→ فصل الدليل على أن الأرواح خلقت بعد الأبدان | الروح - المسألة الثامنة عشرة - فصل معنى الآية: وإذا أخذ ربك ... المؤلف: ابن القيم |
فصل الخلق ثم التصوير ← |
فصل معنى الآية: وإذا أخذ ربك ... |
ونازع هؤلاء غيرهم في معنى الآية، وقالوا: معنى قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] أي أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما يشهد على أنه بارئه ونافذ الحكم فيه. فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع ﴿شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ﴾[9:17] يزيدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا نحن كفرة، وكما تقول: قد شهدت جوارحي بقولك تريد قد عرفته، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت، ومن هذا أعلامه وتبينه أيضا ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾[3:18] يريد أعلم وبين، فأشبه ذلك شهادة من شهد عن الحكام وغيرهم. هذا كلام ابن الأنباري.
و زاد الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكيا عن أصحابه: إن اللّه لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن وما لم يكن بعد مما هو كائن، كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في موضع من القرآن كقوله تعالى: ﴿وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾[7:50] ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ﴾[7:48] وقال: فيكون تأويل قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾[7:172] وإذ يأخذ ربك، وكذلك قوله ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ﴾[7:172] أي ويشهدهم بما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب، وكل من ولد بلغ الحنث وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب، صار كأن اللّه تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل وأراه من الآيات والدلائل على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله، وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ ولم يقدح فيه مانع من فهم إلا إذا مرّ به أمر يفزع إلى اللّه عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء ويشير إليها بإصبعه علما منه بأن خالقه تعالى فوقه. وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق، وجائز أن يقال: أقر وأذعن وأسلم، كما قال اللّه عز وجل ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[13:15].
قال: واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه»، وقوله عز وجل ﴿﴿1﴾﴾[33:72] ثم قال تعالى ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾[33:72]. فالأمانة هاهنا عهد وميثاق، فامتناع السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأجل خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب فيها ضروب نظم، فمنها قوله:
ضمن القنان لفقعس بثباتها ... إن القنان لفقعس لا يأتلى
والقنان جبل [1]، فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه له أنهم كانوا إذا [حل] [2] بهم أمر من هزيمة أو خوف لجئوا إليه، فجعل ذلك كالضمان لهم، منه قول النابغة:
كأجارف الجولان [3] هلل ربه ... وحوارن [4] منها خاشع متضائل
وأجارف الجولان جبالها وحوران الأرض التي إلى جانبها، وقال هذا القائل: إن في قوله تعالى: ﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172]﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] دليلا على هذا التأويل، لأنه عز وجل أعلم أن هذا الأخذ للعهد عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. والغفلة هاهنا لا تخلوا من أحد وجهين: إما أن تكون عن يوم القيامة أو عن أخذ الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر سبحانه في كتابه أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط، وأما أخذ الميثاق الأطفال والإسقاط، إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم كما قال المخالف فهم لم يبلغوا بعد أخذ هذا الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه فيجحدونه وينكرونه، فمتى تكون هذه الغفلة منهم وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز ولا يكون محال. وقوله تعالى ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم أو من آبائهم، فإن كان منهم فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الجحد عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم فالأمة مجمعة على أن ﴿لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾[35:18] كما قال عز وجل في الكتاب وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أن اللّه مسح ظهر آدم وأخرج منه ذريته فأخذ عليهم العهد، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اقتص قول اللّه عز وجل فجاء مثل نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل. قال: وهذا شبيه القصة بقصة قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾[3:81]، فجعل سبحانه ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة من ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾[3:81]، ثم قال للأمم ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾[3:81] فجعل سبحانه بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم وجعل معرفتهم به إقرارا منهم.
