القسم الأول | رسائل فلسفية لابن باجة القسم الثاني المؤلف: ابن باجة |
تقديم الناسخ:
قال القاضي الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن النضر وهو المعروف بالأديب: الواصل على يد الوزير أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام من كتب الوزير الفاضل أبي بكر ما نذكره. فمنها: شرحه لكتاب السماع الطبيعي. والقول على بعض كتاب الآثار العلوية. وكذلك على بعض كتاب الكون والفساد. والقول على بعض المقالات الأخيرة من كتاب الحيوان. والكلام على بعض كتاب النبات. وقول ذكر فيه الشوق الطبيعي وماهيته وابتدأ أن يعطي أسباب البرهان وحقيقته. ورسالة الوداع إلى الشيخ الوزير أبي الحسن المذكور. وكتاب اتصال العقل بالإنسان كتب به إليه أيضاً. والقول على القوى النزوعية كتبها إليه ما بين الكتابين المذكورين. وفصول تتضمن القول على اتصال العقل بالإنسان. وكتاب المتوحد. وكتاب النفس ينقص منه مقدار يسير ذكر الوزير أنه سقط منه بعد وقوعه إليه. وتعاليق على كتاب أبي نصر الذهنية. وفصول قليلة في السياسات المدنية وكيفية المدن وحال المتوحد فيها. ونبذ يسيرة على الهندسة والهيئة. هذا قول القاضي الأديب رحمه الله ووقع إلي مجموعة تتضمن ما هذا مثاله من كلام الشيخ الكبير الوزير أبي بكر رضي الله عنه فأثبتها كما ترى:
ومن كلامه رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم وبه الحول والقوة والتوفيق والعصمة
☰ جدول المحتويات
- بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول
- ومن كلامه في المعرفة النظرية والكمال الإنساني أو في الاتصال بالعقل الفعال
- ارتياض في تصور القوة المتخيلة والناطقة
- الفطرة الفائقة والتراتب المعرفي
- فيض العلم الإلهي
- في الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي
- في العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي أو في مراتب العلم
- في الواجب الوجود والممكن الوجود
- في الفاعل القريب والفاعل البعيد وخلود العقل
- في تراتب العقول وخلودها
- في السعادة المدينية والسعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر
بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول
انظر ببصرة نفسك في نفسك إلى ما بين العقل والقوة المتخيلة من العجائب، ترى يقيناً أن العقل يأخذ من القوة المتخيلة معلومات هي المعقولات، حسب ما ذكرته، وإنه يعطي القوة المتخيلة معلومات آخر يبسها فيها: أما معلومات استنبطها العقل وبسطها في المتخيلة، مما يقدر الإنسان أن يصنعه بإرادته من آراء خلقية وصناعية وإما أن يعطي العقل القوة المخيلة معلومات يبسطها فيها من حوادث جرت في العالم يوجدها فيها قبل حدوثها، أو ما حدثت ولم تحصل في القوة المتخيلة عن حاسة، بل عن العقل الذي يخدمها، منها ما يكون بالرؤيا الصادقة، والعجب العجيب فيها ما يكون بالوحي أو بضروب الكهانات.
وبين أن ما يعطيه العقل الإنساني للتخيل ليس هو منه ولا يضعه هو فيه، بل يفعل هذا الفعل فيه فاعل علمه قبل، قادر على إيجاده لا إلاه إلا هو هو سبب وجوده، ومحرك الأجرام الفاعلة بإرادته إلى أن تفعل ما يريده في الأجرام المنفعلة كما أنه لما أراد أن نعلم ما يحدثه في العالم أفاض على الملائكة علم ذلك، ومن ملائكته يفيض ذلك العلم على عقول الإنسان فيدركه إنسان إنسان بحسب ما وهب من الاستعداد لقبوله. وهذا ظاهر، في الأكثر، في الصالحين من عباده الذين هداهم الله، وأخلصوا به وبملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فإنه يفيض عليهم، بتوسط ملائكته في الرؤيا، وغير ذلك، عجائب من الحوادث الحادثة في العالم.
ومن كلامه في المعرفة النظرية والكمال الإنساني أو في الاتصال بالعقل الفعال
وطرق إلى اليقين ببقاء النفس الناطقة إذا كملت، وكمالها أن تصير عقلاً بأن تعقل في ذاتها معقولات من التي هي عقل بالفعل، أحطها مرتبة عقل الإنسان وإذا عقل الإنسان هذه العقول، وصارت له عقلاً ومعقولاً، فتكون حينئذ صورة له يكمل بها كمالاً تاماً، بحسب ما للإنسان الكامل أن يكمل كأرسطو، أو بهداية من الله عز وجل كالأولياء. وبذلك يكون فعله في ذاته بذاته، وفعله هو أن يرى ببصيرة عقله وعمله يقيناً، وبذلك يرجع على ذاته بذاته فيكون الراجع والمرجوع إليه واحداً، كما قال الإسكندر، فيكون روحانياً لا جسمانياً، ولا يحتاج في وجوده إلى جسم، ولا أن يفعل في جسم، ولا في قوة جسمانية، وينبو عن القوة المتخيلة.
وذل أن قوة الإنسان النظرية تفعل أولاً في القوة المتخيلة، وهي قوة في جسم، بأن تجرد من المخلوقات الشخصية المتخيلة معانيها بأن تفعل وتعلم ما كل واحد منها بأسبابها الكلية، ولا تزال قوة الإنسان العقلية تتزيد بالفكرة في المخلوقات، وتطلب أسبابها بإحضار المخلوقات في القوة المتخيلة حتى تتمكن معقولاتها، وتصير تلك المعقولات عقلاً، ويرى العقل ببصيرته تلك المعقولات فيه، فلا يحتاج عقل الإنسان إلى قوة جسمانية يفعل بها، بل يفعل في صورته بأن يقل ذاته التي هي عقل، فيكون فعله هو عقله، ويكون بذلك باقياً، وفعله هو ذاته، كسائر العقول التي لا يفنى فعلها.
إن يعقل ويعلم لا يتحاج إلى شيء مادة هي سبب الفساد، وإنما حاجته إلى العقل الذي أوجده بما يفيض عليه، كحاجة سائر العقول العالية إلى العقل الذي فوقها وهو الذي أوجدها. والأعلى يفيض على الذي دون دائماً، والكل من السبب الأول على ترتيب. وهذا قد يكون كمالاً للعقل بطريق التعلم البرهاني حتى يتمكن ذلك صورة وقد نجد بالفعل ما هو أعلى من غير تعلم، على نحون ما يبلغه أصحاب الفطر الفائقة. فغن الكمال الإنساني الدائم قد يكون بأن يفيض على القوة الناطقة إذا كانت. دفعة أو بتدريج من العقل الفعال بصيرة يبصر بها الإنسان العالم، فيحصل له ما يحصل للواصل بالتعلم بعد التعلم من دوام الفيض وهؤلاء درجات أعلاها الأنبياء على درجاتهم، ثم الأخذون في أعمالهم و. بما جاءت به الرسل حتى يفيض عليهم ما يفيض على المتعلمي من غير تعلم، و.. أولياء الله على درجات.
والمعطي هذا كله العقل الفعال يظهر أولاً للمتعلمين بصيرة يرون بها المعقولات الأول التي بها هؤلاء يمتحنون حتى يصلوا، فإذا وجد استعداداً فائقاً أعطى ما هو أكثر بحسب ما هو استعداد في استعداداً فلا يبعد أن يصل بما فطرته الأنبياء إلى درجات من الكمال أكمل مما يوصل بالعلم البرهانين إذ كان الإنسان بالاستعداد قوياً للقبول، فإن العقل الفعال أبداً يفيض عنه كمال تام للإنسان في الغاية. والتقصير إنما يلحق من جهة الاستعداد القابل لا من جهته. وكما يفيض عن كل واحد من العقول الثواني على ترتيب عقل شبيه به ليس هو، كذلك يفيض عن العقل الفعال عقل شبيه به ليس هو هو، يبقى ببقائه، لا يحتاج في وجوده إلا له، كسائر الثواني التي لا تحتاج في وجودها إلا للذي أوجدها بما يفيض عليها أبداً.
