الرئيسيةبحث

النظرات/المدنية الغربية



المدنية الغربية


سأودع في هذه النظرة الخيال والشعر وداع من يعلم أنَّ الأمر أعظم شأنًا وأجل خطرًا من أن يعبث فيه العابث بأمثال هذه الطرائف التي هي بالهزل أشبه منها بالجِدِّ، والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه لا في موطن جِدِّه وعمله.

إنَّ في أيدينا — معشرَ الكُتَّاب — من نفوس هذه الأمة وديعةً يجب علينا تعهدها والاحتفاظ بها والحدب عليها، حتى نؤديها إلى أخلافنا من بعدنا، كما أداها إلينا أسلافنا من قبلنا سالمةً غير مأروضةٍ، ولا مُتَأَكِّلَةٍ، فإن فعلنا فذاك، أوْ لا، فرحمة الله على الصدق والوفاء، وسلامٌ على الكُتَّاب الأُمناء!

الأمة المصرية أمةٌ مسلمةٌ شرقية، فيجب أن يبقى لها دينها وشرقيتها ما جرى نيلها في أرضها، وذهبت أهرامها في سمائها، حتى تُبَدَّلَ الأرضُ غير الأرض والسموات.

إنَّ خطوة واحدة يخطوها المصريُّ إلى الغرب تُدْنِي إليه أجله، وتدنيه من مهوًى سحيقٍ يُقبر فيه قبرًا لا حياة له من بعده إلى يوم يُبْعَثُون.

لا يستطيع المصري — وهو ذلك الضعيف المستسلم — أن يكون من المدنية الغربية — إن داناها — إلا كالغِربال من دقيق الخبز، يمسك خُشَارَهُ ويفلت لبانه، أو الراووق من الخمر يحتفظ بعُقاره ويستهين برحيقه، فخيرٌ له أن يتجنبها وأنْ يفرَّ منها فرار السليم من الأجرب.

يريد المصري أنْ يقلِّد الغربيَّ في نشاطه وخفته، فلا ينشط إلا في غدوته وروحته، وقعدته وقومته، فإذا جدَّ الجِّد وأراد نفسه أن يعمل عملًا من الأعمال المحتاجة إلى قليلٍ من الصبر والجَلَدِ دبَّ الملل إلى نفسه دبيب الصهباء في الأعضاء، والكرى بين أهداب الجفون.

يريد أن يقلِّده في رفاهيته ونعمته، فلا يفهم منهما إلا أنَّ الأولى التَّأنُّث في الحركات، والثانية الاختلاف إلى الحانات.

يريد أن يقلده في الوطنية، فلا يأخذ منها إلا نعيقها ونعيبها، وضجيجها وصفيرها، فإذا قيل له: هذه المقدمات فأين النتائج؟ أسلم رجليه إلى الرياح الأربع، واستنَّ في فراره استنان المهر الأرِن، فإذا سمع صفير الصافر مات وجلًا، وإذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلًا.

يريد أن يقلده في السياحة، فلا يزال يترقب فصل الصيف ترقبَ الأرض الميتة فصلَ الربيع، حتى إذا حان حينه طار إلى مدن أوروبا طيران حمام الزاجل لا يبصر شيئًا مما حوله، ولا يلوي على شيءٍ مما وراءه، حتى يقع على مجامع اللهو ومكامن الفجور وملاعب القمار، وهناك يبذل من عقله وماله ما يعود من بعده فقير الرأس والجيب، لا يملك من الأول ما يقوده إلى طريق السفينة التي تحمله في أوبته، ولا من الثاني أكثر من الجِعالة التي يَجتعلها منه صاحب الجريدة ليكتب له بين حوادث صحيفته حادثة عودته موشاةً بجمل الإجلال والاحترام، مطرزة بوشائع الإكرام والإعظام.

يريد أن يقلده في العلم، فلا يعرف منه إلا كلمات يُرَدِّدُهَا بين شدقيه ترديدًا لا يلجأ فيه إلى ركنٍ من العلم وثيق، ولا يعتصم به من جهل شائن.

يريد أن يقلده في الإحسان والبر، فيترك جيرانه وجاراته يطوُون حنايا الضلوع على أمعاء تلتهب فيها نار الجوع التهابًا، حتى إذا سمع دعوة إلى اكتتابٍ في فاجعة نزلت في القطب الشمالي، أو كارثةٍ ألمَّت بسد يأجوج ومأجوج، سجَّل اسمه في فاتحة الكتاب، ورصد هبته في مستهلِّ جريدة الحساب.