قلت: وشبيه به أيضا قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾[5:7] فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [13:20] وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ60وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ61﴾ [36:60—61] فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله، ومثله قوله تعالى لبني إسرائيل ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾[2:40] ومثله ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾[3:187] وقوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [33:7]، فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم، وهذا الميثاق الذي لعن سبحانه من نقضه، وعقبه بقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾[5:13] فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله، وقد صرح به في قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [2:63] ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سورة مدنية، خاطب بالتذكير بهذا الميثاق فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله، ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية، ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأن فاطرهم ربهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره ونهيه ووعده ووعيده.
و نظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:
- أحدها: أنه قال ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾[7:172] ولم يقل آدم، وبنو آدم غير آدم.
- الثاني: أنه قال {قرآن|س=7|آ=172|مِنْ ظُهُورِهِمْ}} ولم يقل ظهر، وهذا بدل بعض من كل أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
- الثالث: أنه قال {قرآن|س=7|آ=172|ذُرِّيَّتَهُمْ}} ولم يقل ذريته.
- الرابع: أنه قال {قرآن|س=7|آ=172|وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ}} أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار لا يذكر شهادة قبلها.
- الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ «4» والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُ﴾[4:165].
- السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة {قرآن|س=7|آ=172|إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}} ومعلوم أنهم بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت فهذا لا يذكره أحد منهم.
- السابع: قوله تعالى أَوْ تَقُولُوا ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد إحداهما أن لا يدعو الغفلة، والثانية أن لا يدعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد [يتبع] [5] في تقليده [غيره] [6].
- الثامن: قوله تعالى: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[7:173] أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه. وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار.
- التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [43:87] أي: فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن اللّه ربهم وخالقهم؛ وهذا كثير في القرآن فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[14:10] فاللّه تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم ولا أقام به عليهم حجة.
- العاشر: أنه جعل هذا آية: وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾[6:55] أي مثل هذا التفصيل والتبيين نفصل الآيات لعلهم يرجعون من الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإيمان.
و هذه الآيات التي فصّلها هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية [و هي] [7] آيات في نفوسهم وذواتهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى، مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدق رسله، وعلى المعاد والقيامة. ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مخلوق مصنوع حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون حدث بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده، ليس كمثله شيء.
و هذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها، ليست بمكتسبة، وهذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] مطابقة لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» [8] ولقوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [30:30]﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾[30:31].
و من المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري، ومنهم من لم يذكر إلا القول الأول فقط، ومنهم من حكى القولين كابن الجوزي والواحدي والماوردي وغيرهم.
و قال الحسن بن يحيى الجرجاني: فاعترض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن اللّه مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره»، وقال: إن هذا مانع من جواز التأويل ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر إن كان أخذ الميثاق عليهم بعد البلوغ وتمام العقل، قيل له: إن معنى ثم ردهم في ظهره ثم يردهم في ظهره كما قلنا إن معنى أخذ ربك: يأخذ ربك، فيكون معناه: ثم يردهم في ظهره بوفاتهم، لأنهم إذا ماتوا ردوا إلى الأرض للدفن، آدم خلق منها ردوا فيها، فإذا ردوا فيها فقد ردوا في آدم وفي ظهره، إذ كان آدم خلق منها وفيها رد، وبعض الشيء من الشيء، وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه لأنه عز وجل قال:
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] ولم يذكر آدم في الفصل إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم أولاده، وفي الحديث: أنه «مسح ظهر آدم»، فلا يمكن رد ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.
قال الجرجاني: وأنا أقول: ونحن [نذهب] [9] إلى ما روي في الآية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أمثل، وله أقبل وبه آنس، واللّه ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى.
