الرئيسيةبحث

روضة الناظر وجنة المناظر/في أقسام الحد

روضة الناظر وجنة المناظر
في أقسام الحد
ابن قدامة

والحد ينقسم ثلاثة أقسام: حقيقي، ورسمي، ولفظي.

الحد الحقيقي، وشروطه

فالحقيقي: هو القول الدال على ماهية الشيء. والماهية: ما يصلح جوابًا للسؤال بصيغة "ما هو". فإنّ صيغ السؤال التي تتعلق بأمهات المطالب أربعة: أحدها: "هل" يطلب بها إما أصل الوجود، وإما صفته. والثاني: "لِمَ" سؤال عن العلة، جوابه بالبرهان. والثالث: "أيّ" يطلب بها تمييز ما عرف جملته. والرابع: "ما" وجوابه بالحد. وسائر صيغ السؤال كمتى، وأيان، وأين، يدخل في مطلب "هل"؛

إذ المطلوب به صفة الوجود. والكيفية: ما يصلح جوابًا للسؤال بكيف؟ والماهية تتركب من الصفات الذاتية. والذاتي[1]: كل وصف يدخل في حقيقة الشيء دخولًا لا يتصور فهم معناه بدون فهمه، كالجسمية للفرس، واللونية للسواد، إذ من فهم "الفرس" فهم جسمًا مخصوصًا، فالجسمية داخلة في ذات الفرسية، دخولًا به قوامها في الوجود، والعقل لو قدَّر عدمها بطل وجود الفرس، ولو خرجت عن الذهن بطل فهم الفرس. والوصف اللازم: ما لا يفارق الذات، لكن فهم الحقيقة غير موقوف عليه، كالظل للفرس عند طلوع الشمس، فإنه لازم غير ذاتي؛ إذ فهم حقيقة الفرس غير موقوف على فهمه، وكون الفرس مخلوقة، أو موجودة، أو طويلة، أو قصيرة، كلها لازمة لها غير ذاتية، فإنك تفهم حقيقة الشيء وإن لم تعلم وجوده. وأما الوصف العارض: فيما ليس من ضرورته أن يلازم، بل تتصور مفارقته، إما سريعًا كحمرة الخجل، أو بطيئًا كصفرة الذهب. والصبا، والكهولة والشيخوخة، أوصاف عرضية؛ إذ لا يقف فهم الحقيقة على فهمها، وتتصور مفارقتها.

تقسيم الأوصاف الذاتية

ثم الأوصاف الذاتية تنقسم إلى جنس وفصل: فالجنس: هو الذاتي المشترك بين شيئين فصاعدًا مختلفين بالحقيقة. ثم هو منقسم إلى عام، لا أعم منه، كالجوهر[2]، ينقسم إلى جسم وغير جسم. والجسم ينقسم إلى نام وغيره. والنامي ينقسم إلى حيوان وغيره. والحيوان ينقسم إلى آدمي وغيره. وإلى خاص، لا أخص منه، كالإنسان. ولا عم من الجوهر إلا الموجود، وليس بذاتي. ولا أخص من الإنسان إلا الأحوال العرضية، من الطول، والقصر، والشيخوخة ونحوها. والفصل: ما يفصله عن غيره، ويميزه به، كالإحساس في الحيوان، فإنه يشارك الأجسام في الجسمية، والإحساس يفصله عن غيره.

شروط الحد

فيشترط في الحد: أن يذكر الجنس والفصل معًا. وينبغي أن يذكر الجنس القريب، ليكون أدل على الماهية، فأنك إن اقتصرت على ذكر البعيد بعدت، وإن ذكرت القريب معه كررت، فلا تقل -في حد الآدمي-: "جسم ناطق" بل حيوان ناطق، وقل -في حد الخمر- "شراب مسكر" ولا تقل "جسم مسكر". ثم ينبغي أن يقدم ذكر الجنس على الفصل، فلا تقل -في حد الخمر-: "مسكر شراب"، بل العكس. وهذا لو ترك لشوّش النظم، ولم يخرج عن الحقيقة. وإذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكر جميعها؛ ليحصل بيان الماهية. وينبغي أن يفصل بالذاتيات، ليكون الحد حقيقيًّا، فإن عسر ذلك عليك فاعدل إلى اللوازم، لكي يصير رسميًّا، وأكثر الحدود رسمية، لعسر درك الذاتيات ,واحترزْ من إضافة الفصل إلى الجنس، فلا تقل في حد الخمر: "مسكر الشراب" فيصير الحد لفظيًّا غير حقيقي. وأبعد من هذا: أن تجعل مكان الجنس شيئًا كان وزال، فتقول في الرماد: "خشب محترق" فإن الرماد ليس بخشب.

