► فهرس :إسلام | ☰ |
وبه نستعين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد، فإنه قد قدم علينا في أثناء عشر ستين بعد المائتين والألف رجل اسمه داود بن سليمان البغدادي ومعه شيء من كتب المذهب، وجلس عندنا مدة وطلب مني إجازة في الفتيا في المذهب، وكتبت له. ثم بعد ذلك بنحو أربعين سنين قدم حاجا، وذكر لي أن معه ورقة فيها عبارات من كلام الشيخ تقي الدين يشبّه بها على الناس، يضع كلام الشيخ على غير موضعه فأحضرته وباحثته، فإذا حقيقفة أمر دعواه: استحالة وقوع الشرك في الأمة المحمدية، ويزعم أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك، ويقول إن الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل نداء، ويقول: الشرك هو السجود لغير الله فقط، وسألته عن معنى لا اله الله وما معنى الإله فارتبك وتحير، فقلت أخبرني عن حقيقة الشرك الذي حرمه الله وأخبر أنه لا يغفره، فقال: هو السجود لغير الله. فقلت: نهى الله عن السجود لغيره، لكن ما دليلك على أنه شرك؟ فلم يكن عنده جواب، فلما أوردت بعض الأدلة على بطلان دعواه ودحضت حجته أظهر الموافقة قصدا لقطع الكلام لا للموافقة باطنا فيما أظن، وكتبت على ورقته التي معه نحو ثلاثين ورقة سماها بعض الطلبة "الانتصار".
وبعد ذلك طلب مني بعض الإخوان بيان معنى بعض أبيات في البردة وتشطيرها للرجل المذكور، فكتبت عليها قدر ورقتين. فأشمأز بعض المخالفين لزيغ في قلبه، واعترض على ما كتبته بكتابة ورقة متضمنة شركا عظيما، فكتبت على كلامه قدر ثلاثة كراريس وهم قد رفعوا جوابي الأول والثاني إلى كبيرهم داود المذكور، مستنصرين به، فقام وقعد، وجد واجتهد في البحث عن الأوراق التي اعترض فيها أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه فيما دعا إليه من التوحيد، فحصل فيما بلغني جملة منها، فاستمد منها وزاد من عنده فضائح وضعها في تسويده هذا الذي عثرنا عليه، فيه ترويج على الجهال.
فرأيت أنه يتعين على مثلي بيان تلبيسه وتمويهه لعل الله أن يحشرنا في زمرة الذين ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ذكر المعترض في أول تسويده بأنا نكّفر من كانت البردة عنده ومن قرأها ومن سمعها، وأننا نبيح قتله، وهذا من أول كذبه وافترائه.
وزعم أن ما كتبناه متضمن لتنقص الرسول ﷺ. وسلفه في ذلك عبّاد المسيح، لما نهى النبي ﷺ عن عبادته قالوا: تنقص المسيح عليه السلام. ونحن إنما نهينا عن الغلو فيه ﷺ الذي حذر منه بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم". [1] وقوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله". [2] وقوله: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد"، [3] وقوله للذي قال ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا". [4]
وأما ما ذكره هذا من مدحه نفسه وتزكيتها بدعوى العلم، وذمه المخالف وتجهيله فالعاقل مايغتر بذلك بل يقوم لله وينظر لنفسه ويتأمل ما يورده من الحجج ولا يقلد فإن التقليد لا يجوز في هذا الأصل العظيم.
قال: وقد روى هذه القصيدة مع الهمزية جماعة من العلماء وشرحها بعضهم ولم يفهموا منها محذورا.
فنقول كما قال الأئمة الأعلام: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، وأيضا لا يلزم أن كل من روى كتابا أو قصيدة أن يكون مستصوبا لكل ما روى.
وذكر ممن روى البردة أبو حيان والبيضاوي والمحلي وابن حجر العسقلاني وكذا القسطلاني.
فيقال له: تفسير الثلاثة للقرآن موجود، وكذا شرح البخاري، هل تجد في شيء منها ما يمكن تشبيهك به على الناس بما يوافق دعواكم الباطلة من أن علم اللوح والقلم من علوم النبي ﷺ وأنه لا يخفى عليه شيء من أدواء القلوب كما في بيت الهمزية من قوله: "وليس يخفى عليك في القلب داء"، وأن الدنيا والآخرة من جوده ﷺ، وأنه يطلب منه اليوم الإنقاذ من عذاب الله والألم، وأن ما جاز طلبه منه في حياته جاز طلبه منه بعد موته، وأن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بطلب حاجاتهم من الأموات والغائبين، وغير ذلك من دعاويكم الباطلة. ولن تجد في كتب المذكورين وغيرهم من العلماء المحققين إلا ما يبطل حجتك، بل يوجد في كلام كثير ممن ليس من أهل العلم المعروفين به شيء كثير تصديقا لقول النبي ﷺ: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". [5]
قال المعترض: وعصر الناظم متقدم على عصر ابن تيمية ولم ينقل عن ابن تيمية الإنكار عليه.
قلنا: إن كان نظمه هذا قد بلغ الشيخ فهو ممن عنى بقوله: "والاستغاثة به ﷺ بعد موته موجودة في كلام بعض الناس مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان وأمثالهما. قال: وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم بل جروا على عادة كمن يستغيث بشيخه عند الشدائد ويدعوه"، وقد يكون البوصيري وغيره ممن أراد بقوله وأمثالهما.
وقد صنف شيح الإسلام رحمه الله كتابا في الرد على من جوز الاستغاثة بالنبي ﷺ وقرر أن ذلك من الشرك، قال رحمه الله: "وقد طاف هذا بجوابه -يعني الذي أجاز فيه الاستغاثة به ﷺ- على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه، مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايد شيطانهم". انتهى.
فهؤلاء علماء مصر في ذلك الزمان لم يخالفوا ما كتبه الشيخ، فعدم مخالفتهم دليل الموافقة لا سيما وحال أكثر أهل ذلك الزمان مع الشيخ ومخالفتهم له في أشياء غير ذلك معلومة، فلو رأوا لمخالفته في هذه المسألة مساغا لبادروا وأظهروا ذلك.
قال البغدادي معترضا على ما كتبناه على قول الناظم: فإن من جودك الدنيا وضرتها. قال: وهو قال لك إن الدنيا والآخرة لغير الله أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها أو منها، أوليس كل الوجود لله وقد ملكه لعباده، فما هذا الاعتراض الفاسد؟
قال: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله، وورد في البخاري أنه أكرم من الريح المرسلة، فماذا يضر لو كرم بما لربه وهو حبيبه الأعظم. انتهى.
فنقول: هل يشك أحد في جوده ﷺ، فهو أجود الناس، وأجود من الريح المرسلة، صلوات الله وسلامه عليه، والمعترض حرف قول الصحابي وهو ابن عباس في قوله رضي الله عنه: "فلرسول الله ﷺ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة". [6] فحرّفه المعترض وقال إنه أكرم من الريح المرسلة.
وقوله: "أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها أو منها" يعني أنه يجوز أن الله يعطي الدنيا كلها لإنسان، وذلك الإنسان يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. وهذا لا يليق به سبحانه أن يجعل رزق العباد عند غيره بحيث يصير ذلك الغير هو مقصودهم الذي يرغبون إليه ويسألونه قضاء حوائجهم، ومقتضى قو ل الناظم "فإن من جودك الدنيا وضرتها" أنه ﷺ هو الذي جاد بهما لأن الله أعطاه ذلك ليجود به على عباده، بل مقتضى كلامه وإن لم يرده أن النبي ﷺ هو الذي جاد على أهل الدنيا بإعطائهم ما يحبون ويجود على أهل الجنة بها.
وقوله: أوليس كل الوجود له وقد ملكه لعباده. فهذا كلام باطل؛ لأن الوجود يتناول كل موجود من ذلك الجنة والنار والسماء والأرض والعرش والكرسي والحجب وغير ذلك من العالم العلوي والسفلي مما لا يعلمه إلا الله، ولم يملكه لأحد من عباده، بل لم يملك من الوجود إلا النزر القليل.
وقوله: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله ﷺ. [7]
فهذا حديث لا يصح، والله سبحانه قد أعلمنا بالحكمة في خلق هذه المخلوقات كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}. وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. فأخبر الله سبحانه بالحكمة في خلق هذه الأشياء، وأنه إنما خلقها لحكم التي ذكرها لا لأجل أحد من عباده. مع أن هذا الحديث لو صح لم يكن فيه حجة ولا شبهة يستأنس بها لما ادعاه، مع أنه أكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه وسيلة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، لكنه نهى عن الغلو فيه فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وقول المعترض: "فماذا يضره لو كرم بما لربه"؛ مقتضى هذه العبارة أنه يتصرف في خزائن الرب سبحانه، لأن التصرف والتكرم بما في يده ليس مختصا به ﷺ، لأن كل أحد يتصرف فيما أعطاه الله وملكه؛ والنبي ﷺ إنما يتصرف فيما في يده يضعه حيث أمره ربه. قال ﷺ: "إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع كما أمرت" [8]
وقال: في حكم الزكاة: "إن الله لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء". [9]
وقول الناظم: "إن من جودك الدنيا وضرتها" أي من عطائك وإنعامك وإفضالك الدنيا والآخرة؛ وهذا كلام لا يحتمل تأويله بغير ذلك. ووازن بين قول الناظم من جودك الدنيا وضرتها وبين قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}. وقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}.
قال ابن كثير [10]: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله} أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون {ولا أعلم الغيب} فأخبركم بما غاب مما مضى وما سيكون {ولا أقول لكم إني ملك}؛ لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي.
وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
قال ابن كثير: "أمر الله نبيه أن يخبر بتفويض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل إلا ما أطلعه الله عليه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. فإنه يطلعه على من يشاء من غيبه. قال: والأحسن في قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ}. ما رواه الضحاك عن ابن عباس: {لاستكثرت من الخير} أي من المال. وفي رواية لعلمت إذا اشتريت رخيصا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر. وقال ابن جرير رحمه الله تعالى: وقال آخرون معنى ذلك ولوكنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة ولوقت الغلاء من الرخيص. وقال ابن زيد رحمه الله: {وما مسني السوء} لا اجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته". وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
قال المعترض على ما كتبناه على قول الناظم: "ومن علومك علم اللوح والقلم" فقال: قد قال الشراح: المراد باللوح ما يكتب فيه الناس، وبالقلم ما يكتبون به. قال: ويحتمل أن يكون المراد باللوح اللوح المحفوظ، ولا يلزم على هذا الاعتراض الذي قاله هذا الرجل لأن مراده علم اللوح غير الفواتح الخمس. قال: على أن قوله علم اللوح، الإضافة فيه جنسية أي بعض علم ما في اللوح، والجنس يصدق على بعض الأفراد -إلى أن قال: بل ولو لم نقل هذا لم يلزم هذا الاعتراض؛ لأن فواتح الغيب الخمس لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ، بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح -إلى أن قال: فتبين من هذا أن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ بل هي أصل اللوح. انتهى.
قوله: إن الشراح قالوا المراد باللوح ما يكتب فيه الناس وبالقلم مايكتبون به؛
فيقال: هذا بعيد من مراد الناظم ومن مقتضى لفظه لأن أل في اللوح والقلم للعهد الذهني، لا يقع في ذهن السامع غير اللوح المحفوظ والقلم الذي جرى بالمقادير، وكونه بعيدا من مراد الناظم في هذه الحال لأنه بالغ في مدح النبي ﷺ وإطرائه، فلما وصفه بكون الدنيا والآخرة من جوده فتعدى في وصفه بالجود ناسب أن يصفه بسعة العلم. ولو أراد أقلام الناس لم يخص الألواح بل يأتي بلفظ يعم ما يكتبون فيه من لوح وقرطاس وغيره. وأيضا فالناس يكتبون بأقلامهم الحق والباطل، ويكتبون الكفر والسحر والشعر وجميع العلوم الباطلة مما ينزه الرسول ﷺ عن إضافته إليه. ويكتبون بعد موته ﷺ الرسائل والمداينات وغير ذلك مما يقع في غد وذلك من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقد قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. [11]
وقوله: ويحتمل أن المراد اللوح المحفوظ، ولا يلزم على هذا اعتراض المعترض لأن المراد علم اللوح غير الفواتح الخمس - إلى قوله: وهذه الفواتح لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ، بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح، إلى قوله: فتبين بهذا أن أم الكتاب غير اللوح بل هي أصل اللوح؛
لم يذكر ما يبين ذلك وإنما هو مجرد دعوى كاذبة. وذكر ما ذكره البغوي عن عكرمة عن ابن عباس، قال: هما كتابان سوى أم الكتاب. وهذا حجة عليه لأنه ذكر كتابين غير أم الكتاب، بل كلامه يدل على أن اللوح الذي ذكر صفته هو أم الكتاب لأنه لما ذكره قرأ {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. فالظاهر أن هذا إشارة إلى أن هذا اللوح الذي وصفه هو أم الكتاب، لم يقل إن اللوح المحفوظ غير أم الكتاب. وما ذكره عن عطاء عن ابن عباس لم يقل فيه إن اللوح المحفوظ غير أم الكتاب. والمعترض يرى أن البغوي قد جزم عند قوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} بأن أم الكتاب هي اللوح المحفوظ. وقال البغوي أيضا في قوله سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قال: هو الذي يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب، محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وقال أيضا في قوله سبحانه وتعالى {وَإِنَّهُ } يعني القرآن {في أُمُّ الْكِتَابِ} في اللوح المحفوظ. قال قتادة رحمه الله تعالى: أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله. قوله {لدينا } أي القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}. وقال البغوي أيضا في قوله سبحانه {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }: هو اللوح المحفوظ. وقال الواحدي {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}: أي في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه. قال: والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وقال الواحدي على قوله {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}: عند الله وهو أم الكتاب، منه نسخ القرآن والكتب وهو الذي يعرف باللوح، المحفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان.
وقال ابن كثير رحمه الله {وَإِنَّهُ } أي القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس ومجاهد {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. وقال في قوله سبحانه {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}: أي وجميع الكائنات مكتوب مسطور في لوح محفوظ، والإمام المبين هنا هو أم الكتاب، قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. انتهى.
وقال البيضاوي: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه. وقال في قوله سبحانه {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}: في اللوح المحفوظ فإنه أصل لكل الكتب السماوية {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
وقال النسفي: أم الكتاب أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب فيه. انتهى.
والمراد بذكرنا كلام المفسرين رحمهم الله تعالى وبيان إجماعهم على أن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب وهو نص حديث عمران بن حصين الآتي قال: "وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء" [12] تبين كذب هذا وجراءته في جزمه بأن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ؛ مع أن هذا لا ينفعه لو سلم له لأن الكل جرى به القلم فيدخل في قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم.
وقوله: إن الإضافة في قوله علم اللوح والقلم جنسية أي بعض علم ما في اللوح والجنس يصدق على بعض أفراده؛
فيقال: علم بعض ما في اللوح لا يختص به ﷺ بل يشاركه في ذلك غيره من الأنبياء وغيرهم من آحاد الناس من كل من علم شيئا مما جرى به القلم. مع أنه لا يصح حمل كلام الناظم على ذلك ولا يحتمله، لأنه قال: ومن علومك علم اللوح والقلم. فـ "من" في كلام الناظم للتبعيض، فمقتضى اللفظ أن علم اللوح والقلم بعض علومك. وزعم بعض المنازعين أن من في قول الناظم من جودك ومن علومك إلخ أنها لبيان الجنس، وبينا غلطه في جوابنا السابق. ولو سلم أنها لبيان الجنس مع أنها لا تصلح لذلك فالمعنى على ذلك أن علومك هي عين علم اللوح والقلم لا تقصر عنها لأن هذا هو معنى من البيانية. وكلام الناظم خطأ على كلا التقديرين. ومما يبين أن مراد الناظم إحاطة النبي ﷺ بعلم الغيب قوله في الهمزية في حق النبي ﷺ: "وليس يخفى عليك في القلب داء" فوصفه ﷺ بالعلم بجميع أدواء القلوب وعللها، لأن قوله داء نكرة في سياق النفي فتعم جميع ما احتوت عليه القلوب، وهذا مما اختص به الرب سبحانه. قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. والآيات في هذا كثيرة معلومة. وقد قال سبحانه وتعالى في آخر ما نزل من القرآن: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}. وقال: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}. وقال النبي ﷺ: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع". [13]
قال القاضي عياض في الشفا على هذا الحديث: وتجرى أحكامه عليه السلام على الظاهر، ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته -إلى أن قال: وكل ذلك من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فيعلمه منه ما شاء ويستأثر بما شاء، ولا يقدح هذا في نبوته ولا يفصم عروة من عصمته، وخفي عليه ﷺ حال أهل الإفك حتى جاءه الخبر من الله، ويخفى عليه ﷺ أمور كثيرة يطول عدها، حتى يأتيه الوحي بخبرها.
وقال ﷺ: "إنه سيجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" [14]
ثم قال المعترض: وهو -أي الناظم- أثبت للنبي ﷺ علم اللوح والقلم، ومراده بتعليم الله له. ثم قال بعد ذلك: ما المانع أن يكون من علوم النبي ﷺ علم اللوح والقلم؛
فالعجب من تناقض هذا المبطل، ادعى أولا أن المراد باللوح والقلم ألواح الناس وأقلامهم، ثم ادعى أن الإضافة جنسية، ثم اعترف بأن الناظم أثبت للنبي ﷺ علم اللوح والقلم، ثم قال: فما المانع أن يكون من علوم النبي ﷺ علم اللوح والقلم.
قال: وهذا الذي قررناه بناء على أن الله تعالى يطلع نبينا وغيره على الخمس.
قال: فهناك نقول من أطلعنا على كلامه.
وذكر أشياء ليس فيها ما يستأنس له به فضلا عن أن يكون حجة، وإنما أكثر من النقول للتمويه والترويج على الجهال. ومنها ما هو حجة عليه كنقله عن شرح المشكاة لعلي القاري على قوله ﷺ: "مفاتح الغيب خمس" [15] أي لا يعلم تفصيله إلا هو ولا يعلم مجمله بحسب خرق العادة إلا من قبله.
وقال في شرح قوله "في خمس لا يعلمهن إلا الله": فإن قلت قد أخبر الأنبياء بكثير من ذلك فكيف الحصر؟ قلت: الحصر باعتبار كلياتها دون جزئياتها، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. انتهى.
وهذا حجة عليه لأننا لا ننكر أن الله يطلع الأنبياء على أشياء من الغيب معجزة لهم ويكشف لبعض أتباعهم شيئا من ذلك كرامة لهم، وإنما ننكر القول بأن محمدا ﷺ يعلم جميع ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، ومن ذلك مفاتح الغيب الخمس، وأنه ﷺ يعلم جميع ما احتوت عليه القلوب بقوله: وليس يخفى عليك في القلب داء.
واستدل المعترض بقوله سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وبقوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}. وليس في ذلك حجة له بل هي حجة عليه، ومعنى الآيتين عند جميع المفسرين أن الله سبحانه يطلع رسله على ما يشاء من الغيب آية لهم ومعجزة؛ ولنبينا ﷺ من ذلك ما لا يحصى ولا يشك فيه مسلم.
واحتج المعترض بما نقله عن المدابغي فقال: قال العلامة المدابغي في حاشيته على شرح الأربعين لابن حجر: والحق كما قال جمع إن الله لم يقبض نبينا عليه الصلاة والسلام حتى أطلعه على كل ما أبهمه عنه إلا أنه أمر بكتم بعض وإعلام بعض. انتهى.
قلت: قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن بعض ضلال أهل زمانه أنه ادعى ذلك للنبي ﷺ، وهذه دعوى عظيمة تعارض نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة وتخالف ما عليه الصحابة والتابعون والعلماء بعدهم، يحتاج مدعيها إلى دليل واضح ولن يجد إلى ذلك سبيلا، ولا شبهة معه، وإنما هي مجرد دعوى كاذبة جمع مدعيها بين رد نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء وبين افتراء الكذب على الله - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
قال المموه: وقد أشار النبي ﷺ إلى مصارع القتلى يوم بدر وكل منهم صرع في ذلك المكان، فقد علم أن هذه الأنفس بأي أرض تموت وهي من الخمس، وأخبر عن أشياء تقع بعده إلى يوم القيامة فوقعت كما أخبر وهذا مما لا تدري نفس ماذا تكسب غدا. انتهى.
فانظر أولا إلى هذه العبارات الركيكة، وقوله: وأخبر عن أشياء تقع بعده إلى يوم القيامة فوقعت كما أخبر. مقتضى هذه العبارة أن جميع ما أخبر بوقوعه بعده إلى فناء الدنيا قد وقع، وليس كذلك وإنما وقع منه ما وقع إلى زمان هذا الرجل، وأخبر عن وقوع أشياء لم تقع بعد وهي واقعة بلا شك، والمراد أن هذا الرجل يأتي بعبارات فاسدة.
ويقال ثانيا: هل ينكر ذلك مسلم؟ وهذا ونحوه مما أخبر به من الغيب الذي استثناه سبحانه في قوله {إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه.
واستدل بقول المسيح عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}؛
فنقول وهذا من معجزات المسيح عليه السلام.
وأورد ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أن الملك الموكل بالرحم يقول أي رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن كانت مخلقة قال: ذكر أو أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل، ما الأثر، بأي أرض تموت؟ فيقال اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة". [16]
قال: فهذا يدل على أن الله يطلع بعض خلقه على شيء من الخمس وهو الملك.
قال: والنبي ﷺ أولى لأنه منصوص عليه في قوله{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}.
فقوله إنه منصوص عليه. الذي يظهر من كلامه أنه منصوص عليه بأنه يعلم ما في الأرحام، وهذا كذب منه؛ وإنما النص في أنه سبحانه يطلعه على ما يشاء من غيبه، ومن ذلك إطلاعه سبحانه رسوله على ما يشاء إطلاعه عليه مما في الأرحام إن كان قد وجد من ذلك شيء، لا أنه يعلم جميع ما في الأرحام. وجميع ما أورده المعترض في هذا المحل من خبر المسيح وأثر ابن مسعود وأمر قتلى بدر وغير ذلك مما يعلم هو أنه لا حجة له فيه وأننا لا ننكره، إنما أراد التجهيم على الجهال وتكثير السواد في القرطاس.
وجاء في الحديث عنه ﷺ قال في الساعة لا يجليها لوقتها إلا الله، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك وما شاء الله من خلقه.
وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، لكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو سعيدا أو شقيا علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه. وكذلك لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها وما تدري نفس بأي أرض تموت.
قال المعترض: وقد أخذ جمع من العلماء أن قول النبي ﷺ لجبريل: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" [17] أن المعنى أنا وأنت في العلم بها سواء، فكما تعلمها أنت أعلمها أنا.
فالعجب من هذا التحريف لكلام رسول الله ﷺ الذي شابه فيه اليهود الذي يحرفون الكلم عن مواضعه مع معارضته لنص الحديث نفسه حديث جبريل من رواية أبي هريرة في الصحيحين لما سأل النبي ﷺ عن الساعة قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها، وإذا رأيت الحفاة العراة رؤوس الناس فذالك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذلك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله". ثم تلا رسول الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية. [18] وقوله: في خمس لا يعلمهن إلا الله، أي هي من الخمس المذكورة في الآية التي اختص الله بعلمها.
ولا أظن هذا التأويل يصدر ممن عنده علم لأن نص الحديث يكذبه، واحتجاج المعترض بما حكاه في تأويل هذا الحديث وبما نقله عن المدابغي صريح في أنه يقول بذلك؛ وهذا كفر صريح لمعارضته نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
واستشهد هذا على دعواه بما نقله عن علي القاري في شرح المشكاة أنه قال: ما التوفيق بين قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وبين ما اشتهر عن العرفاء من الأخبار الغيبية كما قال الشيخ الكبير أبو عبد الله في معتقده أنه قال: ونعتقد أن العبد يتنقل في الأحوال حتى يصير إلى نعت الروحانية فيعلم الغيب وتطوى له الأرض ويمشي على الماء ويغيب عن الأبصار، فالجواب: أن للغيب مبادئ ولواحق، فمباديه لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأما اللواحق فهو ما أظهره الله على بعض أحبابه من لوحة علمه وخرج دلك عن الغيب المطلق فصار غيبا إضافيا وذلك إذا تنورت الروح القدسية وازداد نورها وإشراقها والمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية حتى يقوى النور وينبسط في فضاء قلبه فتنعكس فيه النقوش المرسمة في اللوح المحفوظ ويطلع على المغيبات ويتصرف في أجسام العالم السفلي. انتهى.
مراده بالنقوش المرسمة في اللوح المحفوظ الكتابة التي جرى بها القلم في اللوح المحفوظ.
