنوع ، يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته .
وما تقدم من الأدلة يبين ذلك عظم النفسدة في الابتداع فالحرم حول حماه يتسع جداً ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جارياً على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثاً عن النبي ﷺ أنه قال :
"لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا" وصح نهيه عليه الصلام عن كثرة السؤال . وقال :
"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وعفا أشياء رحمةً لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها" . وأحال بها جماعة على الأمراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء .
وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم ، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان . ثم أجاب .
وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : ناولنيها فناوله الصحيفة فخرقها .
وسئل القاسم بن محمد عن شيء فأجاب ، فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به .
وقال مالك بن أنس : قبض رسول الله ﷺ وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله ﷺ ولا نتبع الرأي ، فإنه متى أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك ، فأتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم .
ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيراً ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : "إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين" ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم م تعمق فيه ، فقد كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به في الأحكام ، فحكي عنه في ذلك أشياء من أخفها قوله : الاستحسان تسعة أعشار العلم ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة .
والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد . فهذه كلها تشديدات في الرأي وإن كان جارياً على الأصول ، حذراً من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل .
ولابن عبد البر ـ هنا ـ كلام كثير كرهنا الإتيان به .
والحاصل من جيمع ما تقدم أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه ، وما كان منه ذريعة إليه وإن كان في أصله محموداً ، وذلك راجع إلى أصل شرعي ، فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم ، والثاني خارج عنه ولا يكون بدعةً أبداً .
فصل الوجه السادس من النقل
يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة ، والمعاني المذمومة ، وأنواع الشؤم ، وهو كالشرح لما تقدم أولاً ، وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة ، فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال .
فاعملوا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاةولا صيام ولا صدقة ولا غير ها من القربات . ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه ، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام ، فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ، ويزداد من الله بعبادته بعداً ؟ ! وهي مظنة إلقاء العدواة والبغضاء ، ومانعة من الشفاعة المحمدية ، ورافعة للسنن التي تقابلها ، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها ، وليس له من توبة ، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ، ويبعد عن حوض رسول الله ﷺ ، ويخاف عليه أن يكون معدوداً في الكفار الخارجين عن الملة ، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ، ويسود وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم ، وقد تبرأ منه رسول الله ﷺ ، وتبرأ منه المسلمون ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة .
فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل ، فقد روي عن الأوزاعي أنه قال : كان بعض أهل العلم يقول : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاةً ولا صياماً ولا صدقةً ولا جهاداً ولا حجاً ولا عمرةً ولا صرفاً ولا عدلاً .
وفيما كتب به أسد بن موسى : وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب ، فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الإسلام . وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى ، ووقعت اللعنة من رسول الله ﷺ على أهل البدع ، وإن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ، ولا فريضةً ولا تطوعاً ، وكلما ازدادوا اجتهاداً ـ صوماً وصلاةً ـ ازدادوا من الله بعداً . فارفض مجالستهم وأذلهم وأبعدهم ، كما أبعدهم وأذلهم رسول الله ﷺ وأئمة الهدى بعده .
وكان أيوب السخيتاني يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً .
وقال هشام بن حسان : لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاةً ولا صياماً ولا زكاةً ولا حجاً ولا جهاداً ولا عمرةً ولا صدقةً ولا عتقاً ولا صرفاً ولا عدلاً .
وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال : من كان يزعم أن مع الله قاضياً أو رازقاً أو يملك لنفسه ضراً أو نفعاً أو موتاً أو حياةً أو نشوراً ، لقي الله فأدحض حجته ، وأخرس لسانه ، وجعل صلاته وصيامه هباءً منثوراً ، وقطع به الأسباب ، وكبه في النار على وجهه .
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها . فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه .
أما أولاً : فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد بن عمر :
إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم براء مني ، فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم .
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه :
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم" . الحديث .
وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع بخاف عليه مثل من ذكره .
وأما ثانياً : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل ، إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها ، وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه .
فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة .
الأول : أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت ، فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا . ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفاً ، ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة ، فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ، فنشرها فإذا فيها ـ أسنان الإبل ، وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا .من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة . وهذا شديد جداً على أهل الإحداث في الدين .