وطريق الصوفية المستعدين للقبول، وطريق الغزالي من الطرق الموصلة، والطرق المأخوذة أولاً عن نبينا صلعلم. فأرى أن تمزج ما عندك من الكمال التعليمي بذكر الله عز وجل، وبالفكرة في كماله، بما عندك من اليقين بوجوده، وإنه عالم، وإن علمه بذاته فقطن وعلمه هو ذاته، فإنه يعلم جميع الأسباب من جهة علمه بذاته وبكمال ذاته التي بكمالها فاض وجودا ذلك الموجود، وإنه عالم بما فاض عنه، ولعلمه بذاته فيعلم ما يفيض عنه. فاعمل على تصفية نفسك بذكر الله وتعظيمه بصفاته على ما ذكر الشيخ أبو نصر في كتاب الله. وهو الموفق للحق لا رب غيره.
ارتياض في تصور القوة المتخيلة والناطقة
يرتاض الإنسان أولاً ويقوى في تصور القوة المتخيلة التي. القوة الناطقة فيها أعمالها أولاً وفيها تظهر وهي الموضوع. إذا حصلت فيها متخيلات المحسوسات كلها أو جلها فأقولك القوة المتخيلة الموجودة في الإنسان بالفعل، هي القوة التي يجدها الإنسان في نفسه، يرسم فيها رسوم المحسوسات، ويتصور بها ويحضر الإنسان فيها رسوماً من المحسوسات متخيلة بعد غيبتها عن الحواس، فيرى الإنسان فيها صفة زيد وعمرو وصفة داره ودابته وغير ذلك من المحسوسات المشار إليها، ويكون هذا الفعل من القوة المتخيلة في اليقظة والنوم.
وهي التي تركب صوراً من المتخيلات لم يحس بها، بعضها صادقة مثل تخيلنا زيداً في وضع كذا أو صفة كذا إذا كان كذلك. وبعضها كاذبة إذا تخيلنا زيداً بصفة كذا أو في موضع كذا وليس هو كذلك، ومثل تخيلنا عنزاً برأس إبل أو براس فرس أو غير ذلك من الأمور المخيلة الكاذبة.
وقد تركب وتتخيل أمراً ليس بشخص يحمل على أكثر من شخص واحد، فتحاكي صفة المعنى وتتخيله صنماً يعم أكثر من الواحد، ولا يعم كل ما يقال عليه المعنى، فتحاكي الإنسان وتتخيله فيها منتصب القامة ذا لحم وعظم متغذياً حساساً. لكن تتخيل الإنسان بمقدار ما، ولذلك لا يعم ذلك المتخيل كل إنسان. وللعقل في هذا التخيل فعل ما.
وإذا تأمل الإنسان جميع ما ذكرته في نفسه وجد القوة المخيلة في نفسه على ما ذكرته لا شك فيه ولا في وجودها. وكذلك وجود القوة الناطقة يجدها الإنسان في نفسه، ويعلمها علماً يقيناً لا يشك فيه بشيء من التثبت. وذلك أنا نجد في أنفسنا ما نتميز به ونفصل عن سائر الحيوان المتغذي الحساس، فإن الإنسان يجد في نفسه معلومات تحتوني على ميز الجميل والقبيح والنافع والضار يحوزها ويميزها، ويجد في نفسه أموراً يرى صدقها لا شك فيه، وأموراً هي على ظن، وأموراً هي كذب لا يجوز في الوجود. كل هذه المعلومات يجدها الإنسان في نفسه.
وهذه المعاني المعلومة في النفس تسمى نطقاً، وما يوجد في الإنسان يسمى ناطقاً. والنطق يقال على القوة الناطقة بالقوة التي شأنها أن توجد فيها هذه المعلومات، لأن الإنسان يوجد وليس فيه هذه القوة، وثم يقبلها، فتكون فيه بعد أن لم تكن، فقبل أن يقبلها له قوة شأنها أن تقبلها ليست في الفرس ولا في الحجر. ويقال أيضاً نطق على هذه المعلومات إذا كانت بالفعل موجودة بالقوة التي شأنها أن تقبلها، ويقال نطق على الألفاظ حين نعبر بها عن هذه المعلومات الحاصلة بالفعل. وكل هذا بين بنفسه بأدنى تأمل.
وهذه المعلومات الحاصلة بالقوة الناطقة بالفعل متى أخذت بالإضافة إلى الأشياء المأخوذة عنها سميت علماً، لأنها علم بها، ويه التي عرفتها، ومتى أخذت من حيث أدركتها قوة توصف بها، وتحمل على موضوعاتها المأخوذة عنها، سميت معقولات. ومتى أخذت من حيث أدركتها القوة الناطقة، وكملت بها، وخرجت بها من القوة إلى الفعل سميت عقلاً.
والنطق يخرج من القوة إلى الفعل بأن يحصل في نفس الإنسان معلومات. وحصول المعلومات يكون بدرجات أولها علم هذا المشار إليه. وهذا يكون أولاً بحصول حال هذا المشار إليه في القوة المتخيلة حصولاً مجملاً دون أن يجوز التخلي فيه، ويبرز صفة من صفاته، لا أنه الأبيض ولا أنه الطويل ولا النحيف، بل يميزه مجملاً، ولا يلتفت إلى صفة من صفاته، وهذا لضعف العلم بالشيء يشبه تخيل الحيوان الذي له تخيل. ثم إذا تمكن حال هذا المشار إليه في القوة المتخيلة، ارتقى الإنسان إلى هذا المشار إليه بصفات مفصلة يعرفه بها بالإضافة إلى مشار إليه واحد بعينه في العدد يميزه منها فيميز زيداً بأنه الطويل الأبيض النحيف، ويأخذ هذه الصفات في التخيل كأنها شيء واحد بعينه في العدد، مضافة إلى مشار واحد بعينه في العدد، ذ هي مضافة إلى واحد بعينه في العدد يميزه منها فيميز زيداً بأنه الطويل الأبيض النحيف، ويأخذه هذه الصفات في التخيل كنها شيء واحد بعينه في العدد، مضافة إلى مشار واحد بعينه في العدد، إذ هي مضافة إلى واحد بعينه. ولذلك زعم قوم ن ما تدل عليه الألفاظ باطل، إذ كانت تدل على كثرة فيما ليست فيه كثرة ولا هو كثير، لأن هذا المشار إليه الذي هو الطويل والأبيض ليس بكثير. وهذا كما ذكر الشيخ أبو نصر مخالفة للمحسوس وللمعارف وخروج عن الإنسانية. وبهذه المعرفة تحصل للإنسان المعرفة بالأشخاص من جهة ما هي أشخاص مشار إليها، وبها يحصل شخص زيد ويعلم. والصفات التي يعرف بها على النحو الذي ذكرته هي أشخاص الأعراض التي لا يوصف بها سواه، ولا يقع بها تشابه بين اثنين أصلاً، لأن تلك الأعراض لا يوصف بها سواه، لأن البياض الذي في زيد ليس هو البياض الذي في عمرو. به ما هو شخص بياض. وبعد حصول المتخيلات في القوة المتخيلة على هذا النحو تكون القوة الناطقة تنظر ببصيرتها فترى المعاني الكلية التي تحمل على ما في القوة المتخيلة، وبها تخيل وتميز ما هو كل واحد منها.
وإذا ذكرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني الكلية ميزتها وأحضرتها ورأتها، وذلك على ثلاث جهات: إحداها: أن تحضر القوة الناطقة هي هذه المعاني الكلية، وتراها في الأشخاص المتخيلة التي أخذتها عنها، فتحضر القوة الناطقة التي لزيد المعنى الكلي، وتراه ببصيرتها في أشخاص غير الأشخاص التي تراها فيها قوة عمرو، والناطقة على هذا تميز المعاني الكلية عند الجمهور وعند أولي النظر، فتكون المعاني الكلية متميزة عند الجمهور على هذا النحو فيرونها في أنفسهم ويحضرونها على ما ذكرته.