أورد المعترض هذا الكلام بعد قوله وهذا قررناه بناء على أن الله سبحانه يطلع نبينا وغيره من المقربين على الخمس، فاحتج بقول هذا الضال على دعواه الباطلة من أن الله يطلع نبينا وغيره على الخمس، فمن ادعى أنه إذا أراضَ نفسه يرى ما كتب في اللوح المحفوظ ويعلم الغيب فهو كافر، فإذا ضم إلى ذلك دعوى أنه يحصل له من القدرة ما يتصرف به في العالم السفلي ازداد كفرا.
ثم قال المعترض: ويحتمل أن هذه الخمس لم تكتب في اللوح المحفوظ وأنها في غامض علم الله وما استأثر الله به، وقد قال قبل ذلك وهذه الفواتح لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح. وهنا قال إنها في غامض علم الله؛ وكذب نفسه بذكره بعد ذلك الأثر المروي أن الملك الموكل بالرحم يقول أي رب مخلقة وغير مخلقة -إلى أن قال: فيقال اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة؛
فانظر إلى تناقص هذا، تارة يقول إن الناظم أراد بقوله اللوح والقلم ألواح الناس وأقلامهم، وتارة يعترف بأن الناظم أراد اللوح والقلم الذي جرى بالمقادير، ولكن هذه الخمس لم تكتب فيه، بل هي في غامض علم الله، وتارة يقول هي في أم الكتاب يعني الخمس وهي غير اللوح المحفوظ ويجزم بذلك، وتارة يقول في أثناء كلامه وهذا بناء على أن الله يطلع نبينا وغيره على الخمس، ويحتج على ذلك بما نقله عن المدابغي والقاري والشيخ الضال الذي يدعي أن الإنسان قد يطلع على اللوح المحفوظ ويعلم الغيب ويتصرف في العالم السفلي.
وقوله إنها في غامض علم الله - يعني الخمس وأنها لم تكتب في اللوح المحفوظ - يكذب هذا القول نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
قال ابن كثير في الآية: يخبر سبحانه وتعالى عن كمال علمه بخلقه فلا يعزب عنه مثقال ذرة وأنه سبحانه علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في اللوح المحفوظ كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء". [19] وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ قال: "أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة". [20] وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة، فذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
وجميع المفسرين على أن المراد بالكتاب في الآية هو اللوح المحفوظ، وأن كل شيء من الكائنات مكتوب فيه. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: "اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء ثم خلق السموات والأرض". [21]
فهذا الحديث شاهد للمفسرين في تفسيرهم الكتاب في الآيات باللوح المحفوظ، وأن كل شيء مكتوب فيه وأنه أم الكتاب. والمراد بيان كذب هذا وبيان تناقضه وهو لا يشعر بذلك بل هو خابط خبط عشواء، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله". وتقدم حديث أبي هريرة، وقول النبي ﷺ: "في خمس لا يعلمهن إلا الله".
أفيظن مسلم أن أصحاب رسول الله ﷺ يحدثون الأمة بهذه الأحاديث المصرحة بتفرد الله سبحانه بعلم هذه الأمور المذكورة في هذه الأحاديث، وأن عندهم ما يخالف ذلك فيكتمونه فيحصل التلبيس على الناس في هذا الباب، فيلزم من ذلك اعتقاد الباطل حقا والحق باطلا، والصواب خطأ والخطأ صوابا، صانهم الله عن ذلك.
أم يظن مسلم أنه خفي على أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين ما ادعاه هؤلاء الضلال وعلموه هم، هذا من أبطل الباطل. ويزيد ذلك وضوحا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من زعم أن محمدا يخبر بما في غد فقد أعظم الفرية على الله"، ثم قرأت: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: "من حدثكم أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا}. ومرادها رضي الله عنها نفي ذلك عنه ﷺ في حال حياته.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير خمس" ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} الآية.
وفيما ذكرنا من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة كفاية في بيان بطلان دعاوى هذا البغدادي ومن نقل عنه كالمدابغي والقاري وغيرهما كمحرف قوله ﷺ: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل".
وأورد المعترض حديث المنام وقوله ﷺ: "رأيت ربي في أحسن صورة، فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى -إلى أن قال- فتجلى لي كل شيء وعرفت -وفي رواية- فعلمت ما في السماء والأرض -وفي رواية- فعلمت ما بين المشرق والمغرب". [22]
وليس في ذلك ما يدل على أنه ﷺ علم على ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، ولا أنه علم مفاتيح الغيب. قال غير واحد ممن شرح الحديث: يحمل ذلك على أن الله سبحانه كشف له عن الأعيان الموجودة إذ ذاك. وهذا هو الظاهر، وهو صريح رواية "فعلمت ما في السماء والأرض" ورواية "فعلمت ما بين المشرق والمغرب" وما موصولة، أي فعلمت الذي بين المشرق والمغرب، أي الموجود بينهما، يوضح ذلك لو قلت: دخلت دار فلان فعلمت ما فيها، إنما يتناول علمك الموجود فيها من الأشياء حين دخولك، لا ما يوجد فيها بعد ذلك، والله أعلم.
ولما ذكر ابن كثير قول بعض المفسرين على قوله سبحانه وتعالى {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن؛ قال: فيحتمل هذا أنه كشف له بصره حتى رأى ذلك عيانا، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه في حديث المنام: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى" -فذكر الحديث- ثم تلا: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين}. انتهى.
وذكر المعترض حديث حذيفة أنه قال: "إن النبي ﷺ أخبرنا عن كل ما يقع إلى يوم القيامة حتى دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، حتى إنا لنرى الطائر يقلب جناحيه فنذكر منه علما". هكذا أورده البغدادي، جعل ذلك كله من قول حذيفة، وحرف اللفظ والمعنى. فأول هذه الجملة من كلام حذيفة، وآخرها من قول أبي ذر، لكنه غير الكلام فأفسد اللفظ والمعنى. فنميز قول حذيفة من قول أبي ذر رضي الله عنهما ليتبين للناظر تخبيط هذا الجاهل، ففي صحيح البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله ﷺ مقاما فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، فقد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون من الشيء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم رآه عرفه". [23]
قال حذيفة: "ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله ﷺ من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا سماه لنا باسم أبيه وقبيلته" هذا لفظ حذيفة. وقال أبو ذر: "لقد تركنا رسول الله ﷺ وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما". [24] انتهى.
فانظر إلى تخبيط هذا وتحريفه الفاحش، يقول أبو ذر: "وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما" يعني إلا ذكر لنا النبي منه علما؛ وهذا يقول: "إنا لنرى الطائر يقلب جناحيه فنذكر منه علما" أي نذكر نحن من الطير علما. فغير كلام الصحابي وأبدله بكلام لا معنى له.
وقول أبي ذر وحذيفة يدل على أنه ﷺ أخبرهم بأمور جزئيات من الغيب تحدث بعده أطلعه الله عليها، وهل في ذلك ما يدل على أنه أخبرهم بوقت الساعة، أو أنه أخبرهم بما في أرحام نسائهم ودوابهم، أو أنه أخبر كل واحد بأي أرض تموت، أو بما يحدث له من الذرية، ومتى يموت هذا، مما يعلم قطعا أنه لم يكن منه شيء.
وكذلك حديث المنام ليس فيه ما يستأنس به لهذا المبطل. وما ذكرنا من قول عائشة وابن مسعود كاف في بطلان دعوى من قال: إن الله لم يقبض نبيه حتى أطلعه على جميع ما كتمه عنه. وكذلك ما حدث به أصحاب رسول الله ﷺ عنه ﷺ مثل قوله: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" وقوله عن الساعة: "في خمس لا يعلمهن إلا الله" يخبر الصحابة التابعين بذلك؛ والتابعون يخبرون من بعدهم، وأهل الحديث يروون هذه الأحاديث ويثبتونها في كتبهم ولا يذكرون ما يخالفها مما هو الحق في زعم هؤلاء الملحدين حتى يجيء هؤلاء المفترون على الله الكذب وعلى رسوله فيبينون للناس ما خفي على الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين! هذا مما يقطع ببطلانه كل عاقل. وأبلغ من ذلك إخبار الله سبحانه في كتابه بتفرده بعلم الغيب ونفيه عن غيره حتى عن نبيه محمد ﷺ. والمفسرون من الصحابة ومن بعدهم يقررون ما دلت عليه الآيات ولم يذكر أحد منهم خلاف مدلولها، وهذا ظاهر ولله الحمد، لكن لأجل ترويج الكذبة على الجهال يحتاج إلى إيضاح ذلك.
واعترض هذا على ما كتبناه على قول الناظم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك....
إلى قوله مع قول المشطر:
إن لم تكن في معادي آخذ بيدي ** ومنقذي من عذاب الله والألم
أو شافعا لي مما قد جنيت غدا ** فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
قال: هذا الاعتراض باطل من وجوه. الأول: أن هذا الرجل يزعم أن قول الناظم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي، وقول المشطر: ومنقذي من عذاب الله والألم، أو شافعا لي إلى آخره - أن هذا الإنقاذ بالفعل وأنه غير الشفاعة، وأنه إن لم يحصل بالفعل فبالشفاعة. وليس كما زعم لأن الإنقاذ والأخذ باليد هو أيضا بالشفاعة لأن غير الشفاعة يكون استقلالا من دون الله ولا يتصور اعتقاد هذا من مسلم ولو كان بدويا جاهلا، والمراد تنوع الشفاعة فالنوع الأول هو الأخذ باليد والإنقاذ، وقد ورد هذا في الأحاديث الصحيحة في الشفاعة: "فأقول يا رب أمتي، فيقال انطلق فاخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأنطلق فأفعل. فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال انطلق فأخرج من في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأنطلق فأفعل. فأقول: يارب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فانطلق فأخرجهم من النار". [25] -إلى أن قال- فما المانع من إطلاق هذا اللفظ، وهل هذا الإخراج إلا الإنقاذ من العذاب؟ الوجه الثاني: أن النبي ﷺ في المعاد وهو يوم القيامة حي كحاله في الدنيا هو وجميع الخلائق، فلا مانع ذلك اليوم من أن يتسبب ويخرج وينقذ من الشدة لأنه حي حاضر. قال: وعند هذا الرجل وأشياعه أن الحي الحاضر له قدرة بنفسه، قال ابن عبد الوهاب في كشف الشبهات في جواب الحديث الصحيح "أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى حتى ينتهوا إلى محمد ﷺ وعليهم أجمعين فيقول أنا لها أنا لها" - قال: فأجاب عن هذا بالاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيره في أشياء يقدر عليها المخلوق. انتهى. قال: فإذا كان الحي الحاضر عند هؤلاء ينسبون له الفعل لأنه يقدر عليه، وصاحب البردة يخبر أنه إن لم يكن النبي ﷺ في معادي وهو يوم القيامة آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم، والنبي وجميع الخلائق ذلك اليوم أحياء حاضرون لهم قدرة فيما يقدرون عليه من الأمور العادية الحسية، ونسبة الأفعال إلى فاعلها وأسبابها جائزة شرعا وعرفا؛ فكيف ينكر إنقاذ النبي ﷺ أمته من العذاب ويجعله ممتنعا وأنه خلاف الشفاعة، مع أن النبي حينئذ حاضر، له قدرة فيما يقدر عليه ذلك اليوم ويقدر على ذلك كما هو في حال الحياة الدنيا، كما كان يرمي العدو وهم ألوف بكف من تراب فيعميهم، ويروي الألوف العطاش ويشبعهم بقليل من الماء والطعام، وفي الحديث: "إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش، وأنا آخذ بحجزكم لئلا تقعوا فيها". [26] وأعظم من هذا أن الله نسب إخراج الكفار من النور إلى الظلمات إلى الطاغوت وهي الأصنام، مع أنها لا قدرة له بوجه، لكن لما كانت سببا للإخراج نسب الإخراج إليها، وكذلك هنا لما كان النبي ﷺ سببا للإنقاذ من العذاب نسب الإنقاذ إليه. وفي دعاء الاستسقاء: "اللهم أغثنا غيثا مغيثا" [27]) قالوا: معناه منقذا من الشدة، مع أن الغيث جماد لا قدرة له، لكن لما كان سببا للإنقاذ والإغاثة نسب الإنقاذ إليه. وقد اشتهر عند العلماء: أنبت الربيع البقل ومنع البقاء تقلب الشمس، مع أن المنبت في الحقيقة هو الله والمانع للبقاء هو الله، وقال: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} مع أن القضاء من الله، وقال في حق نبيه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} مع أن الواضع هو الله، لكن لما كان سببا للفعل نسب الفعل إليه، بل جميع الأفعال تنسب إلى فاعلها فيقال: فلان أعطي وفلان منع، وفلان نفعني وفلان ضرني. ويلزم على قول هذا ألا تنسب الأفعال إلى فاعلها ولا قائل به. قال: وورد نسبة الإنقاذ من النار إلى المعاني من الأعمال، وقد ورد في حديث صحيح قال: "رأيت رجلا من أمتي عذب في قبره، فجاءته صلاته فأنقذته من العذاب، والآخر أنقذه حجه، والآخر صيامه". [28] فإذا جاز نسبة الإنقاذ من النار إلى المعاني لكونه أسبابا فنسبتها إلى الذوات من باب أولى، خصوصا أشرف الذوات من المخلوقين. انتهى.
وجوابه أن يقال: أولا وازن بين قول يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك، وبين قول الذي قال له النبي ﷺ: "أجعلتني لله ندا" حيث قال له: ما شاء الله وشئت. فهذا لو قال: ما لي من ألوذ به إلا الله وأنت، لكان أقبح من قول القائل ما شاء الله وشئت، لأن الله أثبت للعبد مشيئة يقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} فكيف إذا أفرد الرسول باللياذ والالتجاء من عذاب ذلك اليوم الذي لا تكلم فيه نفس إلا بإذنه!
وقد ذكرت في الجواب السابق الفرق بين قول هذا في تشطيره "ومنقذي من عذاب الله والألم"، وبين قوله: "أو شافعا لي"، لأن المعترض الأول ادعى بجهله أن عطف الشفاعة على الإنقاذ عطف تفسير ومعنى الكلمتين واحد، وبينا بطلان قوله هذا وأن قوله "أو شافعا لي" لا يصلح كونه عطف تفسير لأنهم ذكروا أن عطف التفسير إنما يكون بالواو خاصة، وممن ذكر ذلك ابن هشام، وأما العطف يأو فهو نص في أن المعطوف غير المعطوف عليه، مع أن العامي فضلا عن العالم يفرق بين اللفظين، فلو قصد إنسان إنسانا وقال: قصدتك لحاجة كذا، فإما أن تقضيها أو تشفع لي عند فلان في قضائه، ا فكل أحد يعرف الفرق بين العبارتين، كما فرق القرآن بينهما في قول صاحب يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي}. فالإنقاذ هو بالنصرة والمظاهرة، والشفاعة بالجاه والمكانة.
قال ابن القيم بعد كلام سبق على الآية: إن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت الحاجة دائما، وإن أرادني الرحمن الذي خلقني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما تنقذني بها من ذلك الضر، ولا من الجاه والمكانة ما تشفع لي إليه لأتخلص من ذلك الضر، فبأي شيء تستحق العبادة، إني إذا لفي ضلال مبين إن عبدت من دون الله مَن هذا شأنه. انتهى.
وقال البيضاوي: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي} أي لا تنفعني شفاعتهم، ولا ينقذون بالنصر والمظاهرة، {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. فإن إيثار من لا ينفع ولا يدفع ضرا بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال مبين لا يخفى على عاقل. انتهى.
وقوله: إن الإنقاذ والأخذ باليد هو أيضا بالشفاعة لأن غير الشافع يكون استقلالا من دون الله ولا يتصور اعتقاد هذا من مسلم؛
قلت: ولا يتصور ذلك من أحد من مشركي العرب الذي بعث إليهم محمد ﷺ فإنهم كلهم معترفون بأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تدبر شيئا من دون الله. ونصوص القرآن كثيرة في ذلك كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. أي أفلا تتقون الشرك في الألوهية إذا أقررتم بالربوبية. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ}. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. واعترفوا أيضا بصفة العزة والعلم لله، والآيات في هذا كثيرة معلومة عند الجميع، يحتج سبحانه عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الألوهية كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السموات والأرض والجبال قالوا الله وهم يعبدون معه غيره! ولهذا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وقال عطاء في الآية: إيمانهم وإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد وينسون في الرخاء كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية.
والآية تعم ذلك كله. فهذه نصوص القرآن صريحة في أن المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية اعترافا جازما غير مترددين ولا متوقفين. بل يقرون بجملة من صفات الرب سبحانه وتعالى ينكرها كثير من المسلمين المنحرفين، كإقرارهم بصفة العزة والعلم، ويقرون أيضا بعلوه فوق سمواته كما في حديث حصين بن المنذر لما قال له النبي ﷺ: "كم إلها تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء" [29] وكما في شعر أمية بن الصلت وغيره.
وأخبر الله عنهم أنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله في أمور دنياهم، وكذا من يعترف منهم بالآخرة، فإذا طلبوا من آلهتهم حاجة من حوائجهم من رزق أو نصر على عدو ونحو ذلك لم يقولوا إن آلهتهم تحدث شيئا من مطلوبهم من دون الله وتستقل بذلك، لم يقل هذا أحد منهم، وإنما كانوا يقولون إننا إذا طلبنا حاجتنا من هذا الوجيه عند الله حصل مطلوبنا لوجاهته عند الله، ولهذا يخلصون الدعاء لله في الشدائد وينسون الوسائط كما قال تعالى: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}.
إذا تبين هذا فإذا خوطب النبي ﷺ أو غيره من الأموات والغائبين بلفظ من ألفاظ الاستغاثة أو طلب منه حاجة بقول أغثني، أو أنقذني من كذا، أو خذ بيدي، أوأقض حاجتي، أو أنت حسبي، أو أشكو إليك حاجتي، أو نحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك فهذا شرك العرب الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ.
وقول المستغيث: خد بيدي، أو أنقذني، من أبلغ ألفاظ الاستغاثة؛ فلو اعتقد الداعي أن من دعاه وطلبه يقضي حاجته استقلالا من دون الله كان هذا شركا في توحيد الربوبية والألوهية.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى: ومن رحمة الله سبحانه أن الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره أن يفعل أو دعائه أن يدعو ونحو ذلك لا يحصل غرض صاحبه ولا يورث حصول الغرض شبهة إلا في الأمور الحقيرة؛ فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحوط وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وقال: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}. فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به.
قال رحمه الله: وجماع الأمر أن الشرك نوعان:
شرك في ربوبيته: بأن يجعل لغيره معه تدبير ما، كما قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}. فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالا ولا يشركون في شيء من ذلك ولا يعينونه على ملكه، فمن لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عونا فقد انقطعت علاقته.
وشرك في الألوهية: بأن يدعى غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فكما أن إثبات المخلوقات سببا لا يقدح في توحيد الربوبية ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعي المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسبابا لا تقدح في توحيد الألوهية ولا تمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا توجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك إذا كان الله يسخط ذلك ويعاقب عليه، ويكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في ألا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا به.
قال: وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه كقوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. وقال: {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع }. وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}. وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان، وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}. وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}. وسورة الزمر أصل عظيم في هذا.
قال: والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول. انتهى. [30]
وما احتج به هذا الملحد من قول النبي ﷺ: "أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج من في قلبه كذا وكذا من إيمان" وقوله: فما المانع من إطلاق هذا اللفظ -يعني لفظ الإنقاذ- وطلبه من النبي ﷺ وهل هذا الإخراج إلا الإنقاذ من عذاب الله؛
فالعجب من هذا التمويه، فهل فعل هذا ﷺ بنفسه أو بأمر الله له بذلك؟ فالله سبحانه هو الذي أكرمه بهذه الشفاعة، فهو ﷺ عبد مأمور لا يشفع إلا بإذن ربه فيمَن أذن الله له أن يشفع فيه فقط، لا يتجاسر أن يشفع في غير من أذن له فيه ربه.
ثم انظر قول هذا: إن النبي ﷺ حي كحاله في الدنيا هو وجميع الخلائق فلا مانع في ذلك اليوم من أن يتسبب ويخرج وينقذ من الشدة لأنه حي حاضر، والنبي وجميع الخلائق ذلك اليوم أحياء حاضرون لهم قدرة فيما يقدرون عليه من الأمور العادية الحسية؛ قال: وعند هذا الرجل وأشياعه أن الحي الحاضر له قدرة بنفسه، فكيف ينكر إنقاذ النبي أمته من العذاب ويجعله ممتنعا مع أن النبي حينئذ حاضر له قدرة فيما يقدر عليه ذلك اليوم، ويقدر على ذلك كما هو في حال الحياة الدنيا، كما كان يرمي العدو وهم ألوف بكف من تراب فيعميهم، ويروي الألوف العطاش ويشبعهم بقليل من الماء والطعام؛
فلينظر المنصف إلى تقرير هذا المبطل وجعله النبي بل وغيره يتصرفون في ذلك اليوم كتصرفهم في الدنيا، وأنه ﷺ يخرج وينقذ من الشدة، ويقرر ذلك من هذا التقرير، وأنه ﷺ يقدر على ذلك أي الإنقاذ، وتعجبه ممن ينكر ذلك فقال: وكيف ينكر إنقاذ النبي أمته من العذاب، ويحتج علينا بأنا إذا قلنا إن للحي الحاضر قدرة في الدنيا على التصرف بالفعل بنفسه يقول فيلزمكم أن تثبتوا ذلك في الآخرة لا فرق. ثم قال: ويقدر على ذلك كما هو في حال الحياة الدنيا، وقوله: والنبي وجميع الخلائق ذلك اليوم لهم قدرة فيما يقدرون عليه من الأمور العادية الحسية، والمراد بالأمور العادية الأشياء التي يفعلها الحي في العادة، والحسية الأفعال المشهودة بالعيان مثل إعطاء بعضهم بعضا ومعاونة بعضهم لبعض وكذا جناية بعضهم على بعض؛ والعجب من هذا الضال سوى في هذه الأمور بين الدنيا والآخرة ولم يجعل لإخباره سبحانه بتفرده بالملك والأمر في ذلك اليوم فائدة ولا معنى، وأي محادة لله ورسوله أكبر من هذا؟ وهذه نصوص الكتاب والسنة نذكر بعضها فيعرض المنصف كلام هذا الرجل عليها:
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
قال ابن كثير: "إنما أضيف الملك إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هناك شيئا ولا يتكلم أحد إلا بإذنه. {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} وقال: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال: {وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}. وقال الضحاك عن ابن عباس {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: يقول لا يملك أحد في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا. قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلا من عفي عنه. قال: وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف، وهو ظاهر".
وقال البغوي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إنما خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها، لأن الأملاك يومئذ زائلة فلا ملك ولا أمر إلا له، قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} وقال: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقال {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}. انتهى.
وقال تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}. وهذا معنى قوله {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقال تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}.
قال البيضاوي في هذه الآية {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} قال: وإيراده شيئا منكرا مع تتنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي. انتهى.
وما ذكره البيضاوي من أن النكرة في سياق النفي تعم مجمع عليه عند البيانيين والأصوليين، وعليه جميع المفسرين والفقهاء.
وقال تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} وقال: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} وقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}. فنكر النفسين وشيئا، وهذا من أبلغ صيغ العموم في النفي، كما قال البيضاوي، فيعم جميع الأنفس وكل ما يقع عليه اسم شيء، ثم أكد بقوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
وقال ابن كثير {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}: تهويل لشأن ذلك اليوم ولهذا قال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} أي لا ينفع أحد أحدا ولا يدفع أحد عن أحد شيئا، ولهذا قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} وقوله: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وكقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال قتادة {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} قال: والأمر والله لله اليوم ولكن لا ينازعه يومئذ أحد ولا يصنع أحد شيئا إلا رب العالمين.
وقال الزمخشري {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}: يعني أن أمر يوم الدين عظيم بحيث لا يدرك كنهه في الهول والشدة وكيفما تصورت فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول عن وصفه فقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} أي لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا الله وحده. [31]
وفي تفسير الجلالين: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} من المنفعة {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} لا أمر لغيره معه أي لم يمكن أحدا من التوسط فيه بخلال الدنيا.