الثاني : أن تكون بدعته أصلاً يتفرع عليه سائر الأعمال ، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق ، فإن عامة التكليف مبني عليه ، لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله . وما تفرع منهما راجع إليهما . فإن كان وارداً من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد ، بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله ﷺ متواتراً ، وإن كان وارداً من الكتاب فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه ، فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء ، كما في الصحيح من قوله عليه السلام :
"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل ، فإن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى .
ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد ، فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه ، بناءً منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره .
وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي ﷺ أنه قال :
"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه !" .
وفي رواية : " ألا! هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكىء على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ( قال ) فما وجدنا فيه حلالاً حللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" حديث حسن .
وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنة رسول الله ﷺ في التحليل والتحريم ككتاب الله ، فمن ترك ذلك فقد بنى أعماله على رأيه على كتاب الله ولا على سنة رسول الله ﷺ .
ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف ، إذ للعملاء في تكفير أهل البدع قولان . وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، ونحو الظواهر المتقدمة .
الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفاً ، وذلك يبطل عليه جميع عمله . بيان ذلك أمثلة :
منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع ، وإنما يأتي الشرع كاشفاً لما اقتضاه العقل ، فما ليت شعري هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم ؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكماً متبعاً ، وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة ، فكل ما عمل هذا العامل مبنياً على ما اقتضاه عقله ، وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع ، فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين ، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع ، وكل بدعة ضلالة .
ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادةً أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد ، فلا يكون لقوله تعالى : "اليوم أكملت لكم دينكم" معنى يعتبر به عندهم ، ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها ، وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق ، وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام ، والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة . وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات ، ولذلك تجد كثيراً من المعتزين بهم ، والمائلين إلى جهتهم ، يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ، ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم ، فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح ، وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم ، إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم ، وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي ، وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال ، وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة ، لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم ، فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل ، والعياذ بالله ! .
وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضاً ، وعليه يدل الحديث المتقدم : "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" والجميع من قوله : "كل بدعة ضلالة" أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم ، وهو معنى عدم القبول ، وفاق قول الله : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ، وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ، ولا على الصيام دون الزكاة ، ولا على الزكاة دون الحج ، ولا على الحج دون الجهاد ، إلى غير ذلك من الأعمال ، لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع ، وهو الهوى والجهل بشريعة الله ، كما سيأتي إن شاء الله .
وفي المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ، ثم قال : قوم أرادوا وجهاً من الخير فلم يصيبوه فقيل له : يا أبا محمد ! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال : ليس في خلاف السنة رجاء ثواب .
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ، ومعناه ظاهر جداً ، فإن الله تعالى بعث إلينا محمداً ﷺ رحمةً للعالمين حسبما أخبر في كتابه ، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً ، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً على غير كمال ، ولا من مصالحنا الأخروية قليلاً ولا كثيراً ، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ، ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه ، فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم ، حتى بعث الله نبيه ﷺ لزوال الريب والالتباس ، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس ، كما قال الله تعالى : "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين" إلى قوله : "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" وقوله : "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" ولم يكن حاكماً بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم ، وتجتمع به كلمتهم ، وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا ، وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ، ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق ، فانخفضت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال ، من طرق يعرف مآخذها العلماء . وذلك ، القرآن المنزل على النبي ﷺ قولاً وعملاً وإقراراً ، ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم ، فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة ، والعطايا الجزيلة ، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً ، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه ، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة . قال الله تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" بعد قوله : "اتقوا الله حق تقاته" فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً ، وأن ما سوى ذلك تفرقة ، لقوله : "ولا تفرقوا" والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة ، لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام .
روى عبد بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة .
وعن قتادة : حبل الله المتين ، هذا القرآن وسنته ، وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير ، والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله ، إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى : "واعتصموا بالله هو مولاكم" .
وأما أن الماشي إليه والموقر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله .
وروي أيضاً مرفوعاً :
"من أتى صاحب بدعة ليوقره ، فقد أعان على هدم الإسلام" .
وعن هشام بن عروة قال :
قال رسول الله ﷺ :"من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام" .
ويجامعها في المعنى ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام : "من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" الحديث .
فإن الإيواء يجامع التوقير ، ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته ، وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو اشد من هذا ، كالضرب والقتل ، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام ، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه ، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه .
وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :
إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير ، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس ، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره ، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم .
والثانية : أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء .
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن ، وهو هدم الإسلام بعينه .