والجهة الثانية: أن تميز القوة الناطقة هذه المعاني الكلية حق الميز، لكن متى رأتها ببصيرتها، وحضرت في النفس مرئية، فإنما تراها ببصيرتها في القوة المتخيلة أيضاً وإن تفعل القوة المتخيلة أيضاً، ما شأنها أن تفعله من المحاكاة، بن تحاكي المعنى الكلي، وتصور فيها صنماً يعم أكثر من واحد، ولا يعم كل ما يقال عليه ذلك المعنى، كما يحاكي المصور صورة فرس من حجارة وكما يخطه الرسام في بسيط، لكن ما تحاكيه القوة المتخيلة أكمل، لأنها تحاكي، لأنها تصور صورة فرس متغذ صهال، لكن ما يعم كل ما تحايكه كل فرس، لأنها إنما تحاكي الأشياء محدودة بنهايات ومقدار من المقادير، فلا يعم صنمها مثلاً الفرس الكامل والمتوسط ولا المهر، وإنما يعم صنمها ما كان على المقدار الذي حاكته. فإذا ميزت القوة الناطقة المعاني الكلية، ورغبت إلى إحضارها لتراها وتبصرها ببصيرتها عند الفكر أو عند التفهم بالقول والمخاطبة، فإنما تراها ببصيرتها في الصنم الذي حاكته القوة المتخيلة. لكن القوة الناطقة تميز في ذلك الصنم أن عمومه ليس على الكمال، فلا يضرها ذلك فيما تفكر فيه وتبحث عنه في ذلك المعنى المعقول. وعلى هذا النحو من التمييز تتميز المعاني الكلية عند الصناع وعند أكثر من ينظر في العلوم فإن الصانع عندما يفكر كيف يصنع مصنوعاً ما، يحضر صنم ذلك المصنوع فيميزه ويتخيله ويدبر كيف يصنع، وكذلك الناظر في العلوم. معلوماته ليعلم ما هي وغير ذلك مما يوصف يحضرها أصنافاً في القوة المتخيلة.
وبهاتين الجهتين تخدم القوة المتخيلة القوة الناطقة بأن تحضر فيها خيالات الأشياء، إما خيالات أشخاص بأعيانها وإما صنماً يحاكي المعنى الكلي على النحو الذي ذكرته، فنأخذ القوة الناطقة في المتخيلات صفات كلية. ومن رأى أعمال القوة الناطقة في المتخيلات التي في القوة المتخيلة، حسب ما ذكرته، رأى تحقيق ما ذكرته يقيناً لا شك فيه، ورأى بقوته الناطقة حين قاضت عليها الموهبة، تلك الموهبة، كما نرى بقوة العين ضوء الشمس بضوء الشمس. والسبب القريب في الشمس، نبصر بها ونرى مخلوقات الله تعالى حتى نكون ممن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة إيماناً يقيناً، فنكون من الذين "يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار". ولا فكرة إلا بتلك الموهبة، وتلك الموهبة هي اتصاله بالعقل الفعال.
ولنرجع فنقرر ما ذكرناه على جهة الارتياض ليتمكن ولا بد من مساق القول من قبل ما مد فأقول: يجب على الإنسان أولاً حتى يرى ببصيرة نفسه القوة المتخيلة كما يرى الأشخاص ببصره ويميزها حق التمييز، ثم ينظر إلى القوة المتخيلة من حيث تتكرر عليها أشخاص المخلوقات، وكثر من المتخيلات فيها ماله شخص واحد، وماله أشخاص كثيرة، وما يتعلق بالأشخاص من الأعراض من مقدار ولون وعلم وصحة ومرض وحركة وزمان ومكان وغير ذلك من أشخاص المقولات، فإذا فعل هذا رأى ببصيرة نفسه أن للقوة الناطقة نظراً في المتخيلات تدرك بها ما تشترك به وما تتباين به المتخيلات الحاصلة عن أشخاص المخلوقات. والمعاني التي تشترك بها والتي تتباين بها هي الصفات والمحمولات والمعقولات التي تتميز بها وتوجد معلومة بها. وإذ ذاك فانظر كيف تكشفت هذه المعاني المدركة للقوة الناطقة بالموهبة الفائضة عليها كما تنكشف للبصر المبصرات بنور الشمس بعد أن كانت مغيبة، قبل أن يفيض على هذه نور الشمس وعلى تلك موهبة الله عز وجل التي بها نرى الكل وأجزائه، تحكم أن الكل أعظم من جزئه، وبها نرى الأعداد المأخوذة في معدودات مختلفة إذا قدرها الواحد و.. الأعداد المأخوذة في المعدودات المختلفة متصلة بعضها.. وإذ تكرر النظر في مخلوقات حتى يحضرها الإنسان في القوة المتخيلة، وفكر في مخلوقاته وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار. والوحي والرؤيا وما تنطق به ألسنة الكهنة، تكشف القوة الناطقة. ببصيرتها، والتزمت التزاما ضروريا وجود موجودات لم تدرك بخيال ولا بحس، بل أدركتها القوة الناطقة علماً محضاً مختصاً بها، أدركته فيها وبها، وحينئذ ترى الناطقة ببصيرتها المعلومات فيها وتنبو عن التخيل، وإذا ذاك يتسع نظرها، وتتشوق إلى معرفة أسباب المخلوقات التي عقلتها. فإنها لا ترى أنها علمت المعلومات على ما ينبغي حتى تعلمها بالأسباب الأربعة، فيما كانت له الأسباب الأربعة، أعني إلى معرفة صورة الشيء، وما توجد فيه الصورة من المواد ومن الموضوع، وفاعله، والغاية التي لأجلها وجد. فإن الإنسان بالطبع يتشوق إلى معرفة هذه الأسباب ويبحث عنها ويسأل حتى في الأمور المحسوسة عن الأسباب الجزئية. ومثال ذلك بين في كل مصنوع وفي كل طبيعي.
والإنسان في الأمور المعقولة أشد تشوقاً لمعرفة أسبابها لنه نظر أعلى وأرفع وأنفع، فإنه بطلب الأسباب يصل الإنسان إلى الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة الآخرة. والتفاضل في موهبة الله التي بها تبصر القوة الناطقة متفاوت بحسب ما يعطيه الله أيضاً في أول خلقه الإنسان من الاستعداد لقبول الموهبة التي بها تبصر القوة الناطقة. وهاتان الموهبتان ليستا بمكتسبتين، وإنما يكتسب ما بعدهما لمن وفقه الله تعالى إلى العمل. بما يرضيه، فهذا هو الكمال الإنسان، ولا يوجد إلا بما تأتي به الرسل عن الله عز وجل، فمن اتبع هوه فلا يضل ولا يشقى. فلسرد الإنسان نفسه بما حض عليه صلوات الله عليه، وندب إليه، وليجعل ذكره كله ونظره في مخلوقات الله عز وجل ودرجاتها في الكمال، كمال الوجود، فيرى ببصيرة قلبه ما هو كل واحد منها، وعما هو، إلى أن ينتهي بالضرورة إلى أن يعلم ببصيرة قلبه أن الله خالق جميعها، وإنه وحده لا شريك له، وأنه واجب الودود بذاته، وإن كل ما سواه من الموجودات حادث ممكن الوجود من جهة ذاته واجب الوجود بذاته، لا إلاه إلا هو، خالق كل شيء، وهو بل شيء عليم. وعلمه بالأسباب جهة علمه بذاته، لا أنه يعلم الأشياء من جهة الأشياء، كما نعلمها نحن، ولذلك علمه هو هو. ولما صدرت جميع الأشياء عن كمال ذاته فهو يعلم الأشياء لعلمه بما صدر عنه، ألا يعلم من خلق، وعلمه بالأشياء هو سبب وجودها. صانع لسبب مصنوعه الذي يخرجه إلى الفعل إنما هو علمه.. وارتفاع العوائق لكن يحتاج إلى الأسباب ولها بأيدينا. والله عز وجل لا يحتاج إلى آلة، بل إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. والصانع لمصنوع ما يعلم ما في موضوعه استنبطه فأخذه بالفعل من علمه. في مصنوعه، فليس علمه بما في مصنوعه من جهة مصنوعه، بل من جهة علمه بما صنع، وكل من سوى ذلك الصانع منا إنما يعلم بما في ذلك المصنوع المستنبط من جهة ذلك المصنوع المشار إليه بالفكر والبحث، حتى يحصل له ما كان في نفس المستنبط له، ولا سيما في الأمور الغريبة الاستنباط مثل ميقاتة الزرقالة، وكذلك مخلوقات الله عز وجل ما نعلم نحن فيها ما نعلمه من جهتها ومن جهة الفكر فيها ببصيرة القلب، والله عز وجل يعلمها من جهة علمه بما خلق وابتدع فإنما الإنسان ولي ذلك الإنسان. خذ نفسك واعمل ببصيرتك في مخلوقات الله عز وجل حتى نوصلك إلى المعرفة به. "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً". وإذا علمت الله عز وجل وكتبه ورسله فمن أصل ممن نسيه "نسو الله فأنساهم أنفسهم" ومن نسي نفسه ضلالاً بعيداً، إذا لا طريق له إلى الهداية، وصار في ظلمات الشهوات من اتخذ ألهه هواه. فكن ممن جعل هواه ذكر ربه بقلبه، ووالي ذلك بجهدك يهديك الصراط المستقيم، "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين".
