الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب البيع/باب الربا


باب الربا


قال الله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وقال : يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال : وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله واتفق أهل العلم أن الربا من الكبائر ، وأنه إذا وقع هذا العقد فهو باطل ، ولا يجب إلا رد رأس المال ، وإن كان ذو عسرة فحكمه الإنظار إلى الميسرة .

أقول : هذا الحكم يستفاد من كتاب الله تعالى . قال عز وجل : وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ومفهوم الشرط يدل على جواز أخذ مال المربى مع عدم التوبة ، ويستدل بهذه الآية أيضاً على جواز أخذ ما ربح المربى من الربا ، وهو ما زاد على رأس ماله سواء تاب أو لم يتب .

فالحاصل : أنه يجوز أخذ جميع ماله الربح ورأس المال مع عدم التوبة ، ويجوز أخذ رأس المال فقط معها .

يحرم بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا مثلاً بمثل يداً بيد ، فإذا إختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد والستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث . كحديث أبي سعيد بلفظ الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى . الآخذ والمعطي فيه سواء وهو في الصحيح . وسائر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما هكذا ليس فيها إلا ذكر الستة الأجناس . وفي الحجة البالغة ، وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها ، وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشئ منها . في شرح السنة اتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث عليها . وذهب عامتهم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها. إنما ثبت لأوصاف فيها ، ويتعدى إلى كل ما يوجد فيه تلك الأوصاف . وذهبوا إلى أن الربا ثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، وفي الأشياء الأربعة بوصف آخر . ثم إختلفوا في ذلك الوصف فقال الشافعي : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية . وقال أبو حنيفة : بعلة الوزن حتى أن الربا يجري في الحديد والنحاس والقطن . وقال الشافعي : في القديم ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الطعم مع الكيل والوزن كما قال سعيد بن المسيب . وفي الجديد ثبت فيها بوصف الطعم فقط ، وأثبت في جميع الأشياء المطعومة مثل : الثمار والفواكه والبقول والأدوية ، فدل على أن مأخذ الإشتقاق علة . وقال أبوحنيفة : ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الكيل حتى أن الربا يجري في الجص والنورة . وسيأتي ما يدفع ذلك كله .

وفي إلحاق غيرها بها خلاف هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها ، فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الاتفاق في الجنس وتحريم النساء فقط مع الإختلاف في الجنس والإتفاق في العلة . فقالت الظاهرية : أنه لا يلحق بها غيرها ورجحه في سبل السلام . وقال قد أردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميناها القول المجتبي انتهى . وتفصيل ذلك في مسك الختام . وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة . واختلفوا في العلة ما هي ؟ فقيل الاتفاق في الجنس والطعم . وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن والإقتيات . وقيل الجنس ووجوب الزكاة وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن . وقد يستدل لمن قال بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني والبزار عن الحسن من حديث عبادة وأنس أن النبي (ﷺ) قال : ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعاً واحداً وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به وقد أشار إلى هذا الحديث صاحب التلخيص ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة . قال أحمد : لا بأس به ، وقال يحيى بن معين : في رواية عنه ضعيف وفي أخرى ليس به بأس وربما دلس . وقال ابن سعد والنسائي ضعيف . وقال أبو زرعة شيخ صالح وقال أبو حاتم : رجل صالح انتهى . ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث . وقال في التقريب : صدوق سيء الحفظ ، ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم . فإنه حكم بالربا الذي هو من أعظم معاصي الله سبحانه وتعالى على غير الأجناس التي نص عليها رسول الله (ﷺ) وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التي هي من الكبائر ومن القطعيات الشرعية . ومع هذا فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع الجم والسواد الأعظم ، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط . وهذا الحديث كما يدل على إلحاق غير الستة بها كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن مع إتحاد الجنس . ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال : نهى رسول الله (ﷺ) عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله وفي لفظ لمسلم وعن كل ثمر بخرصه فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب . ورواية مسلم تدل على أهم من ذلك . ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أن النبي (ﷺ) نهى عن بيع اللحم بالحيوان وأخرجه أيضاً الشافعي ، وأبو داود في المراسيل ، ووصله الدارقطني في الغريب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة وتبعه ابن عبد البر وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار وفي إسناده ثابت بن زهير وهو ضعيف ، وأخرجه أيضاً من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضاً وأبو أمية ضعيف ، وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة ، ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر بخرصه ومما يدل على أن المعتبر الاتفاق في الوزن حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم بلفظ لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواء بسواء وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل . وعند مسلم والنسائي وأبو داود من حديث فضالة بن عبيد عن النبي (ﷺ) لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن ومما ورد في إعتبار الكيل حديث ابن عمر المتقدم وفيه وإن كان كرماً أن تبيعه بزبيب كيلاً وما سيأتي قريباً من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها .

أقول : أما إختلاف مثبتي القياس في علة الربا فليس على شئ من هذه الأقوال حجة نيرة ، إنما هي مجرد تظننات وتخمينات انضمت إليها دعاوي طويلة بلا طائل . هذا يقول العلة التي ذهب إليها ساقه إلى القول بها مسلك من مسالك العلة لتخريج المناط ، والآخر يقول ساقه إلى ما ذهب إليه مسلك آخر كالسبر والتقسيم . ونحن لا نمنع كون هذه المسالك تثبت بمثلها الأحكام الشرعية ، بل نمنع اندراج ما زعموه علة في هذا المقام تحت شئ منها ، فما أحسن الإقتصار على نصوص الشريعة وعدم التكليف بمجاوزتها والتوسع في تكليفات العباد بما هو تكليف محض . ولسنا ممن يقول بنفي القياس لكنا نقول بمنع التعبد به فيما عدا العلة المنصوصة وما كان طريق ثبوته فحوى الخطاب وليس ما ذكروه ههنا من هذا القبيل فليكن هذا المبحث على ذكر منك تنتفع به في مسائل كثيرة . قال الماتن رحمه الله في كتابه السيل الجرار : ولا يخفاك أن ذكره (ﷺ) للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سبباً لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث ، وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك ، وأي مناط ستفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال : مثلاً بمثل سواء بسواء وأما الإتفاق في الجنس والطعم كما قال الشافعي . واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع النبي (ﷺ) يقول : الطعام بالطعام مثلاً بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير فأقول : ذكر النبي (ﷺ) الطعام فكان ماذا ؟ وأي دليل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق ؟ وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب عليها القناطر وتبنى عليها القصور . ويقال هذا دليل على أن كل ماله طعم كان يبعه بماله متفاضلاً رباً . مع أن أول ما يدفع هذا الإستدلال الذهب والفضة اللذين هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة بذكر الأجناس التي تحرم فيها الربا . ومما يدفع القولين جميعاً أنه قد ثبت في الأحاديث أن النبي (ﷺ) ذكر العدد كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ لا تبيعوا الدينار بالدينارين وفي رواية من حديث أبي سعيد ولا درهمين بدهم ولا يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين ولا من غيرهم. وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعم وزادت عليه الإدخار والاقتيات فوسعوا الدائرة بما ليس بشئ .

والحاصل أنه لم يرد دليل به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها .

فإن إختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يداً بيد لما ثبت في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت عن النبي (ﷺ) قال الذهب الذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد وفي الباب أحاديث .

ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي لما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله (ﷺ) مثلاً بمثل سواء بسواء وزناً بوزن فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشئ بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة والمساواة ، ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم وغيره قال : نهى رسول الله (ﷺ) عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكليل المسمى من التمر فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم .

وإن صحبه غيره أي لا تأثير لمصاحبة شئ آخر لأحد المثلين . لحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره قال : إشتريت قلادة يوم خيبر بإثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي (ﷺ) فقال : لا تباع حتى تفصل وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب ، وقال به الشافعي وأحمد وإسحق ، وذهب جماعة منهم الحنفية إلى جواز التفاضل مع مصاحبة شئ آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها .

ولا بيع الرطب بما كان يابساً لحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وكذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة المتقدمات ، وفي الموطأ حديث سعد قال سمعت رسول الله (ﷺ) يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله (ﷺ) : أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم فنهى عن ذلك قلت : وعليه الشافعي ، وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شئ من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس مثل : بيع الرطب بالتمر ، وبيع العنب بالزبيب ، وبيع اللحم الرطب بالقديد ، وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة . وجوزه أبو حنيفة وحده ورده بالمتشابه من قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا والمتشابه من قياس في غاية الفساد وهو قولهم : الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين ، وإما أن يكون جنساً واحداً ، وعلى التقديرين فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر . قال ابن القيم : وإذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادماً للسنة أعظم مصادمة ، ومع أنه فاسد في نفسه ، بل هما جنس واحد ، أحدهما أزيد من الآخر قطعاً بنية ، فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتميزها ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال ، إذ هو ظن وحسبان ، فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس لو لم يأت به سنة ، وحتى لو لم يكن ربا ولا القياس يقتضيه لكان أصلاً قائماً بنفسه يجب التسليم والإنقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة انتهى .

