الرئيسيةبحث

الروح/المسألة الخامسة عشرة/فصل الرؤيا

فصل الرؤيا

و مما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال من الأرواح من القوة والضعف، والكبر والصغر، فالروح العظيمة الكبيرة ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت، بحسب تفارق الأرواح وكيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فالروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة من الصعود إلى اللّه والتعلق باللّه ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه، فإن كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر.
و قد تواترت الرؤيا من أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكبيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رئي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم [و عدتهم] [1] ضعف المؤمنين وقتلهم.
و من العجب أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها، فتألف وتتعارف، فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيره، فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته.
(قال) عبد اللّه بن عمرو: إن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم، وما رأى أحدهما قط، ورفعه بعضهم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
(و قال) عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا يجري فيه الروح وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه ما دام ذاهبا، فالإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل بالشمس.
و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الروح تمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه، فلو خرج الروح بالكلية لمات، كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة، ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة وضوؤها وشعاعها يملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه، حتى تأتي السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى، فإذا أراه الملك الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه، وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شي ء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه الصدق مما أراه اللّه عز وجل على حسب خلقه، وإن كان خفيا نزقا يحب الباطل والنظر إليه فإذا نام وأراه اللّه أمرا من خير أو شر رجعت روحه إليه فحيث ما رأى شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما يقظته، فكذلك لا يؤدي إلى قلبه، فلا يعقل ما رأى، لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل.
و هذا من أحسن الكلام، وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح وأحكامها.
و أنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شي ء له، ثم يمر بباطل ولهو من غناء وشبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه، ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه، فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة، ويلتبس عليه الحق بالباطل فهكذا شأن الأرواح عند النوم، وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك الاعتقادات والشبه الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن، وينضاف إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينهما وبينها ويضاف إلى ذلك عذاب آخر ينشئه اللّه ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها، وهذه هي المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه.
و الروح الزكية العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله، تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية، وينشئ اللّه سبحانه لها من أعمالها نعيما ينعمها به [في] [2] البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من حفر النار.

هامش

  1. وردت في المطبوع: وعدوهم، وهو تصحيف.
  2. زيدت على المطبوع لوضوح العبارة.