وقول المعترض: إن البغوي قال في قوله تعالى {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} إن هذا في النفس الكافرة؛ وكذب في نسبة ذلك إلى البغوي، فإن البغوي حكى ذلك عن مقاتل، فيحتمل أن مقاتلا خص بعض ما تناولته الآية لمعنى ما، والظاهر أن مراده أن غير الكافر يشفع فيه الشافعون ويرى أن من أذن له في الشفاعة يملك ما أذن له فيه كما قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا} وقوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بناء على أن الاستثناء في الآيتين متصل، وأن من أذن له في الشفاعة يصدق عليه أنه ملك الشفاعة فيمن أذن له فيه فقط، والشفاعة المأذون فيها هي من الأمر الذي اختص الله به سبحانه في قوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} والألف واللام في الأمر تفيد العموم عند الجميع كقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فهو سبحانه الآمر والآذن، فله الأمر كله وله الملك كله. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا}. والعموم في قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}. كالعموم في نظائرها من الآيات التي قدمنا ذكرها كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}. وما رأينا أحدا من المفسرين قال في هذه الآيات بالخصوص بل قرروا عمومها على مقتضاه، ولم يقل أحد منهم في شيء منها إنه مختص بالكفار سوى ما ذكره البغوي عن مقاتل في قوله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} وليس هو بالصواب وهو مخالف لما عليه المفسرون وأهل العربية والأصوليون والفقهاء في قولهم بعموم النكرة في سياق النفي. فمن له نظر في كتب الجميع وجد ذلك صريحا.
قال في شرح مختصر التحرير: ومن صيغ العموم نكرة في نفي، صرح به أهل العربية. وكذا قال العراقي في شرح جمع الجوامع إن النكرة في سياق النفي تعم ولم يذكر خلافا، وهذا يفهمه كل أحد من مثل قوله تعالى: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}. فمن سمع هذه الآيات ونحوها لم يشك في عمومها، كيف وفي قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} زيادة تأكيد للنفي لأنه نكر النفسين وشيئا، فهو كما قال البيضاوي في قوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} إذ قال: وإيراده شيئا منكرا مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي. ولا ريب أن الشفاعة الحاصلة بإذنه سبحانه وتعالى ليست داخلة تحت النفي حتى يقال إن هذا مخصوص بالكافرة، وإنما المنفي نفع أحد أحدا بشفاعة أو غيرها بدون إذنه سبحانه كما قال قتادة: وليس أحد يصنع يومئذ شيئا إلا رب العالمين. ومما يوضح خطأ من خص الآية بالكافرة ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال رسول الله ﷺ: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا - إلى أن قال: يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا". [32] وفي رواية الترمذي لحديث أبي هريرة: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا - إلى أن قال: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا، إن لك رحما سأبلها ببلالها". [33] وفي صحيح سلم من طريق آخر عن أبي هريرة قال: "لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله ﷺ قريشا فعم وخص فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا انفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها"، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله ﷺ فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله ﷺ يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك" الحديث.
فأخبر الصادق المصدوق أنه لا يملك لابنته سيدة نساء الأمة وعمه وعمته والمهاجرين والأنصار من الله شيئا ولا يغني عنهم من الله شيئا. فهذه الأحاديث ونحوها شاهدة للعموم في قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} مع أن الآية صريحة في ذلك، فهذه الأحاديث تزيد الواضح وضوحا ولله الحمد. مع أن قول مقاتل ليس فيه حجة لهذا المبطل لأننا نقطع أن مقاتلا لم يرد أن أحدا يفعل في ذلك شيئا من دون الله سبحانه أو أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وإنما أراد نفي الشفاعة في الكافر.
وليتأمل المنصف ما ذكرنا من الآيات والأحاديث المصرحة بتفرد الله سبحانه بالملك والأمر في ذلك اليوم وأنه لا حاكم ولا متصرف هناك سواه سبحانه، ويعرض قول هذا الملحد المشرك بين الله وبين رسوله، بل وغير الرسول، في التصرف والأمر في ذلك اليوم العظيم بقوله: إن النبي ﷺ يقدر على إنقاذ أمته من العذاب في ذلك اليوم، وإنه يقدر على ما كان يقدر عليه في الدنيا، وإنه يتصرف في ذلك اليوم هو وغيره كما كانوا في الدنيا، فيعرض كلامه هذا على ما ذكرنا من كلام الله وكلام رسوله ليتبين الهدى لمن أراد الله هداه.
قال المعترض: وصاحب البردة يخبر أنه إن لم يكن النبي ﷺ في معادي آخذا بيدي وإلا فقل يا زلة القدم؛
فيقال له: قول صاحب البردة وقولك ليس إخبارا بل هو استغاثة بل من أبلغ ألفاظ الاستغاثة، كقول الأبوين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقول بني إسرائيل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}. أترى أن الأبوين وجميع المذكورين يخبرون الله بأنه إن لم يغفر لهم ويرحمهم فهم خاسرون وأن هذا منهم مجرد إخبار، بل كل أحد يعرف أن هؤلاء الذين أخبر الله عنهم بهذا الكلام يسألون الله ويرغبون إليه في أن يغفر لهم ويرحمهم ومعترفون بأنه إن لم يغفر لهم ويرحمهم فهم خاسرون. وهذا الجاهل لا يفرق بين نوعي الكلام من الإنشاء والخبر. فالكلام عند علماء البيان نوعان: خبر وإنشاء، فالخبر ما احتمل الصدق والكذب، أي ما احتمل أن يكون قائله صادقا ويحتمل أن يكون كاذبا كقوله: جاء زيد وقدم عمرو، فهذا قول يحتمل أن يكون صدقا وأن يكون كذبا، فهذا تعريف الخبر، وما سواه يسمى إنشاء.
وأما قول صاحب البردة وقول المشطر:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك........
إلى قولهما:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ** ومنقذي من عذاب الله والألم
............. ** فضلا فقل يا زلة القدم
أي وإن لم تأخذ بيدي وتنقذني من عذاب الله فقل يا زلة القدم. أي فأنا خاسر أو هالك، فهو كقول الأبوين: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقول بني إسرائيل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
ثم أورد المعترض أشياء يستدل بها لقوله: "ومنقذي من عذاب الله والألم" وليس فيها ما يستأنس له به فضلا عن أن يكون حجة، وإنما أراد الإكثار من الكلام إيهاما للطغام.
وقد قدمنا جملة من شبهه، حقيقتها نسبة المسبب إلى سببه، منها قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}. قال: مع أن القضاء من الله، يعني أن القضاء في هذا الموضع هو فعل الرب سبحانه الذي بمعنى التقدير كما يقال قضى الله كذا أي قدر كذا؛ وقد أخطأ في معنى هذه الكلمة، وإنما المراد بالقضاء في قوله {فَقَضَى عَلَيْهِ} القتل الذي هو فعل موسى لا فعل الرب، يقول: فوكزه موسى فقضى عليه أي قتله. هذا هو المراد عند جميع المفسرين. تقول العرب: قضى فلان على فلان إذا قتله، ويقال قضى فلان أي مات.
وقوله ﷺ: "وأنا آخذ بحجزكم عن النار" المراد تحذيرهم عن الأعمال التي توجب غضب الرب وتورد النار.
وقوله: إن الله نسب إخراج الكفار من النور إلى الظلمات إلى الطاغوت وهي الأصنام؛ فأخطأ في قوله إن المراد بالطاغوت هنا الأصنام، وأكثر المفسرين يقولون المراد بالطاغوت هنا الشياطين، وقيل: المراد كعب بن الأشرف وأشباهه من علماء اليهود، ولم نر من فسر الطاغوت هنا بالأصنام، ولهذا قال: {يخرجونهم} فأتى بضمير العقلاء. فلو ذهبنا نتتبع خطأه وتخبيطه في نحو ذلك لطال الكلام.
وذكر قول الشاعر: منع البقاء تقلب الشمس، وقولهم: أنبت الربيع البقل؛
ومن استدل بنحو ذلك على جواز الاستغاثة بالنبي ﷺ وغيره من الأموات والغائبين بطلب الحاجات منهم ثم طلب الإنقاذ من عذاب يوم القيامة وشدائده فقد أتى بما ينكره العامي السليم الفطرة ولكن الهوي يعمي ويصم.
ونحن لا ننكر إضافة الأشياء إلى أسبابها، ولكن الله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات ولا يلزم من ذلك أن نعتمد على الأسباب، فضلا عن أن نسألها ونرغب إليها وهي مخلوقة، بل يتعين على العباد أن يعتمدوا على خالق الأسباب ويرغبوا إليه ويستعينوا به ويعبدوه وحده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين في أثناء كلام له: إن إثبات المخلوقات أسبابا لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة. [34] انتهى، وقد تقدم.
وهذا المبطل يقول إذا كان الله قد جعل النبي سببا للإنقاذ من النار من أراد الله هدايته جاز أن يطلب الإنقاذ من النار منه ﷺ. فطرد هذا الأصل الباطل أن يجوز ذلك في جميع الأسباب، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}. فيلزمه أن يجوز للناس أن يطلبوا من الريح أن تثير لهم سحابا ماطرا، وقال تعالى في حق نبيه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. والمراد بالظلمات ظلمات الجهل والكفر والشك إلى نور العلم والإيمان، فيجوز على أصل هذا أن يقال: يا رسول الله أخرجنا من الظلمات إلى النور، وهذا حقيقة هداية الصراط المستقيم، فيقال: يا رسول الله اهدنا الصراط المستقيم؛ وهذا لازم لهذا المبطل على أصله الباطل لا محيد له عنه ولا أستبعد التزامه ذلك لجهله وعناده، وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}.
قوله: وقد ورد نسبة الإنقاذ إلى المعاني من الأعمال... إلى آخر كلامه؛ هذا مما احتج به لقوله: "ومنقذي من عذاب الله والألم". فانظر هذا القياس الفاسد وجعله هذا من باب أولى، وقياسه هذا أقبح من قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا لو أنه ساوى بين الأمرين، فكيف وهو يقول هذا من باب أولى. فكذب على الله وعلى رسوله في زعمه ـن ذوات المخلوقين تنقذ من عذاب الله كما تنقذ الأعمال الصالحة، بل هي أولى في زعمه. ومراده طلب الإنقاذ من المخلوقين لأنه أراد بذلك الاحتجاج لطلبه الإنقاذ من النبي ﷺ بقوله "ومنقذي من عذاب الله والألم" ويقوله إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات والغائبين؛ وهذا من الكذب على الله، وشرع دين لم يأذن به الله حيث زعم أن الله يحب من عباده أن يطلبوا من غيره أن ينقذهم من عذابه وأنه يحب من المؤمنين طلب الحاجات من الأموات والغائبين. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقال تعالى: {قل قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. والله سبحانه جعل دخول الجنة والنجاة من النار معلقا على الأعمال الصالحة، لا على الالتجاء إلى المخلوقين والاستغاثة بهم والتوسل بذواتهم. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} الآيتين. فعلق سبحانه النجاة من عذابه ومغفرة ذنوبهم ودخولهم الجنة والنصر على الأعداء على الإيمان بالله وبرسوله والجهاد في سبيله.
وقال: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. وقال: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
كما جعل سبحانه اتباع رسوله سببا لمحبته ومغفرة الذنوب والفلاح في الدنيا والآخرة؛ قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
وهذا المفتري على الله الكذب يزعم أن التقرب إلى الله بذوات المخلوقين أولى من التقرب إليه بالأعمال الصالحة وباتباع رسوله ﷺ.
فيا سبحان الله كيف يروج تمويه هذا على من يسمع هذه الآيات ونحوها مما لا يحصى من آي القرآن وعلى من يسمع قول الله سبحانه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ونحو هذه الآيات، مع قول النبي ﷺ لابنته وعمته والمهاجرين والأنصار: "لا أغني عنكم من الله شيئا" "لا أملك لكم من الله شيئا" ويؤكد ذلك بحلفه لابنته وعمته أنه لا يغني عنهم من الله شيئا.
وقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه ﷺ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي لا أجد من ألتجىء إليه وأعتمد عليه. وصاحب البردة يقول: فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا؛ يعني أنا في ذمته وجواره لموافقة اسمي اسمه، وهذا يقتضي أن كل من سمي محمدا فهو في ذمته ﷺ. وقوله في الهمزية: الأمان الأمان، أي أسألك الأمان، فأكده تأكيدا لفظيا، فهو يطلب من النبي ﷺ أن يؤمنه ويجيره من عذاب الله، وقد قال النبي ﷺ: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل". [35] وكان أكثر دعاء النبي ﷺ: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" [36] ومن دعائه ﷺ: "رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك"، [37] وفي دعاء الخروج إلى الصلاة: "أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". [38] فالنبي ﷺ يسأل الله أن يقيه عذابه وعذاب النار ويسأله أن ينقذه من النار وهذا يطلب الإنقاذ من النبي ﷺ - ما أعظمه من ضلال.
وفي بعض أدعيته ﷺ: "أسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار". [39]
وقال للذي قال: لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار: "حولها ندندن". [40] ومن دعائه ﷺ: "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" [41] "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك". [42]
فالتجأ إلى الله منه واستعاذ به منه. وصاحب البردة والمشطر التجيا إلى الرسول ﷺ من عذاب الله، وعاذا به منه وقد قال النبي ﷺ للذي قال: اللهم إني أتوب إليك لا إلى محمد: "عرف الحق لأهله". [43]
وزعم هذا المتخبط أن الشفاعة نوعان: أحدهما الأخذ باليد والإنقاذ، والثانية معنى قولي أو شافعا لي باستغفاره. فالأولى شفاعة فعلية بأن يخرجه من العذاب بعد وقوعه فيه، والثانية شفاعة قولية بأن يحال بين المذنب وبين المؤاخذة. انتهى؛
فانظر إلى هذا التقسيم الباطل، وهل يعقل الناس شفاعة إلا بالكلام من الشافع كما في حديث الشفاعة الطويل: "حتى أستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع محمد، قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة". [44] وذكر الثانية كذلك والثالثة والرابعة. وكذلك شفاعة النبي ﷺ في إخراج ناس من النار يقال له انطلق فأخرج من قلبه كذا من إيمان.
فالعجب من ترويج هذا المبطل وهل يسمى الفعل المجرد عن القول شفاعة عند عالم أو جاهل؟ إنما الشفاعة بالكلام وقبولها بالفعل من الشافع فيما أذن له فيه. فإدخاله ﷺ الجنة من أمره الله بإدخاله وإخراجه من النار من أمره بإخراجه، هذا حقيقة قبول الشفاعة، لا أن ذلك شفاعة أخرى.
وهل يوجد في حديث أنه ﷺ أدخل أحدا الجنة أو أخرج أحدا من النار بغير أمر الله؟ وهذا أمر واضح ما يحتاج إلى توضيح لكن ربما يحصل بكلامه تشبيه على الجاهل. فلو ذهبنا نتتبع ما في كلامه من الركاكة والتناقض والعيب لاحتمل مجلدا.
من ذلك قوله على قوله في القصيدة: "أو شافعا لي مما قد جنيت": فمراد إخباره عن نوع آخر من الشفاعة وهو كونه شافعا لي باستغفاره أو بدعائه لا بفعله، فيشفع لي شفاعة ثانية مما جنيت من الذنوب فلا يؤاخذني بها فلا أرى العذاب بالكلية أو يزيد في درجاتي؛
ثم قال بعد ذلك: وقولي ثانيا أو شافعا لي مما قد جنيت غدا فهي شفاعة أخرى غير شفاعة الإنقاذ بالاستغفار للذنب. قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال: {أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. فالأولى شفاعة فعلية بأن ينقذه من العذاب بعد وقوعه فيه، والثانية شفاعة قولية بأن يحال بين المذنب وبين المؤاخذة. قال: وهذا ظاهر. انتهى؛
أقول: بل كله كلام باطل متناقض. من ذلك كونه جعل قوله في خطابه للنبي ﷺ "ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعا لي" إخبارا فهذا باطل، بل هو استغاثة به ﷺ لا خبر، وقد قدمنا عند قوله فيما تقدم: "وصاحب البردة يخبر أنه إن لم يكن النبي ﷺ آخذا بيده وإلا فقل يا زلة القدم" إيضاح ذلك، ولكن لو سلم أنه خبر مع استحالة كونه خبرا فهو إخبار منه للنبي ﷺ لأن الخطاب معه، فهو يخبر النبي ﷺ بأن يشفع له شفاعتين قولية وفعلية، فهو يخبر النبي بما لا يعلمه لأنه لو كان يعلم ذلك لم يحتج إلى إخباره له بذلك.
وحقيقة كلامه إذا جعله خبرا أنه يقول أنت يا رسول الله تشفع لي شفاعتين فعلية وقولية. فهل يوجد كلام أسمج من هذا الكلام مع تضمنه الكذب على الله وعلى رسوله وتزكية نفسه بحصول شفاعة النبي ﷺ له. فهو والحالة هذه شاهد لنفسه بأنه من أهل الجنة، وجعله الشفاعة الأولى بأن ينقذه النبي ﷺ من العذاب بعد وقوعه فيه، والشفاعة الثانية استغفار النبي ﷺ له. ما أعجب هذا، هل في الآخرة توبة واستغفار؟ وإنما الواقع من الأنبياء وغيرهم الشفاعة. ولم يأت أهل الموقف إلى الأنبياء يقولون استغفروا لنا بل بقولون اشفعوا لنا.
وأيضا إذا حصلت لهذا الشفاعة الفعلية بزعمه، وهي الإنقاذ من العذاب، فقد سلم من المؤاخذة بذنبه فلا يحتاج أن يشفع له ثانيا بأن لا يؤاخذ بذنبه. ومن له أدنى نظر تبين له فساد كلامه وتناقضه في أكثر المواضع من تسويده هذا. والله الهادي إلى سواء السبيل.
وذكر المعترض أني استدللت بقول الله سبحانه: {أفأنت تنقذ من في النار} ولا أذكر ذلك ولا وجدته في المسودة عندي، ولا شك أن معنى الآية أن من كتبه الله شقيا لا تنقذه مما هو قيه من الضلالة لأن من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، هذا مع أني أقول الاستدلال بعموم الآية على ما نحن فيه سائغ، وما زال العلماء يستدلون بآيات نزلت في أمور خاصة على ما يتناوله اللفظ بعمومه. والعبرة عند العلماء بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا سيما والمستدل بهذه الآية عليه ثابت حكمه بنصوص آيات وأحاديث كقوله سبحانه: {مالك يوم الدين} {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} وكقوله ﷺ لسيدة نساء الأمة ولقرابته: "أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا" وقوله للمهاجرين والأنصار: "لا أملك لكم من الله شيئا". ومعنى لا أملك لكم من الله شيئا: لا أملك لكم ضرا ولا نفعا كما في رواية الترمذي للحديث.
قال البغدادي: وهذا الرجل ينكر نسبة الإنقاذ من النار بالفعل إلى رسول الله ﷺ ويذكر الأحاديث التي فيها نسبة الإنقاذ من النار إلى قريش ولا يدري أنها رادة عليه مدعاه الذي يدعيه، إذ يقال كيف نفى الله الإنقاذ عن نبيه ويثبته لأقاربه من قريش بقوله: "أنقذوا أنفسكم من النار" فإنه نسب الإنقاذ من النار لهم. فإن قلت: أراد أنكم تتسببون في إنقاذ أنفسكم بالإسلام، قلنا: وكذلك إطلاق كلامنا ككلامه فإن مرادنا بقولنا "ومنقذي من عذاب الله والألم" أي متسببا في إنقاذي أو منقذي بفعله. انتهى؛
فانظر إلى هذا الكلام الباطل والقياس الفاسد، يقول كيف ينفي الإنقاذ عن نبيه ويثبته لأقاربه من قريش، وقوله وإطلاق كلامنا ككلامه... الخ.
قلنا: أما الاتفاق في الحروف فنعم وأما في المعنى فبين الكلامين من التباين ما لا نهاية له، فالعجب من هذا التلبيس الذي لا يخفى على العامي السليم الفطرة.
ويقال له أيضا: كذبت في قولك كلامنا ككلامه، فهو ﷺ يقول: أنقذوا أنفسكم من النار بطاعة الله ورسوله، فهذا السبب الذي أمرهم به ﷺ في دار العمل، وأنت تطلب الإنقاذ من النار من النبي ﷺ في دار الجزاء، فسببك الذي تعتمد عليه الشرك وهو الاستغاثة به ﷺ لينقذك من عذاب الله يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، والسبب الذي أمر به ﷺ التوحيد ولزوم طاعة الله ورسوله، فالسبب الذي أمر به ﷺ يوصل إلى رضى الله والجنة، والسبب الذي تدلي به يبعد عن الله غاية الإبعاد. وهل قال النبي ﷺ لابنته وعمه وعمته والمهاجرين والأنصار: أنا أنقذكم من عذاب الله أو أتسبب في إنقاذكم فلا تخافوا؟ فلو كان النبي ﷺ شيء من هذا الأمر ذلك اليوم لكان هؤلاء أحق من غيرهم.
وقوله: كيف ينفي الإنقاذ عن نبيه ويثبته لقريش؛
قلنا: لم ننف الإنقاذ عنه ﷺ، بل هو الذي نفاه عن نفسه بقوله: "لا أملك لكم من الله شيئا" "لا أغني عنكم من الله شيئا" فالإنقاذ الذي أمرهم به غير الإنقاذ الذي نفاه عن نفسه.
قال المعترض: وأما استدلاله بقوله سبحانه عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي} فإن هذا في الأصنام التي اتخذها الكفار آلهة وأربابا من دون الله. قال: فهل يستدل من له أدنى تمييز على عدم شفاعة النبي ﷺ وإنقاذه لأمته بمثل هذا الدليل الباطل الذي ساوى فيه الأصنام بسيد الأنام بعدما أخبر الله عنه بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}. قال: وظاهر كلام هذا الرجل إنكار الشفاعة بالكلية لقوله وهذا نص في أن من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع. قال: ومعلوم أن من استوجب العذاب من المسلمين أو دخل فيه وشفع فيه الأنبياء أو الملائكة أو المؤمنون لا شك أن الله أراده بضر ونفعه شفاعة الشافعين، فكيف يجوز لمسلم إنكار الشفاعة وهو يدعي أنه من أهل السنة والجماعة ويستدل عليها بآية الأصنام المتخذة أربابا. انتهى؛
قوله: إن هذه الآية أعني آية يس في الأصنام خاصة، فهو كاذب ضال في قوله هذا، بل الآية عامة في كل ما عبد من دون الله، لأن من أراده الله بضر لم يغن عنه معبوده شيئا سواء كان معبوده ملكا أو نبيا أو غيرهما، فلا يكشف عنه ضرا أراده الله به ولا يجلب له نفعا. وأتى سبحانه في الآية بضمير العقلاء بالواو والميم فهي عامة في كل معبود من دون الله سواء كان عاقلا أم جمادا. يوضح ذلك قوله: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هم الملائكة والمسيح وأمه وعزير. وقال ابن مسعود: نزلت في أناس يعبدون ناسا من الجن فأخبر سبحانه أن هؤلاء لا يملكون كشف الضر عمن عبدهم ولا تحويلا من موضع إلى موضع. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}. وهذا المعترض يقول هذه الآية -آية يس- فيمن عبد الأصنام. ومقتضى كلامه أن من عبد غير الأصنام أن معبوده ينفعه بشفاعة وغيرها. ومن المعلوم بالسنة المتواترة وإجماع أهل السنة بل الأمة أن من مات مشركا لا شفيع له. وأخبر سيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه أن شفاعته لمن مات لا يشرك بالله شيئا. [45] فمن عبد غير الله من ملك أو نبي أو صالح أو صنم أو غير ذلك فإنه لا يشفع فيه شافع ولا يدفع عنه دافع. قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وقال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. وانظر إلى إنكار هذا المعترض قولنا إن من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع كما هو نص الآية بقوله: ظاهر كلام هذا الرجل إنكار الشفاعة بالكلية لقوله: وهذا نص في أن من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع؛ فيا عجبا من جرأة هذا، وهل قلت من عند نفسي إن من أراده الله بضر فلا شفيع له ولا منقذ، أو هذا قول الله سبحانه وتعالى لا قول غيره؟ وزعم أن استدلالنا بالآية إنكار منا للشفاعة، وهو يعلم أننا لا ننكر الشفاعة الواقعة بإذن الله، وإنما ننكر الشفاعة الشركية التي يثبتها هو وأشباهه.
قوله: وهل يستدل من له أدنى عقل على عدم شفاعة النبي ﷺ وإنقاذه لأمته بمثل هذا الدليل الباطل؛
فوصف الخبيث كلام الله بالبطلان مما يبين جهل هذا وفجوره، فلو قال: الاستدلال باطل، لكان أخف إثما لأن وصف الدليل بالبطلان كفر صريح لأن القرآن هو الدليل. قال الإمام أحمد: الدال الله والدليل القرآن والمبين الرسول والمستدل أولو العلم. هذه قواعد الإسلام. والمقصود بذكر كلام الإمام أحمد بيان أن الذي يوصف بالدليل هو القرآن. فقول المعترض "مثل هذا الدليل الباطل" وصف للقرآن بالبطلان.