نظر آخر يقوي تصور ما تقدم لما كان العقل علم ماهيات الموجودات، والموجودات قسمان: موجودات نعقلها ولا نقدر على إيجاد الموجود منها، فينقسم العقل قسمين، أحد القسمين عقل نظري يعقل الإنسان ببحثه ونظره موجودات لا قدرة له على إيجادها البتة، لكنها تحصل معقولة له، على نحو ما لخصناه قبل، والقسم الثاني أن الإنسان يعقل الموجودات الصناعية التي له قدرة على إيجادها، وهذا هو للإنسان العقل العملي، وكماله أن يعقلها ويوجدها وبين أن وجودها يوجد بإرادة الإنسان وإنما توجد بأعضاء بدن الإنسان و، إما بأن تتحرك الأعضاء دون آلت من خارج، وإما بأن تتحرك الأعضاء فتحرك آلات من خارج، فتحركه الأعضاء إذا تم وجود المصنوعات الصناعية التي تكون بإرادة الإنسان، وهذا بين بنفسه. وبين أيضاً أن أعضاء الإنسان ليست تتحرك من ذاتها لعمل ذلك المصنوع، بل تتحرك بإرادة الإنسان، ثم توجد خارج نفسه مصنوعاً مثاله في نفسه.. تأخذ الأعضاء في وجود ذلك المصنوع، وهذا المثال خيال متخيل في القوة المتخيلة من النفس فيه عموم، وهذا المثال المتخيل يزول عن النفس ويحصل. آخر. هكذا أبداً كلما أراد الإنسان أن يصنع شيئاً يقيم في الخيال مثال ذلك المصنوع.
وإذا أمعن الناظر التثبت رأى ببصيرة نفسه أن قوة أخرى في النفس تبسط هذا المثال في الخيال، وتنقله من حال إلى حال حتى يكمل وجوده في النفس، وإذ ذاك تبدأ بتحرك الأعضاء لوجود ذلك المصنوع. وهذه القوة التي تفعل هذا وتبسطه في التخيل، هي التي تسمى العقل العملي. وهي العاملة أولاً، ثم التخيل يتخذ الأعضاء التي تتحرك لعلمه على نحو ما تحركها الإرادة بالقوة النفسانية. والعقل العملي إذن يبسط في القوة المتخيلة مثال المصنوع على مقدار ما يقصده من مقدار وهيئة، ثم تأخذ القوة المحركة للأعضاء من قوى النفس بما تحرك الأعضاء الحركات التي تدبرها فتدبرها وتوجد ذلك المصنوع الذي مثاله في القوة المتخيلة. فالعقل إذن أولاً هو الصانع لذلك المصنوع، لا الأعضاء التي تتحرك بالنفس، ولا القوة المحركة للآلات، بل العقل الذي يدبر تلك الحركات ويأخذ القوة المحركة للأعضاء بإيجاد الحركات. وقد تبين أن المصنوع لا يوجد نفسه، وإنما يوجد بما يليه ويماسه من الأعضاء والآلات المتصلة بالأعضاء. وبين أن تلك القوة للأعضاء لم توجده أولاً وإنما أوجدته القوة المحركة للأعضاء. وبين أن تلك القوة لم توجده أولاً أيضاً على الحقيقة، وإنما أوجدته قوة العقل التي رتبته أولاً في التخيل، ثم حركته الأعضاء بإرادته. والقوة المتخيلة في وقت إيجاد الشيء تستعين بالحس لتحضر فيها ما فعلته الأعضاء ليرى العقل هل ما تخيل في القوة المتخيلة في الحس على مثال القوة المتخيلة. وللعقل نحوين من.: أحدهما أن يصور فيها مثال ما يراد إيجاده، والثاني أن يحصل فيها على الحس ما تفعله الأعضاء المتحركة في ذلك الشخص الذي هو خارج النفس.
وإذا نظر هذا النظر في الموجودات الطبيعية وجدت الطبيعة مثل الأعضاء، وأنفس الأجرام السماوية مثل القوة المتخيلة، والفاعل هو الذي يعلم ما يفعل فيفيض على الأنفس السماوية ما يريد إيجاده ويصور فيها على مثال ما يصور العقل الإنساني في الخيال ما يقصد إيجاده في الطبيعة محرك موجود في الأجرام التي في الكون والفساد، ووجودها في هذه الأجرام عن حركة لأجرام السماوية. وأظهر ما توجد حركة الطبيعة في الأجرام التي في الكون والفساد عن حركة الشمس، فإنه توجد عن حركتها حرارة بها تفعل الشمس في النبات ما يظهر لنا من تحريك النبات إلى التغذي والنمو والتوليد، فحرارة الشمس. أعضاء بدن الإنسان والآلات التي بها يفعل الإنسان عن عقله، وكذلك حرارة الشمس هي التي تدبر الشمس وتفعل بما يفيض عليها من الله عز وجل مما يريد أن يفعله، فحرارة الشمس من حيث تفعل بها نفس الشمس وطبيعة ما يكون عن حركة جرم الشمس. وكذلك تصدر عن جميع حركات الأجرام السماوية طبائع تفعل بها في الأجرام الطبيعية وعنها تتغير الأجرام تغيرات مختلفة. وكما توجد المصنوعات عن الإنسان بالعقل والنفس والأعضاء، كذلك توجد الأمور الطبيعية عن عالم يفعلها أولاً في أنفس موجودة في الأجرام السماوية تدير بها الطبيعة لتوجد الأمور الطبيعية.
وينظر العقل النظري ببصيرته في العقل العملي، وذلك أن المعقول من المصنوعات في العقل العملي كلي متوحد، فإذا بسطه وأوجده في النفس بسطه وأوجده متكثراً، وإذا أوجده خار النفس أوجده في نهاية التكثير لأنه يوجده بنهايات وعلى مقدار في النفس، ويوجد كل واحد من المقادير التي في النفس أشخاصاً كثيرة خارج النفس. مثال ذلك: معقول الياقوت في العقل العملي هو معنى واحد، فإذا أوجده في النفس أوجده على مقدار ما من الصغر والكبر في الطول والعرض والارتفاع، لأنه ليس في قوة النفس أن تقبله كما هو في العقل من التوحد، لأن العقل أعلى وأشرف، فإذا أوجد خارج النفس أشخاص كل مقدار منها، أوجد كل واحد منها أشخاصاً متكثرة جداً، لأن المواد لا تقبل الصورة كما هي في النفس من التوحد. وهذا الذي ذكرته من المعنى الغريب الذي يدركه العقل النظري في العملي يلزم أن يقال: كل ما قرب من الواحد الأول كان أكثر توحداً، وكل ما بعد عنه في مرتبته كان متكثراً.