وعلى ذلك دل حديث معاذ : فيوشك قائل أن يقول : ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلالة فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحييت البدع ، وإذا ماتت انهدم الإسلام .
وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار ، لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس ، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين .
وأيضاً فمن السنة الثابتة ترك البدع ، فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة .
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ! ما نرى بينهما إلا قليلاً ، قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة . وله آخر قد تقدم .
وعن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله بها عنهم سنته .
وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة .
وعن بعض السلف يرفعه :
"لا يحدث رجل في الإسلام بدعةً إلا ترك من السنة ما هو خير منها" .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعةً وأماتوا فيه سنةً ، حتى تحيا البدع وتموت السنن .
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة ، فلقوله عليه الصلاة والسلام :
"من أحدث حدثاً آو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" .
وعد من الأحاديث ، والاستنان بسنة سوء لم تكن .
وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه ، وقد شهد أن بعثه النبي ﷺ حق لا شك فيها ، وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي ، وذلك قول الله تعالى : "كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق " إلى قوله : "أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" إلى آخرها .
واشترك أيضاً مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه . وذلك قوله تعالى : "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" إلى آخرها .
فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين ، وذلك مضادة الشارع فيما شرع ، لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع ، وبين الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان ، فضادها الكافر بأن جحدها جحداً ، وضادها كاتمها بنفس الكتمان ، لأن الشارع يبين ويظهر ، وهذا يكتم ويخفي ، وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين وإخفاء ما أظهر ، لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات ، من أجل اتباع المتشابهات ، لأن الواضحات ، تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات ، فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضح ، حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين .
قال أبو مصعب صاحب مالك : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ، وكان قد صلى خلف الإمام ، فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه . فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه ، وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي ﷺ :
"من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟" فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي ﷺ ولا في غيره .
وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن خوفاً من تلك اللعنة . فما ظنك بما سوى وضع الثوب ؟
وتقدم حديث الطحاوي : ستة ألعنهم . لعنهم الله فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة والسلام أخذاً بالبدعة .
وأما أنه يزداد من الله بعداً . فلما روي عن الحسن أنه قال : صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهاداً ، صياماً وصلاةً ، إلا ازداد من الله بعداً .
وعن أيوب السختياني قال : ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً .
فصل:الوجه السادس من النقل
ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :
"يخرج من ضئضىء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" فبين أولاً اجتهادهم ثم بين آخراً بعدهم من الله تعالى .
وهو بين أيضاً من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم ، فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه ، والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة ، وفي فروع الأعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة .
وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله إلا العمل بما شرع ، وعلى الوجه الذي شرع ـ وهو تاركه ، وأن البدع تحبط الأعمال ـ وهو ينتحلها .
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام , فلأنها تقتضي التفرق شيعاً .
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" وقوله : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ، وقوله : "ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون" ، وقوله : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى .
وقد بين عليه الصلاة والسلام :
"أن الفساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين" هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع .
وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح ، ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضاً ، حسبما بينه جميع أهل الأخبار .
ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها ، كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم .
وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حدث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها ؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنة .
وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين ؟ فقال : ما تصنع بسمرة ! قبح الله سمرة اهـ . بل قبح الله عمرو بن عبيد ، وسئل يوماً عم شيء فأجاب فيه .
قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا . قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ، ويونس ، وأبن عون ، والتميمي . قال أولئك أنجاس أرجاس ، أموات غير أحياء .
فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق . "ويأبى الله إلا أن يتم نوره" .
وأصل هذا الفساد من قبل الخوراج فهم أول من لعن السلف الصالح ، وكفر الصحابة رضي الله عن الصحابة ، ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء .
وأيضاً فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم يالقتل فما دونه ، وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم ، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء . لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً . كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة ؟
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد ﷺ ، فلما روي أنه عليه السلام قال :
"حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة" ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال :
" أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وأنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ، فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " الحديث ، وقد تقدم . ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله ﷺ ، وإنما قال : "فأقول لهم سحقاً كما قال العبد الصالح" ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداء لم يكن ارتداد كفر لقوله : "وإنه سيؤتى برجال من أمتي" ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أمته ،ولأنه عليه السلام أتى بالآية وفيها "وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" ، ولو علم النبي ﷺ أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها ، لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة ، وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول الله تعالى : "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" .