وانظر قوله: ومعلوم أن من استوجب العذاب أو دخل فيه وشفع فيه الملائكة والأنبياء وغيرهم لا شك أن الله أراده بضر ونفعه شفاعة الشافعين؛
فصريح كلامه هذا تكذيب لصاحب يس - الذي صدقه الله فيه، ويشهد له من نصوص القرآن ما لا يحصى إلا بكلفة- في قوله: {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي}. فيقال لهذا المتخرص: إنما تكون الشفاعة لمن أراد الله رحمته وإن كان قد عذبه قبل ذلك، فإذا أراد الله سبحانه رحمة إنسان قد استوجب العذاب أو قد دخل النار أخرجه منها برحمته أو أذن لمن يشاء من عباده أن يشفع فيه كما في بعض أحاديث الشفاعة "أن الله سبحانه إذا أراد رحمة من شاء ممن في النار أذن في الشفاعة فيه" وأما من أراد الله ضره في الآخرة أو في الدنيا فلا منقذ له ولا شفيع، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}.
وقوله: لا شك أن الله أراد بضر ونفعه شفاعة الشافعين؛
فنقول: لا شك في بطلان هذا الكلام، بل هو كفر، لأن حقيقة كلامه هذا أن شفاعة الشافعين منعت من نفوذ إرادة الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال المعترض: وأما استدلاله بقول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. فيقال هذه نازلة في أناس مخصوصين من الكفار آذوا النبي ﷺ فدعا عليهم بالهلاك وكان علم الله فيهم من يؤمن فقال: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فهذه الآية في أناس مخصوصين، ونحن كلامنا في نفع النبي ﷺ أمته بالشفاعة فقد أخبره الله بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وأنزل له جبريل يقول الله: "نرضيك في أمتك ولا نسوءك" [46] ولم يقل هنا: ليس لك من الأمر شيء. انتهى؛
يزعم المعترض أن قوله سبحانه {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} في أناس مخصوصين، ونحن كلامنا في نفع النبي ﷺ أمته بالشفاعة، وقد أخبره بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ولم يقل هنا ليس لك من الأمر شيء؛
فيقال: وهل في قوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} معارضة لقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فالأمر كله له وحده، ووعد نبيه أنه سيرضيه، وقوله إن الآية في أناس مخصوصين، مراده أن حكمها لا يتعداهم، ليس مراده أنهم سبب النزول، فهو يقول إن غير هؤلاء المخصوصين للنبي من أمرهم شيء، فيكون شريكا لله في أمر غير هؤلاء المخصوصين؟ ولهذا احتج بقوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال: ولم يقل هنا ليس لك من الأمر شيء، فجعل قوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} معارضا لقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} لأنه عارض هذه الآية بتلك الآية وضرب كلام الله ورسوله بعضه ببعض، مع أنه ليس بين الآيتين ما يوهم التعارض؛ فالذي له الأمر كله وعد نبيه أن يعطيه فيرضى. وإنما مراده بإيراد الآية التلبيس والإيهام للجهال، والله سبحانه لم يقل: ليس لك من أمر هؤلاء المخصوصين شيء، وإنما قال: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} والألف واللام تفيذ العموم عند الأصوليين. وقال تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وقال: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا}.
قال ابن كثير على قوله سبحانه {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} بعد الكلام على أول الآية قال: ثم اعترض بجملة دالة على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} بل الأمر كله لي كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال محمد بن إسحاق {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ}: أي ليس لك شيء من الحكم في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. انتهى.
قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أورد ابن جرير عند تفسير هذه الآية حديثا مرفوعا إلى النبي ﷺ قال: من زعم أن الله جعل للعباد شيئا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فله سبحانه الأمر كله وله الملك كله والحمد كله وإليه يرجع الأمر كله، فالأمر كله له سبحانه في الدنيا والآخرة، وإنما خص يوم القيامة في نحو قوله تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} لتفرده سبحانه في ذلك اليوم بالتصرف والحكم والتدبير، فليس لأحد معه في ذلك اليوم تصرف ولا تدبير ولا أمر ولا نهي، بخلاف الحال في الدنيا، فإن الله سبحانه ملك أهلها ما خولهم فيها فهم يتصرفون فيما أعطاهم بحسب اختيارهم مع كون الملك والأمر في الحقيقة لله وحده في الدنيا والآخرة. وقد قال الله سبحانه لنبيه لما قال في شأن عمه أبي طالب "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" [47]: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. وقال في شأن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}.
قال المعترض: وأما استدلاله بقوله لقرابته وبضعته "لا أغني عنكم من الله شيئا" معناه: إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله لا أغني عنكم من الله شيئا، بدليل قوله: "أنقذوا أنفسكم من النار" يعني بالإسلام. قال: وفي بعض روايات الصحيحين أنه ﷺ دعا قريشا فاجتمعوا وقال: "يا بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار - إلى أن قال - فإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله". انتهى.
هذه الجملة من قوله: "لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله" كل هذه الجملة التي عزاها للصحيحين كذب وافتراء منه؛ ليس في الصحيحين منها حرف واحد. ما أجرأ هذا على الكذب على الله ورسوله وعلى العلماء. ثم المعارضة لكلام الله وكلام رسوله في مواضع من أوراقه هذه، ثم العجب ممن تلقى ذلك كله بالقبول ولم يفطنوا لشيء من فضائحه. فيا أسفى من غلبة الجهل واستيلاء الهوى وعمى التقليد على أكثر النفوس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم كيف يقول إلا أن تقولوا لا إله إلا الله وهو يقول لابنته وعمته والمهاجرين والأنصار: "لا أغني عنكم من الله شيئا" " لا أملك لكم من الله شيئا" أليس هؤلاء هم أهل لا إله إلا الله الذين هم أحق بها وأهلها. قال الله تعالى في حقهم: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقد قال تعالى في حق نبيه ﷺ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [ أي لا أملك لنفسي جلب نفع ولا دفع ضر إلا ما شاء الله ] ربي من النفع لي ودفع الضر عني {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} ومن المعلوم يقينا أن من أراد الله به سوءا من أهل التوحيد أن النبي ﷺ وغيره لا يملكون دفعه عنه كحال أهل الكبائر من أهل لا إله إلا الله الذين يعذبون في النار حتى تدركهم رحمة أرحم الراحمين فيأذن في الشفاعة فيهم لمن أراد إكرامه بها.
ثم انظر إلى قول هذا المفتري إن قوله ﷺ لابنته وقرابته: لا أغني عنكم من الله شيئا إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله! ما أجرأ هذا على الافتراء على الرسول وما أقل حياءه من ارتكاب ما فيه فضيحته. أوليست ابنته ﷺ سيدة نساء هذه الأمة أو سيدة نساء المؤمنين - ثبت ذلك في الصحيحين. أوليس المهاجرون والأنصار الذين قال لهم النبي ﷺ: لا أملك لكم من الله شيئا سادات الأمة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ وهذا يقول المعنى: لا أملك لكم من الله شيئا إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله. وأيضا فقوله: إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله استدراك منه على الرسول ﷺ فهو ﷺ قال: "لا أملك لكم من الله شيئا" فأطلق ولم يقيد بشرط الإيمان بالله ورسوله، ومفهوم الشرط الذي زاده هذا بقوله إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله أنه يملك لهم من الله شيئا إذا آمنوا بالله ورسوله، وهذا منه رد على النبي ﷺ؛ النبي يقول لسادات المؤمنين: لا أملك لكم من الله شيئا وهذا يقول: بل يملك من الله شيئا لمن آمن به!
ثم قال المعترض: وكيف لا يغني عن بضعته وقرابته شيئا وقد أنزل الله عليه في حقهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. قال: وكيف لا يغني عنهم شيئا وهو لما أنزلت عليه هذه الآية جمعهم وجللهم بكسائه وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" [48] هل هذا إلا إغناء وفائدة لهم، بل هو يغني عن كل من آمن به. انتهى؛
فانظر قوله: كيف لا يغني عن بضعته وقرابته شيئا؛ فهذا منه استفهام إنكار، فهو ينكر على النبي ﷺ في قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا" ويكرر الخبيث هذه الكلمة مرتين. النبي ﷺ يقول: "لا أغني عنكم من الله شيئا" وهذا يقول: كيف لا يغني عنهم من الله شيئا! فهل يستريب من له أدنى نظر أن كلامه هذا رد على الرسول وإنكار عليه؛ بل العامي البليد يفهم هذا، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وهل في قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وفي دعائه ﷺ لهم معارضة لقوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا" ولقول الله سبحانه: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}. وإنما مقصود هذا بتكثير الإيرادات التي لا شبهة له فيها الترويج على الجهال وكثرة التسويد في القرطاس، مثل كلامه في الشفاعة وذكر بعض ما ورد فيها مع علمه أننا لا ننكر ما ورد في الشفاعة من الأحاديث عنه ﷺ.
وانظر قوله: فهل هذا إلا إغناء وفائدة لهم؛
فنقول: كل خير دنيوي وأخروي حصل لأمته عامة ولأهل بيته خاصة من ربهم فعلى يديه صلوات الله وسلامه عليه، وهل في هذا معارضة لقوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا" ولقول الله سبحانه: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
قال المعترض: بقي أن يقال: قوله يا أكرم الخلق، فإن هذا عندهم دعاء وهو النداء، ولا وجه للتكفير به، لأن النداء إذا كان ضارا وهو دعاء -كما يزعمون- لزم ألا ينادي أحد لا حي ولا ميت، لأن كون الشيء الواحد بالنسبة للحي يكون طاعة وللميت والغائب يكون عبادة، لم يعهد هذا شرعا ولا عرفا، وإنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها، وهذا لا يقصده أجهل المسلمين فضلا عن أكابر العلماء. والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة بل هو مأمور به شرعا آيات وأحاديث وآثار وأقوال العلماء الكبار من الأئمة الأربعة الأخيار.. هذا لفظه؛
قوله: فإن هذا عندهم دعاء وهو النداء؛ يقول: هم يسمونه دعاء وليس كما يزعمون وإنما هو نداء لا دعاء - يقول: لو كان دعاء كما يزعمون لزم ألا ينادي أحد لا حي ولا ميت؛ وهذا الرجل حين واجهني ادعى ذلك فقال: الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل هو نداء؛ وبينت له بعض الأدلة وأذعن ظاهرا في هذه المسألة وغيرها، وظننت أن مراده قطع الكلام لا الموافقة.
فيقال لهذا: تفريقك بين الدعاء والنداء تفريق باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة مع مخالفته اللغة، فقد سمى الله سبحانه سؤال عباده له دعاء ونداء، قال تعالى عن نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} وقال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}. فسماه في موضع دعاء وفي موضع نداء، وقال عن زكريا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} وقال في موضع: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وقال عن أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِين}. وقال ﷺ: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مسلم إلا استجيب له". [49] وقال بعض الصحابة للنبي ﷺ: "أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه" [50] فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي}. وقد سمى الله سبحانه طلب المخلوق من المخلوق واستغاثته به دعاء واستغاثة ونداء. قال سبحانه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}. وقال الصحابة: "قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق " [51] وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}. فهذه نص في دعاء المسألة. وقال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين}. قوله {فادعوهم} أي اطلبوا منهم. وقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}. فأراد بالدعاء هنا الطلب الذي هو ضد الصمت.
وقال: {قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلَا تُنظِرُونِي} أي استغيثوا بشركائكم. وقال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي استعينوا بهم ليخلصوكم من عذابي {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}. {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} ليخلصوكم مما أنتم فيه {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فقال في موضع: {ادعوا} وفي موضع: {نادوا}. وقوله {فادعوهم} صريح في الطلب منهم. وقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي استعينوا بهم. وقال: {وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي استعينوا بهم. فسمى سبحانه استعانتهم بهم دعاء، بل سمى الله نعيق الراعي بالبهائم دعاءا ونداءا فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}.
فجميع ما قدمنا صريح في أن سؤال العبد ربه يسمى دعاء ونداء وأن استغاثة المخلوق بالمخلوق وطلبه منه يسمى دعاء ونداء.
وقد قال النحويون: النداء هو الدعاء بأحرف مخصوصة وأن المنادى منصوب لفظا أو محلا بفعل محدوف، فقولك: يا زيد، أي: أدعو زيدا. ومن أقسام المنادى المستغاث وهو كل من نودي ليخلص من شدة أو يعين على دفع مشقة، كقول عمر رضي الله عنه: يالله للمسلمين، أي أدعوك للمسلمين.
فاتضح بطلان قول هذا في أن طلب المخلوق من المخلوق لا يسمى دعاء بل نداء، فهو يقول إن الطلب من الملائكة والمسيح وأمه وعزير والجن نداء لا دعاء، فما أدري ما يقول فيمن طلب من العزى ومناة واللات! فإن قال إن الطلب منها لا يسمى دعاء بل هو نداء وأن النداء لا يضر عنده افتضح عند العامة والخاصة؛ وإن قال إنه يسمى دعاء قيل له: نقضت أصلك حيث جعلت الطلب من هذه الأوثان دعاء ومن غيرها نداء، فهذا شيء واحد جعلته بالنسبة إلى الأموات والغائبين والملائكة والمسيح وأمه وعزير والجن نداء وبالنسبة إلى العزى وغيرها من الأوثان دعاء، مع أنه يلزمه ألا يسميه دعاء إذا لم يسم مدعوه ربا وإلها لقوله إن الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها.
إذا تبين بطلان قول هذا فالدعاء يكون أيضا أعم من النداء لأنه قد يكون بغير حرف نداء كقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقول بني اسرائيل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}. وقول السائل: أشكو إلى الله حاجتي أو ذنوبي وأسأل الله كذا أو أعوذ به من كذا؛ وكل هذا يسمى دعاء. وسمى النبي ﷺ قول ذي النون: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} دعوة كما تقدم في الحديث. وفي الترمذي: "كان أكثر دعاء النبي ﷺ يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". [52] وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان النبي ﷺ يدعو عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم". [53] فسمى هذا دعاء مع أنه ليس فيه تصريح بالسؤال.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في الكلام على دعوة ذي النون قال: فالسائل تارة يسأله بصيغة الطلب، وتارة بصيغة الخبر، إما بوصف حاله أو حال المسؤول أو بهما، وهو من حسن الأدب في السؤال كقول أيوب: {مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} والسؤال بالحال أبلغ من جهة العلم والبيان، وبالطلب أظهر من جهة القصد والإرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني لأن السائل يتصور مراده فيسأله بالمطابقة، فإن تضمن وصف الحال السائل والمسؤول فهو أكمل كقوله: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" [54] فيه وصف لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة ووصف ربه أنه لا يقدر على هذا غيره، وفيه تصريح بالمطلوب وفيه وصف الرب بما يقتضي الإجابة وهو وصفه بالمغفرة والرحمة، فهذا ونحوه أكمل الأنواع. [55] انتهى.
قال ابن كثير: وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول كقول ذي النون {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر:
ءأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضه الثناء
وقول المعترض: إن الشيء الواحد يكون بالنسبة إلى الحي طاعة وللميت أو الغائب عبادة لم يعهد هذا شرعا ولا عرفا؛
يقال لهذا: وهل يوجد شيء واحد يختلف اسمه باختلاف متعلقه، وهو قولك إن سؤال الميت والغائب لا يسمى دعاء بل نداء وسؤال العبد ربه يسمى دعاء، ليس معك على هذا إلا مجرد دعوى باطلة قد بينا بطلانها وافتضاحها.
وقوله فيما بعد: بل على قولكم إن الطلب نفسه عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات لأن العبادة ممنوعة في الحالين. انتهى؛
قوله: يكون بالنسبة للحي طاعة - جعل سؤال الحي طاعة وهو كاذب في جعله طاعة، لأن الله سبحانه لم يأمر مخلوقا قط أن يسأل مخلوقا، بل قد تواترت الأحاديث عنه ﷺ في ذم السؤال، وبايع ﷺ جماعة من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئا. وفي حديث ابن عباس "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" [56] أي: إذا سألت فاسأل الله وحده وإذا استعنت فاستعن بالله وحده. وترك سؤال الناس من كمال التوحيد. وهذا المفتري يقول إن الله يقول سلوا عبادي خصوصا الأموات والغائبين واستعينوا بهم، ومسألة الناس قد تكون محرمة، وتكون مكروهة، وتكون جائزة؛ وتسميتها طاعة خطأ وضلال، وكذا قوله ولا عرفا خطأ لأن العرف لا مدخل له في العبادات.
وأما قوله: إذا جاز سؤال الحي فالميت كذلك، أي يجوز سؤاله، بل هو يقول إنه طاعة؛ لأن الله -في زعمه- أمر به. ويقول إذا قلتم إن الطلب عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات؛
وهذه شبهة ربما تدخل في نفوس كثير من الناس.
فيقال أولا: ذو الفطرة السليمة وإن كان جاهلا يفرق بين الطلب من الحي الحاضر مما في يده وبين الطلب من الميت والغائب. ولا يسوي بين الحي والميت إلا من اجتالته الشياطين عن الفطرة التي فطره الله عليها أو إنسان أعماه الهوى والتقليد. وقد قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} معنى ذلك: أنه لايستوي المؤمن والكافر كما لا يستوي الحي والميت، [ شبه المسلم بالحي ] فلما كان معلوما من المخاطبين أن الحي والميت لا يستويان يقول سبحانه: فكذلك المؤمن والكافر، فمن سوى بين الحي والميت بقوله "يطلب من الميت ما يطلب من الحي" فقد سوى بين ما فرق الله والناس بينهما. حتى المجانين يفرقون بين الحي والميت، فلو قصد مجنون بيت إنسان ليطعمه فوجده ميتا وأهله عنده لعدل إلى الطلب من أهله الأحياء الحاضرين عنده ولم يلتفت إلى الميت.
ومما يوضح بطلان هذه الشبهة أن الله سبحانه أمر عباده بالاستعاذة به كما في المعوذتين ومواضع من القرآن معلومة، وكذلك في السنة عن النبي ﷺ من ذلك كثير. وفعل العبد ما أمره به ربه أمر إيجاب أواستحباب عبادة له بإجماع العلماء. فإذا امتثل العبد أمر ربه فاستعاذ به أو بصفاته فقد عبده، والاستعاذة نوع من الدعاء لأن المستعيذ يلتجئ إلى الله ليدفع عنه ما يحذر وصوله إليه مما يكره أو ليرفع ما قد وصل إليه من ذلك، كما في الحديث: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" [57] وهذا حقيقة الدعاء.
فلما كان مستقرا عند العلماء أن الاستعاذة بالله عبادة له قالوا: لا تجوز الاستعاذة بمخلوق. فلما كان هذا الأصل مستقرا عندهم استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، لأنه ثبت عن النبي ﷺ الاستعاذة بكلمات الله التامات فعلا منه وقولا. وهذا من حجة أهل السنة على الجهمية القائلين بخلق القرآن - يقولون: لو كان القرآن مخلوقا امتنعت الاستعاذة به. فعلى ما ذكرنا أن الاستعاذة نوع من الدعاء كما قرره شيخ الإسلام تقي الدين، وهو واضح، فالعلماء القائلون بامتناع الاستعاذة بالمخلوق يقولون: لا يجوز دعاء المخلوق، لأن الاستعاذة دعاء حقيقة، لأن المستعيذ بربه يطلب منه دفع مكروه أو رفعه وهذا حقيقة الدعاء.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها نوع من الدعاء، وهي ألفاظ متقاربة. [58] وسمى النبي ﷺ الاستعاذة دعاء كما في السنن أن رجلا قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به قال: "قل اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي". [59]
وقال أبو هريرة: "كان رسول الله ﷺ يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"، رواه أبو داود بإسناد صحيح. [60] وفي السنن عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ "كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار ومن شر الغنى والفقر". [61] وفي صحيح مسلم: "كان من دعاء النبي ﷺ: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك".
والمقصود من إيراد هذه الأحاديث بيان أن الاستعاذة تسمى دعاء في كلام النبي ﷺ وأصحابه.
فلما قال العلماء إن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق بل هي مختصة بالله سبحانه لأنها دعاء فهكذا سائر أنواع الدعاء. إذا تقرر هذا فمن المعلوم بالضرورة أنه لو خاف إنسان من عدو له فالتجأ إلى حي حاضر ليجيره من عدوه لم يكن بهذا بأس عند جميع المسلمين، وليس بداخل تحت قول العلماء إن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق؛ فهذا شيء واحد اختلف حكمه باختلاف متعلقه، فبالنسبة للحي الحاضر جائز وبالنسبة لغيره ممتنع. فكذلك دعاء غير الله بطلب قضاء الحاجات لا يجوز لقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. ولا يدخل في هذا النهي طلب الإنسان حاجة من حي حاضر مما يدخل تحت قدرة البشر.
ويقال أيضا لهذا المساوي بين الحي والميت: لو أعطى إنسان آخر مالا وقال أودعه عند ثقة، فذهب به الوكيل وأودعه عند قبر رجل صالح كالشيخ عبد القادر وقال: هذا وديعة عندك لفلان واستحفظه إياه فضاع لعده الناس مجنونا جنونا لا يرفع التكليف وألزموه بالضمان. ويلزم هذا الذي ساوى بين الحي والميت أن يقول هو مصيب فيما فعله ولا ضمان عليه، وربما أنه لا يلتزم هذا خوفا من الفضيحة عند الناس، وحينئذ يقول له الوكيل في الإيداع أنا ما فرطت على مذهبك في التسوية بين الحي والميت لأنك تقول ما جاز طلبه من الحي جاز طلبه من الميت، وأنا طلبت من الشيخ عبد القادر حفظ هذه الوديعة وهي حاجتي عنده، وأنت تجوز طلب الحاجات من الأموات فكيف تخطئني؟
ومما يوضح بطلان شبهته ما لو خرج شخصان من بيتهما وقصد أحدهما رجلا حيا غنيا وقال أشكو إليك الجوع، وقصد الآخر هبل وقال: يا هبل أشكو إليك الجوع؛ هل يستوي الشخصان عند جاهل فضلا عن العالم؟ فهذا شيء واحد يختلف حكمه باختلاف النسبة، فالنسبة إلى هبل شرك وبالنسبة إلى الرجل الحي الحاضر الغني جائز - لا يتوقف في هذا عاقل. وعلى مذهب هذا الضال في قوله إن الطلب من المخلوق لا يسمى دعاء بل نداء فلا يضر عنده نداء الطالب من هبل ونحوه، لأنه يقول إنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها، فصريح كلامه أنه لو استغاث بالعزى أو مناة أو اللات ونحوها أن ذلك لا يضر لأنه ليس بعبادة عنده ما لم يسم من دعاه أو استغاث به ربا وإلها.
ومن الفرق بين الحي والميت أن الاستغاثة بالحي إنما تكون في الأسباب الظاهرة [العادية من الأمور الحسية في قتال أو ادراك عدو ] بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الميت فحركته منقطعة، وإنما يزعم الذين يدعونهم أن نفعهم بالقوة والتأثير الذي يسميه بعضهم السر. ولا يشك عاقل في انقطاع الحركة من الميت المعهودة من الحي.
فإن قيل: هذه الأوثان المعروفة للمشركين جماد كاللات ومناة والعزى والمقبور إنسان فما الجامع بينهما؟
قلنا: نصوص القرآن في النهي عن دعوة غير الله عامة في كل من دعا من دون الله ما لايضر ولا ينفع. قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} وقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وقال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}. قال البيضاوي على هذه الآية: هذا إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم، فضلا عن أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم وهم عن دعائهم غافلون لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}.
والذم إنما توجه إلى من دعا من هذه صفته سواء كان بشرا أو ملكا أو صنما، وهو من لا ينفع من دعاه ولا يضر من لم يدعه، ومن دعا من لا يسمع دعاءه أو ولو سمعه ما استجاب له لاستحالة الإجابة منه، وهذه صفة الميت. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}. وهذه أيضا صفة الميت، ومن المعلوم أن المشركين يعبدون الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن، ويعبدون اللات وهو رجل صالح في قول ابن عباس ومجاهد، ويعبدون الأصنام المصورة في زعمهم على صورة من يقصدونه كفعل قوم نوح في تصويرهم على صور الذين ذكرهم الله في سورة نوح. قال تعالى فيمن يعبد الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا} إلى أن قال: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}. فهذا صريح في أنهم يعبدون الملائكة، وما قاله الصحابة والتابعون في سورة بني إسرائيل. والمراد بذلك بيان بطلان ما لو قال جاهل إنهم إنما يعبدون الأصنام فقط.
وقال ابن القيم بعد كلام سبق: ومن ها هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على صورته وشكله وهيأته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه؛ وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده. ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشياطين. [62] انتهى.