الفطرة الفائقة والتراتب المعرفي
الفطرة الفائقة المعدة لقبول الكمال الإنساني هي المعدة لقبول العقل الإنساني، ثم لقبول عقل إلهي وهو عقل مستفاد من الله عز وجل لا يدرك. وهي الفطر التي تعلم الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة التي هي بقاء لا فناء معه وسرور لا كدرات معه. والعلم في.. أن يرى ببصيرة نفسه، التي هي موهبة من الله عز وجل، الموجودات. عم كمال وجودها. فالذين بلغوا الكمال الإنساني هم الذين يعلمون أن الله عز وجل ومخلوقاته، وصار هذا العلم صورة لهم، وذلك هو الكمال العقلي. وأي كمال للإنسان ما أعظمه حتى سمى هذا العقل وهذه الموهبة بصيرة الأشياء ما تقدم القول فيه. وهذه الموهبة من الله عز وجل، التي هي بصائر القلوب، تتفاضل في الإنسان تفاضلاً عظيماً، وأعظم البصائر الموهبة من الله عز وجل بصائر الأنبياء صلوات الله عليهم يعلمون الله عز وجل ومخلوقاته حق علمه، ويرون ببصائرهم الفائقة في نفوسهم ذلك العلم العظيم دون تعلم ولا اكتساب. وأجل المدركات العلم بالله تعالى وهو لا سد، ويهدهم الله لمعرفته ومعرفة ملائكته علم ما كان ويكون من الحوادث الجزئية الحادثة في هذا العالم يرونها ببصائر قلوبهم من يغر أن يشاهدوها ويعاينوها. ودون الأنبياء أولياء الله الذين فطرهم على فطر فائقة يأخذون بها من الأنبياء ما يوصلهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى، ولا يزالون يصدقون بذلك حتى يروا علم ذلك في نفوسهم ببصائرهم بحسب درجات الموهبة من الله تعالى التي يبصرون بها نفوسهم على ذلك مسدون الدنيا ويأنسون ويلذون للفكرة بذكر الله ببصائرهم الفائقة، نطقت بذلك نفسهم أو لم تنطق، فإنه لا يخلو علم ذلك من نفوسهم. وهؤلاء المخلصون يفيض عليهم من الله عز وجل بحسب الرؤيا جزء يسير مما وهبه الله للأنبياء من الإطلاع على المغيبات التي تكون من الله تعالى في العلم على درجات. وأولياء الله منهم صحابة النبي صلعلم، وكل من أخلص لله وصدق فلا بد له من السعادة الأخروية.
وبعد أولياء الله طائفة قليلة، وهبهم الله بصائر يتحققون بها على تدريج ما هو كل موجود بقيناً، إلى أن يبلغوا من العلم اليقين بمخلوقات الله عز ودل ما يبلغهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة، ويروا يقيناً ببصائرهم أنهم تبرأوا بذلك عن البدن، وحصل لهم الكمال الذي هو السعادة القصوى التي هي بقاء بلا فناء وعز بلا ذل. وبالجملة أن يدرك الإنسان أجل مطلوباته وأكملها، وهو العلم بالله عز وجل، حتى يكون كل ما دون الذي أدركه حقيراً عنده لا يرضاه ولا يحاكيه، بل يحب ما هو فيه ويلتذ به أكمل لذة ويتعشقه، وهؤلاء هم مثل أرسطو وهم قليل جداً. وابتاع هذه الطرائق عن ولائها طويلة، وربما مات طالبها في بعض طرق التعليم فلا يصل إلى السعادة التي هي السرور الدائم والطريق المضمونة التي لا تخيب. ومن وهبه الله فطرة وبصيرة يرى بها حقيقة ما جاءت به الرسل فليهتد بهداه، وليلتزم أوامره وما جاءت به الرسل، وليوالي على التفكر وعلى ذكر الله، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، فإنه ينكشف له العلم بالله وبمخلوقاته فيكون من الذين هداهم الله الصراط المستقيم "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليه ولا الضالين". والمنعم عليهم الذين وهبهم الله الموصلة إلى القرب منه، فعملوا بما يرضاه، وجعلها لهم نوراً يمشون بها على الصراط السوي. والمغضوب عليهم هم الذين وهبهم الله موهبة توصلهم إلى القرب منه فيعملون بما لا يرضاه ويتبعون هواهم. والضالون هم الذين يمشون بغير موهبة. ومن جعل الله له نوراً يمشي به في الناس فليس كمن جعله في الظلمات ليس بخارج منها. ومما يجب أن يقرر أن الفطر الفائقة يعلمها الله ما في العالم من الموجودات التي ابتدعها بقدرته من خلق السموات والأرض وما فيهن مما شان الإنسان أن يعلمها بالتعلم. والفطر الفائقة إذا قربت من الله عز وجل علمها، وهو بكل شيء عليم. فإن المعقولات الأول التي يعلمها الله للإنسان المعد لأن يعلم بها إنما تحصل من الله عز وجل.
فيض العلم الإلهي
والله عز وجل يفيض من علمه على موجوداته ومخلوقاته العلم والعمل فيقبل كل موجود بحسب مرتبته من كمال الوجود. والعقول تقبل منه العلم بحسب مراتبها، والأجرام تقبل منه الأشكال والصور النفسانية بحسب مراتبها، ومراتبها بحسب أمكنتها. ولكل جرم سمائي عقل ونفس، فبالنفس يفعل الأفعال الجزئية المحسوسة على جهة التخيل، كانتقاله من موضع متخيل لا سرح على ذلك. وهذا الانتقال الجزئي المحسوس تحدث عنه أفاعيل جزئية محسوسة في الأجرام التي في الكون والفساد، وأظهر ما يكون هذا من الأجرام السماوية في الشمس والقمر. وبالعقل يعلم الإنسان العلم المنزلة عليه من الله عز وجل ذوات معقولة، وجزئيات من الحوادث الحادثة في المستقبل وفي الحال وفيما مضى فيما لم يشاهد بالعيان، وذلك غيب الله عز وجل يطلع عليه من يشاء من عباده بوساطة ملائكته. كذلك العمل يحدث عنه في الأجرام بوساطة أجرام، لا أنه يتناول الأعمال بذاته بل بعلمه، وعن علمه يحدث بوساطة جرم، لأنه إذا أراد وجود من الأجرام شيء من الأجرام فظاهر أنه يعلم ذلك الشيء فيوجده بوساطة ما يتحرك عنه من الأجرام، كما أنه إذا أراد إيجاد العلم أفاضه على العقول فيوجده في إنسان يليق به بتوسط عقل أعلى من الإنسان.
في الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي
ولو رجعنا إلى القضاء والقدر لاسترحنا، فكل شيء يعلمه، لأنه يفيض الخير أجمع. كل شيء موجود بعلمه يختلف من جهة القابل، منه فاض مثل ذلك القابل فهو يعلمه، وعنه فاض كل موجود حتى ما يوجد في المادة القابلة للكون والفساد، وإن كان بتوسط، فنسبته إليه نسبة واحدة بتوسط ودون توسط، لأنه أعطى الأسه مطلعه كما هي في علمه، لعلمه بذاته، وأفاض على المتوسط أن يوجد الصورة مثل ما هي في علمه، وأفاض على القابل للصورة أن يقبل الصورة. هذا في جميع الموجودات حتى في مادة الكون والفساد، وحتى في العقل الإنساني. وجعل وجوده بعد عدمه لم يزل، فإذا كمل وجوده لم يزل موجوداً. وهذا الموجود وحده من الموجودات أزلي في الكون والفساد صفته هذه الصفة، لا يزال الوجود فيه كذلك، لا يزال يوجد بعد أن لم يكن. فإن وجد دام وجوده مع الدهر لا مع الزمان. فعلى هذا الوجه يكون عقل الإنسان له البقاء الدائم. وانظره في إيضاح الخير بجده، ففيه أبواب كثيرة في الخير. وأظنه الذي يسمى بمقالات الخير، فإن كل باب منه قول في الخير. فهذا ما ظهر لي فيما تجاذبناه. ولقد واليت النظر في أبوابه، فانكشف لي نور بين وعلم يقين، فلا أقدر أن أفارقه، ولقد علقت عليه. وانظر، مع نظرك في مقالات الخير، في عيون المسائل، ثم في قول أبي حامد، تجد الكل من نمط واحد، والكل في التأويل مع الكتاب العزيز متفق. لكن ذلك بأن توجد في بصيرة العقل في العقل، وهذا هو رجوع الشيء على ذاته، حتى يكون فعله هو ذاته، حتى لا يحتاج إلى فاعل يفعله ولا لمن يحفظه، بل هو حافظ ذاته، وفعله دائم لا يحتاج في وجوده إلى غيره، فليس له شيء يعدمه لأنه واحد في ذاته.
