الرئيسيةبحث

روضة الناظر وجنة المناظر/المقدمة

روضة الناظر وجنة المناظر
المقدمة
ابن قدامة
بسم الله الرحمن الرحيم

رب زدني علمًا وفهمًا الحمد لله العلي الكبير، العليم القدير، الحكيم الخبير، الذي جلّ عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والوزير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[1]. وصلى الله على رسوله محمد البشير النذير، السراج المنير، المخصوص بالمقام المحمود[2]، والحوض المورود[3]، في اليوم العبوس القمطرير[4]، وعلى آله وأصحابه الأطهار النجباء الأخيار، وأهل بيته الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وخصهم بالتطهير، وعلى التابعين لهم بإحسان، والمقتدين بهم في كل زمان.

أما بعد[5]. فهذا الكتاب نذكر فيه "أصول الفقه" والاختلاف فيه، ودليل كل قول على المختار، ونبيّن من ذلك ما نرتضيه، ونجيب [على] من خالفنا فيه. بدأنا بمقدمة لطيفة في أوله، ثم أتبعناها ثمانية أبواب: الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه. الثاني: في تفصيل الأصول، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستصحاب. الثالث: في بيان الأصول المختلف فيها. الرابع: في تقاسيم الكلام والأسماء. الخامس: في الأمر والنهي، والعموم، والاستثناء، والشرط، وما يقتبس من الألفاظ، من إشارتها وإيمائها. السادس: في "القياس" الذي هو فرع للأصول. السابع: في حكم "المجتهد" الذي يستثمر الحكم من هذه الأدلة، و"المقلد". الثامن: في ترجيحات الأدلة المتعارضة. ونسأل الله -تعالى- أن يعيننا فيما نبتغيه، ويوفقنا في جميع الأحوال لما يرضيه، ويجعل عملنا صالحًا، ويجعله لوجهه خالصًا، بمنّه ورحمته. [معنى الفقه والأصول] واعلم أنك لا تعلم معنى "أصول الفقه" قبل معرفة معنى "الفقه". والفقه في أصل الوضع[6]: الفهم. قال الله تعالى: -إخبارًا عن موسى عليه السلام-: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي}[7].

وفي عرف الفقهاء: العلم بأحكام الأفعال الشرعية، كالحل والحرمة، والصحة والفساد ونحوها[8]. فلا يطلق اسم "الفقيه" على متكلم، ولا محدّث، ولا مفسر، ولا نحوي[9]. وأصول الفقه: أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل[10] فإن الخلاف يشتمل على أدلة الفقه، لكن من حيث التفصيل،كدلالة حديث خاص على مسألة "النكاح بلا ولي"[11]. والأصول لا يتعرض فيها لآحاد المسائل، إلا على طريق ضرب المثال، كقولنا: الأمر يقتضي الوجوب ونحوه. فبهذا يخالف أصول الفقه فروعه[12]. ونظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية، والمقصود: اقتباس الأحكام من الأدلة.

اعلم أن مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان؛ وذلك لأن إدراك العلوم على ضربين: إدراك الذوات المفردة، كعلمك بمعنى العالَم، والحادث، والقديم. والثاني: إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض، نفيًا وإثباتًا. فإنك تعلم أولًا معنى: العالَم، والحادث، والقديم، مفردة، ثم تنسب مفردًا إلى مفرد، فتنسب الحادث إلى العالم بالإثبات، فتقول: العالم حادث، وتنسب القديم إليه بالنفي، فتقول: العالم ليس بقديم. والضرب الأول: يستحيل التصديق والتكذيب فيه، إذ لا يتطرق إلا إلى خبر وأقل ما يتركب منه الخبر مفردان. والضرب الثاني: يتطرق إليه التصديق والتكذيب. وقد سمى قوم الضرب الأول تصوّرًا، والثاني تصديقًا وسمى آخرون الأول. معرفة، والثاني علمًا. وسمى النحويون الأول: مفردًا والثاني جملة. وينبغي أن يعرف البسيط قبل مركبه[13]، فإن من لا يعرف المفرد كيف يعرف المركب، ومن لا يعرف معنى "العالَم" و"الحادث" كيف يعرف أن "العالم حادث"؟ ومعرفة المفردات قسمان: أوّلي: وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب، كالموجود، والشيء. ومطلوب: وهو الذي يدل اسمه على أمر جُملي غير مفصّل. والثاني: قسمان أيضًا: أولي: كالضروريات. ومطلوب: كالنظريات. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد. والمطلوب من العلم لا يقتنص إلا بالبرهان. فلذلك قلنا: مدارك العقول تنحصر فيهما.