والمقصود بيان أن عباد الأصنام إنما قصدوا عبادة من صوروا الصنم على صورته من ملك أو نبي أو صالح أو كوكب؛ فكل ما في القرآن من النهي عن دعاء غير الله والإنكار على من دعا غيره يتناول كل معبود للمشركين من نبي وملك وبشر حي أو ميت أو صنم. يوضح ذلك قول الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم، فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أي لا يملكون كشف الضر بالكلية ولا تحويله من موضع إلى غيره ولا تغيير صفته. وقد قال المفسرون من الصحابة والتابعين إن هذه الآية نزلت فيمن يعبد الملائكة وعيسى وأمه وعزيرا وفيمن يعبد الجن، وهؤلاء غائبون أحياء وفيهم من هو ميت. فكل من دعا ميتا أو غائبا تناولته الآية. وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ}.
وأما الطلب من الحي الحاضر مما يدخل تحت قدرة البشر فليس مرادا بالنهي ولا يمنع منه. قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وقال: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ }. وقال الصحابة: "قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق" وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فمن ساوى بين الأحياء والأموات في ذلك بقوله ما جاز طلبه من الحي جاز طلبه من الميت فقد جمع بين ما فرق الله بينه وضل ضلالا بعيدا.
ويقال لهذا المساوي بين الأحياء والأموات: من المعلوم أن أهل الدنيا يستقضون حوائجهم بعضهم من بعض برهم وفاجرهم مسلمهم وكافرهم، وقد استعار النبي ﷺ أدراعا من صفوان بن أمية وهو مشرك، واستعان في بعض غزواته بأناس من المشركين، وما زال المسلمون يستقضون حوائجهم من المسلم والذمي والبر والفاجر؛ فيلزم المساوى بين الأحياء والأموات أن يساوي بين أموات المذكورين كما كانوا في الدنيا كذلك.
فإن قال: طلب الحاجات مختص بموتى الصالحين فلا يجوز طلبها من موتى الكفار والفساق؛
قيل له: نقضت أصلك حيث فرقت بين أحياء هؤلاء وأمواتهم.
فإن قال: موتى الصالحين أحياء في قبورهم كما زعم؛ فهو كاذب في ذلك، لم يرد في ذلك حديث إلا ما أخبر الله عن حياة الشهداء، مع أن حياتهم لا تدرك بالحس ولا بالعقل فالله سبحانه أعلم بحقيقتها. وأما سوى الشهداء غير الأنبياء فلم يأت خبر عن الرسول أنهم أحياء في قبورهم، وإنما هو افتراء وكذب من هذا الضال.
فإن قال: إن صالحي الأموات ينعمون في البرزخ؛
قيل له: وضدهم يعذبون فيدركون العذاب كما يدرك الصالح النعيم، وهذا إدراك وإحساس لا يعلم حقيقته إلا الله. والحاصل أن من سوى بين الحي والميت في استقضاء الحوائج فقد ضل في عقله ودينه، ونصوص القرآن كثيرة في إبطال هذا القول. والله سبحانه جعل أهل الدنيا فيها وخولهم ما ملكهم فيها، ولا يتم أمرهم إلا بمعاونة بعضهم بعضا ولم يحجر عليهم سبحانه التعاون والتناصر فيما لا يسخطه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
يوضح ذلك أن دعاء الإنسان للمسلمين واستغفارهم لهم وقضاء حوائجهم ومعاونتهم عليها من الأعمال الصالحة المرغب فيها؛ فلو كان هذا يحصل من الميت لم يكن عمله قد انقطع. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوا له". فدل على هذه الأشياء التي يطلبها المشركون من الأموات من قضاء حوائجهم أو الدعاء لهم ونحو ذلك التي هي أعمال صالحة من الحي قد استحال وجودها من الميت فطلبها منه طلب مستحيل لعجزه حسا، فلا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولاموتا ولا حياة ولا نشورا، فهو داخل تحت قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}. {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}.
والنبي ﷺ فرق بين الحي والميت في الحديث المتقدم آنفا، كما فرق الله بينهما في مثل قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} وجميع العقلاء بل مجانين كما قدمنا يفرقون بين الحي والميت، فالميت لا يستجيب لداعيه ولا يسمع دعاءه، ولو فرض سماعه فهو عاجز لا ينفع من دعاه كداعي الجمادات قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}
فالمتصف بعدم سماع الدعاء وعدم الاستجابة أو المتصف بأحدهما ممتنع دعاءه شرعا وعقلا تتناوله هذه الآيات ونحوها من آي القرآن.
فإن قيل: وردت الآثار بسماع الميت؛
قلنا: لم تدل على أنه يسمع كل كلام.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: وردت الآثار بأن الميت يسمع لكن لا تدل على أنه يسمع كل كلام. قال ابن عبد البر: صح عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام". [63] فهذا وغيره يدل على أن روح الميت ليست دائما في قبره وأن لها اتصالا به لا يعلم حقيقته إلا الله، واعتبر هذا بسرعة نزول الملك وروح النائم وشعاع الشمس ونحوه.
وقد أخبر النبي ﷺ عن صفة حياة الشهداء بما في صحيح مسلم عن ابن مسعود لما سئل عن ذلك فقال: إنا سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل" الحديث. ففسر حياتهم بذلك.
وثبت في الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن كعب بن مالك أن النبي ﷺ قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". [64] ورواه الترمذي وصححه. فهذا يدل على أن روح المؤمن في الجنة، وتدل الآثار على أن لها اتصالا به في القبر لا يعلم حقيقته إلا الله. قوله "يعلق" روي بفتح اللام وضمها، والمعنى واحد وهو الأكل والرعي، يقول يأكل من ثمار الجنة ويرعى ويسرح بين أشجارها. وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله. [65] وإنما المقصود هنا بيان بطلان قوله في تسويته بين الحي والميت وتجويزه الطلب من الميت ما يطلب من الحي وأن ذلك لا يسمى دعاء، قال: وإنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها.
وقد بينا فيما تقدم بطلان قوله إن ذلك لا يسمى دعاء، وأما كونه يسمى عبادة فقد تقدم ما يدل على ذلك وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى.
ومما يوضح ذلك معرفة حد العبادة في الشرع وأنها كل ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة.
وبعض العلماء يقول العبادة هي الطاعة، فيتناول فعل المأمور وترك المحظور. ومما أمر الله به سبحانه دعاؤه وسؤاله قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} إلى قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} وقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي لا عند غيره لأن تقديم المعمول يفيد الاختصاص عند البيانيين، وفي حديث نزول الرب إلى السماء الدنيا: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له" [66] وفي السنة من ذلك ما لا يحصى.
فإذا امتثل العبد أمر ربه فدعاه مخلصا صار ذلك عبادة منه لربه؛ فإذا دعا غيره فقد عبدَ ذلك الغير. وفي السنن عن النبي ﷺ: "الدعاء هو العبادة" [67] وفي الحديث الآخر: "الدعاء مخ العبادة" [68] فسمى النبي ﷺ الدعاء عبادة، فالدعاء في نفسه عبادة فكل مدعو معبود.
وما أدري ما يقول هذا الرجل في دعاء العبد ربه واستغاثته به هل هو عبادة أم لا. فإن قال ليس بعبادة فهذا مكابرة يعرفه كل عاقل، ومخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة. وإن أقر أنه عبادة من العبد لربه، قيل له: هل تجد شيئا واحدا يكون بالنسبة إلى الله عبادة، وغير عبادة بالنسبة إلى غيره؟ فيظهر حينئذ بطلان شبهته التي اعتمدها في قوله إنه لا يوجد شرعا ولا عرفا.
وهذا الرجل لما قرر أن الطلب من الأموات والغائبين والاستغاثة بهم جائز، بل يقول هو قربة كما يأتي في احتجاجه بالآية. ثم قال وإنما الدعاء الذي هو عبادة [ فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها فحصر الدعاء الذي ] في تسمية المدعو ربا وإلها لأنه يقول إن مجرد الطلب لا يضر مقتضى إطلاقه، وإن كان المطلوب منه صنما أو شجرا أو حجرا، وإن طلب منه مغفرة الذنوب وهداية القلوب وإنزال الغيث وشفاء المرضى، فإن هذا لا يضر عنده إذ لم يسمه أو يعتقده ربا وإلها.
وهذا الرجل لما اجتمع بي قبل تسويده هذا بنحو ثمان سنين ومعه ورقة نقل فيها عبارات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يشبه بها على بعض الناس، فأحضرته وبحثته وإذا هو في هذا الأصل العظيم جاهل جهلا مركبا ومعاند، وإحدى العلتين في المرء تهلكه.
وقلت له: أخبرني ما حقيقة هذا الشرك الذي لا يغفر، وصاحبه مخلد في النار؟
فقال: الشرك السجود لغير الله لا غير. فأوردت عليه بعض الأدلة فبهت وأحب قطع الكلام بالموافقة ظاهرا، وكتبت على ورقته التي معه أوراقا سماها بعض الطلبة بالانتصار. [69] وما زال من ذلك الوقت يدأب ويبحث في تحصيل ما جمعه في هذه الأوراق التي اطلعنا عليها.
وقوله: إن أجهل المسلمين لا يسمي غير الله ربا وإلها ولا يقصد ذلك؛ فيقال: التسمية لا حكم لها، ولا تتغير حقيقة الشيء بتغير الاسم كما جاء عنه ﷺ أنه يأتي ناس من أمتي يسمون الخمر بغير اسمها. [70] وكذا من سمى الزنا نكاحا، فالتسمية لا تزيل الاسم ولا الحكم. ومن عامل معاملة ربوية فهو مراب وإن لم يسمه رِبا، فكذا من ارتكب شيئا من الأمور الشركية فهو مشرك وإن سمى ذلك توسلا وتشفعا ونحوه.
والشيطان لما علم أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله المشركون تألها أخرجه في قالب آخر تقبله النفوس. ومما يفضح هذا في قوله إن طلب المخلوق من المخلوق لا يسمى دعاء بل هو نداء، وإنما الدعاء الذي هو عبادة فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها.
فعلى قوله أن من نادى إبليس وطلب منه قضاء حاجاته وكشف كرباته مع كونه لا يسميه ربا ولا إلها، بل يقول أنا أبغضه ولكن أطلب منه حوائجي وأستنصر به على عدوي لأنه يقوي على ما لا يقوي عليه البشر، ولا يضرني ذلك على مذهب الشيخ داود، لأني لا أسمي الشيطان ربا ولا إلها ولا أعتقد ذلك فيه [ فعلى مذهبه الباطل أن هذا جائز ].
يحقق ذلك أن كل أحد يعترف بأن عبادة غير الله شرك، وقد قدمنا تعريف العبادة، فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك وإن كان لا يظنه شركا ولا تألها وسماها بأي اسم شاء. فالمشرك مشرك شاء أم أبى، كما أن المرابي مراب شاء أم أبى.
يوضح ذلك أن من أطاع مخلوقا في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذه ربا وإلها من دون الله. قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما أن عدي بن حاتم قدم على النبي ﷺ وكان قد تنصّر في الجاهلية فسمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية فقال للنبي ﷺ: إنهم لم يعبدوهم، فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". [71]
وقال ابن عباس وحذيفة بن اليمان في تفسير هذه الآية: إنهم اتبعوهم فيما حللوا. وقال الربيع بن أنس قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية [ في بني اسرائيل؟ قال: ] إنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. [72] وقال أبو البحتري: أما أنهم لم يصلوا لهم ولو أمروهم أن يعبدوهم ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية. انتهى.
فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية لم يسموا أحبارهم ورهبانهم أربا ولا آلهة، ولا كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة لهم ولهذا قال عدي إنهم لم يعبدوهم، وحكم الشيء تابع لحقيقته لا لاسمه ولا لاعتقاد فاعله. فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم لهم في ذلك ليس بعبادة لهم، فلم يكن ذلك عذرا لهم ولا مزيلا لاسم فعلهم ولا لحقيقته وحكمه. فكذلك ما يفعله عباد القبور في سؤالهم من المقبورين قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالنذور والذبائح عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يظنونه عبادة.
ويوضح ذلك أيضا ما روى الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع الرسول ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله ﷺ: "إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتتبعن سنن من كان قبلكم". [73] فهؤلاء لقرب عهدهم بالكفر ما كانوا يظنون أن الذي طلبوه من التأله لغير الله لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويعرفون معناها، وخفي عليهم أن ذلك الذي طلبوه مما تنفيه لا إله إلا الله، فلم يكن ظنهم مغيرا لحقيقة هذا الأمر وحكمه.
ومن له معرفة بما بعث الله به رسوله علم أن ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها والاستغاثة بهم والذبح والنذر لهم أعظم وأكبر من فعل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وأقبح من الذين قالوا اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
قال ابن القيم رحمه الله: فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عليها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون؟ وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} إلى قوله {مسلمون}.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت اليهود والنصارى من أهل نجران عند النبي ﷺ ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد منا أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أوتريد منا ذلك يا محمد؟ فقال رسول الله ﷺ: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" فأنزل الله في ذلك قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله {مسلمون }.
فبين سبحانه وتعالى أن من عبد الملائكة والنبيين فقد اتخذهم أربابا من دون الله وأنه يكفر بذلك وإن لم يعتقده ربوبية أو لم يسمه ربا، وأن من أمر بعبادتهم فقد أمر باتخاذهم أربابا من دون الله، فكيف بمن هو دونهم. وهذا الذي يقول إن الله أمر عباده المؤمنين أن يطلبوا حوائجهم من الأموات والغائبين، ويقول بجواز الذبح والنذر لهم، وغير ذلك من أنواع العبادات غير السجود لهم! لأنه حين كلمته قال إن الممنوع منه السجود للميت فقط. فحقيقة قوله إن الله سبحانه أمر عباده أن يتخذوا أهل القبور أربابا من دون الله، وإن من تبرأ من ذلك فهو حقيقة دعواه.
قوله: والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة، بل هو مأمور به شرعا آيات وأحاديث وآثار. قال: الدليل الأول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}؛
فالعجب من هذا الملحد لم يقتصر على الجواز، بل ادعى أن الله أمر عباده المؤمنين بذلك. ولعله يرى أن الأمر فيما فهمه من الآية للوجوب، لأن الأصل في الأمر الوجوب ما لم يوجد دليل يصرفه إلى الاستحباب. وبكل حال فهو يقول إن الله أمر عباده المؤمنين أن يفزعوا إلى الأموات في قضاء مآربهم وكشف شدائدهم سواء قال إن الأمر للإيجاب أو للاستحباب. ومقتضى كلامه العموم في جميع الأموات صالحهم وطالحهم! ما أجرأ هذا على الكذب على الله والإلحاد في آيات الله بوضعها على غير ما أراد الله. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}. قال ابن عباس: {يلحدون في آياتنا} يضعون الكلام على غير موضعه.
قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. فعلى قول هذا إن الله يحب من عباده أن يطلبوا حوائجهم من الأموات والغائبين وأنه ينبغي الإكثار من ذلك والإلحاح في الطلب منهم لأن الله يحب الملحين في الدعاء. ويقتضي أيضا أن يستكثر الإنسان من المدعوين المطلوبين ويعلق قلبه ورجاءه بالكثير منهم بحيث يقول لو لم يجبني بعض أجابني آخرون؛ فيصير الاستكثار أوثق عنده وأحب إلى الله في زعم هذا الضال الباطل، فيا سبحان الله! أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟
وظاهر كلامه في إطلاقه أنه يطلب من الأموات والغائبين كل شيء.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من جوز أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الخالق من كشف الشدائد فكفره شر من كفر عباد الأصنام فإنهم لا يطلبون منها كل ما يطلب من الله كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} فبين سبحانه أنه إذا جاء عذاب الله أو أتت الساعة لا يطلبون إلا الله في كشف الشدائد وجلب الفوائد. وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}. قال: وقد وقع في كثير من ذلك من وقع من العامة وغيرهم. انتهى.
وافتراء هذا الرجل على الله أعظم من افتراء الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } نزلت هذه الآية في الذين يطوفون بالبيت عراة اتبعوا في ذلك آباءهم ويزعمون أنه مستند إلى الله، فقال تعالى مكذبا لهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. وهذا يقول: إن الله أمر بدعاء الأموات والغائبين ووجدنا الناس على هذا غيركم.
وهذا الأمر الذي ادعى أن الله أمر به، مما بعث الله الرسل من أولهم إلى آخرهم ينهون عنه. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي} والآيات في هذا كثيرة معلومة. والدعاء من أجل العبادات كما في الحديث المرفوع: "الدعاء مخ العبادة" قالوا: معناه خالص العبادة، لأن الداعي إنما يدعو عند انقطاع أمله مما سوى الله وهذا حقيقة التوحيد والإخلاص. وفي الحديث الآخر إن "الدعاء هو العبادة" وفي الحديث الآخر: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" [74] وفي حديث آخر: "من لم يسأل الله يغضب عليه" [75] وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: "ينزل ربيا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". فذكر أولا لفظ الدعاء ثم السؤال ثم الاستغفار، والمستغفر سائل كما أن السائل داع. فعطف السؤال والاستغفار على الدعاء من عطف الخاص على العام الذي يتناولهما وغيرهما؛ قاله شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى.
والله سبحانه أمر بدعائه في كتابه في مواضع. والنبي ﷺ كان يكثر من دعاء الله واستغفاره وأمر بذلك في أحاديث كثيرة. وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال ابن عباس: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على طاعتك وعلى أمورنا كلها. وقال قتادة: يأمركم ربكم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم كلها. وتقديم المعمول [76] في الكلمتين يفيد الحصر والاختصاص عند البيانيين وجميع المفسرين. والقاري لما ذكر الحقيق بالحمد وصفه بصفات عظام يتميز بها عن سائر المخلوقين. وتعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، خوطب الموصوف بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد، وإياك نستعين لا غيرك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، وجمع معاني الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفها له وهو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفها للعبد وهو {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. [77] انتهى.
فالله سبحانه فرض على العباد أن يعبدوه وحده وأن يستعينوا به وحده؛ وهذا الملحد المفتري على الله الكذب يقول إن الله يأمركم أن تستعينوا بالأموات والغائبين وترغبوا إليهم في مهماتكم! ما أعظم هذه المحادة لله، وقد قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي ارغب إليه لا إلى غيره. وقال النبي ﷺ: "إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله". وقد قررنا فيما تقدم تعريف العبادة وأن كل ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة؛ فإذا دعوت الله فقد عبدته، فإذا دعوت غيره من ميت أو غائب أو حجر أو شجر فقد عبدت ذلك الغير، فإذا سجدت لله فقد عبدته، [فإذا سجدت لغيره صرت عابدا لذلك الغير، فإذا ذبحت لله فقد عبدته ]، فإذا ذبحت لغيره صرت عابدا له؛ وهكذا سائر العبادات. هذا مع أن نصوص القرآن في النهي عن دعاء غير الله وذم من فعل ذلك والإنكار عليه أكثر من النهي عن خاصية السجود لغيره كما هو معلوم عند الخاصية والعامة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله في الكلام على دعوة ذي النون: لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة، وفسر قوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بهذا وهذا.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد بعد آيات ذكرها: وهذا في القرآن كثير يبين أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى رجاء وخوفا دعاء عباده؛ فاعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. إلى أن قال: وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما ولا استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. انتهى.
فعلى هذا فنهيه سبحانه عن دعاء غيره نص في دعاء العبادة ودعاء المسألة حقيقة، فهو نهي عن كل واحد منهما حقيقة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. فهذا يتناول نوعي الدعاء. ثم قال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} فهذا صريح في دعاء المسألة ولهذا قال {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ومن لا يسمع دعاء من دعاه ليس بأهل لأن يدعى، ومن لا يستجيب له لو سمعه لا يستحق أن يدعى، وهذه حال الميت لا يسمع دعاء من دعاه، ولو فرض أنه يسمعه لم يستجب له لعجزه. فقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} إن الآيتين تتناولان كل من يدعوه المشركون من دون الله. ومعلوم أنهم يدعون الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن واللات وغيرهم، وبعض من يدعونه ميت يدخل في العموم.
فإن قيل إن الميت يسمع؛ قلنا كما تقدم إنه لم يثبت أنه يسمع كل كلام. فقوله ﷺ: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". [78] وكذلك الحديث الذي تقدم: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" يدل على أن رد الروح يحصل حين السلام.
وقال الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآية لما ذكر أن السلف من ذكر أن المراد بهم الملائكة، ومنهم من ذكر معهم الإنس كالمسيح وأمه وعزير، ومنهم من ذكر أنهم من الجن - قال: إن السلف يذكرون جنس المراد من الآية على التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله عن لفظ الخبز فيريه رغيفا. والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعى من دون الله، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن. ومعلوم أن هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدّره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم وبيّن أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع ومن حال إلى حال كتغير صفته أو قدره، ولهذا قال: {ولا تحويلا} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} كان أحدهم إذا نزل واديا قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فقالت الجن: الإنس تستعيذ بنا، فازدادوا رهقا. قد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق؛ وهذا ما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق لما ثبت عنه ﷺ أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، [79] فإذا كان لا يجوز ذلك فأن لا يجوز أن يقال أنت خير معاذ يستعاذ به أولى. فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب وهي ألفاظ متقاربة. [80] انتهى.
وقد قدمنا بعض الأحاديث التي فيها تسمية الاستعاذة دعاء، ولهذا كان الأئمة المصنفون يدخلون أحاديث الاستعاذة في أثناء كتاب الدعوات كصاحبي الصحيحين وغيرهما لأن الاستعاذة عندهم دعاء حقيقة وهذا ظاهر. فقول الإنسان أعوذ بفلان من كذا أو أسأله أن يدفع عني أو يرفع عني كذا فهو في الحالتين سائل طالب داع. فانظر إلى قوله رحمه الله: فكل من دعا ميتا أو غائبا تناولته هذه الآية؛ وهو ظاهر لأن هؤلاء غائبون كالملائكة والمسيح، وغائب الملائكة أقرب من غائب البشر ويقدرون على ما لا يقدر عليه البشر وهم يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم. وممن أريد بالآية من هو ميت كمريم وعزير. ومن المعلوم يقينا أن أموات البشر وغائبهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال، فالآية تناولتهم قطعا، فيقال لداعيهم: ادعوهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا.
وقال ابن القيم في المدارج: ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها؛ والميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي ﷺ إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة واستقصاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء أعداء الرسل وأهل التوحيد في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيد الله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله وتوكله على الله واستعانته بالله، إذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله وإذا عمل عمل لله، فهو لله وبالله ومع الله.
وقال في موضع آخر: وهكذا قول عباد المسيح للنبي ﷺ لما قال لهم إن المسيح عبد، قالوا تنقصت المسيح وعبته. وهكذا أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد ومساجد وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله قالوا تنقضت أصحابها، فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به، ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وقد قطع الله سبحانه في كتابه الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، فقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه}. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الخصال الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا، فإن لم يكن شريكا كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده؛ فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، وكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الإنسان بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان.
هذا كلامه رحمه الله في زمانه فكيف لو أدرك هذا الزمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال ابن القيم أيضا: قال شيخنا: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا وقد يخاطبه ببعض الأمور الغائبة، وكذا السجود للقبر والتمسح به وتقبيله.
المرتبة الثانية: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه؛ فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثيرا من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان الترياق المجرب. والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. [81] انتهى.
قال ابن القيم: ورأيت لأبي الوفاء ابن عقيل في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. [82] انتهى المقصود منه.
وقال شيخ الإسلام وقد سئل عن رجلين تنازعا، فقال أحدهما لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك؛
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله:
إن أراد بذلك أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما يأمر به وما ينهى عنه إلا بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ}. ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ودفع المضار. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين -إلى أن قال- فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبِّهون شبهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان الذين كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله. [83] انتهى ملخصا.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج قال: فإذا كان في زمن النبي ﷺ من قد مرق من الإسلام مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله، كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني أو اجبرني أو توكلت عليك أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وألا قتل، فإن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إله آخر. والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح وعزير والصالحين أو صورهم لم يكونوا يقولون إنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة. انتهى.
ونصوص القرآن كثيرة مصرحة بأن المشركين في الشدائد ينسون آلهتهم من الملائكة والبشر وغيرهم ويخلصون الدعاء لله وحده كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} الآية. وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} والآيات في ذلك كثيرة معلومة. فالله سبحانه رضي إخلاصهم في هذه الأحوال. ومقتضى قول هذا المفتري أن الله سبحانه أمر بالطلب من الأموات وغيرهم، وأن الله يحبه ويرضاه، وأن يكون عدم إخلاص هؤلاء المشركين في الشدائد أصوب، وأن الأولى بهم الاستمرار على الطلب من الملائكة والمسيح وعزير وغيرهم، لأن ذلك من الوسيلة التي أمر الله بها في زعم هذا الضال. وكفى بهذا فضيحة له.