ومثل هذا الحديث حديث الموطأ لقوله فيه : "فأقول فسحقاً فسحقاً" .
وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها ، فقد تقدم الاستشهاد عليه في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام .
وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة ، فلقوله تعالى : "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام :
"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" الحديث .
وإلى ذلك أشار الحديث الآخر :
"ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، لأنه أول من سن القتل" .
وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله ، إذ علل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سن القتل ، فدل على أن من سن ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله ، إذ لم يتعلق الإثم بمن سن القتل لكونه قتلاً دون غيره ، بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقاً مسلوكة .
ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله :
"ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً" وغير ذلك من الأحاديث .
فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره ، يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ، ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان شيئاته مما ليس في حسابه ، ولا شعر أنه من عمله ، فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده ، إلا كتب عليه إثم ذلك العامل ، زيادةً إلى إثم ابتداعه أولاً ، ثم عمله ثانياً .
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضياً ـ حسبما تقدم ـ واشتهاراً وانتشاراً ،فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها ، كما أن من سن سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، وأيضاً . فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها ، كان على المبتدع إثم ذلك أيضاً ، فهو إثم زائد على إثم الابتداع ، وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها ، لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت في قول إماتة السنة كذلك .
واعتبروا ذلك ببدعة الخوراج فإن النبي ﷺ عرفنا بأنهم :
"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث إلى آخره . ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى . هل هو موجود فيهم أم لا ؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله ، وهو الذي دل عليه قوله : "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " ، وقوله : "يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم" فهذه بدع ثلاث ، إعاذة الله بفضله .
وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام :
"إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة" .
وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها .
ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه .
خرج هذه الآثار ابن وضاح .
وخرج ابن وهب ،عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع ، وصاحب هوى ، فإنهما لا ينزعان .
وعن ابن شوذب قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه إلا ما هو شر منه . قال : فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي ﷺ :
"يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه" .
وعن أيوب قال : كان رجل يرى رأياً فرجع فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره ، فقلت : أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول ، وأوله : "يمرقون من الدين" وآخره : "ثم لا يعودون" وهو حديث أبي ذر أن النبي ﷺ قال :
"سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم ، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة" .
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار . وحاصلها أنه [ لا ] توبةً لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب ، أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد ، كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز .
ويدل على ذلك أيضاً حديث الفرق إذ قال فيه :
"وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ، ولكنه قد يحمل على العموم العادي ، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق ، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري ، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم . ولكن الغالب في الواقع الإصرار .
ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله .
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى ، وصاد عن سبيل الشهوات ، فيثقل عليها جداً لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه ، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع ، فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أ خرى ، وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ، فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه ، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة .
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به . وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبداة مفتون . واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : "يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه" إلى آخر الحديث .
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم .
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات ، بل التعظيم على شهوات الدنيا ، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات ، عن جميع الملذوذات ، ومقاساتهم في أصناف العبادات ، والكف عن الشهوات ؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم . قال الله : "وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية" وقال : "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ،ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى ، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوباً عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقاً للدليل عنده ، فما الذي يصده عن الاستمساك به ، والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره ، واعتقاد أنه أوفق وأعلى ؟ أفيفيد البرهان مطلباً ؟ "كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء" .
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى : فلقوله تعالى : "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين" حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم . ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه ، لما سمعوا من خواره ، ولما ألقى إليهم السامري فيه ، فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم . قال الله تعالى : "وكذلك نجزي المفترين" فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم ، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" .
فإذاً كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء ، وأيضاً فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال . ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين ، وفيما بعد ذلك ؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ، ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور ، وعمل بأعمالها على التقية .
وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده ، فقال : "وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله" وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين : "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل ، هذا بالنسبة إلى الذلة ، وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون المبتدع داخلاً في حكم الغضب والله الواقي بفضله .
وأما البعد عن حوض رسول الله ﷺ . فلحديث الموطأ :
"فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال .." الحديث . وفي البخاري ، عن أسماء ، عن النبي ﷺ أنه قال :
"أنا على حوضي أنتظر من يرد علي ، فيؤخذ بناس من دوني ،فأقول : أمتي ! فيقال : إنك لا تدري ، مشوا القهقرى" . وفي حديث عبد الله :
"أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ! أصحابي ، يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك" .
والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل ، لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض ، كان كفرهم أصلاً أو ارتداداً .
ولقوله : "قد بدلوا بعدك" ولو كان الكفر لقال : قد كفروا بعدك . وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة ، وهو واقع على أهل البدع . ومن قال : إنه النفاق . فذلك غير خارج عن مقصودنا ، لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً لا تعبداً ، فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع .
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى ، لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي .
وأما الخوف عليه من أن يكون كافراً . فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ، ودل ذلك ظاهر قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" ، وقوله : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" . الآية . وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم ، لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت ، والعلماء إذا اختلفوا في أمر : هل هو كفر أم لا ؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطه خسف كهذه بحيث يقال له : إن العلماء اختلفوا : هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال : إن جماعةً من أهل العلم قالوا
بكفرك وأنت حلال الدم .
وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله . فلأن صاحبها مرتكب إثماً ، وعاص لله تعالى حتماً ، ولا تقول الآن : هو عاص بالكبائر أو بالصغائر ، بل نقول : هو مصر على ما نهى الله عنه ، والأصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة ، وإن كانت كبيرة فأعظم . ومن مات مصراً على المعصية فيخاف عليه ، فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه ، حتى يموت على التغيير والتبديل ، وخصوصاً حين كان مطيعاً له فيما تقدم من زمانه ، مع حب الدنيا المستولي عليه .
قال عبد الحق الإشبيلي : إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ، ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله ، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر ، وإقدام على العظائم ، أو لمن كان مستقيماً ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه ، وأخذ في طريق غير طريقه ، فيكون عمله ذلك سبباً لسوء خاتمته وسوء عاقبته ، والعياذ بالله . قال الله تعالى : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" .
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية . فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم ، لأن المبتدع مع كونه مصراً على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله ، غير مسلم لها في تحصيل أمره ، معتقداً في المعصية أنها طاعة ، حيث حسن ما قبحه الشارع ، وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمه نظره ، فهو قد قبح ما حسنه الشارع ، ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله . وقد قال تعالى في جملة ذم : "أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" .
والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له ، وسوء الخاتمة من مكر الله ، إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به . اللهم إنا نسألك العفو العافية .
وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " . وفيها أيضاً الوعيد بالعذاب لقوله : "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" وقوله قبل ذلك : "وأولئك لهم عذاب عظيم " .
حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال : لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئاً ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس ، لأن كل كبيرة بين العبد وربه وهو منها على رجاء ، وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم .
وأما البراءة منه ففي قوله : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " . وفي الحديث :
"أنا بريء منهم وهم براء مني" .
وقال ابن عمر رضي الله عنه في أهل القدر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني .
وجاء عن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك .
وعن سفيان الثوري : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنةً لغيره ، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار ، وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به ، وإني واثق بنفسي . فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه .
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر .
وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون .
وعن إبراهيم قال : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم .
والآثار في ذلك كثيرة . ويعضدها ما روي عنه عليه السلام أنه قال :
"المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل" . ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة ، إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنة ، فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له ، أو يزيد له فيه قيداً من رأيه ، فيقبله قلبه ، فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلماً فإما أن يشعر به فيرده بالعلم ، أو لا يقدر على رده . وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك .
قال ابن وهب : وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول : أما أنا فعلى بينة من ربي ، وأما أنت فشاك ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ، ثم قرأ :
"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة " .
فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه .
ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله : "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى ؟ فقال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة . وأراك صاحب بدعة ثم أمر بإخراج السائل .
ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال : قال مالك : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك ، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك .
ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئاً من بعض أهل القدر ، فعلق قلبه ، فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم ، فإذا نهوه قال : فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله يرضى أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت .
ثم حكى أيضاً عن مالك أنه قال : لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه ، فتغلظ عليه ، لقوله : "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" فلا توادوهم .
وأما أنه يخشى عليه الفتنة ، فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله ، أخشى عليه الفتنة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة . أما سمعت قوله تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" . وقد أمر النبي ﷺ أن يهل من المواقيت .
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ ـ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله ﷺ . فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد . فقال لا تفعل . قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر . قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة . فقال : واي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ﷺ ؟ إني سمعت الله يقول : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" .
وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم ، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه ﷺ دون ما اهتدوا إليه بعقولهم .
وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عن ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم ، وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله فيقول القوم . ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله فيقول القوم .
ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شان المنافقين حين أمر رسول الله ﷺ بحفر الخندق ، وهم الذين كانوا يتسللون لواذاً .
وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة ، لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ، ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين قال : "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضاً من باب أحرى .
فهذه جملة يستدل بها على ما بقي ، إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير ، وبسط معانيها طويل ، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق .
فصل وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع
وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم .
وهو أن البدع ضلالة ، وأن المبتدع ضال ومضل ، والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ، ويشير إليها في آيات الاختلاف والتفرق شيعاً وتفرق الطرق ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة . وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفو ـ لا يسمى ضلالاً ، ولا يطلق على المخطىء اسم ضال ، كما لا يطلق على المعتمد لسائر المعاصي . وإنما ذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة قصد التنبيه عليها ، وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدي والهدى ، والعرب تطلق الهدى حقيقة في الظاهر المحسوس ، فتقول : هديته الطريق وهديته إلى الطريق . ومنه : نقل إلى طريق الخير والشر ، قال تعالى : "إنا هديناه السبيل" ، "وهديناه النجدين" ، "اهدنا الصراط المستقيم" ، والصراط والطريق والسبيل بمعنى واحد ، فهو حقيقة في الطريق المحسوس ، ومجاز في الطريق المعنوي ، وضده الضلال ، وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال ، والشاة الضالة . ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ؟ لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه ، وهو الدليل .
فصاحب البدعة لما غلب الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره ، فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم ، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة ، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه ، يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة ، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها . فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله . وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره ، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه ، وأخذ الأدلة بالتبع ، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر ، فكما تجد فيه نصاً لا يحتمل التأويل تجد فيه الظاهر الذي يحتمله احتمالاً مرجوحاً حسبما قرره من تقدم في غير العلم ، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ، ويتأول على غير ما قصد فيه . فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة ، وعدم الاضطلاع بمقاصدها ، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع .
فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنة ، وأمكن في ضلال البدعة ، فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما اراد منها .
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها . قال تعالى : "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " وقال : "كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء" . لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح ، والقليل منها كالكثير ، وهو أدل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق ، فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل ، فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير ، والمتشابه إلى الواضح ، غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه ، من حيث يظن أنه على الطريق ، بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه ، وأخر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع ، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في الطلب الذي بحث عنه ، فوجد الجادة ، وما شذ له عن ذلك ، فإما أن يرده إليه . وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله .
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" إلى قوله : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فلا يصح أن يسمى من هذه حالة مبتدعاً ولا ضالاً ، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه .
أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقياً إليه حكمة الانقياد ، باسطاً يد الافتقار ،مؤخراً ، ومقدماً لأمر الله .
وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك ، وإليها لجأ ، فإن خرج عنها يوماً فأخطأ فلا حرج عليه ، بل يكون مأجوراً حسبما بينه الحديث الصحيح :
"إذ اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" وإن خرج متعمداً فليس على أن يجعل خروجه طريقاً مسلوكاً له أو لغيره ، وشرعاً يدان به .
على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استناناً فيعامل من سنه كما جاء في الحديث :
"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" الحديث ، وقوله عليه السلام :
"ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل" فسمي القتل سنةً بالنسبة إلى من عمل به عملاً يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على أن يكون تشريعاً ولا يسمى ضلالاً لأنه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له .
وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ، ويشهد له أيضاً أحوال من تقدم قبل الإسلام ، وفي زمان رسول الله ﷺ ، فإن الله تعالى قال : "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" فإن الكفار لما أمروا بالإنفاق شحوا على أموالهم وأرادوا أن يجعلوا لذلك الشح مخرجاً فقالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ ومعلوم أن الله لو شاء لم يحوج أحداً إلى أحد ، لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون ، فقص هواهم على هذا الأصل العظيم ، واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لهم : "إن أنتم إلا في ضلال مبين" .