على أن بعض أصحابنا من أهل السنّة قد ذكر في الرد على هذا القائل معنى يحتمل ويسوغ في النظم الجاري ومجاز العربية بسهولة، وإمكان من غير تعسف ولا استكراه، وهو أن يكون قوله تعالى: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مبتدأ خبر من اللّه عز وجل عما كان منه في أخذ العهد عليهم، وإذ تقتضي جوابا يجعل جوابه قوله تعالى: قالُوا بَلى وانقطع هذا الخبر بتمام قصته، ثم ابتدأ عز وجل خبرا آخر يذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة، فقالوا: شهدنا، يعني نشهد، كما قال الحطيئة:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
بمعنى يشهد الحطيئة، يقول تعالى: نشهد أنكم ستقولون يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أي عما هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر، ثم أضاف خبرا آخر فقال: أَوْ تَقُولُوا بمعنى وأن تقولوا، لأن أو بمعنى واو النسق، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾[76:24] فتأويله: ونشهد أن تقولوا يوم القيامة: ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] أي أنهم أشركوا وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا فجرينا على مذاهبهم واقتدينا بهم، فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنب في ذلك لهم، قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[43:22] يدل على ذلك قولهم: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[7:173] أي حملهم إيانا على الشرك، فتكون القصة الأولى خبرا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم، والقصة الثانية خبر عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار.
و قال: فيما ادعاه المخالف أنه تفاوت فيما بين الكتاب والخبر لاختلاف ألفاظهما فيهما قولا يجب قبوله بالنظائر والعبر التي تأيد بها لمخالفته، فقال: إن الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن اللّه مسح ظهر آدم، أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكر اللّه تعالى في الكتاب بعضها ولم يذكر كلها ولو أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم به سوى هذه الزيادة التي أخبر بها مما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما يضمنه اللّه كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت بل كان زيادة في الفائدة.
و كذلك الألفاظ إذا اختلف في ذاتها وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب تناقضا كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم فذكر مرة أنه خلق من تراب ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة إذ الصلصال غير الحمأ، والحمأة غير التراب إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.
فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته معنى واحد في الأصل إلا أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح ظهر آدم زيادة في الخبر عن اللّه عز وجل ومسحه عز وجل ظهر آدم واستخراج ذريته منه مسح لظهور ذريته واستخراج ذريتهم من ظهورهم كما ذكر تعالى لأنا قد علمنا أن جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه لكن لما كان الطبق الأول من صلبه ثم الثاني من صلب الأول ثم الثالث من صلب الثاني جاز أن ينسب ذلك كله إلى ظهر آدم لأنهم فرعه وهو أصلهم.
و كما جاز أن يكون ما ذكر اللّه عز وجل أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم جاز أن يكون ما ذكر صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه استخرجه من ظهر آدم من ذريته إذ الأصل والفرع شيء واحد، وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال عز وجل:
﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِي﴾[26:4] والخبر في الظاهر عن الأعناق والنعت للأسماء المكنية فيها وهو مضاف إليها، كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخير، ولا يحتمل أن يكون قوله خاضعين للأعناق، لأن وجه جمعها خاضعات ومنه قول الشاعر:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
فالصدر مذكر، وقوله شرقت أنت لإضافة الصدر إلى القناة.
هامش
- ↑ قيل هو جبل لبني أسد، وقيل أنه جبل بأعلى نجد.
- ↑ وردت في المطبوع: حاز.
- ↑ جبل بالشام.
- ↑ موضع بالشام.
- ↑ زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.
- ↑ وردت في المطبوع: لغيره.
- ↑ زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.
- ↑ أخرجه أبو داود في كتاب السنّة باب في ذراري المشركين (5/ 86) برقم 4714 وتمام الحديث:
«فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء»؟ قالوا: يا رسول اللّه، أ فرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: «اللهم أعلم بما كانوا عاملين»، وأخرج هذا الحديث بمعناه من حديث أبي سلمة بن عبد اللّه عن أبي هريرة البخاري في كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي الخ، وفي القدر باب اللّه أعلم بما كانوا يعملون (8/ 153) وفي كتاب التفسير باب تفسير سورة الروم (6/ 143)، وأخرجه مسلم في كتاب القدر باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة برقم 2658، وأخرجه الترمذي مختصرا من حديث أبي صالح عن أبي هريرة في كتاب القدر باب كل مولود يولد على الفطرة برقم 2139. - ↑ ساقطة في المطبوع.