عِبرةُ الهجرة | النظرات الإنصاف المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
المدنية الغربية |
إذا كان لك صديقٌ تحبه وتواليه، ثم هجمت من أخلاقه على ما لم يَحْلُ في نظرك ولم يتفق مع ما علمت من حاله وما اطَّرد عندك من أعماله، أو كان لك عدوٌّ تذمُّ طباعه، وتنقم منه شئونه، ثم برقت لك من جانب أخلاقه بارقة خير، فتحدَّثت بما قام في نفسك من مؤاخذة صديقك على الهفوة التي ذممتها، وحَمْدِ عدوك على الخلة التي حمدتها، عدَّك الناس مُتَلَوِّنًا، أو مُخَادِعًا، أو ذا وجهين، تمدح اليوم من تذمُّ بالأمس، وتذم في ساعةٍ من تمدح في أخرى، وقالوا: إنك تظهر ما لا تُضْمِرُ، وتخفي غير الذي تبدي. ولو أنصفوك لأعجبوا بك وبصدقك، ولأكبروا سلامة قلبك من هوى النفس وضلالها، ولسمَّوا ما بدا لهم منك اعتدالًا لا نفاقًا، وإنصافًا لا خداعًا؛ لأنك لم تَغلُ في حب صديقك غُلُوَّ من يعميه الهوى عن رؤية عُيُوبِه، ولم تتمسك من صداقته بالسبب الضعيف، فعُنيت بتعهُّدِ أخلاقه، وتفقُّدِ خِلاله، لإصلاح ما فسد من الأولى، واَعْوَجَّ من الأخرى.
إنَّ صديقك الذي يبسم لك في حالي رضاك وغضبك، وحلمك وجهلك، وصوابك وسقطك، ليس ممن يُغتبط بمودته، أو يُوثق بصداقته؛ لأنه لا يصلح أنْ يكون مرآتك التي تتراءى فيها، فتكشف لك عن نفسك وتصدُقك عن زَينك وشَينك، وحلوك ومُرِّك، وهو إما جاهلٌ متهورٌ في ميوله وأهوائه، فلا يرى غير ما تريد أن ترى نفسه لا ما يجب أن يراه، وإما منافقٌ مخادعٌ، قد علم أنَّ هواك في الصمت عن عيوبك وتجرير الذيول عليها، فجاراك فيما تريد ليبلغ منك ما يريد.
فهأنتذا ترى أنَّ الناس يعكسون القضايا ويقلبون الحقائق فيسمُّون الصادق كاذبًا، والكاذب صادقًا، ولكنَّ الناس لا يعلمون.