مقدمة
لا خفاء أنّ السّياسة علمٌ واسعٌ جدّاً، يتفرّعُ إلى فنون كثيرة ومباحثَ دقيقة شتّى. وقلّما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنّه قلّما يوجد إنسان لا يحتكُّ فيه.
وقد وُجد في كلِّ الأمم المترقية علماءُ سياسيون، تكلّموا في فنون السّياسة و مباحثها استطراداً في مدوّنات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب. ولا تُعرف للأقدمين كتبٌ مخصوصة في السّياسة لغير مؤسِّسي الجمهوريات في الرّومان واليونان، وإنّما لبعضهم مُؤلّفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس، ومحرّرات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج.
وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مُفصّلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام؛ فهم ألّفوا فيه ممزوجاً بالأخلاق كالرّازي، والطّوسي، والغزالي، والعلائي، وهي طريقة الفُرْسِ، وممزوجاً بالأدب كالمعرّي، والمتنبّي، وهي طريقة العرب، وممزوجاً بالتاريخ كابن خلدون، وابن بطوطة، وهي طريقة المغاربة.
أمّا المتأخِّرون من أهل أوروبا، ثمَّ أمريكا، فقد توسَّعوا في هذا العلم وألّفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً، حتَّى إنّهم أفردوا بعض مباحثه في التّأليف بمجلّدات ضخمة، وقد ميّزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية، إلخ. وقسّموا كلاً منها إلى أبواب شتَّى وأصول وفروع.
وأمّا المتأخِّرون من الشرقيين، فقد وُجد من التّرك كثيرون ألّفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلّة وممزوجة مثل: أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلّفون من العرب قليلون ومقلّون، والذين يستحقّون الذكر منهم فيما نعلم: رفاعة بك، وخير الدّين باشا التّونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني.
ولكنْ؛ يظهر لنا أنّ المحرِّرين السّياسيين من العرب قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضع كثيرة. ولهذا، لاح لهذا العاجز أنْ أُذكّر حضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهمّ المباحث السّياسية، وقلَّ من طرق بابه منهم إلى الآن، فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبِّهونهم – لاسيما العرب منهم – لما هم عنه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتّعليل وضرب الأمثال والتّحليل «ما هو داء الشّرق وما هو دواؤه؟»
ولمّا كان تعريف علم السّياسة بأنّه هو «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» يكون بالطّبع أوّل مباحث السّياسة وأهمّها بحث «الاستبداد»؛ أي التّصرُّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى.
وإنّي أرى أنّ المتكلِّم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص «ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟».. وكلُّ موضوع من ذلك يتحمّل تفصيلات كثيرة، وينطوي على مباحث شتّى من أمهاتها: ما هي طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبدُّ شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبدّ؟ ما تأثير الاستبداد على الدّين؟ على العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الأخلاق؟ على التَّرقِّي؟ على التّربية؟ على العمران؟
مَنْ هم أعوان المستبدّ؟ هل يُتحمّل الاستبداد؟ كيف يكون التّخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟
قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير إلى النّتائج التي تستقرُّ عندها أفكار الباحثين في هذا الموضوع، وهي نتائج متَّحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين، وهي:
يقول المادي: الدّاء: القوة، والدّواء: المقاومة.
ويقول السّياسي: الدّاء: استعباد البرية، والدّواء: استرداد الحرّيّة.
ويقول الحكيم: الدّاء: القدرة على الاعتساف، والدّواء: الاقتدار على الاستنصاف.
ويقول الحقوقي: الدّاء: تغلّب السّلطة على الشّريعة، والدّواء: تغليب الشّريعة على السّلطة.
ويقول الرّبّاني: الدّاء: مشاركة الله في الجبروت، والدّواء: توحيد الله حقّاً.
...
وهذه أقوال أهل النظر، و أمّا أهل العزائم:
فيقول الأبيُّ: الدّاء: مدُّ الرّقاب للسلاسل، والدّواء: الشّموخ عن الذّل.
ويقول المتين: الدّاء: وجود الرّؤساء بلا زمام، والدّواء: ربطهم بالقيود الثّقال.
ويقول الحرّ: الدّاء: التّعالي على النّاس باطلاً، والدّواء: تذليل المتكبّرين.
ويقول المفادي: الدّاء: حبُّ الحياة، والدّواء: حبُّ الموت.