إلا لأهل العرايا لحديث زيد بن ثابت عند البخاري وغيره أن النبي (ﷺ) رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلاً وفي لفظ في الصحيحين رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً وأخرج أحمد والشافعي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث جابر قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة وفي الباب أحاديث . والمراد أن النبي (ﷺ) رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطباً يأكلونه في شجره بخرصه تمراً . والعرايا جمع عرية وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة . وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . ومن خالف فالأحاديث ترد عليه . قلت : العرية فعيلة بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا قصده ، وهي عقد مقصود ، أو بمعنى فاعلة من عرى يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت ، وهي بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض والعنب في الشجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق . وقال محمد : وبهذا نأخذ ، ولفظ البخاري في باب تفسير العرايا قال مالك : العرية أن يعرى الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها منه بتمر . وقال ابن إدريس : العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يداً بيد ، ولا تكون بالجزاف . ومما يقويه قول ابن أبي حثمة بالأوسق الموسقة . وقال ابن إسحق : في حديثه عن نافع عن ابن عمر كانت العرايا أن يعرى الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين . وقال يزيد : عن سفيان بن حسين العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤا من التمر انتهى .

أقول : العرايا أصلها أن العرب كانت تطوع على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة ، وهي عطية اللبن دون الرقبة . قال الجوهري في الصحاح : العرية هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً بأن يجعل له ثمرها عاماً من عراة إذا قصده انتهى . فرخص (ﷺ) لمن لا نخل لهم أن يشتري الرطب على النخل بخرصها تمراً كما وقع في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت ، وفي لفظ في الصحيحين من حديثه رخص في العرايا يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً وفي لفظ لهما من حديثه ولم يرخص في غير ذلك فهذا جائز ، والذي أخبرنا بتحريم الربا ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعام ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأي ، وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة كما روي عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر عند الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك .

ولا بيع اللحم بالحيوان لما تقدم قريباً من حديث سعيد بن المسيب عند مالك أن رسول الله (ﷺ) نهى عن بيع الحيوان باللحم وقال سعيد : من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين . وقال نهى عن بيع الحيوان باللحم . وقال أبو الزناد : كل من أدركت من أهل العلم ينهون عن بيع الحيوان باللحم أي من جنسه وكذا بغير جنسه من مأكول وغيره . وفي شرح السنة ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى تحريمه ، وإليه ذهب الشافعي. وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلاً لكنه يتقوى بعمل الصحابة واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب . وذهب جماعة إلى إباحته واختارها المزني إذ لم يثبت الحديث وكان فيه قول متقدم ممن يكون بقول اختلاف ولأن الحيوان ليس بمال الربا بدليل أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين فبيع اللحم بالحيوان بيع مال الربا بما لا ربا فيه فيجوز ذلك في القياس إلا أن يثبت الحديث فنأخذ به وندع القياس . وقال محمد في الموطأ : وبهذا نأخذ من باع لحماً من لحم الغنم بشاة حية لا يدري اللحم أكثر أو مافي الشاة أكثر فالبيع فاسد مكروه ولا ينبغي وهذا مثل المزابنة والمحاقلة. وكذا بيع الزيتون بالزيت ودهن السمسم بالسمسم .

أقول : والأحسن عندي أن معنى الحديث : أن يقول للقصاب كم يخرج من هذه الشاة فيقول القصاب : عشرون رطلاً فيقول : خذ هذه الشاة بعشرين رطلاً من اللحم إن خرج أكثر فلك أو أقل فعليك . وهذا نوع من القمار . ورجع الحديث إلى القياس .

ويجوز بيع الحيوان بإثنين أو أكثر من جنسه لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي قال : أن النبي (ﷺ) اشترى عبداً بعبدين وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه . وأخرج أيضاً مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي (ﷺ) اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عمرو أن النبي (ﷺ) أمره أن يبعث جيشاً على إبل كانت عنده قال : فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس قال : فقلت يارسول الله الإبل قد نفذت وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال لي : ابتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى ينفذ هذا البعث قال : وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله (ﷺ) وفي إسناده محمد ابن اسحق وفيه مقال ، وقوي في الفتح إسناده . وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجارود من حديث سمرة قال : نهى النبي (ﷺ) عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه . وقد جمع الشافعي بين الحديثين بأن المراد به النسيئة من الطرفين فيكون ذلك من بيع الكالىء بالكالىء لا من طرف واحد فيجوز . وفي الموطأ أن علي بن أبي طالب باع جملاً له يدعى عصيفر بعشرين بعيراً إلى أجل . وأن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة . وسئل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل فقال : لا بأس بذلك . قال الشافعي : يجوز سواء كان الجنس واحداً أو مختلفاً ، مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم سواء باع واحداً بواحد أو بإثنين . وقال أبو حنيفة : لا يجوز . وفي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة خلاف .