ومما يزيد مما قررناه وضوحا أن الله سبحانه سمى الدعاء في كتابه دينا قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {حتى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والمراد بالدين في هذه الآيات الدعاء عند جميع المفسرين، وهو ظاهر مفسر في مثل قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} وفي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي سرا وعلانية {لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ} أي يقولون لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. وذكر سبحانه الدين في هذه الآيات معرفا بالألف واللام وهو الدعاء. وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}. فلما سمى الله سبحانه الدعاء دينا وأمر بإخلاص الدين له، وضد الإخلاص الشرك، ومن جملة الدين الدعاء، فمن جعل شيئا من الدين لغير الله فقد أشرك. وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي وحتى يكون الدين كله لله. فمتى كان شيء من الدين لغير الله فالعصمة منتفية، ومن أنواع الدين الدعاء بنص القرآن.
فإن قيل: ما معنى الوسيلة في قول الله سبحانه: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قيل: المراد بالوسيلة التقرب إليه سبحانه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
قال البغوي: الوسيلة القربة.
وقال البيضاوي: أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى لديه من فعل الطاعات وترك المعاصي.
وقال ابن كثير: المعنى تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه -قال- وهذا إجماع من المفسرين. وكذا قوله في الآية الأخرى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ}. [ قال البغوي: الوسيلة القربة وقيل: الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله. وقال البيضاوي: يبتغون إلى ربهم الوسيلة ] بالطاعة. أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة أيهم أقرب بدل من واو يبتغون أي يبتعي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة فكيف بغير الأقرب ونحو ذلك. قال ابن كثير: وقيل يحرصون أيهم بكون أقرب إلى الله وذلك بطاعته وازدياد الخير. وقول البغوي: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به. هذا لفظ البغوي لا ابن عباس؛ وضل الناقل في عزوه إلى ابن عباس. فان كان معنى هذه الكلمة كما قال البغوي فالمراد بذلك ما كان يفعله الصحابة مع النبي ﷺ في حياته من طلبهم دعاءه لهم واستسقائهم به في أحاديث كثيرة، وما فعله عمر بعد موته ﷺ من استسقائه بالعباس في قوله: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". [84] وكذلك فعل معاوية مع يزيد بن الأسود الجرشي لما استسقى قال: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يزيد، يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا". [85] فهذا من الوسيلة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين: أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر الله بها، كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم فهذا مما لا نزاع فيه بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} وقوله: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة} فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به، أي يتوصل به ويتقرب إليه به سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه السؤال والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار، ومن ذلك سؤاله بأسمائه وصفاته كقوله: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام. [86]
واستدل المعترض بقول الله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا}. قال: فقد أخبر أن الله ملك المؤمنين الشفاعة، فطلبها ممن يملكها بتمليك الله له لا مانع منه، كمن طلب المال وغيره ممن ملكه الله إياه، ومراد المنادي له ﷺ والمتوسل به إنما هو الشفاعة. انتهى.
قوله: إن الله ملك المؤمنين الشفاعة كما ملك أهل الدنيا المال وغيره؛ فحقيقة هذا القياس أن الشفعاء يشفعون عنده بغير إذنه وفيمن لا يرضى أن يشفع فيه، كما أن أهل الدنيا [ يتصرفون فيما أعطاهم الله بغير إذنه ]، يتصرفون تصرفا لا يرضاه الله، يتصرفون بحسب اختيارهم لا بأمر الله لهم وإذنه، فقد يعطون من لا يرضى الله إعطاءه [ ويمنعون من يحب الله إعطاءه ]، بل يعطون من نهى الله عن اعطائه ويمنعون من أمر الله بإعطائه، ويقربون إليهم من أمر الله بإبعاده ويبعدون من أمر الله بتقريبه، وليس كذلك حال الشفعاء عند الله. ونصوص القرآن صريحة في أنه لا يشفع عنده أحد إلا بوجود أمرين: إذنه للشافع، ورضائه عن المشفوع فيه، فمتى فقد الأمران أو أحدهما لم يوجد شفاعة. قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وقال: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وقياس هذا أقبح من قياس المشركين بالشفعاء عند الملوك. فالمشركون جعلوا شفعاءهم بمنزلة خواص الملوك عند الملوك، يشفعون عندهم بغير إذنهم وفيمن لا يرضونه، وهذه هي الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن. وأما قياس هذا الجاهل الشفاعة بحال الدنيا وملكهم فيها، فالذي يسأل أهل الدنيا يسألهم مما في أيديهم يقول: أعطوني مما في أيديكم. لا يقول إنهم يشفعون له عند الله ولا يقول اشفعوا لي؛ فتبين بطلان قياس هذا وضلاله.
قال شيخ الإسلام تقي الدين بعد كلام سبق:
ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام:
فالمشركون [87] أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار، لأن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافع، ولهذا قال {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}
إلى أن قال: وأما الخوارج والمعتزلة [88] فإنهم أنكروا شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي ﷺ ولإجماع خير القرون.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها هي الشفاعة التي جاءت بها الأحاديث. وأما الشفاعة التي نفاها القرآن -كما عكسه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة- فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك. والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك. [89] انتهى.
وقوله: إن الله ملّك المؤمنين الشفاعة، مستدلا بقوله سبحانه: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا} وقوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بناء على أحد قولي المفسرين: إن الاستثناء في الآيتين متصل.
فإطلاق القول بأن الله ملك المؤمنين الشفاعة خطأ، بل الشفاعة كلها لله وحده {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}. وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي ﷺ أن الأنبياء يشفعون والصالحون يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة يصح أن يقال إنه ملك ما أذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا، لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال. وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع حتى يقال له ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع، قال الله سبحانه لأكرم الخلق عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما قال ﷺ في حق عمه: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" وقال في حق المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.
وقوله: إن مراد المنادي له ﷺ والمتوسل به إنما هو بالشفاعة؛
فقد تقدم جواب ذلك، وهو أن هذا مراد المشركين مما قصدوه، كما أخبر الله عنهم بذلك كقوله عنهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. لم يقولوا أن أحدا من الملائكة أو المسيح أو عزيرا أو الجن يستقلون بقضاء حوائجهم، وإنما يقولون إنهم يشفعون لنا عند الله في قضاء حوائجنا.
وقوله: إن الصحابة كانوا يطلبون منه ﷺ ولم ينكر عليهم، ولم يقل أنتم أشركتم لأنكم طلبتم مني قبل الإذن. قال: فدل على أن ذلك جائز في حياته وبعد موته لأنه حي في قبره بالاتفاق. قال: وما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد الموت، ومن منع فعليه الدليل، وعلى قولكم أن الطلب عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات. انتهى؛
أما استدلاله بطلب الصحابة منه في حياته أن يدعو لهم، ولم ينكر عليهم ولم يقل أنتم أشركتم، فهذا من المغالطة والترويج على الجهال؛ يقول إذا أنكرتم طلب الدعاء منه بعد موته لزمكم ألا تجيزوا طلب الدعاء منه في حياته! وإذا قلتم إنه لا يشفع في الآخرة إلا من بعد إذن الله له لزمكم القول إنه لا يدعو لأحد في الدنيا إلا من بعد إذن الله له في ذلك!
ويقول: لما ثبت أن الصحابة يطلبون الدعاء منه في حياته فكذلك يجوز بعد موته؛
ويقول إذا كان يدعو لهم بغير إذن الله في ذلك جاز أن يشفع لهم في الآخرة بغير إذن الله له؛ هذا حقيقة كلامه.
فيقال لهذا: وهل يقول أحد إنه لا يجوز طلب الدعاء منه في حياته ﷺ أو من غيره؟ فلا يقول هذا أحد. فقد كان أصحابه يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم ويستنصرلهم ويستغفر لهم. وأمره الله بذلك فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فدعاؤه ﷺ من أعظم الوسائل إلى مطلوبهم. وقال ﷺ لعمر لما استأذنه في العمرة: "أشركنا يا أخي في دعائك" [90] وما زال المسلمون يطلب بعضهم من بعض الدعاء. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}.
وقوله: إن النبي ﷺ لم ينكر عليهم طلب الدعاء منه، ولم يقل أنتم أشركتم لأنكم طلبتم الدعاء مني قبل الإذن؛
فهذا تهويل منه وتوهيم للطغام، وهل يقول هذا أحد؟ وإنما الذي يتوقف على الإذن من الله سبحانه هو الشفاعة في الآخرة حين يرجع الأمر والملك لله الواحد القهار الذي لا يغلبه غالب ولايقهره قاهر. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا}. والله سبحانه وتعالى فرق بين أحكام الدنيا والآخرة، فشرع لأهل الدنيا دعاء بعضهم لبعض للأحياء والأموات، وملكهم ما يتصرفون فيه فهم يتصرفون بحسب اختيارهم؛ وأما الآخرة فأخبر سبحانه أنه المتفرد بالملك والأمر والتصرف في ذلك اليوم، فلا يصنع أحد شيئا، ولا أمر لغيره معه {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ولا شفاعة إلا من بعد إذنه {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}.
فكلام هذا الضال يدور على التسوية بين أحكام الدنيا والآخرة، وهذا من أعظم المحادة والمشاقة لله ولرسوله، {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وقوله: إنه ﷺ حي في قبره بالاتفاق؛ حكاية الاتفاق كذب منه، وهو قد نقض حكاية الاتفاق بما ذكره بعد من الحكاية المروية عن مالك رحمه الله، وقول لأبي جعفر إن حرمته ميتا كحرمته حيا. فوصفه مالك بالموت حال كلامه مع أبي جعفر، فما ذكره عن مالك يكذب دعواه الاتفاق. ويأتي في عبارة لهذا وصف فيها النبي ﷺ بالموت الآن، فهو متناقض. وعبارته التي أشرنا إليها قوله في الكلام على حديث: "يا عباد الله احبسوا" فقال: ولكون النبي ﷺ حاضرا مع موته شرع لنا خطابه والسلام عليه في الصلاة، وهو قولنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فقوله: "حاضرا مع موته" وصف له بالموت الآن. هذا مع أنه لا يمكنه أن يأتي بحرف واحد عن الأئمة الذين يعتد بوفاقهم وخلافهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم على حياته ﷺ في قبره الحياة التي يشير إليها.
قال ابن القيم: لم يرد حديث صحيح أنه ﷺ حي في قبره، لكن نقطع أن الأنبياء -لا سيما خاتمهم وأفضلهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين- أعلى رتبة من الشهداء. وقد قال سبحانه عن الشهداء إنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فالأنبياء أولى بذلك. قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. ومع ذلك فالشهداء داخلون تحت قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. فأثبت سبحانه للشهداء موتا بدخولهم في العموم كالأنبياء، وهو الموت المشاهد، ونفى عنهم موتا؛ فالموت المثبت غير الموت المنفي. فالموت المثبت هو فراق الروح الجسد وهو مشاهد محسوس، والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن. انتهى.
وقال البيضاوي على قوله سبحانه {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ }: فيه تنبيه على أن حياتهم ليست في الجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل، بل بالوحي. انتهى.
ومن العجب أنه لو جاء إنسان إلى ميت على وجه الأرض شهيدا أو غيره يطلب منه أن يدعو له فضلا أن يطلب منه أن ينصره على عدوه أو يكسوه لقال الناس هذا مجنون؛ فإذا صار رميما في بطن الأرض زين لهم الشيطان ودعاة الضلال من الإنس الاستغاثة به وطلب الحاجات منه. والعامي السليم الفطرة يعلم بطلان هذا بفطرته، كما حكي لنا أن رجلا من أهل مكة ينسب إلى علم قال لرجل عامي من أهل نجد: أنتم ما للأولياء عندكم قدر والله يقول في الشهداء إنهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ قال له العامي: هل قال يرزقون يعني بفتح الياء أو قال يرزقون يعني بالضم فإن كان يعني بالفتح فأنا أطلب منهم فإن كان يعني بالضم فأنا أطلب من الذي يرزقهم. فقال المكي: حجاجكم كثيرة، وسكت.
ويقال لمن ادعى أن النبي ﷺ حي في قبره كحياته كما كان على وجه الأرض: [ ثبت أنه ﷺ مات بنص القرآن، فما حجتكم على أنه عاد حيا كما كان على وجه الأرض ] قبل موته؟ فلن يجد إلى ذلك سبيلا، وليس عندهم إلا مجرد دعوى أو شبهة لا حقيقة لها. ويدل على بطلان هذه الدعوى ما رواه أبو داود عنه ﷺ قال: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". فهذا يدل على أن روحه الشريفة ﷺ ليست في بدنه دائما، وإنما هي في أعلى عليين، ولها اتصال بالجسد الله أعلم بحقيقته، لا يدركه الحس ولا العقل. وليس ذلك خاصا به ﷺ لحديث تقدم عنه ﷺ قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". وفي صحيح مسلم عنه ﷺ: "أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش" الحديث. وقد أخبر سبحانه أنهم في البرزخ أحياء عند ربهم يرزقون. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حق النبي ﷺ: "أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ولن يجمع الله عليك موتتين".
وقد قام الدليل القاطع أنه عند النفخة في الصور لا يبقى أحد حيا، فلو كان الأمر كما يزعمون لكان الله قد يجمع عليه موتتين. ولما قال ﷺ: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت -يعني قد بليت- قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". [91] ولم يقل لهم أنا حي في قبري كحياتي الآن - صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
قوله: وما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد موته، ومن منع فعليه الدليل؛
ليس هذا خاصا به ﷺ عند هذا المعارض، بل يزعم كما تقدم أن الله أمر بطلب الحاجات ممن يعترف هذا بموتهم في قوله: إن الله أمر بالطلب من الأموات والغائبين. وادعى في موضع آخر حياتهم، فهو متناقض كما ترى.
قوله: ومن منع فعليه الدليل:
فنقول: جميع ما تقدم من الأدلة الدالة على أن دعاء الأموات والغائبين وطلب الحاجات منهم من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، يدخل في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون وغيرهم، لأن ذلك عبادة، وهي محض حق الله لا يرضى أن يشرك معه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل. قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال سيد ولد آدم ﷺ: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" وقال: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله". [92]
وقول المعترض: وما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد موته؛ تقدم الجواب عنه عند قوله: لأن الشيء الواحد يكون بالنسبة للحي طاعة وبالنسبة للميت عبادة.. إلخ. تقدم هناك ما فيه كفاية لمن أراد الله هدايته.
وكلامه في هذا الموضع في حق النبي ﷺ يحتاج إلى زيادة بيان وإيضاح. فمن المعلوم بالضرورة أن الصحابة كانوا يطلبون منه ﷺ في حياته أن يدعو لهم ويستغفر لهم ويستسقي لهم ويستفتونه، ويطلب الناس منه عرض الدنيا مما أعطاه الله تعالى، ويرجعون إليه فيما أشكل عليهم من أمر دينهم؛ وهذا كله معلوم بالضرورة. وأما بعد موته فلم يأت أحد من الصحابة إلى قبره ﷺ يطلب منه أن يدعو له، فضلا عن أن يطلب منه شيئا من عرض الدنيا أو نصر على عدو ونحو ذلك، ولا استفتاه أحد منهم فيما أشكل عليهم. فأول ذلك لما أشكل عليهم هل يجردونه من ثيابه عند غسله أو لا؛ لم يسألوه وهو بين أيديهم. ولما عزم الصديق على قتال مانعي الزكاة وحصل عند عمر توقف في ذلك لم يأت إلى قبره يسأله عما استراب فيه. ولما حضرت عمر الوفاة طلب من عائشة أن يدفن مع صاحبيه ولم يقل استأذنوا رسول الله ﷺ في ذلك لعلمهم رضي الله عنهم أن هذه الأمور مستحيلة منه بعد موته.
واستسقى عمر بالعباس ولم يأت هو والصحابة إلى قبره يطلبون منه أن يستسقي لهم كما كانوا يفعلونه في حياته. وحدث في المدينة حوادث عظيمة كوقعة الحرة ولم يأت أحد إلى قبره ليستنصر لهم، فضلا عن أن يطلبوا منه أن ينصرهم. فلو كان هذا جائزا لأتوا إلى قبره، ذكرهم وأنثاهم، لا سيما والمضطر يتشبث بأدنى سبب يظن به النفع؛ وهذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله لو فعل، لكنهم أعلم بالله ورسوله من هؤلاء الخلوف. وكان الناس يأتون إلى عائشة يستفتونها وهي في بيته ﷺ فكيف يستفتونها وتفتيهم وهو ﷺ عندهم يسمع كلامهم ويجيبهم لو سألوه في زعم هذا المبطل. ولما وقع الاختلاف بين علي ومعاوية وأشكل أمرهم على كثير من الناس لم يأتوا إلى قبره يستفتونه في هذا الأمر ليزيل الإشكال عنهم. وأشكل على الصحابة مسائل كثيرة يختلفون فيها يوجد في المسألة لهم قولان وثلاثة وأربعة وأكثر. وقال عمر: ثلاث وددت أني سألت رسول الله ﷺ عنها.
فأين هذا المفتري عن أصحاب رسول الله ﷺ من أن يقول لهم كيف تشكل عليكم المسائل وتختلفون فيها وهذا نبيكم بين ظهرانيكم حي ما عرفتم قدره؟ هذه حقيقة دعوى هذا الملبس: تخطئة أصحاب رسول الله ﷺ وتجهيلهم. وكان ابن عمر يأتي إلى القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه؛ ثم ينصرف. وقال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي ﷺ ثم يسند ظهره إلى جدران القبر ثم يدعو.
ونص الأئمة الأربعة على أنه إذا سلم على النبي ﷺ وأراد الدعاء أنه يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر.
ومن المعلوم أن أعظم مطلوب الأمة منه ﷺ أخذ العلم عنه، ولم يقصد أحد منهم قبره ﷺ لذلك. فالتابعون أخذوا العلم عن الصحابة، وتابعو التابعين أخذوا العلم عن التابعين. وكذلك كل طبقة يأخذون العلم عمن فوقهم. والعلماء يرحلون إلى الآفاق حجازا وشاما ويمنا وعراقا لطلب الحديث بالأسانيد والوسائط الكثيرة، وتحملوا المشاق العظيمة. فلو كان ما يقوله هذا حقا من أنه يطلب منه ﷺ بعد موته كل ما يطلب منه في حياته لتزاحموا عند قبره لأخذ العلم عنه على حقيقته ويتركون الوسائط؛ وهذا أمر ظاهر الفساد، لكن ربما يدخل كلام هذا في نفوس بعض الجهال لظنهم أن عند هذا الرجل علما، فيتفهموا الفطرة التي فطروا عليها حتى يبين لهم بطلانه.
وقوله: فمن منع فعليه الدليل؛ فأي دليل أبلغ وأوضح مما قررنا من أن الصحابة قبل موته ﷺ يطلبون منه جميع ما تقدم، وأنهم بعد موته ﷺ ما فعلوا معه شيئا مما كانوا يفعلون معه في حياته من طلب الدعاء منه أو استفتائه أو طلب حاجة من حوائجهم أو نصر على عدو، وكذلك التابعون بعدهم، فلا دليل أوضح من هذا على بطلان قوله إنه يطلب منه بعد موته جميع ما يطلب منه في حياته.
قال ابن القيم [93] رحمه الله: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه -إلى أن قال- ومن المحال أن يكون دعاء الأموات أو الدعاء بهم مشروعا وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله ﷺ ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فهذه سنة رسول الله ﷺ في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم؟ فليوقفونا على أثر واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا على الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله ﷺ ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن الصحابة حرف واحد من ذلك، بل فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمنا من الأحاديث المرفوعة، وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها. -وقد ذكر جملة مما روي في ذلك- منها ما ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: لما فتحت تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر الخطاب، فدعا كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. قلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجلا يقال له دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمئة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به. ولو ظفر به هؤلاء المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله. فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يداني هذا ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة. فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم؛ ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم. وكذلك التابعون لهم بإحسان درجوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله ﷺ بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعا به ولا دعاه ولا دعا عنده أو استسقى به ولا استنصر به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وذكر ابن القيم أيضا ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". [94]
وروى أبو يعلى عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعوا فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سعيد مولى المهري قال رسول الله ﷺ: "لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". [95]
وروى سعيد أيضا عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي ﷺ، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم -ثم قال- إن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس سواء.
قلت: ورواه عبد الرزاق في كتابه عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" [96]
قال ابن القيم: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله فهذا يقتضي ثبوته عنده؛ هذا لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندا.
قال شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه: ووجه الدلالة منه أن قبر رسول الله ﷺ أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فقبر غيره أولى. [97] انتهى.
ففيما ذكرناه أوضح برهان وأبين دليل على بطلان دعوى هذا المفتري في قوله إن ما جاز أن يطلب منه في حياته جاز أن يطلب منه بعد موته - صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
وقوله: بل على قولكم إن الطلب نفسه عبادة يقتضي ألا فرق بين الحياة والممات.. إلخ؛ فقد تقدم الجواب عن هذه الشبهة في كلامنا على قوله فيما تقدم: إذا كان النداء دعاء لزم ألا ينادي أحد لا حي ولا ميت.
وقوله هنا: فعلى قولكم إن الطلب نفسه عبادة؛ مقتضى كلامه أن الطلب من حيث ليس بعبادة سواء كان الطلب من الله أو من غيره.
فيقال له: إن زعمت أن الطلب من الله ليس بعبادة فهذا معلوم البطلان كما قررناه فيما تقدم وبينا دلائله، من ذلك أن الله أمر بدعائه وأثنى على من دعاه رغبا ورهبا فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}، وسمى النبي ﷺ الدعاء عبادة فقال إن "الدعاء هو العبادة" وقال: "الدعاء مخ العبادة" وكل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة عند جميع العلماء. فمن قال إن دعاء العبد ربه ليس بعبادة له فهو ضال، بل كافر. فإن أقر أنه عبادة -ولا بد أن يقر إلا أن يعاند ويكابر- فإن أقر أن دعاء العبد ربه عبادة فإذا دعا ربه راغبا وراهبا فقد عبده؛ فإذًا من دعا من لا يسمعه أو لا يستجيب له من ميت أو غائب كان قد دعا من لا ينفعه ولا يضره. ونصوص القرآن صريحة في النهي عنه وذم من دعا من هذه صفته، فيدخل في ذلك الأموات والغائبون كالجماد، لأن كلا من هؤلاء لا يستجيب لداعيه فلا ينفعه إن دعاه ولا يضره إن لم يدعه. وتقدم حكاية الشيخ تقي الدين إجماع المسلمين على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم. وتقدم أيضا قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} وقول المفسرين: إنها نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن، وقول الشيخ تقي الدين: إن الآية تعم من دعا الأموات والغائبين. فكل من دعا ميتا أو غائبا فهو داخل في حكم هذه الآية. وهذا ظاهر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذين هم سبب النزول غائبون، وغائبهم أقرب من غائب الإنس، ومنهم الميت كعزير ومريم.
ويقال لهؤلاء الذين يدعون الأموات والغائبين: ادعوهم فيما يهمكم وينزل بكم من الشدائد فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويله. فكل من دعا من لا يملك كشف الضر ولا تحويله داخل في عموم الآية. وأما طلب الإنسان حاجته من حي حاضر ما يدخل تحت مقدور البشر فلم يمنع الله سبحانه من ذلك كما قدمنا، مع أن ترك مسألة الناس من تحقيق التوحيد وكماله. فلو أن الله سبحانه أمرنا بطلب حاجاتنا من الأموات والغائبين كما زعم هذا وفعلنا ذلك امتثالا لأمر الله كان ذلك عبادة منا لله لا لغيره، كما أن الله سبحانه لما أمر الملائكة بالسجود لآدم وسجدوا كان ذلك عبادة لله لا لآدم. ولو أمرنا الله بالسجود لنبينا وفعلنا كان ذلك عبادة منا لله لا لنبينا ﷺ. ولو فعلنا ما نهانا الله عنه من السجود لغيره كان ذلك عبادة للمسجود له.
واحتج المعارض بما رواه الترمذي عن أنس أنه طلب من النبي ﷺ أن يشفع له؛ وهذا لا ينكر كطلب أهل موقف القيامة من الرسل أن يشفعوا لهم. وإنما ننكر الطلب منه بعد موته، وننكر الشفاعة الشركية التي أثبتها هذا بقوله إن الله ملّك المؤمنين الشفاعة كما ملك أهل الدنيا ما أعطاهم فيها فهم كما تقدمنا يتصرفون على حسب اختيارهم. وحقيقة تشبيهه أن المؤمنين يشفعون بحسب اختيارهم من غير إذن من الله كحال أهل الدنيا فيما أعطاهم الله. فهذه هي الشفاعة التي ننكرها كما نفاها القرآن.