وقال تعالى : "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" فكأن هؤلاء قد أقروا بالتحكيم ، غير أنهم أرادوا أن يكون التحيكم على وفق أغراضهم زيغاً عن الحق وظناً منهم أن الجميع حكم ، وأن ما يحكم به كعب بن الأشرف أو غيره مثل ما يحكم به النبي ﷺ ، وجهلوا أن حكم النبي ﷺ هو حكم الله الذي لا يرد ، وأن حكم غيره معه مردود ، إن لم يكن جارياً على حكم الله ، فلذلك قال تعالى : "ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" لأن ظاهر الآية يدل على أنها نزلت فيمن دخل في الإسلام لقوله : "ألم تر إلى الذين يزعمون" كذا ـ إلى آخره . وجماعة من المفسرين قالوا : إنما نزلت في رجل من المنافقين ، أو في رجل من الأنصار .
وقال سبحانه : "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" فهم شرعوا شرعة ، وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة ، توهماً أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق ، فنزلوا وافتروا على الله الكذب ، إذ زعموا أن هذا من ذلك ، وتاهوا في المشروع ، فلذلك قال الله تعالى على أثر الآية : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، وقال سبحانه : "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" ، فهذه فذلكه لجملة بعد تفصيل تقديم ، وهو قوله تعالى : "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" الآية . فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ، ثم قال : "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم" وهو تشريع أيضاً بالرأي مثل الأول ، ثم قال : "وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم" إلى آخرها ، فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع فلذلك قال تعالى : "قد ضلوا وما كانوا مهتدين" ثم قال تعالى بعد تعزيزهم على هذه المحرمات التي حرموها وهي ما في قوله : "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين" ، وإلى قوله : "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" وقوله : "عليه أرحام" يعني أنه يضله .
والآيات التي قرر فيها حال المشركين في إشراكهم أتى فيها بذكر الضلال لأن حقيقته أنه خروج عن الصراط المستقيم ، لأنهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم ، فقالوا : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله ، إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صوراً لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد ، وهو الضلال المبين .
وقال تعالى : "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد" فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل ، بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الأمر حسبما ذكره أهل السير ، فتاهوا بالشبهة عن الحق ، لتركهم الواضحات ، وميلهم إلى المتشابهات ، كما أخبر الله تعالى في آية آل عمران ، فلذلك قال تعالى : "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" وهم النصارى ، ضلوا في عيسى عليه السلام ، ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبودية في عيسى : "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون" وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعة قال : "لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين" .
وذكر الله المنافقين وأنهم يخادعون الله والذين آمنوا ، وذلك لكونهم يدخلون معهم في احوال التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يخلصهم ، أو أنه يغني عنهم شيئاً وهم في الحيقية إنما يخادعون أنفسهم ، وهذا هو الضلال بعينه ، لأنه إذا كان يفعل شيئاً يظن أنه له ، فإذا هو عليه ، فليس على هدى من عمله ، ولا هو سالك على سبيله ، فلذلك قال : "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" إلى قوله : "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا" .
وقال تعالى حكايةً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : "أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون" ؟ معناه كيف أبعد من دون الله ما لا يغني شيئاً ، وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع ؟ هذا خروج عن طريق إلى غير طريق "إني إذا لفي ضلال مبين" .
والأمثلة في تقرير هذا الأصل كثيرة ، جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له ، أو تقليد من عرضت له الشبهة ، فيتخذ ذلك الزلل شرعاً وديناً يدين به ، مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب .
ولما لم يكن الكفر في الواقع مقتصراً على هذا الطريق بل ثم طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عناداً أو ظلماً ، ذكر الله تعالى الصنفين في السورة الجامعة وهي أم القرآن فقال : "اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم " فهذه هي الحجة العظمى التي دعا الأنبياء عليهم السلام إليها . ثم قال : "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد ﷺ . ألا ترى إلى قول الله فيهم : "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" .
"يعني اليهود ، والضالون هم النصارى" لأنهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه السلام ، وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين وهو مروي عن النبي ﷺ .
ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلهاً غيره ، لأنه قد جاء في أثناء القرآن ما يدل على ذلك ، لأن لفظ القرآن في قوله : "ولا الضالين" يعمهم وغيرهم ، فكل من ضل عن سواء السبيل داخل فيه .
ولا يبعد أن يقال : إن الضالين يدخل فيه كل من ضل عن الصراط المستقيم كان من هذه الأمة أو لا ، إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله ، فقوله تعالى : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" عام في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق ، أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية ، وهو أبلغ وأعلى في قصد حصر أهل الضلال ، وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم ، الذي أوتيه محمد ﷺ .
وقد خرجنا عن المقصود بعض خروج ، ولكنه عاضد لما نحن فيه وبالله التوفيق .