والنور هو في القلب نظر ننظر به المعقولات كما ننظر ببصر العين إلى الأشخاص المرئية. وبتلك البصيرة التي نرى بها المعقولات نرى لوازم المعقولات المتقدمة من اللوازم المتأخرة، وذلك هو العقل في المعقولات مجردة عن التخيل، وذلك هو نظره في ذاته بذاته أن ينظر بنور القلب فيرى دائماً ما حصل له، وينظر فيما يحصل عما قد حصل، ويرى ذلك النور به، فيرى دائماً ما حصل له، وينظر فيما يحصل عما قد حصل، ويرى ذلك النور به، فيرى دائماً ما حصل له، وينظر فيما يحصل عما قد حصل، ويرى ذلك النور به، فيرى رحمة الله الفائضة عليه، وهي وجوده الأكمل، كيف وسعت كل شيء على مثال واحد، وإنما اختلفت نسب القابل وعظمها قبولاً لذلك النور المتدع الأول.
ومن بعض ما ذكرته أن الأول يعلم الجزئيات من جهة علمه بحدودها، وهذا نقص في الوجود، لأنه وجود من كثرة معلومات، وليس علمه شيئاً إلا علمه بذاته، فهو يعلم الأشياء لا من الأشياء، بل من علمه بذاته الكاملة الوجود، وعن كمال وجوده فاض كل موجود إلى أنقص الموجودات. وعلمه بالموجودات هو سبب وجودها، وعلمه بالموجودات إنما هو علمه بالحركات، وأسبابها، فإنه مخترع الحركات كيف تكون. وجعل الأسباب كلها بعلم منه، مخترع الكل على ترتيب. فأول مخترع منه العقل الأول، ثم سائر الموجودات على ترتيب إلى أنقصها، وهي مادة الكون والفساد. وكل موجود في مرتبته وكماله واحد بذاته، ولا يكون به تشابه بين اثنين أصلاً فهو موصوف بما يوصف به الشخص الجزئي مما في الكون والفساد على جهة واحدة. وإنما قيل في الثواني في الأجرام السماوية إن بعضها أعم كلية من بعض من جهة ما يوجد عنها من الموجودات، لا من جهة ما تتشابه به. ألا ترى أن الأول يعلم جميع جزئيات العالم والثواني والأجرام السماوية، وكل واحد منها جزئي بذاته لا يتشابه به اثنان، فهو مخترع جميع جزيئات مادة الكون والفساد، وسبب وجودها إيجادها العقل الفعال، فإن لكل واحد من الثواني جرماً يفعل فيه بما رسمه نفس الجرم، ويوجده ذلك الجرم في جرم آخر. والعقل الفعال يرسم في نفوس أجرامه ما يقصد إيجاده في جزء جزء من المادة وإن دق، فالعقل الفعال متولى ذلك عن الأول، ويعلم ذلك، والأول ما يفوته منها جزء وإن قل، فهو يعلم كل نفس وكل كلمة ذرة، لأنها كلها محمولة في الهواء الذي هو محمول في جرم المادة. والأول واحد بالحقيقة عنه فاضت جميع الموجودات، والأول أعم الموجودات عموماً من جهة أنه واحد عام لوجود جميعها، لأنه مخترع لها ولأسباب وجودها. وإنك وإياي ممن يعلم ذاته بذاته. والعلم فعل ما، فذلك النور يفعل ذاته في ذاته لا يحتاج إلى فاعل غيره ولا يحلقه فساد. فقد ضللنا أن شغلتنا أموالنا وأهلنا فالله الله اغتنم التفرغ وتزود فلا ينفع إلا القلب السليم.
في العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي أو في مراتب العلم
. يحصل الإنسان هو هو صورة من يعقله، وكذلك هو. صورة من حيث عقله، وليس حصول صورته بأن يعلم ذاته وكيف توجد وصفاته هي هو وكيف يكون علمه هو هو وكيف. أن الموجودات ثلاثة: أجسام، وأعراض في أجسام، ومعقولات ليست بأجسام ولا أعراض في أجسام. ونتدرج إلى علم ذلك من معرفة المعقولات عندنا التي هي عقلنا، وهي موجودات ليست بأجسام ولا أعراض تحتوي على موجودات كثيرة، وهي ذات العقل لنا، وفيها نعمل حتى يكون الراجع والمرجوع شيئاً واحداً، وكان فعلنا هو جوهرنا، وحصلنا تناسب العقول التي لم تزل عقولاً بالفعل. لكنا نحس الجسد باقياً يفعل أحياناً بالعقل فيه وأحياناً يقوي أجسامنا. وأما الثواني ففعلها في عقولها دائماً وذلك بأن تعقل ما في عقلها دائماً، وذلك بأن تعقل في ذاتها الأول، وكيف حصلت جميع الموجودات عنه بحسب مراتبها منه.
والأول لا إلاه غيره يعقل ذاته فقط على كمالها فيعقل بعقل كمال ذاته ما يصدر عنه ويفيض من كماله، فيعلم جميع الأشياء لعلمه بذاته، فإنه لا يأخذ علمه بالموجودات أولاً ثم بأخرة يعقلها معلومة، على مثال ما يعقل الصانع المستنبط لموجود ما من جهة علمه به من ذاته، ثم كل من رأى ذلك الموجود من غير صانعه قد يعقله من بعد مدة وبعد فكرة كثيرة حتى يحصل له علمه به، وذلك هوان يعقله. مثال ذلك شخص الصفيحة والميكانة التي استنبطها الزرقالة فإنه إنما عقلها أولاً من ذاته لا من الميكانة والصفيحة، ثم من بعد رآهما بعده إنما يعقلها من ذينك الشخصين.
في الواجب الوجود والممكن الوجود
حدود ومقدمات يقينية ونتائج عنها يجب أن نرتاض فيها حتى وجودها. المبدأ يقال على ما له وجود حصل، أو يحصل عنه وجود شيء آخر مما ليس بموجود بوجه، ولا يمكن أن يحصل عنه موجود. ومتى كان الفاعل له فاعل، وتسلسل إلى ما لا نهاية له، وجب إلا يوجد موجود بوجه، إذ ما لا نهاية له من الفاعلين غير موجود. فلذلك يجب بالضرورة أن ينتهي الفاعلون إلى فاعل أول واجب الوجود بذاته وهو السبب الأول وبين أن الواجب الوجود بذاته لا يكون وجوده. إلى ما لا نهاية له، والواجب الوجود بغيره لا يوجد.. بذاته فمتى رفع الغير الذي هو به وجوده كان ممتنع الوجود بذاته. فإذن متى أخذ وجوده بغيره وجب وجوده، ومتى أخذ وجوده بذاته كان ممكن الوجود، وإما أن يوجد وإما أن لا يوجد. لأنه بالإضافة إلى غيره يوجد ويرفع هذه الإضافة لا يوجد، وهو بحسب ذاته معرض لأحد الوجهين إلى وجود وإلى أن لا وجود، وهذا هو من طبيعة الممكن. والممكن الوجود حادث عن محدث. والمحدث منه محدث بحسب ذاته وفي زمان يعم طرفيه، ومنه محدث بحسب ذاته لا في زمان، وهو الواجب الوجود بغيره أبداً، فيكون محدثاً عن غيره أي مستفيد الوجود عن غيره. فقد كان بحسب ذاته لا موجوداً إذ كان مستفيداً للوجود وحادث الوجود عن غير وذلك في غير زمان. فتكون العقول الإلهية مع الدهر لا مع الزمان، والأجرام السماوية مع الزمان لا في زمان. وكذلك تقوم الأجرام لأنها المحدثة للزمان، وما في الكون والفساد هو بحسب الزمان لأنه في الزمان والزمان محيط له به، فيه أول وآخر. والواجب الوجود بذاته لا يكون وجوده بغيره، فليس له سبب عنه كان وجوده ولا فاعل له ولا صورة في مادة ولا غاية ولا له أجزاء كان عنها وجوده، فهو واجب الوجود بذاته من كل الجهات، فهو واجب الوجود بذاته، وسبب الوجود لكل ما سواه. وكل ما سواه واجب الوجود به، فهو السبب الأول والواحد بذاته، البريء من إنحاء النقص الكامل الوجود، وليس وجود لسواه، وليس يمكن أن يكون وجوده إلا له، فقد انفرد به. والخير هو وجود ذات، أو وجود ما هو صلاح ذات، والشر مقابله، وهو عدم ذات أو عدم صلاح ذات. ولما كان الأول وجوده وجود محض خالص من كل نقص، كان هو خيراً محضاً خالصاً من كل نقص. ولما كان هو واهب كل وجود كان واهباً لكل خير وكل صلاح. ولما كان كل ما في الكون والفساد بطبيعته وجوداً، أو عدم لوجود، كان الوجود في الكون خيراً وعدم الوجود شراً. غلا أنه لما. الوجود هنا أبداً عن عدم صار العدم، وهو شر، سبباً لوجود الخير. ومن هذه الجهة قيل في الشر الذي هو عدم أنه خير بالعرض.