الحد الرسمي وشروطه

وأما الحد الرسمي: فهو اللفظ الشارح للشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة، بحيث يطرد وينعكس، كقوله، -في حد الخمر-: "مائع يقذف بالزبد، يستحيل إلى الحموضة، ويحفظ في الدَّن"[3]. تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر، بحيث لا يخرج منه خمر، ولا يدخل فيه غير خمر. واجتهد أن يكون من اللوازم الظاهر المعروفة. ولا يحد الشيء بأخفى منه. ولا بمثله في الخفاء. ولا تحد شيئًا بنفي ضده، فتقول في الزوج: "ما ليس بفرد" وفي الفرد: "ما ليس بزوج" فيدور الأمر، ولا يحصل بيان. واجتهد في الإيجاز -ما استطعت- فإن احتجت فاطلب منها ما هو أشد مناسبة للغرض.

الحد اللفظي وشرطه

وأما الحد اللفظي: فهو شرح اللفظ بلفظ أشهر منه: كقولك: في العقار[4]: "الخمر"، وفي الليث: "الأسد". ويشترط: أن يكون الثاني أظهر من الأول. واسم الحد شامل لهذه الأقسام الثلاثة[5]، لكن الحقيقي هو الأول؛ فإن معنى "الحد" يقرب من معنى حد الدار، وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد، فتحديدها بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة بها مشهورة. وإذا سأل عن حد الشيء فكأنه يطلب المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة ذلك الشيء، وتتميز به عما سواه، فلذلك لم يسم "اللفظي" و"الرسمي" حقيقيًّا، وسمى الجميع باسم "الحد" لأنه جامع مانع؛ إذ هو مشتق من المنع، ولذلك سمى البواب حدّادًا؛ لمنعه من الدخول والخروج. فحدُّ الحدِّ إذا: الجامع المانع

تعريف الحد الحقيقي

واختلف في حد الحد الحقيقي فقيل: هو اللفظ المفسر لمعنى المحدود على وجهٍ يجمع ويمنع. وقيل: القول الدال على ماهية الشيء. وحدّه قوم: بأنه نفس الشيء وذاته. وهذا لا معارضة بينه وبين ما ذكرناه؛ لكون المحدود ههنا غير المحدود ثَمَّ، وإنما يقع التعارض بعد التوارد على شيء واحد[6]. بيانه: أن الموجود له في الوجود أربع مراتب: الأولى: حقيقته في نفسه. الثانية: ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو المعبر عنه بالعلم. الثالثة: اللفظ المعبّر عما في النفس. الرابعة: الكناية عن اللفظ. وهذه الأربعة متوازية متطابقة. فإذًا: المحدود في أحد الجانبين غير المحدود في الآخر، فلا معارضة بينهما والله أعلم.


هامش

  1. صفات الأشياء: ثلاثة: صفات ذاتية، وهي التي تعتبر جزءًا من حقيقة الشيء، وصفات لازمة للموصوف لا تنفك عنه، وتسمى "تابعًا" وصفات عارضة، تلحق الموصوف في بعض الأحيان، وتفارقه في البعض الآخر، والمصنف -رحمه الله تعالى- بدأ يعرّف بهذه الصفات الثلاثة ويفرق بينها، ويذكر أمثلة لكل واحدة على حدة.
  2. جوهر الشيء: ما خلقت عليه جبلته، ومن الأحجار: كل شيء يستخرج منه شيء ينتفع به، والنفيس الذي تتخذ منه الفصوص ونحوها. وعند المناطقة: ما قام بنفسه، ويقابله العَرَض، وهو ما يقوم بغيره. انظر تفصيل ذلك في التعريفات للجرجاني ص79.
  3. الدَّن: وعاء ضخم للخمر ونحوها.
  4. العقار -بضم العين- الخمر. وبفتح العين: كل ملك ثابت له أصل، كالأرض والدار، جمعه عقارات.والعقار الحر: ما كان خالص الملكية، يأتي بدخل سنوي يسمى ريعًا. والعقار من كل شيء خياره "المعجم الوسيط 2/ 621".
  5. أي: الحد الحقيقي، والحد الرسمي، والحد اللفظي.
  6. علق "ابن بدران" على هذا الكلام بقوله: "معناه: أن هذه الأقوال الثلاثة المذكورة في حد الحد لا معارضة بينها وبين ما ذكره من أن حد الحد هو الجامع المانع، وذلك لأن كل واحد ذكر للحد حدًّا باعتبار غير ما اعتبره الثاني، والمعارضة لا تكون إلا حيث تواردت الحدود على محدود واحد باعتبار واحد". ثم قال: والحاصل: أن الحد لفظ مشترك بين أقسام الوجود، وباختلاف إطلاقه على أحد معانيه اختلف حده. ومثاله: أن حد "العين" بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية، لم يخالف من يحد "العين" بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حد هذا أمرًا مباينًا لحقيقة الأمر الآخر, وإنما اشتركا في اسم "العين". انظر: "نزهة الخاطر جـ1 ص41، 42".