واستدل المعترض بحديث الأعمى؛ ولا حجة له فيه. وليس فيه ما يوهم جواز دعائنا له والاستغاثة به. وغاية ما يفهم من حديث الأعمى التوسل بجاهه ﷺ كما فهمه منه ابن عبد السلام. وقد بين شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى معنى الحديث وأوضحه غاية الإيضاح.
ولفظ الحديث: "أن رجلا أعمى جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف عن بصري، قال: إن شئت دعوت لك الله وإن شئت صبرت. قال: ادعه. فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في" [98] هذا لفظه. وليس فيه حجة لهذا في جواز الاستغاثة به ﷺ، فهو لم يطلب من النبي ﷺ أن يرد عليه بصره، وإنما طلب منه ﷺ أن يدعو الله له. وليس في الحديث صراحة لما فهمه ابن عبد السلام.
قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله بعد كلام ذكره: ومن هذا استشفاع الناس بالنبي ﷺ يوم القيامة، بمعنى أنهم [ يطلبون منه أن يشفع إلى الله كما كانوا ] يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره. وقول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا؛ معناه نتوسل إليك بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، وليس المراد أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، أو يقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله وأوليائه. ويروون حديثا موضوعا: "إذا سألتم الله فأسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض"، [99] فلو كان هذا التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر لفعلوا ذلك بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس. فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكره عمر هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي ﷺ دعاء أمره أن يسأل الله به قبول شفاعته، وإن قوله: أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، أي بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال: يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في؛ فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: يا محمد يا نبي الله؛ فهذا وأمثاله نداء يطلب منه استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والإنسان يقول مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. [100] انتهى.
وقول المعترض: إن ابن تيمية يقول إن الأعمى صور صورة النبي ﷺ وخاطبه كما يخاطب الإنسان من يتصوره في ذهنه ممن يحبه أو يبغضه وإن لم يكن حاضرا. قال: وهذا عجيب من ابن تيمية، فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونها وهما خياليا أقوى في الحجة على المانع، فهذا الحديث هو الدليل لمن يجوز نداء النبي ﷺ في حياته وبعد موته. والناظم ممن يرى ذلك. انتهى؛
انظر كذب هذا على ابن تيمية بقوله: إن ابن تيمية يقول إن الأعمى صور صورة النبي ﷺ، وليس هذا لفظ ابن تيمية وإنما قال رحمه الله: فهذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ثم قال: والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. هذا لفظه على حديث الأعمى في اقتضاء الصراط المستقيم وغيره، هل قال إن الأعمى صور صورة النبي ﷺ؟ وقول الشيخ بعد ذلك: والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في ذهنه، أي من يستحضره في نفسه.
وقوله: وهذا عجيب من ابن تيمية فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونه وهما خياليا أقوى في الحجة على المانع؛
فيقال: وهل قال ابن تيمية إنه يطلب من الصورة شيء؟ ولم يذكر ابن تيمية لفظ الصورة، وإنما قال من يتصوره أي يستحضره.
ثم أتى المعارض بالكذب الصريح في قوله: وذكر ابن تيمية في معنى هذا الحديث قولين، قول بجواز التوسل به، بمعنى طلب دعائه في حياته، وقول بجواز ذلك في حياته ومماته ومغيبه. قال: وقد وافق ابن تيمية ابن عبد السلام بجواز الطلب والتوسل به ﷺ لحديث الأعمى، فصار ندؤاه والطلب منه محل اتفاق. انتهى؛
ففي هذه الجملة من كلامه ثلاث كذبات:
الأولى: قوله إن ابن تيمية حكى قولا في معنى الحديث بجواز الطلب منه ﷺ في حياته ومماته وحضوره ومغيبه.
الكذبة الثانية: قوله إن ابن تيمية وافق ابن عبد السلام بقوله [ إن ابن عبد السلام يقول ] بجواز الطلب منه في الحياة والموت.
والكذبة الثالثة: قوله فكان نداؤه والطلب منه محل اتفاق.
وكذبة رابعة على ابن عبد السلام بقوله: إن ابن عبد السلام يقول بجواز الطلب من النبي ﷺ والسؤال منه في الحياة والممات.
أما قوله إن ابن تيمية حكى قولا في معنى الحديث أن المراد طلب الدعاء منه في الحياة والممات والحضور والغيبة؛ فهو كاذب على الشيخ. والشيخ رحمه الله جزم بأن معنى الحديث أن الأعمى طلب من النبي ﷺ أن يدعو له، وأن ذلك مختص بالحياة ممتنع بعد الموت، كاستسقاء عمر بالعباس. ثم ذكر قول ابن عبد السلام أنه فهم من حديث الأعمى التوسل بجاه النبي ﷺ ولم يوافقه الشيخ على ذلك، بل منع من التوسل بجاهه ﷺ. وما جزم به الشيخ في معنى الحديث، [ وما حكاه عن ابن عبد السلام هما القولان اللذان ذكرهما في ] حديث الأعمى، لا كما زعم هذا الكذاب أن القولين في طلب الدعاء منه، وأن أحد القولين اختصاص ذلك بالحياة، والقول الثاني أن ذلك جائز في حياته ومماته ﷺ وأن هذا قول ابن عبد السلام وأن الشيخ وافقه على ذلك. فكذب على ابن عبد السلام وعلى الشيخ في زعمه أنهما أجازا طلب الدعاء منه ﷺ بعد موته. ما أجرأ هذا على تعمد الكذب! لأنه يرى كلام الشيخ على هذا الحديث نفسه، وإنكاره طلب الدعاء من الأموات، لا سيما طلب ذلك منه ﷺ ويقول طلب الدعاء من الأموات شرك. وكتابه في الرد على ابن البكري الذي جوز الاستغاثة بالنبي ﷺ موجود. وكلامه على حديث استسقاء عمر بالعباس في أن طلب الدعاء منه ﷺ مختص بحياته. وكلامه في هذه المسألة معروف مشهور موجود في كتبه، فكيف يجترىء على الكذب الظاهر.
قوله: فكان نداؤه والطلب منه محل اتفاق؛ كذب ظاهر وخطأ فاحش.
أما أولا فإنه لو يتفق ابن عبد السلام وابن تيمية على قول واحد في مسألة فإنه لا يقال فيه إنه اتفاق. وإنما يقال هذا محل اتفاق فيما اجتمع عليه علماء الأمة الذين يعتد بوفاقهم وخلافهم في الأحكام. وهذا لم يذكر كلمة واحدة توافق مذهبه عن صحابي ولا تابعي ولا عن إمام من أئمة المسلمين، وإنما حقيقة أمر هذا الرجل كما قال بعض العلماء: شرك مبني على إفك.
كذب على الله في قوله: إن الله أمر بالطلب من الأموات والغائبين، وإن هذا من الوسيلة التي أمر الله بها. وكذب على النبي ﷺ في زعمه أن حديث الأعمى وغيره مما أورد يدل على ذلك. [ وادعى اتفاق العلماء على حياة النبي ﷺ ]. وادعى على ابن تيمية وابن عبد السلام أنهما أجازا الطلب من النبي ﷺ بعد موته وأن ذلك اتفاق. وكذب في قوله إن في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله.
وكذبه وتناقضه ومعارضته للقرآن والحديث لا يخفى على عاقل منصف، نبهنا على بعضه. وأحببت أن أذكر هنا بعض كلام الشيخ رحمه الله في مسألة التوسل وقول ابن عبد السلام.
قال الشيخ تقي الدين رحمه في رده على ابن البكري: وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته. ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد ابن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي ﷺ، وأما بالنبي فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا به. انتهى.
وذكر ابن القيم في إغاثة اللهفان عن أبي الحسين القدوري نحو ذلك، فقال: قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو يقول بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف: معقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام.
قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز - يعني وفاقا.
وقال البلدجي في شرح المختارة: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى.
وهذه المسألة غير ما نحن فيه لكن ناسب ذكر ذلك لمخالفته لما فهمه [ ابن عبد السلام من حديث الأعمى، وأن الذي فهم ] ابن عبد السلام إنما هو التوسل به ﷺ في الدعاء، لا دعاؤه نفسه كما زعمه هذا المفتري.
واحتج المعترض بالحديث الذي روي مرفوعا: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن لله حاضرا سيحبسه" [101] وزعم أن سنده صحيح.
وليس كما ذكر من صحته، لأن في سنده معروف بن حسان وهو منكر الحديث، قاله ابن عدي. وعلى تقدير صحته فليس فيه حجة لهذا المبطل على جواز دعاء الأموات والغائبين، لأنه قال فيه: فإن الله حاضرا سيحبسه. المعنى: أن لله عبادا لا نعلمهم -وما يعلم جنود ربك إلا هو- قد وكلهم سبحانه بهذا الأمر. وهذا يدل على أن هؤلاء الذين أمر بمناداتهم حاضرون أحياء، جعل الله لهم قدرة على ذلك، فمناديهم ينادي من يسمع ويقدر على ذلك لقوله: فإن الله حاضرا سيحبسه. وهذا كما ينادي الإنسان أصحابه الذين معه في السفر أن يردوا عليه دابته إذا انفلتت.
وكل عاقل يتيقن أن النبي ﷺ لا يأمر بمناداة من لا يسمع ولا يعين من ناداه. ومن استدل بذلك على جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين فهو ضال.
قال المعترض بعد إيراده هذا الحديث: وأما قول من قال إن هذا نداء لحاضر كذب ظاهر. فإن عباد الله المدعوين -وإن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله الذي لا يغيب عنه شيء- فهم غائبون بالنسبة لمن يناديهم، وكذلك الأنبياء والصالحون من أهل القبور، فإنهم أحياء في قبورهم وأرواحهم موجودة، ولهذا أمر النبي ﷺ أن ينادوهم ويخاطبوهم كمخاطبة الحاضر، مع أنهم غائبون عن الأعين. انتهى؛
فالعجب من تناقض هذا! يورد هذا الحديث -ونص الحديث: فإن لله حاضرا سيحبسه- ثم يقول: من قال إن هذا نداء لحاضر كذب ظاهر. يورد الحديث ثم يكذبه.
وقوله: فإن عباد الله المدعوين وإن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله فهم غائبون بالنسبة لمن يناديهم؛ فيا سبحان الله! كيف يبلغ اتباع الهوى بصاحبه إلى هذا التناقض ومعارضة الأحاديث التي يحتج بها. فإذا أخبر الرسول أنهم حاضرون قادرون بقوله: فإن لله حاضرا سيسحبه. فإخبار الرسول بحضورهم أبلغ من رؤيتنا لهم، كما لو كان الذي انفلتت دابته أعمى ويعلم أن عنده أناسا لا يراهم، فإنه يستعين بهم لعلمه أنهم يسمعون كلامه وإن لم يكن يراهم.
قال المعترض في كلامه على هذا الأثر قال: ولكون النبي ﷺ حاضرا مع موته شرع لنا خطابه والسلام عليه في الصلاة؛
فقوله: مع موته؛ اقرار منه بموته في قبره الآن. ثم كابر فادعى أن جميع الصالحين في قبورهم أحياء، وكذب في هذه الدعوى. والله سبحانه أخبرنا بحياة الشهداء في كتابه، والأنبياء أرفع من الشهداء فهم أولى بذلك من الشهداء، مع أنه لم يأت حديث صحيح بحياتهم. وهذه حياة لا يعلم صفتها وحقيقتها إلا الله لقوله سبحانه: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}.
وأما قوله بحياة الصالحين غير الأنبياء والشهداء في قبورهم فكذب منه وافتراء.
وقوله: ولهذا أمر النبي ﷺ أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضر مع أنهم غائبون عن الأعين؛
فيقال لهذا المبطل: الذي أمر به النبي ﷺ أمته وشرعه لهم عند زيارة القبور حجة عليك كافية في إبطال مذهبك، هل فيما شرعه النبي ﷺ حرف واحد يتضمن دعاءهم والطلب منهم والاستغاثة بهم؟ بل ليس فيها ما يتضمن سؤاله بهم. فليتأمل طالب الحق جميع ما جاء عن النبي ﷺ مما كان يقول إذا زارها وما أمر به أمته عند زيارتها، هل يجد فيها حرفا واحدا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم يجدها مخالفة لما هم عليه من جميع الوجوه؟ فمضمون الزيارة التي شرعها ﷺ تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له، فبدل هؤلاء المشركون قولا غير الذي قيل لهم وغيروا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت بالاستغاثة به وسؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات والنصر على الأعداء واستنزال البركات.
وقوله: ولهذا أمر النبي ﷺ أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضر؛
فيقال له: وهل في خطابهم لهم طلب حاجة منهم أو طلب الدعاء منهم؟ أو المخاطب الزائر المسلم هو الذي يدعو لهم ويستغفر لهم ويترحم عليهم ويسأل الله لهم العافية. فهل في ذلك إلا ما هو حجة عليك.
ثم يقال لهذا المتخرص: هذا هدي رسول الله ﷺ وسنته مع الأموات في دعائه لهم في الصلاة على جنائزهم وعند دفنهم وعند زيارتهم، هل تجد فيها حرفا واحدا يوافق دعواك في طلب الحاجات من الأموات والغائبين؟ ودعواك أن الله أمر بذلك بقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} فكأن النبي ﷺ ما علِم من معنى الوسيلة ما علمت، وأنه علم ذلك ولم يدل عليه بحرف واحد.
وكذلك أصحابه من بعده عند إتيانهم إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه لا يزيدون على مجرد السلام عليه وعلى صاحبيه كما تقدم عن ابن عمر وأنس وغيرهما وما تقدم عن أهل بيته ﷺ من إنكار علي بن الحسين زين العابدين على الذي يدعو الله عند قبره ﷺ وقول الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب للذي قال: سلمت على النبي ﷺ، وقال له: إذا دخلت المسجد فسلم -وفي رواية- فنهاه، واستدل بقوله ﷺ "لاتتخذوا بيتي عيدا" الحديث وتقدم.
أفخفي على هؤلاء السادة ما فهمه هذا وأشياعه من قول الله {وابتغوا إليه الوسيلة} وما فهمه من حديث الأعمى وغيره؟ ولكن بهذا ونحوه يظهر مصداق النبي ﷺ: "لتتبعن سنن من كان قبلكم". وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب قبلنا بالغلو والكذب وتحريف الكلم عن موضعه.
وما ذكره المعترض عن عتبة بن غزوان فهو مثل الذي قبله، لقوله فيه: "فإن لله عبادا لا يراهم" ولفظه: "إذا أضل أحدكم شيئا وأراد عونا وهو بأرض فلاة ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني، فإن لله عبادا لا يراهم". [102] قال المعترض: فهب أن عباد الله المدعوين حاضرون كما قال، ولكن إذا لم يرهم الداعي لهم كيف يهتدي إلى الطريق وهو لم يرهم؛
فيقال: قولك هذا اعتراض منك على ما استدللت به. ونقول له: قد تحصل الهداية بإشارة أو علامة ترفع له، أو يكونون من جنس الملائكة الذين يلقون في قلب ابن آدم، فكل هذا جائز إن صح الأثر.
فانظر تسميته النداء دعاء في ثلاث مواطن من هذا المحل. وهو يقول إن طلب المخلوق من المخلوق لا يسمى دعاء بل نداء. فتناقض، وهذا من سنة الله سبحانه في المبطل أنه يتناقض.
واحتج أيضا بما روي أن رجلا جاء إلى قبر النبي ﷺ فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي بالناس. هذا لفظه في اقتضاء الصراط المستقيم.
قال الشيخ رحمه الله: ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي ﷺ، وأعرف من هذا وقائع. قال: وليس هو مما نحن فيه. قال: وهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا، ففرق بين هذا وهذا. انتهى؛
وهذه الحكاية التي احتج بها هذا المبطل هي حجة عليه في قوله: إن ما جاز أن يطلب منه في حياته ﷺ جاز أن يطلب منه بعد موته. وهو ﷺ لما كان حيا معهم على وجه الأرض إذا طلبوا منه أن يستقي لهم يستسقي بنفسه، لا يقول اذهبوا إلى فلان ليستسقي لكم. وفي هذه الحكاية لم يقل أنا أستسقي لكم، بل أمر عمر يخرج بالناس يستسقي لهم، فدل على أن هذا متعذر منه بعد موته ﷺ، والصحابة خرجوا إلى الصحراء مع عمر واستسقوا، ولم يأتوا إلى قبره يطلبون منه أن يستسقي لهم كما كانوا يفعلون في حياته، بل ولا جاءوا يستسقون عند قبره.
وقوله: إن صاحب هذه الحكاية صحابي أعلم من سائر علماء المسلمين؛
فقوله هذا كذب ظاهر. وهل يعرف اسمه حتى يعرف حاله؟ والمدينة في ذلك الزمان يردها أهل الآفاق من العرب والعجم والبادية والحاضرة. ولا سمي صاحب هذه الشكوى ولا يدرى من هو، فكيف يزكيه هذه التزكية البالغة وهو لا يعرفه؟ والشيخ يقول: ومثل هذا إذا وقع لا يدل على حسن حال السائل.
وقوله إن ابن تيمية ذكر هذه الحكاية وأنه قال: وهذا حق ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي ﷺ؛ والشيخ ذكر جملة من هذا النوع ثم قال: وهذا حق، يعني وقوع مثل هذا ثابت، ليس مراده أنه صواب كما زعمه هذا.
والشيخ رحمه الله لما قرر أن الدعاء عند القبور بدعة يعني قصدها لأجل دعاء الله عندها وأن ذلك منهي عنها، وقرر أن دعاء المقبورين وسؤالهم قضاء الحاجات شرك، قال: ولا يدخل في هذا أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي ﷺ أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك. إلى أن قال رحمه الله: فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أن يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك. وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاورها. إلى أن قال: فجنس هذا حق [103] وليس مما نحن فيه. إلى أن قال: وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة عندها ولا قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم. قال: فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضتها لما ذكرنا، وليس كذلك.
واحتج المعترض بالحكاية التي ذكرها القاضي عياض في الشفاء: أن الإمام مالكا رحمه الله تناظر مع أبي جعفر المنصور، فقال مالك: يا أمير المؤمنين إن الله أدب أقواما فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة أم أستقبل رسول الله ﷺ؟ قال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم، بل استقبله وتشفع به. ثم قرأ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. [104]
ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى أشياء ذكرها عن السلف عامة وعن مالك خاصة قال: وهذا الذي ذكرنا عن السلف ومالك يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه التي ذكرها القاضي عن محمد بن حميد، قال: ناظر أبو جعفر إلخ. قال رحمه الله: فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه [ إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه ] المعروف بنقل الثقات من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وقد نص أنه لا يقف عنده للدعاء مطلقا. إلى أن قال: وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} الآية فهو والله أعلم باطل فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم. ولم يذكر عن أحد منهم أنه استحب أن يسأل بعد الموت الاستغفار ولا غيره. وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي ذلك، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها بعض المتأخرين من الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي ﷺ وتلا هذه الآية،
وأنشد:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ** فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي، لا سيما مثل هذا الأمر العظيم الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم، بل قضاء الله حاجة هذا الأعرابي وأمثاله له أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع. وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون ذلك السبب مشروعا مأمورا به. فقد كان رسول الله ﷺ يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل، حتى قال: "إني لأعطي أحدهم المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا" قالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". [105]
قال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علم، وهذا باب واسع.
قوله رحمه الله في أول كلامه: وهذا الذي ذكرناه عن السلف ومالك يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه. فالكلام الذي أشار إليه قوله قبل ذلك: واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي ﷺ لا يستقبل قبره [ وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما إنه يستقبل قبره ] ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه. وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه. هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما: لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو [ ولكن يسلم ويمضي. وقال أيضا في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو ] له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن أناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغنا هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
ثم قال الشيخ: فقول مالك في هذه الحكاية إن كان ثابتا عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعل ما يشفع له به يوم القيامة، كسؤال الله له الوسيلة.
وكذلك ما نقل من رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدعو ويسلم. يعني دعا للنبي ﷺ وصاحبيه، فهذا هو الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور المسلمين وهو الدعاء لهم، فإن أحق الناس أن يصلى عليه ويدعى له بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة. انتهى.
ويشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي ﷺ فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. قال معمر: وأخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحدا من أصحاب النبي ﷺ فعل ذلك إلا ابن عمر.
وقال الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه الصارم المنكي في الرد على السبكي: محمد بن حميد راوي هذه الحكاية -أعني حكاية أبي جعفر مع الإمام مالك- هو محمد بن حميد الرازي لا العمري كما ظنه السبكي. قال: وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي هذا غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة: محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو العباس محمد بن أحمد الأزدي: سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان. وذكر عن جماعة كثيرة نحو ذلك، فهذا يبين عدم صحة هذه الحكاية، والله أعلم.
وذكر المعترض ما روي أن أعرابيا جاء إلى قبر النبي ﷺ بعد ثلاثة أيام من دفنه ﷺ ورمى بنفسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية. وقد جئتك مستغفرا لذنبي. فنودي من القبر: غفر لك؛
فيا سبحان الله يعتمد على حكاية أعرابي بغير إسناد في هذا الأمر الذي لوكان مستحبا أو جائزا لفعله الصحابة والتابعون، ولو كانوا يفعلون شيئا من ذلك لنقل عنهم، لا عن أعرابي وغيره ممن لا تعرف حاله. فلو وجد الناقل لهذه الحكاية شيئا من ذلك عن أحد من الصحابة وعلماء التابعين لكان أولى من نقله عمن لا يعرف بصحبة ولا علم.
وأيضا فهذه حكايات بغير إسناد معروف، بحيث لو يذكر عن النبي ﷺ أحاديث بغير إسناد معروف رجاله لم يلتفت إليها، مع أنه ليس في هذه الحكاية ونحوها أنه طلب من النبي ﷺ أن يغفر له أو أن يدعو الله له.
قال المعترض: ويعضد هذا الأثر المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول -يعني أثر العتبي- حتى ابن تيمية مع أنه شدد في ذلك؛
فكذب على ابن تيمية في قوله إنه تلقاه بالقبول، بل ابن تيمية خطّأ من احتج بحكاية العتبي كما قدمنا عنه. وما روي من قول سواد بن قارب:
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ** بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
فهذا بحضرة النبي ﷺ في حياته كما تقدم من حديث أنس، وكاستشفاع الناس به يوم القيامة. وقوله: أدنى المرسلين وسيلة. فهو كذلك صلوات الله وسلامه عليه، لأن الوسيلة هي القربة، والتوسل إلى الله: التقرب إليه بطاعته واتباع رسوله والاقتداء به، وهذا هو الوسيلة المأمور بها في قوله سبحانه: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ومن الوسيلة دعاؤه لهم ﷺ وطلبهم ذلك منه في حياته كما كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم كقول عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا. الحديث. فهذا من الوسيلة المأمور بها.
واحتج المعترض بما روي أنه قيل لابن عمر حين خدرت رجله: اذكر أحب الناس إليك. وأن ابن عباس قاله لآخر. فقال أحدهما: محمد. [106] وقال الآخر: يا محمد؛ [107]
وليس له في هذا حجة على طلب الحاجات من الأموات والغائبين. والقائل لم يقل: ادع أحب الناس إليك. والمقول له لم يقل: يا محمد أزل خدر رجلي. فإن صح الأثر فلعل المعنى في ذلك أنه توسل إلى الله بمحبة نبيه. وأحدهما لم يأت بحرف النداء وذكرها أحدهما، فلعل هذا مثل قولنا: السلام عليك أيها النبي، السلام عليك يا رسول الله. وخدر الرجل من نوع الضر، والمحتج بذلك يحتج به على جواز طلب كشف الضر من النبي ﷺ وغيره، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} أي لا أقدر على كشف ضر نزل بكم ولا جلب خير إليكم، أي إن الله يملك ذلك لا أنا. وقال: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}. وقد ذكرنا فيما تقدم أن مفسري الصحابة والتابعين ذكروا أن الآية نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن. والآية تعم كل مدعو من دون الله.
فإذا كان الملائكة الذين يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال فغيرهم أولى. فإذا كان هؤلاء المذكورون لا يستجيبون لمن دعاهم فهم داخلون تحت قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وغيرها من الآيات فكيف تعارض نصوص القرآن بمثل ذلك.