هامش

  1. سورة الشورى من الآية: 11.
  2. المقام المحمود: هو الذي يحمده فيه الخلائق لتعجيل الحساب من هول الموقف يوم المحشر العظيم، حيث يشفع -ﷺ- للخلق بعد أن يتأخر عنها أولو العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- حتى تنتهي إليه -ﷺ- فيقول: "أنا لها".
  3. الحوض المورود: هو الحوض الذي أكرم الله به نبيه -ﷺ- يوم القيامة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ترد عليه الخلائق بعد الحساب، وهو المراد بالكوثر في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} على رأي بعض المفسرين، فضلًا عن ثبوته بالأحاديث الصحيحة.
  4. اليوم العبوس: أي الشديد، والقمطرير: أي الشديد العبوس، أو الشديد العسر،
  5. عبارة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، خاصة بعد حمد الله تعالى وغيره مما يبتدأ به كالبسملة، ولا تقع مبتدأة، ولا بد من مجيء الفاء بعدها؛ لأن "أما" لا عمل لها، فتفصل الكلام بعضه عن بعض، فتأتي الفاء لتصله. ومعنى العبارة: مهما يكن من شيء. وأول من قالها: "قس بن ساعدة" وكان النبي -ﷺ- يأتي بها في خطبه. انظر: "الأوائل لأبي هلال العسكري ص53، فتح الرحمن للشيخ زكريا الأنصاري ص8".
  6. المراد بالوضع: ما وضعه أهل اللغة، إذ عادة الأصوليين والفقهاء أنهم إذا أرادوا بيان لفظ بينوه من جهة اللغة والشرع، فيذكرون المعنى اللغوي أولًا، ثم يذكرون المعنى الشرعي، ويوضحون هل الشرع وضع لحقائقه الشرعية أسماء بإزائها وضعًا استقلاليًّا جديدًا خارجًا عن وضع أهل اللغة، أو أنه أبقى الموضوعات اللغوية على حالها، وزاد فيها شرعًا شروطًا وأفعالًا أخر؟ مثاله: أنه سمى الصلاة الشرعية صلاة، لاشتمالها على الصلاة اللغوية وهي الدعاء، لكن اشترط لها في الشرع شروطها الستة، وأركانها الثلاثة عشر، وكذلك سمي الصوم الشرعي صومًا لاشتماله على الصوم اللغوي، وهو الإمساك وزاد النية، وقدّر وقته "انظر: شرح مختصر الروضة 1/ 129".
  7. سورة طه الآيتان: 27، 28.
  8. كان الفقه في الصدر الأول يطلق على كل ما يفهم من الكتاب والسنة وما يلحق بهما، ولذلك كانوا يعرفونه بأنه "معرفة النفس ما لها وما عليها" وهو ما يفهم من قوله -ﷺ-: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". وبعد تمايز العلوم أصبح الفقه يطلق على الأحكام الشرعية العملية. والتعريف الذي ذكره المصنف للفقه هو تعريف ابن الحاجب في مختصره، إلا أن المصنف كعادته -غالبًا- لم يكمل التعريف الذي نقله عن ابن الحاجب، ولذلك استدرك عليه الطوفي فعرفه بقوله: ".... العلم بالأحكام الشرعية، الفرعية، عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال" انظر: "بيان المختصر 1/ 18، شرح مختصر الطوفي 1/ 333".
  9. هذا ما يسميه العلماء: إخراج المحترزات.
  10. ما ذكره المصنف من تعريف "أصول الفقه" من أنه: أدلته الدالة عليه من حيث الجملة. هو أحد التعريفات الاصطلاحية، وهناك تعريفات أخرى نذكرها بعد ذكر المعنى اللغوي لكلمة "أصول". فالأصول: جمع أصل. والأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، أو هو: ما يستند إليه الشيء، أو هو المحتاج إليه، أو هو: ما يتفرع عليه غيره. وفي اصطلاح الأصوليين: يطلق على الدليل، وعلى الراجح، وعلى القاعدة، المستمرة كما يطلق على المقيس عليه. أما معناه الاصطلاحي بعد أن صار علَمًا على هذا الفن، فإن العلماء مختلفون في تعريفه بناء على اختلافهم في موضوع "أصول الفقه" هل هو الأدلة -كما قال ابن قدامة-، أو هو الأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة،
  11. حديث "لا نكاح إلا بولي" أخرجه أبو داود: كتاب النكاح، باب في الولي حديث "2085"، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء: لا نكاح إلا بولي، حديث "1101"، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي حديث "1881"، والإمام أحمد في المسند "4/ 394، 411، 418" كما رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري. قال الحاكم: "فقد استدللنا بالروايات الصحيحة وبأقاويل أئمة هذا العلم على صحة حديث أبي موسى بما فيه غنية لمن تأمله" انظر: تلخيص الحبير "3/ 162"، نصب الراية "3/ 183، 190".
  12. مراده بذلك: أن الأصولي يبحث في الأدلة بطريق الإجمال، كما في: الأمر المطلق يقتضي الوجوب، والفقيه يبحث في الأدلة الشرعية من حيث التفصيل، وهو ما يسمى بالدليل التفصيلي
  13. يقصد بالبسيط: المفرد، وهو التصور، وبالمركب: التصديق.