في الفاعل القريب والفاعل البعيد وخلود العقل
انظر إلى قول الغزالي في آخر كتاب المشكاة فإنه يعتقد أن الأول فطر جميع الفاعلين أن يفعلوا والمنفعلين أن ينفعلوا. وانظر إلى قول أب ينصر في عيون المسائل يقول: إن نسبة جميع الأشياء ليه من حيث أنه مبدعها أو هو الذي ليس بينه وبين مبدعها واسطة وإلى.. نسبة واحدة. والبرهان في ذلك بين في السماع أن الفاعل الأول هو الفاعل على الحقيقة، وأن الفاعل القريب لا فعل له. فالأول هو أن الذي جعل القريب أن يفعل والمنفعل أن ينفعل عن الفاعل. والقريب في المشهور عند الجمهور هو الفاعل في المادة من حيث يأخذون الأمور في المواد. وإنما يحمد أو يذم الفاعل الأول، مثل الملك العادل إليه تنسب العدالة ولو بعد في الرتبة عمن تحته من الفاعلين، منه وكذلك الجائر. ومن ينسب فعل الحركات إلى القريب كان كالكلب يعض على الحجر الذي يرمى به غيظاً على الفاعل لا يدري أنه فعل هو في ذلك مصيب. وفي هذا صعوبة، ولا سيما إذا بعد ولم توجد الأمور في المواد الطبيعية. والعقل الفعال بمعونة الأجرام السماوية هو الفاعل القريب في جزئيات الكون والفساد، والذي فطرهما على ذلك هو الفاعل أبداً بالحقيقة، وهو الشيء الذي يستحق الحمد، وليس واحد منهما يجهل. والخير وجود والشر عدم. ولولا العدم لم يكن وجود العقل الإنساني غلا مرة واحدة. وهو لا نهاية لوجوده لمن يطلب زوال وجود لا يزال ولا فساد له، فمنه الخير والشر منه، من جهة أن الشر خير لكنه بالعرض. وما أعظم منفعة الشر في الوجود، بل لا شر على الحقيقة وعلى الإطلاق في الترتيب الإلهي إذا لم يستمر توالي وجود ما في المادة. إلا أنه بل هو تمام الحكمة وإنما لعدم ما يعود بالنوع في المادة لزيادة عقل لا يفنى بل يبقى ببقاء موجود واحد بالعدد، وكل ما يوجد في المادة من غير نوعه، فمن أجل ذلك العقل وجوده وهو الغاية منه. وقد خلق الوجود المستمر على نظام واحد في البقاء من أول أمره، وكان هذا الوجود الآخر عن ذلك من كمال الحكمة والقدرة والفضل. تبار الله أحسن الخالقين. ومن جهات البرهان في بقاء العقل أن تلتفت أبداً في إلى بصيرة قلبك حتى تفنى تلك البصيرة، وهي التي تحوز بها المعقولات، وتراها بها كما ترى بصر العين نور الشمس الذي نرى به الملونات، حتى نرى بتلك البصيرة المعقولات، ونثبتها في العقل، ونتيقن وجودها وصدقها في العقل، حتى يكون الراجع والمرجوع إليه شيئاً واحداً. ومعنى ذلك أن يكون قائماً بذاته فقط لا يحتاج إلى شيء يقومه خارج عنه، بل هو الفاعل لذاته بتلك البصيرة، حتى يكون فعله هو ذاته وفي ذاته، فيكون الفاعل والصورة هو كالمادة، فإنه في ذاته ليس بمتكون من شيء آخر غيره. أما أنه لا يعقل ذاته إلا بالبصيرة الفائضة عليه من الأول، وهي البصيرة التي يعقل بها ذاته، فإذا لم يتكون من شيء ولا يفسد إلى شيء. لأنه إن أخذ فاسداً فسد إلى ذاته، لأنه ليس بمكون من شيء. فيكون موجوداً حين يفسد، وذلك محال. وهو العلة والمعلول والحافظ لذاته، وكل ما يفسد فإنما يفسد بزوال علته وحافظه، وهو العلة والحافظ لمعلوله الذي يحفظه. ولو زالت العلة لبقي بما فيه هو هو، وكان يفسد حين يوجد، وذلك أيضاً محال.
في تراتب العقول وخلودها
ولي في هذا نظر أطول من وجوه، البرهان عليه: أنه يجب أن نضع اليقين بحقيقة العقل على ترتيبه من أقرب العقول إلى الأول إلى أبعدها رتبة، وهو عقل الإنسان. وإن وجوده ببصيرة تفيض من الأول واحدة بعينها، ثم تختلف بحسب القابل، يبصر بها المعاني منزلتها منزلة نور الشمس المبصر به. والمبصرات إذا التقت من ينظر بعقله في المعاني أبصر تلك البصيرة وكذلك نور العقل. وكرر النظر والتثبت في أبواب إيضاح الخير تتيقن كيف ذلك، ولا سيما في الباب الرابع والمائة، والباب الخامس والمائة، والباب السادسة والمائة. وظهر في مراتب العقل أن منه ما يفيض من الأول دون متوسط، ومتوسط أكثر. وإن نسبة من يفيض إليه ممن يفيض منه نسبة الضوء الذي من داخل بيت من نور الشمس الذي في صحن الدار. خذ في نفسك ثلاثة أمور تعمل عليها تقربك من الله عز وجل: خذ لسانك بذكره وتمجيده وتعظيمه. وخذ جوارحك بما يعطيه قلبك. وتجنب ما يلهي عن ذكره أو يشغل القلب عنه. فإذا أخذت نفسك ابدأ بهذه الأشياء الثلاثة كنت من المخلصين لله، ولا يتم ذلك إلا بالصبر على إدامته.