ولا يجوز بيع العينة لحديث ابن عمر أن النبي (ﷺ) قال : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه . وقال الحافظ : رجاله ثقات . والمراد بالعينة بكسر العين المهملة بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن . ويدل على المنع من ذلك ما رواه أبو إسحق السبيعي عن إمرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقع فقالت : يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وأني ابتعته منه بستمائة نقداً فقالت لها عائشة : بئسما إشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله (ﷺ) قد بطل إلا أن يتوب أخرجه الدارقطني ، وفي إسناده الغالية بنت أيفع . وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح ، وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده . وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد، وجوز ذلك الشافعي وأصحابه . وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لهما البيهقي في سننه باباً .

أقول : أما بيع أئمة الجور وشراؤهم على وجه التجارة مع رعاياهم فهذه المسألة قد عمت وطمت وكادت تطبق الأرض وقد رأينا في كتب التواريخ حكايات عن ملوك مصر من الجراكسة ، وذلك من أشدها وأعظمها جرماً أنهم إذا أرادوا بيع شئ لهم أكرهوا التجار على شرائه بأضعاف ثمنه ، وإذا أراد أحد منهم الإمتناع ضربوه ضرباً مبرحاً ، وأخذوا ماله كرهاً . ومن ذلك أنهم يمنعون الناس من الشراء من أحد من التجار حتى ينفق ما يريدون بيعه من أموالهم فيرتفع ثمنه لأجل ذلك وينفق سريعاً . قال الماتن في حاشية الشفاء : وفي الديار اليمنية من هذا القبيل أنواعها منها : أنهم يرسمون صرف القرش بمقدار محدود من الضربة التي يضربونها من الفضة المغشوشة بالنحاس المغلوبة بالغش على وجه لا تكون الفضة الخالصة إلا مقدار نصف الفضة التي في القرش ، ثم أن الرعايا لا تمتثل هذا الرسم بل يتعاملون في المصارفة بزيادة على ذلك إلى مقدار الثلث أو الربع من ذلك الرسم ، فإذا كان النقد خارجاً من مال الدولة إلى غيرهم من الأجناد ونحوهم كان على ذلك الرسم الناقص ، وإذا كان النقد داخلاً إلى أموال الدولة من الرعايا لم يقبلوا منهم إلا القروش الفرانسة أو الصرف الزائد الذي يتعامل به الرعية فيما بينهم فيأخذون ثلث أموال الرعية أو ربعها ظلماً ، وإذا تزايد صرف القروش بين الرعايا أمر الأمراء بكسر السكة ويضربون ضربة أخرى مثل الكسورة في الخالص والغش أو أكثر منها غشاً ، ثم يمنعون التعامل بتلك الضربة الأولى فيبيعونها الرعايا وزناً من الدولة ، فيأتي ثمن القفلة منها بنصف قفلة من الضربة الأخرى وقد يزيد قليلاً ، أو ينقص قليلاً ثم يأخذون تلك السكة الأولى ويضربونها على تلك الضربة الأخرى ويدفعونها إلى الرعايا بصرف قد رسموه فيأكلون بهذا الذريعة نصف أموال العباد أو قريباً من ذلك ، والرعايا لا يقدرون على الإستمرار على الرسم الذي يرسمونه لهم في صرف القروش من تلك الضربة لأنهم يحتاجون إلى القروش الفرانسة في كثير من الحالات لكونه لا يتفق لهم في المعاملة لتجار سائر الأرض إلا هي . ومن الأنواع التي يأكلون بها أموال الرعايا أكلاً ظاهراً ويتجرون فيها إتجاراً بيناً ، أنهم يجعلون ضرائب على الباعة في الأسواق يجبرونهم على تسليمها شاؤا أم أبوا ، ثم يأذنون لهم بالزيادة في الأسعار فيبيعون بما شاؤا ويصنعون بالناس ما أرادوا وليس عليهم إلا الوفاء بالضرائب . فإذا استغاث مستغيث بالناس من زيادة الأسعار أو أراد منكر أن ينكر على الباعة ما يفعلونه ، قالوا : هذه الزيادات للدولة فيلقمون المنكر والمستغيث