يريد أن يقلِّده في تعليم المرأة وتربيتها، فيقنعه من علمها مقالة تكتبيها في جريدةٍ أو خطبة تخطبها في محفلٍ، ومن تربيتها التفنن في الأزياء والمقدرة على سحر النفوس واستلاب الألباب.

هذا شأنه في الفضائل الغربية، يأخذها صورةً مُشَوَّهَةً وقضيةً معكوسة لا يعرف لها مغزًى ولا ينتحي بها مقصدًا، ولا يذهب فيها إلى مَذهبٍ، فيكون مثله في ذلك كمثل جهلة المتدينين الذين يقلِّدون السلف الصالح في تطهير الثياب وقلوبهم ملأى بالأقذار والأكدار، ويجارونهم في أداء صور العبادات وإنْ كانوا لا ينتهون عن فحشاء ولا عن منكرٍ، أو كمثل الذين يتشبهون بعمرَ في ترقيع الثياب وإنْ كانوا أحرص على الدنيا من صيارفة الإسرائيليين.

أما شأنه في رذائلها فإنه أقدرُ الناس على أخذها كما هي، فينتحر كما ينتحر الغربي، ويُلحد كما يلحد، ويستهتر في الفسوق استهتاره، ويترسَّم في الفجور آثاره.

إنَّ في المصريين عيوبًا جمة في أخلاقهم وطباعهم ومذاهبهم وعاداتهم، فإن كان لا بد لنا من الدعوة إلى إصلاحها، فلندعُ إلى ذلك باسم المدنية الشرقية، لا باسم المدنية الغربية.

إنْ دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب مثلًا بحضارة بغداد وقرطبة، وثيبة وفينيقيا، لا بباريس ورومة، وسويسرة ونيويورك، وإنْ دعوناهم إلى مكرمة، فَلْنَتْلُ عليهم آيات الكتب المنزَّلة، وأقوال أنبياء الشرق وحكمائه، لا آيات رُسُّو وباكون، ونيوتن وسبنسر، وإنْ دعوناهم إلى حربٍ ففي تاريخ خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وموسى بن نصير، وصلاح الدين، ما يغنينا عن تاريخ نابليون وولنجتون وواشنطن ونلسن وبلوخر، وفي وقائع القادسية وعمورية وإفريقية والحروب الصليبية، ما يغنينا عن وقائع «واترلو» وترافلغار وأوسترليتز والسبعين.

إنَّ عارًا على التاريخ المصري أن يعرف المسلمُ الشرقيُّ في مصر من تاريخ بونابرت ما لا يعرف من تاريخ عمرو بن العاص، ويحفظ من تاريخ الجمهورية الفرنسية ما لا يحفظ من تاريخ الرسالة المحمدية، ومن مبادئ ديكارت وأبحاث دَارْوِن ما لا يحفظ من حكم الغزالي وأبحاث ابن رشد، ويروي من الشعر لشكسبير وهوجو ما لا يروي للمتنبي والمعري.

لا مانع من أنْ يُعَرِّبَ لنا المعرِّبون المفيد النافع من مؤلفات علماء الغرب، والجيد الممتع من أدب كُتَّابِهِم وشعرائهم، على أن ننظر إليه نظرة الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم؛ فلا نأخذ كل قضية علمية قضية مسلَّمةً، ولا نطرب لكل معنًى أدبيٍّ طربًا متدفِّعًا. ولا مانع من أن ينقل إلينا الناقلون شيئًا من عادات الغربيين ومصطلحاتهم في مدنيتهم، على أن ننظر إليه نظر من يريد التبسط في العلم بشئون العالم، والتوسع في التجربة والاختبار، لا على أن نتقلَّدها وننتحلها ونتخذها قاعدتنا في استحسان ما نستحسن من شئوننا، واستهجان ما نستهجن من عاداتنا.

وبعد، فليعلمْ كُتَّابُ هذه الأمة وقادتها، أنه ليس في عادات الغربيين وأخلاقهم الشخصية الخاصة بهم ما نحسدهم عليه كثيرًا، فلا يخدعوا أمتهم عن نفسها، ولا يفسدوا عليها دينها وشرقيتها، ولا يزينوا لها هذه المدنية الغربية تزيينًا يرزؤها في استقلالها النفسي، بعدما رزأتها السياسة في استقلالها الشخصيِّ.