الرئيسيةبحث

كتاب الأم/كتاب الأقضية/شهادة القاذف


شهادة القاذف


[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: من قذف مسلما حددناه أو لم نحدده لم نقبل شهادته حتى يتوب فإذا تاب قبلنا شهادته فإن كان القذف إنما هو بشهادة لم تتم في الزنا حددناه ثم نظرنا إلى حال المحدود فإن كان من أهل العدل عند قذفه بشهادته قلنا له تب، ولا توبة إلا إكذابه نفسه فإذا أكذب نفسه فقد تاب حد أو لم يحد، وإن أبى أن يتوب، وقد قذف، وسقط الحد عنه بعفو أو غيره مما لا يلزم المقذوف اسم القذف لم تقبل شهادته أبدا حتى يكذب نفسه. وهكذا قال عمر للذين شهدوا على من شهدوا عليه حين حدهم فتاب اثنان فقبل شهادتهما، وأقام الآخر على القذف فلم يقبل شهادته، ومن كانت حاله عند القذف بشهادة أو غير شهادة حال من لا تجوز شهادته بأنه غير عدل حد أو لم يحد فسواء، ولا تقبل شهادته حتى تحدث له حال يصير بها عدلا، ويتوب من القيل بما وصفت من إكذابه نفسه، وتجوز شهادة المحدود في القذف إذا تاب على رجل في قذف.

وتجوز شهادة ولد الزنا على رجل في الزنا، وشهادة المحدود في الزنا إذا تاب على الحد في الزنا، وهكذا المقطوع في السرقة، والمقتص منه في الجراح إذا تابوا ليس ههنا إلا أن يكونوا عدولا في كل شيء أو مجروحين في كل شيء إلا ما يشركهم فيه من لا عيب فيه من هذه العيوب فشهدوا فيكونون خصماء أو أظناء أو جارين إلى أنفسهم أو دافعين عنها أو ما ترد به شهادة العدول.

وهكذا تجوز شهادة البدوي على القروي، والقروي على البدوي، والغريب على الآهل، والآهل على الغريب ليس من هذا شيء ترد به الشهادة إذا كانوا كلهم عدولا، وإذا كان معروفا أن الرجلين قد يتبايعان فلا يحضرهما أحد، ويتشاتمان، ولا يحضرهما أحد، ويقتل أحدهما الآخر، ولا يحضرهما أحد فحضور البدوي القروي، والقروي البدوي حتى يشهد على ما رأى، واستشهد عليه جائز، وقد لا يشهد لأنه حاضر يشهد غيره ثم ينتقل المشهد أو يموت أو يطمئن إلى صاحبه فلا يكون له شاهد غير بدوي أو بدويين. وكذلك قد يكون له شهود غيره يغيبون أو يموتون فلا يمنع ذلك البدوي أن تجوز شهادته إذا كان عدلا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: في الرجل يغني فيتخذ الغناء صناعته يؤتى عليه ويأتي له، ويكون منسوبا إليه مشهورا به معروفا، والمرأة، لا تجوز شهادة واحد منهما؛ وذلك أنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، وأن من صنع هذا كان منسوبا إلى السفه وسقاطة المروءة، ومن رضي بهذا لنفسه كان مستخفا، وإن لم يكن محرما بين التحريم، ولو كان لا ينسب نفسه إليه، وكان إنما يعرف بأنه يطرب في الحال فيترنم فيها، ولا يأتي لذلك، ولا يؤتى عليه، ولا يرضى به لم يسقط هذا شهادته، وكذلك المرأة.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: في الرجل يتخذ الغلام والجارية المغنيين وكان يجمع عليهما، ويغشى لذلك فهذا سفه ترد به شهادته، وهو في الجارية أكثر من قبل أن فيه سفها ودياثة، وإن كان لا يجمع عليهما ولا يغشى لهما كرهت ذلك له، ولم يكن فيه ما ترد به شهادته.

[قال]: وهكذا الرجل يغشى بيوت الغناء، ويغشاه المغنون إن كان لذلك مدمنا، وكان لذلك مستعلنا عليه مشهودا عليه فهي بمنزلة سفه ترد بها شهادته. وإن كان ذلك يقل منه لم ترد به شهادته لما وصفت من أن ذلك ليس بحرام بين.

فأما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به قل أو كثر، وكذلك استماع الشعر أخبرنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة: (عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال أردفني رسول الله ﷺ فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم قال: هيه فأنشدته بيتا. فقال: هيه فأنشدته حتى بلغت مائة بيت).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وسمع رسول الله ﷺ الحداء، والرجز، وأمر ابن رواحة في سفره فقال حرك القوم فاندفع يرتجز: (وأدرك رسول الله ﷺ ركبا من بني تميم معهم حاد فأمرهم أن يحدوا، وقال إن حادينا وني من آخر الليل قالوا يا رسول الله نحن أول العرب حداء بالإبل قال وكيف ذلك؟ قالوا كانت العرب يغير بعضها على بعض فأغار رجل منا فاستاق إبلا فتبددت فغضب على غلامه فضربه بالعصا فأصاب يده فقال الغلام: وايداه، وايداه قال فجعلت الإبل تجتمع قال فقال هكذا فافعل قال والنبي ﷺ يضحك فقال ممن أنتم؟ قالوا نحن من مضر فقال النبي ﷺ، ونحن من مضر) فانتسب تلك الليلة حتى بلغ في النسبة إلى مضر.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فالحداء مثل الكلام، والحديث المحسن باللفظ، وإذا كان هذا هكذا في الشعر كان تحسين الصوت بذكر الله والقرآن أولى أن يكون محبوبا فقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: (ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن) وأنه: (سمع عبد الله بن قيس يقرأ فقال لقد أوتي هذا من مزامير آل داود).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصوت بها بأي وجه ما كان، وأحب ما يقرأ إلي حدرا وتحزينا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ومن تأكدت عليه أنه يغشى الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعام فتتابع ذلك منه رددت شهادته لأنه يأكل محرما إذا كانت الدعوة لرجل بعينه. فأما إن كان طعام سلطان أو رجل يتشبه بالسلطان فيدعو الناس إليه فهذا طعام عام مباح، ولا بأس به. ومن كان على شيء مما وصفنا أن الشهادة ترد به فإنما ترد شهادته ما كان عليه فأما إذا تاب ونزع قبلت شهادته.

[قال]: وإذا نثر على الناس في الفرح فأخذه بعض من حضر لم يكن هذا مما يجرح به شهادة أحد لأن كثيرا يزعم أن هذا مباح حلال لأن مالكه إنما طرحه لمن يأخذه. فأما أنا فأكرهه لمن أخذه من قبل أنه يأخذه من أخذه، ولا يأخذه إلا بغلبة لمن حضره إما بفضل قوة، وإما بفضل قلة حياء، والمالك لم يقصد به قصده إنما قصد به قصد الجماعة فأكرهه لآخذه لأنه لا يعرف حظه من حظ من قصد به بلا أذية، وأنه خلسة وسخف.