ومضمون دعوى المحتج بذلك أن الشفاء يطلب من النبي ﷺ. وكان في رقية النبي للمريض: اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك. [108]
فالمحتج بهذا الأثر على ما ادعاه معارض لنصوص القرآن والسنة مكذب لله ورسوله فيما ذكرنا من الآيات والحديث. ولو قال من خدرت رجله: أعوذ برسول الله ﷺ من شر ما أجد، صار مستعيذا بمخلوق. ونص العلماء أن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق. والاستعاذة نوع من الدعاء كما مر تقريره. فلو قال من أصابه ما يكره: أعوذ بمحمد مما أجد وأسأله كشف ما أجد أو أشكو إليه ما أجد، كان المعنى في جميع هذه العبارات واحدا إذ المعنى: أطلب إزالة ذلك من النبي ﷺ.
وابن القيم ذكر هذا الأثر، فلو كان فيه شبهة تعارض ما كان يقرره من أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك لبين ذلك.
ورأيت من جملة فتاوى للقاضي أبي يعلى منها أنه سئل عمن يقول يا محمد، يا علي، فقال: هذا لا يجوز لأنهما ميتان.
وقول المعترض: أوليس ابن تيمية قد عذر المتأول والمقلد وقال إنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره؛
فيقال لهذا: إنما يورد من كلام الشيخ هذا من يوافق على تحريم الاستغاثة بالنبي ﷺ وغيره من الأموات وأن ذلك شرك، ثم يقول: لعله يغفر للجاهل ونحوه.
وأما من ينكر قول الشيخ في ذلك ويبدع من قال بقوله أو يكفره فلا يتوجه له القول بعذر المذكورين، لأنه يقول إنهم غير مخطئين، بل مأجورين لامتثالهم أمر الله في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} في زعم هذا المحرف لكلام الله فلا وجه لطلب العذر لهم.
وما قاله الشيخ رحمه الله في هذا الباب -أعني باب التوحيد- ليس باجتهاد منه لكنه بين ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء، فرحمه الله ورضي عنه. والشيخ قال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع. [109] قال: ويغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره؛ مراده في الجملة لا في التفصيل. ولهذا قال رحمه الله في شرح العمدة في أثناء كلام سبق: فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر دق أو جل، لكن يعفى عما قد خفيت فيه طرق العلم وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر.
وقد قال رحمه الله: إن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر. ونقل ذلك عنه تلميذه صاحب الفروع فيه قال: ذلك والله أعلم لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
وقال في الرسالة السنية: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أعثني أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
وكذلك قال في مسألة الوسائط: إن فاعل ذلك يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وعموم قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} يتناول كل مشرك. والفقهاء من جميع المذاهب يذكرون في باب حكم المرتد أن من أشرك بالله كفر، ويحتجون بهذه الآية ونحوها، ولم يحرجوا الجاهل من العموم. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} وقال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. قال ابن جرير: وهذا من أبين الأدلة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعلم منه، لأنه لوكان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسماءها وأحكامها في هذه الآية. انتهى.
وليس كلامنا في هذا الموضع في هذه المسألة، وإنما الكلام مع هؤلاء الضلال الدعاة إلى الشرك الملبسين على الناس دينهم المفترين على الله الكذب المضلين للناس بغير علم.
وذكر المعترض أن في تاريخ ابن كثير أن الصحابة كان شعارهم في الحرب يا محمد. وفي تاريخ آخر أن بعض المسلمين من التابعين أسرهم الكفار وألقوهم في القدور فنادوا يا محمداه. وأن خبيبا رضي الله عنه لما مثل به الكفار قال يا محمد؛
فهذه هي وأشباهها حجة هذا المبطل وشيعته، وهذه التواريخ وأشباها فيها الصدق والكذب وأكثرها يحكى بغير إسناد. ولو كان ما ذكر في هذه التواريخ ونحوها حديثا عن النبي ﷺ بغير سند متصل صحيح لم يحكم به في فلس.
والحكاية الأولى أن هذا كان شعارهم في الحرب، لم يقل أنهم كانوا يستغيثون به في الحرب ولا أنهم يدعونه، بل قال: هذا [ شعارهم في الحرب. فلا شبهة لك فيه لأنهم كانوا يستعملون الشعار في الحرب باسم أو كلمة ليعرف بعضهم بعضا كما روي أن شعارهم ] في بعض غزواتهم: حم لا ينصرون. [110] وفي بعضها: أمت أمت. [111]
وما ذكر عن الذين كانوا في زمن التابعين أنهم قالوا يا محمداه؛ حكاية بغير إسناد عمن لم يعرف من هم.
وما حكي أن خبيبا قال يا محمد؛ إن صح فهذا ونحوه يقوله الإنسان توجعا لفراق حبيبه. ولا يشك عاقل أن خبيبا وأشباهه لا يستغيثون بالنبي ﷺ في تلك الحال وهو لا يسمع كلامهم. كيف وقال لهم ﷺ لما استغاثوا به على رجل عنده في المدينة قال: "إنه لايستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" ولكن صاحب الباطل يروج على الناس ويلبس عليهم بكل ما يقدر عليه، ولولا اتباع الهوى ما عارض بحكاية عن أعرابي أو عن تاريخ لا يعرف غثه من سمينه، مع أنه ليس له فيما يحكيه حجة على باطله؛ ومع ذلك يعارض به نصوص القرآن كقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} فإذا كان الملائكة المقربون لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله، فنبينا ﷺ كذلك لا يكشف الضر عمن دعاه ولا تحويله، فلو كان يملك شيئا من ذلك لطلب أصحابه الذين هم أعلم الناس بالله وبرسوله وبدينه ذلك منه. مع أن عموم هذه الآيات وغيرها تتناوله كغيره، لا يشك في هذا عاقل سليم الفطرة فضلا عن العالم المنصف. هذا مع قوله سبحانه في حق نبينا خاصة ما ذكره في كتابه كقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وقوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} أي لا أقدر على كشف ضر نزل بكم ولا إيصال نفع إليكم، أي لا يملك ذلك إلا الله. فمن زعم أن غير الله يطلب منه فهو مكذب لله وجاعل له شريكا في ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال المعترض: فدل على أن نداء النبي ﷺ في الشدائد أمر معهود؛ يعني الاستغاثة به ﷺ وإنما عبر بالنداء طردا لقوله الباطل المتناقض: إن طلب المخلوق من المخلوق يسمى نداء لا دعاء. وقد بينا بطلان قوله هذا ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع العلماء والنحويين، وأن الدعاء بطلب رفع المكروه أو دفعه يسمى استغاثة كما يسمى دعاء. فلما قال: إن نداء النبي ﷺ في الشدائد أمر معهود، يعني أنه يطلب منه ﷺ كشف الشدائد، فهذا حقيقة الاستغاثة، فليسميه المبطل نداء أو طلبا أو توسلا أو تشفعا أو ما شاء من الأسماء، فإن ذلك لا ينفعه ولا يغير الحكم. فهذا الضال يزعم أن الاستغاثة بالنبي ﷺ في الشدائد بعد موته أمر معهود، يعني معروف مشهور معمول به عند الصحابة والتابعين. فجعل هذا الصحابة والتابعين أشد غلوا في النبي ﷺ من المشركين الأولين في الملائكة والأنبياء والجن والأصنام، لأن الله سبحانه أخبر في كتابه أن المشركين يخلصون الدعاء لله في حال الشدة وينسون آلهتهم من الملائكة والأنبياء والجن والأصنام. قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وقال: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}.
وقول هذا الرجل فيما تقدم: إن الله أمر بالطلب من الأموات والغائبين عام في الأوقات والأحوال والأشخاص؛ فيا لله لعقول ضلت حين لم يتبين لها ضلال هذا في غالب كلامه وخاصة في قوله: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات والغائبين. فكما قدمنا إذا كان الله يحب ذلك لأمره به في زعم هذا الضال فالأولى ملازمة ذلك في الشدة والرخاء [ محافظة على ما يحبه الله في جميع الحالات. والموحدون يقولون الواجب على الناس إخلاص الدعاء لله وحده في الرخاء والشدة ]، فلا يسأل إلا هو وحده، ولا تطلب الحاجات إلا منه، ولا يرغب إلا إليه وحده. والمشركون الذين كانوا في زمن النبي ﷺ يخلصون الدعاء لله في الشدة وينسون غيره؛ ونصوص القرآن ناطقة بذلك. وهذا الملحد يقول: الاستمرار على الطلب من الأموات والغائبين في جميع الحالات أولى، لأن الله يحب ذلك، لأنه من الوسيلة التي أمر الله بها، فالمحافظة على ما يحبه الله أولى من الغفلة عما يحبه سبحانه وتعالى. فيا سبحان الله كيف يتلبس أمر هذا على عاقل سليم الفطرة؟
وما ذكره من قول صفية: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا. فهذه حال من يبكي شخصا ويرثيه، يخاطبه مخاطبة الحاضر، وتذكر حاله ﷺ معهم لأنه القائم بأمورهم فهو أبوهم خاصة وأبو المؤمنين عامة {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
وقد حمى النبي ﷺ جناب التوحيد أبلغ حماية حتى قال: "لا تجعلوا قبري عيدا" وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد بل ما شاء الله ثم شاء محمد". وقال للذي قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا". فوازن بين قوله لمن قال ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا" وبين قول هذا الضال: إنه يستغاث به في الشدائد. أليس هذا أولى بأن يقال له: أجعلتني لله ندا وقد قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّه} أي: أإله مع الله يفعل هذا؟ والذي يقول إنه يستغاث بالنبي ﷺ في الشدائد بقوله: إن نداء النبي ﷺ في الشدائد أمر معهود، يقول إنه يجيب المضطر ويكشف السوء، وإلا كانت الاستغاثة به عبثا باطلا. والمشركون يعترفون بأنه لا ينجي من الشدائد والضرورات إلا الله، ولهذا يخلصون الدعاء لله في هذه الأحوال لعلمهم أنه لا ينجي منها إلا الله. قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال البيضاوي: دعوا الله مخلصين له الدين لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. وقال أيضا على قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، حيث لا يذكروا إلا الله ولا يدعون سواه، لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو سبحانه. انتهى.
وقال النبي ﷺ لحصين بن المنذر: "كم إلها تعبد؟ " قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء.
ولما أقبل برهة على مكة وهرب أهلها منها خوفا منه قام عبد المطلب ونفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، وأخذ عبد المطلب بحلقة باب الكعبة ويقول:
يا رب لا أرجو لهم سواك ** يا رب فامنع منهم حماك
إن عدو البيت من عاداك ** فامنعهم أن يخربوا قراك
وإخبار الله سبحانه عنهم بالإخلاص في الكرب والشدائد كاف. فيا سبحان الله.
هؤلاء المشركون الذين نزل القرآن بتكفيرهم وإباحة دمائهم وأموالهم للمسلمين يعلمون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا الله ويفزعون فيما يهمهم إلى الله وحده ويتركون الوسائط الذين اتخذوهم شفعاء لهم عند الله. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}. وهذا الرجل الذي يسمى عالما يقول: إنه يطلب من النبي ﷺ كشف الشدائد وإنه يكشفها. فلولا أنه يقول إنه يكشفها لم يجوز طلب كشفها منه؟ وكان طلب ذلك منه عناء بلا فائدة.
ثم زعم أن الاستغاثة به ﷺ في الشدائد أمر مشهور معمول به عند الصحابة والتابعين. فنسب إلى خير القرون ما هم أبعد الناس عنه. ويكفي في إبطال شبهه كلها قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وهذا في حال حياته ﷺ فكيف الحال بعد الموت؟
وهو أيضا لم يقتصر على النبي ﷺ كما قرر في أوراقه هذه أن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات وأنهم أحياء في قبورهم، مع ما ضم إلى ذلك من دعواه إثبات التصرف المطلق للنبي وغيره في يوم القيامة، ودعواه علم الغيب للنبي ﷺ، وما تضمنه كلامه من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى العلماء كما بيننا بعض ذلك فيما تقدم. وكذا ما في كلامه من التناقض والمعارضة الصريحة لكلام الله ورسوله. ثم العجب ممن تلقى كلامه بالقبول ولا رأوا بعض ما فيه من الفضائح التي ينكرها العامي سليم الفطرة، ولكن الأمر كما قيل: باطل وافق هوى، والهوى يعمي ويصم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ولنختم هذا الجواب بتلخيص فصل من إغاثة اللهفان لشمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى. قال بعد كلام سبق:
ومن جمع بين سنة رسول الله ﷺ في القبور وما أمر به وما نهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله ﷺ عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها!
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله!
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها!
ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ويجتمعون أياما كاجتماعهم للعيد أو أكثر!
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ: أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته". وفي صحيحه عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برذوذس، فتوفي صاحب لنا. فأمر فضالة بقبره فسوي. ثم قال سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها. [112] وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب!
ونهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه، ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود في سننه عن جابر أنه ﷺ "نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره!
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا أن رسول الله ﷺ "نهى أن يجصص القبر ويكتب عليه أو يزاد عليه". وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص.
إلى أن قال: فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله ﷺ وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه.
ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العد عن حصره.
فمنها تعظيم الموقع في افتتان بها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها. وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند البيت الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.
ومنها النذر لها ولسدنتها.
ومنها اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكربات وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج. [113]
ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة.
ومنها مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها.
ومنها محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها أن الذي شرعه رسول الله ﷺ عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمور وعكسوا الدين وجعلوا المقصود من الزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحوذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت.
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله على لسان رسول الله ﷺ ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الشرك التي شرعها لهم الشيطان واختر لنفسك.
قال عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله ﷺ إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" رواه مسلم في صحيحه.
وعنها أيضا: "أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون". [114]
وفي صحيحه أيضا عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار -وفي لفظ- السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
وعن بريدة قال: قال رسول الله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن زارها فليزر ولا تقولوا هجرا" رواه الإمام أحمد والنسائي.
وكان رسول الله ﷺ قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا. فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارتها غير مأذون فيها. ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولا وفعلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله ﷺ: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت".
وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة"رواه أحمد.
وعن ابن عباس قال: "مر رسول الله ﷺ بقبور المدينة فأقبل عليهم فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم لنا سلف ونحن بالأثر" رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة" رواه ابن ماجه.
وروي الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإن فيها عبرة".
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ لأمته وعلمهم إياها؛ هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟
وما أحسن ما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عُوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ﷺ ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا.
قال سلمة بن وردان: رأيت أنس مالك يسلم على النبي ﷺ ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو.
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره "الدعاء هو العبادة" فجرد السلف الصالح العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله ﷺ من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له.
ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا أو استحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي.
قال عوف بن مالك: "صلى رسول الله ﷺ على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار» حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله ﷺ على ذلك الميت" رواه مسلم.
وقال أبو هريرة: سمعت رسول الله ﷺ يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له" رواه أحمد. [115]
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء". [116]
وقالت عائشة وأنس عن النبي ﷺ قال: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم.
وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه" رواه مسلم.
فهذا مقصود الصلاة على الميت وهو الدعاء والاستغفار والشفاعة فيه. ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره. وقد كان رسول الله ﷺ يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" [117] فعلم أنه أحوج إلى الدعاء بعد الدفن.
فإذا كنا على جنازته ندعو له لا ندعو به ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى؛ فبدل أهل الشرك والبدع قولا غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ إحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخرة سؤالَ الميت والإقسام به على الله وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الصلوات.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعا وعملا صالحا وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله ﷺ ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم؟ فليوقفونا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك. بل يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله ﷺ ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بل فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه في الأحاديث المرفوعة. قال: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله وما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغربا ** شتان بين مشرق ومغرب
والأمر والله أعظم مما ذكرنا.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن أم الدرداء قالت: دخل علي أبو الدرداء مغضبا. فقلت: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا.
وروى مالك في الموطأ عن عمر أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدكت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. يعني الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. ذكره البخاري. وفي لفظ آخر: ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول الله ﷺ إلا قد أنكرته اليوم.
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله لو أن رسول الله ﷺ كان حيا بين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه. فقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟
وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس يبكي. فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله ﷺ أنتم عليه إلا قبلتكم هذه. [118]
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هامش
- ↑ صحيح البخاري/كتاب الأنبياء
- ↑ السلسلة الصحيحة 1097
- ↑ قال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. وفي صحيح ابن ماجه: "قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد".
- ↑ صحيح الأدب المفرد، ومسند أحمد.
- ↑ متفق عليه
- ↑ متفق عليه
- ↑ يشير إلى ما أخرجه الديلمي وابن عساكر بلفظ "لولاك ما خلقت الجنة ولولاك ما خلقت النار". وفي رواية ابن عساكر: "لولاك ما خلقت الدنيا". وهو حديث موضوع كما قال السيوطي في اللآلىء والألباني في السلسلة الضعيفة.
- ↑ صحيح البخاري
- ↑ ضعيف أبي داود
- ↑ كذا في جميع النسخ والصحيح أن هذا كلام البغوي إلى قوله "الآدمي"، ينظر البغوي وابن كثير 3 / 312 - 313
- ↑ صحيح مسلم/كتاب الإيمان
- ↑ مسند أحمد
- ↑ متفق عليه
- ↑ صحيح البخاري
- ↑ صحيح البخاري
- ↑ ابن جرير وابن أبي حاتم
- ↑ متفق عليه
- ↑ متفق عليه
- ↑ صحيح مسلم/كتاب القدر
- ↑ سنن أبي داود/كتاب السنة، وسنن الترمذي/كتاب القدر
- ↑ صحيح البخاري/كتاب التوحيد بنحوه. وبلفظ المؤلف أخرجه أحمد
- ↑ صحيح الترمذي، ومسند أحمد
- ↑ متفق عليه
- ↑ مسند أحمد
- ↑ متفق عليه
- ↑ أخرجه أحمد. وهو بنحوه في الصحيحين.
- ↑ أخرجه أحمد وأبو داود. وبنحوه في الصحيحين
- ↑ ذكره الهيثمي في المجمع من حديث عبد الرحمن بن سمرة وقال: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف.
- ↑ ضعيف الترمذي
- ↑ اقتضاء الصراط المستقيم
- ↑ تفسير الكشاف 3 / 358.
- ↑ متفق عليه
- ↑ صحيح الترمذي
- ↑ اقتضاء الصراط المستقيم
- ↑ متفق عليه
- ↑ متفق عليه
- ↑ سنن أبي داود/كتاب الأدب
- ↑ سنن ابن ماجه/كتاب المساجد
- ↑ مستدرك الحاكم
- ↑ صحيح أبي داود
- ↑ متفق عليه
- ↑ صحيح مسلم/كتاب الصلاة
- ↑ أخرجه أحمد في المسند والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك
- ↑ متفق عليه
- ↑ في التوحيد لابن خزيمة: "شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا"
- ↑ صحيح مسلم/كتاب الإيمان
- ↑ متفق عليه
- ↑ صحيح الترمذي
- ↑ صحيح الترمذي
- ↑ ابن جرير وابن أبي حاتم
- ↑ مسند أحمد، ومجمع الزوائد/كتاب الأدعية
- ↑ اللفظ لأحمد. أما الترمذي فلفظه: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك والحمد وهو على كل شيء قدير"
- ↑ متفق عليه
- ↑ متفق عليه
- ↑ دقائق التفسير
- ↑ صحيح الترمذي
- ↑ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وهو في صحيح ابن ماجه
- ↑ الرد على البكري
- ↑ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وهو في صحيح أبي داود
- ↑ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وحسنه في صحيح أبي داود
- ↑ صحيح أبي داود
- ↑ إغاثة اللهفان
- ↑ أخرحه ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم 1523 وقال: هذا حديث لا يصح وقد أجمعوا على تضعيف عبد الرحمن بن زيد، قال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته مع رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.
- ↑ الموطأ وصحيح ابن ماجه
- ↑ في هامش "ب" ما نصه: ثم بعد تقريرنا الكلام في الفرق بين الحي والميت وقفت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية جواب سؤال وقد سئل عمن يعظم بعض المشائخ الموتى ويستغيث بهم فأجاب: من استغاث بغائب من البشر أو ميت بحيث يدعوه عند الشدائد ويطلب منه قضاء الحاجات فيقول: يا سيدي فلان، يستوحيه، ويستغيث به، فإن هذا ضال ظالم مشرك عاص لله باتفاق المسلمين، قهم متققون على أن الميت والغائب - كلام غير واضح بمقدار سطرين - يطلبون منه في حياته وهذا هو التوسل الذي جاءت به الشريعة... انتهى ملخصا. فانظر حكايته إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يطلب من الميت والغائب شيء وهذا شرك وضلال. كذا على هامش نسخة شيخنا.
- ↑ متفق عليه
- ↑ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وهو في صحيح أبي داود
- ↑ ضعيف الترمذي
- ↑ الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين
- ↑ أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ولفظ أبي داود وابن ماجه: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها"
- ↑ جامع الترمذي/كتاب تفسير القرآن. وحسنه الألباني في غاية المرام.
- ↑ أخرجه الطبري
- ↑ جامع الترمذي/كتاب الفتن
- ↑ الضعيفة 637 والإرواء 677 وقال: حديث موضوع رواه العقيلي في الضعفاء والقاسمي في الفوائد
- ↑ صحيح الترمذي
- ↑ إياك
- ↑ مدارج السالكين
- ↑ حسنه في صحيح أبي داود
- ↑ في صحيح البخاري: " كان النبي ﷺ يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة. " وفي صحيح مسلم: "من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك. "
- ↑ الرد على البكري
- ↑ إغاثة اللهفان
- ↑ إغاثة اللهفان
- ↑ مجموع الفتاوى
- ↑ صحيح البخاري
- ↑ طبقات ابن سعد وسير الذهبي
- ↑ اقتضاء الصراط المستقيم
- ↑ القسم الأول
- ↑ القسم الثاني
- ↑ مجموع الفتاوى
- ↑ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وهو في ضعيف أبي داود
- ↑ صحيح أبي داود. وأخرجه النسائي وابن ماجه.
- ↑ مسند أحمد وعمل اليوم والليلة للنسائي. وهو في الصحيحة 1572
- ↑ في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
- ↑ صحيح أبي داود
- ↑ قال في مجمع الزوائد/كتاب الحج: "رواه أبو يعلى وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا وبقية رجاله ثقات. "
- ↑ أخرجه عبد الرزاق في المصنف 6726 وابن أبي شيبة في مصنفه
- ↑ اقتضاء الصراط، وإغاثة اللهفان
- ↑ صحيحا الترمذي وابن ماجه
- ↑ في الضعيفة 22: "لا أصل له".
- ↑ اقتضاء الصراط المستقيم
- ↑ قال في مجمع الزوائد/كتاب الأذكار: "رواه أبو يعلى والطبراني وزاد: «سيحبسه عليكم». وفيه معروف بن حسان وهو ضعيف". وهو في الضعيفة 655
- ↑ الضعيفة 656
- ↑ في هامش ط: "قوله رحمه الله فجنس هذا حق يعني وقوعه ثابت ليس مراده أنه صواب".
- ↑ قال ابن تيمية: "وهذه الحكاية منقطعة، فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكا ولا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث. كذبه أبو زرعة وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه، وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات.. وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته" انظر مجموع الفتاوى 1 / 228 وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة
- ↑ أخرجه أحمد في المسند 3 / 21 والحاكم في المستدرك 1 / 46 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد/كتاب الزكاة: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار بنحوه ورجال أحمد رجال الصحيح.
- ↑ في ضعيف الأدب المفرد 964: "خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: محمد"
- ↑ في الكلم الطيب 236: "خدرت رجل رجل عند ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له ابن عباس: اذكر أحب الناس إليك، فقال: محمد ﷺ، فذهب خدره" قال الألباني: موضوع.
- ↑ صحيح البخاري/كتاب المرضى والطب
- ↑ اقتضاء الصراط المستقيم
- ↑ سنن أبي داود/كتاب الجهاد، والترمذي
- ↑ سنن أبي داود/كتاب الجهاد
- ↑ صحيح مسلم/كتاب الجنائز
- ↑ روى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: "لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"
- ↑ صحيح مسلم/كتاب الجنائز
- ↑ ضعيف أبي داود
- ↑ صحيح أبي داود
- ↑ صحيح أبي داود
- ↑ ذكر هنا ما نصه: آخر ما كشف به المصنف رحمه الله تلبيس داود وشبهاته الواهي، ولها بقية لم يظفر بها المصنف، وشبهات داود لا تحتاج إلى رد لمن بقي على فطرته وسلم من الكبر والتعصب، لأن بطلانها وتناقضها لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، ومن يضلل الله فما له من هاد، ولكن لما تغير كثير من الفطر احتاجت إلى كشف فكشفها الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله أحسن كشف وردها أوضح رد، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا. تم غرة جمادى الأولى سنة 1306 هـ والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.