حجراً . وكم أعدد لك من هذه إلا حبولات الشيطانية التي هي السحت بلا شك ولا شبهة نسأل الله أن يصلح الجميع انتهى . ومن هذا القبيل أنواع المكوس على أهل الدور ، والتجارات ، والضرائب المتنوعة ، التي لا تكاد تنحصر على الرعايا في الأشياء المختلفة ، وكل ذلك من جهة الدول ولا شكوى في ذلك من الكفرة الفجرة ، الذي استولوا على أكثر البلاد الإسلامية ، بل من ملوك الإسلام وولاة المسلمين المدعين للتدين بالدين المحمدي والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وانظر في كتابنا أكليل الكرامة في تبيان مقاصد الأمامة يتضح عليك الحق في هذا الباب من الباطل والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . قال الماتن في حاشية الشفاء : اعلم أن باب المصارفة قد صار في هذه الأزمنة بحيث لا يتمكن من الخلوص عن الدخول به في الربا البحت أحد ، كما عرفناك فيما سبق . ثم أن الناس يحتاجون إلى التعامل بهذه الضربة في تصرفاتهم ، ويضطرون إلى المصارفة بها إلى القرش الفرنجي بذلك المقدار المرسوم لهم فيبيعون الفضة بالفضة مع العلم بالتفاضل وهذا رباً بحت . والعارف منهم يستروح إلى حيل قد رآها في كتب الفروع التي لا يرجع غالبها إلى دليل ، وهي لا تغني من الحق شيئاً . وها نحن نعرفك بغالب ما يظنونه من الحيل مخلصاً له من ورطة الربا ، فمن ذلك أن بعض المتفقهة الذين لا يعرفون لعلوم الإجتهاد رسماً قد أفتاهم بأنه لا ربا في المعاطاة ، وأن الصرف الذي يفعله الناس الآن هو معاطاة لعدم وقوع العقد . وهذا المقصر لا يدري بأن أدلة الكتاب والسنة مصرحة بتحريم الربا من غير نظر إلى عقد . بل لم يعتبر الله في البيع إلا مجرد الرضا . ومن ذلك ما قاله أيضاً بعض المصنفين في الفروع أن الغش في كل واحد من البدلين يكون مقابلاً للفضة في الآخر ، وهذا لا يرضى به عاقل قط . وكيف يرضى العاقل أن يبيع تسع أواقي فضة بأوقية نحاس . فإن كان مراد هذا القائل أن ذلك مخلص عن الربا سواء رضي كل واحد من المتبايعين بالبدل أم لم يرض فهذا جهل لا علم ومن ذلك أن الغش في كل واحد من البدلين يكون جريرة مسوغة للصرف . وهذا يرده حديث القلادة فإنه قد انضم إلى الفضة غيرها ولم يجعل النبي (ﷺ) ذلك مسوغاً للبيع بل أمر بالفصل والتمييز بين الفضتين . وقد ذكروا غير هذه الأمور مما هو من السقوط بمكان لا يخفى على من له أدنى فطنة . فإن قلت فهل من مخلص من هذه الورطة التي وقع الناس فيها ؟ قلت : نعم . ثم مخلص أرشد إليه رسول الله (ﷺ) وهو ما قاله لمن اشترى تمراً جيداً بتمر رديء أحد التمرين جمع والآخر جنيب وأخبره أنه اشترى الصاع الجيد بصاعين من الرديء فقال له رسول الله (ﷺ) أن ذلك ربا فسأله رسول الله كيف يصنع فقال : أنه يبيع التمر الرديء بالدراهم ثم يشتري بها التمر الجيد فهذه وسيلة شرعية ومعاملة نبوية فمن أراد أن يصرف الدراهم المغشوشة بالقروش الفرنجية فليشتر صاحب الدراهم مثلاً بمقدار صرف القرش سلعة من صاحب القرش ثم يبيعها منه بالقرش ولا مخلص من ذلك إلا هذه الصورة . ومن ظن أن ثم مخلصاً في غيرها فهو مخادع بنفسه بما هو صريح الربا المتوعية عليه بحرب من الله ورسوله وعلى الضارب لتلك الدراهم المغشوشة نصيبه من الإثم لأنه حمل الناس على الربا وألجأهم إلى الدخول فيه وسن لهم هذه السنة الملعونة لقصد الحطام وأكل أموال الناس بالباطل . ولو كان ممتثلاً لما أمر الله به من الرفق بالرعية والعدل في القضية لكان له بضرب الفضة الخالصة عن الغش مندوحة وأقل أحوال المسلم أن يكون في رعاية مصالح الرعية كالفرنج فيجعل ضربته كضربتهم حتى يرتفع الربا في المصارفة انتهى .