في السعادة المدينية والسعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر
أما ما يظن بأبي نصر في كلامه فيما شرحه من كتاب الأخلاق من أنه لا بقاء بعد الموت أو المفارقة، ولا سعادة إلا السعادة المدينية، ولا وجود إلا الوجود المحسوس، وإن ما يقال أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس خرافات عجائز، هذا كله باطل ومكذوب فيه على أبي نصر، وذكر ذلك أبو نصر في أول قرائته. وليس يشبه قوله في هذا أقوال التي هي لوازم برهانية. وأقواله في هذا الكتاب أكثرها منسوبة، ويتشوق الرد بها على جهة توبيخ وسح لا يليق بمثله، مثل ما يقوله فيمن يقول أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس أن قوله خرافات عجائز، بمثول سمجة ليكون حيوان عن حيوان أو عن النبات. وليس القول فيما هي السعادة الآخرة خرافات، وسيتبين أن لها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس. وكذلك لا يشبه قوله أقواله فيما نسبه إلى بعض المتقدمين أنه يحصر عند المفارقة إحصاراً شديداً. وليس هذا قول أحد المتقدمين بل هو قول إخوان الصفاء الضالين. ويظهر من هذا القول إن السعادة إنما هي أن يكون الشخص جزء مدينة يخدم أو يخدم بحسب مرتبته في أن تحصل له ولأهلها الخيرات الكثيرة المحسوسة المدنية الملذة على ما يليق بمصالح الجميع، ويخدم بحسب مرتبته في أن يحصل له ولأهلها على أفضل الأموال المدنية وأبلغها في بقاء النوع على السلامة بطول البقاء. وهذا كله خطأ، فإن من حصل له الكمال الإنساني، فإن هذا الكمال المديني المحسوس هو كمال للإنسان بما هو جسم متغذ حساس متخيل ناطق النطق الذي يعم الجميع، حتى يدخل تحت هذا الحد جميع من يخدم المدينة ويسوسها، ويعرف قوته الناطقة في استنباط الخيرات المدينية بحسب مرتبته، كان خادماً أو مخدوماً أو المتولي السياسة. وليس هذا وجوداً آخر بحسب ما يظهر من أقوال المتقدمين بحسب خفاء ما جاءت به الشريعة عليهم. وليس هذا هو الكمال الإنساني عند المتقدم الذي يخصه بحسب شرفه في الوجود من بين سائر الحيوان الذي خص به الإنسان، وهو العقل، بحصول معقولات غير مرئية يقرب بها من الأول، لا يحتاج في وجوده ذلك إلى مادة، وليس يكون موجوداً محسوساً، وهذا هو نظر ما بعد الطبيعة، وأما الوجود المحسوس فنظر الطبيعي. ويتبين من قول أرسطو في مقالة و. الجواهر الموجودة ثلاث: جواهر في الكون والفساد. وجواهر الأجرام السماوية. وجوهر هو عقل لا يحتاج في وجوده إلى مادة. أعلاها الجوهر الذي هو عقل وعاقل بمعقول هو ذاته، وعالم وعلم بمعلوم هو ذاته لا يحتاج إلى ذات أخرى يعلمها ويعقلها، بل لعلمه بذاته فقط يعلم جميع الموجودات التي استفادت الوجود عن كمال ذاته، فهو يعلمها من علمه بكمال ذاته، فهو عالم بجميع ما يفيض عنه على مراتبها. ولهذا يعلم الجزئيات الموجودة بتوسط من جعل له ذلك بعلمه من ذاته لما جعل له، فلا تخفى عليه خافية. وسائر ما هو عقل إنما استفاد ذلك بمعقول ليس هو ذاته، إما واحداً وإما أكثر من واحد، وأخسها عقل الإنسان لأنه إنما يستفيد العقل بمعقولات كثيرة ليس هي ذاته فقط. والتدبير المديني معونة عظيمة في وجود عقل الإنسان، ولا سيما المدينة الفاضلة والتدبير الفاضل الذي غايته الأخيرة وجود العقل بمعلومات كثيرة أولها الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وجميع مخلوقاته. ولهذه المعلومات درجات بحسب مراتب أسباب العلم، حتى يكون لكل من في المدينة قسط ما من هذا الوجود بحسب قوة إنسان إنسان. هذا هو الخير الأخير الإنساني وجميع الخيرات المدنية إنما هي خير من أجل أن لها معونة في وجود هذا. فجميعها خير لا بذاته، وهذا خير بذاته. ومتى كان شيء من الخيرات المدنية خيراً بذاته، ولم تكن غايته هذا، لم يكن خيراً في الحقيقة، بل هو خير مظنون أنه خير، مثل الصحة والسلامة وغير ذلك من الخيرات المدنية. وهذا بين من عدة مواضع، وانظر في آخر هذا الشرح تجده قد ذكر شيئاَ من هذا. ولما كان عقل الإنسان من جملة العقول، وإن كان أخسها، فله بقاء. ودع ما يقال من إثبات وإبطال في أن عقل الإنسان يحتاج في وجوده إلى مادة أو لا يحتاج، وإن له حياة أخيرة غير المحسوسة أم لا. فانظر إلى بصيرة نفسك بحسب كمال ذاتك هناك اللذة. ألست تجد في نفسك وجوداً يقينياً بصيرة تدرك بها في الموجودات التي في القوة المتخيلة معلومات ليست بمحسوسة ولا بمتخيلة، وهذه المعلومات تسمى المعقولات، حتى لا يكون لك في القوة المتخيلة متخيل بوجه وإلا فلك فيه مدركات جاءت من ذلك الشخص المتخيل. والبصيرة المدركة لما في التخيل إذا أدركت. وأنت تتيقن بحقيقة ما تدركه وتبصره بتلك البصيرة، كما تتيقن بإدراك المحسوس بالحس، مثل أن هذا زيد، وإن هذا الوقت نهار، وغير ذلك من المحسوسات، حتى تكون نسبة هذا المدرك الذي هو عقل إلى مدركاته من القوة المتخيلة نسبة الحس المدرك إلى محسوساته، هذا يبصر وهذا يبصر بالضوء ما يحصل في الضوء، وهذا يبصر بتلك البصيرة ما يحصل في التخيل. وهذه البصيرة قوة إلاهية فائضة من العقل الفعال، وهي التي ذكرها أبو نصر في مقالة العقل والمعقول. وفي هذه المقالة المذكورة هداية غير ما يظهر من أول هذا الشرح الذي قد أفسد كثيراً. وإذا كانت هذه البصيرة الفائضة من العقل الفعال، وهي غير الفعال، تأخذ المعقولات وهي العقل الإنساني قائماً تفسد وهيه باقية لا تحتاج إلى مادة، وقد حصلت فيها مدركات لم تكن. انظر هذا. وإذا كنا نسمي حياً كل من له في الوجود إدراك بحاسة، وهو أخس الإدراكات. أليس الواجب أن نسمي حياً من يدرك المدركات الي هي أشرف، وهي ماهيات المدركات المتخيلة. وما يدرك بالعلم اليقيني عما حصل عن تلك الماهيات المأخوذة عن القوة المتخيلة، مثل ما تخيلنا لماهيات الحركات المساوية فيحصل لنا عن معرفة ماهيات هذه الحركات السماوية أشرف المعلومات وأعلاها. والمدرك لهذه المعقولات أحق باسم الحي. وإذا حصل هذا للإنسان عقل ذاته من حيث حصل فيها المدركات بذاته، ولا يحتاج إلى مادة ولا إلى أشياء غير ذاته من جهة ما حصل فيها تعقلها. وأنا أرى أنك تستشعر بهذه البصيرة المبصرة في المختيلات بحسب كمالك، وأنه يظهر لك أن في النفس ما يشبه الضياء من الشمس أو غيره، تدرك النفس بها ما يدركه البصر بضياء الشمس، وترى النفس تنفش في المتخيل بتلك البصرة مثل ما يفعل البصر بالعينين في أن يبصر المبصر، وذلك يسمى فكراً وهذا يجب بالبصر. وإذا أكمل الإنسان بحصول معقولات كما لا يجمع ما يمكن أن يحصل في القوة المتخيلة وما يلزم عن معرفة تلك المعقولات، كان فعله في ذاته لا في القوة المتخيلة، فصار تصوره وفعله في ذاته في معقولات، كان فعله في ذاته لا في القوة المتخيلة، فصار تصوره وفعله في ذاته في معقولات، كلية. لا.. في خيالات أشخاص جزئية في معقولات نعم جزئية، ولا يتلفت إلى خيالات الأشخاص التي في القوة المتخيلة، مثل خيال زيد وعمرو وهذا الفرس.. المتخيل هو ذلك الشخص بعينه ليس هو لسواه. والعقل لهذا يرى ببصيرة النفس وقول الله ينظر إلى هذا وقوله الحث أو منم جعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج عنها. فقد تبين مما ذكرته أن ثم وجود غير الوجود المحسوس، وما أعظم هذا النظر كيف خرافات العجائز.