الرئيسيةبحث

الرسالة التدمرية/2



القاعدة الثانية : في الايمان بما أخبر به الرسول

إن ما أخبر به الرسول عن ربه فانه يجب الإيمان به - سواء عرفنا معناه أو لم نعرف - لأنه الصادق المصدوق فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وان لم يفهم معناه

وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع أن هذا الباب يوجد عمته منصوصا في الكتاب والسنة متفق عليه بين الأمة

وما تنازع فيه المتأخرون نفيا واثباتا فليس على أحد بل ولا له : أن يوافق احد على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده فإن أراد حقا قبل وان أراد باطلا رد وان اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك

فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقا كما اذا أريد بالجة نفس العرش أو نفس السموات وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما اذا اريد بالجهة ما فوق العالم

ومعلوم انه ليس في النص اثبات لفظ الجهة ولا نفيه كما فيه اثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج اليه ونحو ذلك وقد علم أن ما ثم موجود الا الخالق والمخلوق والخالق مباين للمخلوق - سبحانه وتعالى - ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذابه شيء من مخلوقاته

فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة انها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العلم مباين للمخلوقات

وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فان أردت الأول فهو حق وان أردت الثاني فهو باطل

وكذلك لفظ التحيز : ان أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } وقد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال : [ يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ] وفي حديث آخر : [ وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة ] وفي حديث ابن عباس : [ ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كمحردلة في يد أحدكم ]

وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات : أى مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها : فهو سبحانه كما قال أئمة السنة : فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه

القاعدة الثالثة : في ظاهر النصوص

إذا قال القائل : ظاهر المنصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد

فإنه يقال : لفظ الظاهر فيه اجمال واشتراك فإن كان القائل يعبقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذى وصف به نفسه لا سظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال والذي نجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين :

تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلون محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل

( فالأول ) كما قالوا في قوله : ( عبدي جعت فلم تطعمني ) الحديث وفى الأمر الآخر : ( الحجر الاسود يمين الله في الارض فمن صافحه أو قبله فكانما صافح الله وقبل يمينه ) وقوله : [ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ] فقالوا : قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق

فيقال لهم : لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلتم أنها لم بد ل إلا على حق أما ( الواحد ) فقولة : [ الحجر الأسود يمين الله في الارض فمن صافحه وقبله فكانما صافح الله وقبا يمينه ] صريح في أن الحجر الاسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه لانه قال : [ يمين الله في الارض ] وقال : [ فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينة ] ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرا لأنه محتاج إلى التأويل مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس ؟

وأما الحديث الآخر : فهو في الصحيح مفسرا : [ وقول الله عبدي جعت فلم تطعمني فيقول : رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي علانا جاع فلو أطعمته لو جدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول : رب كيف أعوذك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده ]

وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه جوعه ومرضه مرضه مفسرا ذلك بأنك لو أطعمته لو جدع ذلك عندي ولو عدته لو جدتني عنده فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل وأما قوله قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن : فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصبع ولا مماس لها ولا أنها في جوفه ولافي قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي ميقتضي مباشرته ليديه ؟ وإذا قيل : السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والارض ونظائر هذا كثيرة

ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيرا لما ليس مثله كما قيل في قوله { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } ؟ فهذا ليس مثل هذا لأنه هنا أصناف الفعل إلى الأيدي : فصار شبيها بقوله : { بما كسبت أيدي } وهنا أضاف الفعل إليه فقال : { لما خلقت } ثم قال { بيدي }

وأيضا : فانه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفي اليدين ذكر لفظ التثنية كما في قوله : { بل يداه مبسوطتان } وهناك أضاف الأيدى الى صيغة الجمع فصار كقوله : { تجري بأعيننا }

وهذا في الجمع نظير قوله : { بيده الملك } و { بيدك الخير } في المفرد فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسة تارة بصيغة المفرد مظهرا أو مضمرا وتارة بصيغة الجمع كقوله : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وأمثال ذلك

ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه وربما تدل على معاني أسمائه وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك فلو قال : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } لما كان كقوله : { مما عملت أيدينا } وهو نظير قوله : { بيده الملك } و { بيدك الخير } ولو قال { خلقت } بصيغة الإفراد لكان مفارقا له فكيف اذا خلقت بيدي ؟ بصيغة التثنية هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتوابرة واجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن كما هو مبسوط في موضعه مثل قوله : المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين : الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا وأمثال ذلك

وان كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها - الظاهر هو المراد في الجميع - فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا ظاهره وان ظاهر ذلك مراد : كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا

وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة عالم حقيقة قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حى عليم قدير فكذلك اذا قالوا في قوله تعالى { يحبهم ويحبونه } { رضي الله عنهم ورضوا عنه } وقوله : { ثم استوى على العرش } انه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواءا كاستواء المخلوق ولا حبا كحبه ولا رضا كرضاه فان كان المستمتع يظن أن ظاهر الصفات تماثل الصفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراد وان كان يعتقد أن ظاهرها مايليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مرادا إلا بدليل يدل على النفي وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحدا

وبيان هذا أن صفاتنا منها ما قي أعيان وأجسام وهي ابعاض لنا كالوجه واليد : ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا : كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدر

ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير : لم يقل المسلمون إن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك عي حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا بل صفة الموصوف تناسبه

فاذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق اليه وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب اليه كالمنسوب اليه كما قال ﷺ [ ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي

القاعدة الرابعة : في مغايرة صفات الله لصفات المخلوقين

وهو أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها أو أمثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين ثم يريد أن ينفي ذلك الذى فهمه فيقع في ( أربعة أنواع ) من المحاذير :

( أحدها ) كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل

( الثاني ) أنه اذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من اثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيء الذي بالله ورسوله - حيث ظن أ الذي يفههم من كلامه8ما هو التمثيل الباطل - قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من اثبات الصفات لله والمعاني الالهية اللائقة بجلال الله تعالى

( الثالث ) أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز و جل بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب

( الرابع ) أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات فيكون قد عطل به صفات الكمال التى يستحقها الرب ومقله بالمنقوصات والمعدودات عطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمقيل بالخلوقات فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته

( مثال ) ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعو والفوقية على المخلوقنات واستتوائه على العرش - فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه لا مباينه ولا مداخله

فيظن المتوهم أنه اذا وصف الاستواء على العرش : كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام كقوله : { وسخر لكم الفلك } { ومن الأنعام } { لتستووا على ظهوره }

فيتخيل له أنه اذا كان مستويا على العرش كان محتاجا اليه كحاجة المستوى على الفلك والأنعام فلو غرقت السفينة لسقط المستوى عليها ولو عثرت الدابة لخر المستوى عليها فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى

ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول : ليس استواؤه بقعود ولا استقرار ولايعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال ما يقال في مسمى الاستواء فان كانت الحاجة داخلة في ذلك : فلا فرق بين الاستتواء والقعود ولاستقرار وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فاثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم

وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقا معروفة

ولكن المقصود هنا أنه يعلم خطأ من ينفي الشيء مع اثبات نظيره كأن هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك لأنه أضاف الاستوناء إلى نفسه الكريمة كما أضاف اليه سائر أفعاله وصفاته

فذكر أنه خلق ثم استوى كما ذكر أنه قدر فهدى وأنه بنى السماء بأيد ونكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى وأمثال ذلك فلم يذكر استواء مطلقا يصلح للمخلوق ولا عاما يتناول المخلوق كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته وإنما ذكر استواءا أضافه إلى نفسه الكريمة

فلو قدر - على وجه الفرض الممتنع - أنه هو مثل خلقه - تعالى عن ذلك - لكان استواؤه مثل استواء خلقه أما إذا كان هو ليس مماثلا لخلقه بل قد علم أنه الغني عن الخلق للعرش ولغيره أن كل ما سواء مفتقر إليه هو الغني عن كل ما سواه وهو لم يذكر إلا استواءا يخصه لم يذكر استواءا يتناول غيره ولا يصلح له - كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به - فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا اليه وأنه لو سقط العرش لخر من عليه ؟ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا

هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتواهمه أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق ؟

بل لو قدر أن جاهلا فهم مثل هذا وتوهمه لبين له أن هذا يجوز وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلا كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه فلما قال سبحانه وتعالى : { والسماء بنيناها بأيد } فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمى المحتاج الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان ؟ ثم قد علم ان الله تعالى خلق العالم بعضه فووق بعض ولم يجل عاليه مفتقرا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض والسحاب أيضا فوق الأرض وليس مفتقرا الى أن تحمله والسموات فوق الأرض وليست مفتقرة الى حمل لها فالقلي الاعلى رب كل شيء وملكه إذا كان فوق جميع خلقه : كيف يجب أن يكون محتاجا الى خلقه أو عرشه ؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات ؟ وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه وتعالى أحق به وأولى

وكذلك قوله : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق وان كان إذا قلنا : إن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك فان حرف ( في ) متعلق بما قبله وبما بعده - فهو بحسب المضاف اليه ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان وكون الجسم في الحيز وكون العرض في الجسم وكون الوجه في المرآة وكون الكلام في الورق فان لكل نوع من هذه الأنواع خاصة يتميز بها عن غيره وان كان حرف ( في ) مستعملا في ذلك فلو قال قائل : العرش في السماء أو في الأرض ؟ لقيل الجنة في السماء ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات بل ولا الجنة

فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال [ إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن ] فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك مع أن الجنة في السماء يراد به العلو سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها قال تعالى { فليمدد بسبب إلى السماء } وقال تعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلى الأعلى وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله : إنه في السماء أنه في العلو وأنه فوق كل شيء وكذلك الجارية لما قال لها أين الله ؟ قالت في السماء إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها وإذا قيل : العلو فانه يتناول ما فوق المخلوقات كلها فما فوقها كلها هو في السماء ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله كما لو قيل : ا لعرش في السماء فانه ى يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق وان قدر أن السماء المراد بها الأفلاك : كان المراد انه عليها كما قال : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وكما قال : { فسيروا في الأرض } كما قال : { فسيحوا في الأرض } يقال : فلان في الجبل في السطح وإن كان على أعلى شيء فيه

القاعدة الخامسة : العلم بما أخبرنا به

أنا نعلم لما أخبرنا به من وجه دون وجه فإن الله قال : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال : { أفلم يدبروا القول } وقال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } وقال : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }

فأمر بتدبر الكتاب كله

وقال تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب }

وجهور سلف الأمه وخلفها على أن الوقف على قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } وهذا هو المأثور عن أبى بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروى عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أوجه وتفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بحهالته وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب

وقد روى عن مجاهد وطائفة : أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله وقد قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته الى خاتمته أقفه عند كل آية واسأله عن تفسيرها ولا منافاة بين القولين عند التحقيق

فإن لفظ ( التأويل ) وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله - أن ( التأويل ) هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ولدليل يقترن به وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها وهل ذلك محمود أو مذموم أو حق أو باطل ؟

( الثاني ) : أن التأويل بمعنى التفسير وهذا الغلب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله - من المصنفين في التفسير - واختلف علماء التأويل ومجاهد إمام المفسرين قال الثوري إذا جاءت التفسير عن مجاهد فحسبك به وعلى تفسيره يعتمد الشافعى وأحمد والبخاري وغيرهما فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره

( الثالث ) من معاني التأويل : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق }

فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون : من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحر ذلك كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد أبواه واخوته قال : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا

الثاني : هو تفسير الكلام وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله

وهذا ( التأويل الثالث ) هو عين ما هو موجود في الخارج ومنه قول عائشة : ( كان النبي ﷺ في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى ) يتأول القرآن يعنى قوله : { فسبح بحمد ربك واستغفره } وقول سفيان بن عيينة : السنة هي تأويل الأمر والنهي فإن نفس الفعل المأمور به : هو تأويل الأمر به ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر والكلام خبر وأمر

ولهذا يقول أبو عبيد وغيره : الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء لأن الفقها ء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه لعلهم بمقاصد الرسول ﷺ كما يعلم أتباع بقراط وسيبوبه ونحوها من مقاصدها ما لا يعلم بمجرد اللغة ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر

إذا عرف ذلك : فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات وتأويل ما أخبر الله به تعالى من الوعد والوعد هو نفس ما يكون من الوعد والوعد

ولهذا ما يجيء في الحديث يعمل بمحكمة ونؤمن بمتشابهه لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهه يشبه معانيها ما نعمله في الدنيا كما أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وخمرا ونحو ذلك وهذا يشبه ما في الدنيا لفظا ومعنى ولكن ليس مثله ولا حقيقته

فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقة كحقيقته

ولاخبار عن الغاءب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالاسماء معلومة معانيها في الشاهد ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به : من الجنة والنار علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك

وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مقل التى لم تكن بعد وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذى لا يعلمه إلا الله

ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } قالوا : استواء معلوم والكيف فجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك قال ربيعة شيخ مالم قبله : الاستواء معلوم والكيف مجهول ومن الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا الإيمان

فبين أن الاستواء معلوم وان كيفية ذلك مجهول ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة : ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله فلا يعلم ما هو إلا هو وقد قال النبي ﷺ : [ لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] وهذا في صحيح مسلم وغيره وقال في الحديث الآخر : [ اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ] وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم وقد أخبر فيه أن الله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها علم الغيب عنده لا يعلمها غيره والله سبحانه أخبرنا انه عليم قدير سميع بصير غفور رحيم الى غير ذلك من أسمائه وصفاته فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدر وبين الرحمة والسمع والبصر ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها فهى متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات وكذلك أسماء النبي ﷺ مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب

كذلك أسماء القرآن منل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء وغير ذلك ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها هل هي من قبيل المترادفة - لاتحاد الذات - أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات ؟ كما إذا قيل : السيف والصارم والمهند وقصد بالصارم معنى الصرم وفي المهند النسبة الى الهند والتحقيق أنها مترادقة في الذات متباينة في الصفات

ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه وفى موضع آخر منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه قال الله تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } فأخبر أنه أحكم آياته كلها وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } فأخبر أنه كله متشابه زالحكم هو الفصل بين الشيئين فالحكم بين الخصمين والحكم فصل بين المتشابهات عملا وعملا اذا مر بين الحق والباطل والصدق والكذب والنافع والضار وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار فيقال : حكمت السفيه وأحكمته اذا أخذت على يديه وحكمت الدابة وأحكمتها اذا جعلت لها حكمة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام واحكام الشيء اتقانه

فإحكام الكلام إتقانه بتميز الصدق من الكذب في أخباره وتمييز الرشد من الغي في أوامره والقرآن كله محكم بمعنى الابقان فقد سماه الله حكيما بقوله : { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } فالحكيم بمعنى الحاكم كما جعله يقص بقوله : ( إن هذا القرآن يقص على بني اسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) وجعله مفتيا في قوله : { قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } أى مايتلى عليكم يفتيكم فيهن وجعله هاديا ومبشرا في قوله { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات }

وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهو الاختلاف المذكر في قوله : { إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك }

فالتشابه هنا : هو تماثل الكلام وتناسبه : بحيث يصدق بعضه بعضا فاذا أمر بأمر بنقيضه في موضع آخر بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته إذا لم يكن هناك نسخ وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك بل يخبر بثبرته أو ثبوت ملزوماته و اذا أخبر بنفي شيء لم يثبته بل ينفيه أو ينفي لوازمه بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضا فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر

فالاقوال المختلفة هنا : قي المتضادة والمتشابهة : هي المتوافقة

وهذا التشابه يكون في المعاني وان اختلفت الألفاظ فإذا كانت المعاني يوافق بعضها تعضا ويعضد بعضها بعضا ويناسب تعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ويقتضي عضها بعضا : كان الكلام متشابها بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضا

فهذا التشابه العالم : لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فان الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا بخلاف الإحكام الخاص فانه ضد التشابه الخاص والتشابه الخاص هو متشابهة الشيء لغيره9 من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشبه على بعض الناس انه هو أو هو مثله وليس كذلك

ولإحكام هو الفصل بينهما بحيث ايشبه أحدهما بالآخر وهذا التشابه إنما يكون بقدر كشرك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما

ثم من الناس من لا يهدي للفصل بينهما فيكون متشبها عليه ومنهن من يهتدي إلى ذلك فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية بحيث يشبه على بعض الناش دون بعض ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله فعلم العلماء أنه ليس مثله وان كان مشبها له من بعض الوجوه ومن هذا الباب أشبه التي يضل بها بعض الناس وهي ما يشبه فيها الحق والباطل حتى تشتبه على بعض الناس ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه

فمن عرف الفصل بين الشيئين : اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد وما من شيئين الا ويجتمعان في شيء وفترقان في شيء فبينهما أشتباه من وجه وافتراق من وجه فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه والقياس الفاسد ى ينضبط كما قال الإمام أحمد : أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة و القياس الخطأ أنما يكون في المعاني المتشابهة

وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات حتى آل الأمر الى من يدعى التحقيق والتوحيد والعرفان منهن الى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء وأن يكون اياه أو متحدا به أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود كلها حتى ظنوا وجودها وجود فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه وذلك أن الموجودات تشرك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحد ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع

وآخرون توهموا أنه اذا قيل : الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم التشبية والتركيب فقالوا : لفظ الوجود مقول بالاشبراك اللفظي فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم الى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات

وطائفة ظنت أنه اذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موحود مشترك فيه وزعموا أن في الخارج عن الاذهان كليات مطلقة مثل وجود مطلق وحيوان مطلق وجسم مطلق ونحو ذلك فخالفوا الحس والعقل والشرع وجعلوا ما في الاذهان ثابتا في الاعيان وهذا كله من نوع الاشتباه

ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والإختلاف وهؤلاء لايضلون بالمتشابه من الكلام لانهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق

وهذا كما أن لفظ ( إنا ) و ( نحن ) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون به لا شركاء له فذا تمسك النصراني بقوله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر } ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } ونحو ذلك مما لا يحصل إلا معنى واحدا يزيل ما هناك من الاشتباه وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطائفة المخلوقات من الملائكة وغيرهم

وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات وماله من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله فلا يعلمهم إلا هو { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله بخلاف الملك من البشر إذا قال : قد أمرنا لك بعطاء فقد علم أنه هو وأعوانه مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك

والله - سبحانه وتعالى - لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة

وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة وان زال الإشتباه بما يميز أحد النوعين : من أضافة أو تعريف كما اذا قيل : فيها أنهار من ماء فهناك قد خص هذا الماء بالجنة وظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا

لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين - مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - من التأويل الذي لا يعلمه الا الله

وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذي يختص بها التى هي حقيقة لا يعلمها الا هو : ولهذا كان الائمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم - من الذي يحرفون الكلم عن مواضعه - تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال أحمد : في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله

وانما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه وان كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم تأولوه على غير تأويله ولم ينفي مطلق لفظ التأويل كما تقدم : من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به فذلك لا يعاب بل يحمد ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها فذلك لا يعلمه الا هو وقد بسطنا في غير هذا الموضع

ومن لم يعرف هذا : اضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل وانه يجب إجراء اللفظ ظاهره ويحتجون بقوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل وهذا تناقض منهم لان هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه الا الله وهم ينفون التأويل مطلقا

وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها الا هو وأما التأويل المذموم والباطل : فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله الى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل ويصرفونه الى معان هين نظير المعاني التي نفوها عنه فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه فإن كان الثابت حقا ممكنا كان المنفي مثله وان كان المنفي باطلا ممتنعا كان الثابت مثله

وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقا ويحتجون بقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد أو بما لا معنى له أو بما لا يفهم منه شيء

وهذا مع أنه باطل فهو متناقض لانا إذا لم نفهم منه شيئا لم يجز لنا أن نقول له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه ولا مكان أن يكون له معنى صحيح وذلك المعنى الصحيح : لا يخالف الظاهر المعلوم لنا فانه لا ظاهر له على قولهم فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا

ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير

فان تلك المعني التي دل عليها قد لا نكون عارفين بها ولا إذا لم ننفهم اللفظ ومدلوله فلان لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى إن إشعار الفظ بما يراد به أقوى من إشعار بما لا يراد به فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني ولا يفهم منه معنى أصلا لم مشعرا بما أريد به فلأن لا يكون مشعرا بما لم يرد به أولى

فلا يجوز أن يقال : إن هذا اللفظ متأول بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح فضلا عن أن يقال : إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله

اللهم الا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالحق

فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لا بد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره لكن اذا قال هؤلاء : إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر أو انها تجري على المعاني الظاهرة منها كانوا متناقضين

وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهناك معنى : في سياق واحد من غير بيان كان تلبيسا

وان أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ أي تجري على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان أبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضا لأن من اثبت تأويلا أو نفاه فقد فهم معنى من المعاني

وبهذا التقسيم : يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب

القاعدة السادسة : فيما يجوز وما لا يجوز على الله من النفي والإثبات

انه قائل أن يقول : لا بد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز

فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على إن هذا تشبيه قيل له : إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل وان أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو كشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجزو على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجيب له

ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فانه يعلم بضرورة العقل امتناعه ولا يلزم من نعي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه كما في الأسماء والصفات المتواظئة ولكن من الناس من يجعل التشبه مفسرا بمعنى من المعاني ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا : انه مشبه ومنازعهم يقولون : ذلك المعنى ليس من التشبيه وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل

وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون : كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل فمن قال إن الله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الإعتبار ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون : أخص وصفه لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وانه على كل شيء قدير وأنه إله واحد ونحو ذلك والصفة لا توصف ب شيء من ذلك

ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات إنها قديمة بل يقول : الرب بصفاته قديم

ومنهم من يقول ك هو قديم وصفته قديمة ولا يقول : هو وصفاته قديمان

ومنهم من يقول : هو وصفاته قديمان ولكن يقول : ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه فان القدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات والافالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدم

وقد يقولون : الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات ألها ولا ربا كما أن النبي محدث ووصفاته محدثة وليست صفاته نبيا فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل : كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ثم تقول لهم أولئك : هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفعه عقل والسمع وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية

والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك

ولكن يقولون الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا يدخل في النص

وأما العقل : فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة

وكذلك أيضا يقولون : إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه

وكذلك يقول : هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك ويقولون : الصفا ت قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسما فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه فلهذا تجد هؤلاء يسمعون من أثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمعون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحو مشبها كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خيرية كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه

وقد يقولون : إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات والعاقل إذ تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق

وأصل كلا م هؤلاء كلهم على إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة

والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمين وتارة بالاستفصال

ولا ريب أن قولهم بماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك فأما يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك

والمقصود : هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كالطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء علة أن من أحبهما فقد بغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصي

وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء : إن الشيئين لا يشبهان من وجه ويختلفان من وجه أكثر العقلاء على خلاف ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها وأيضا فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام عم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم

وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم : كان هذا وحه كافيا في نفي ذلك لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه لكن نفي التجسيم يكون مبينا على نفي هذا التشبيه بأن يقال : لو ثبت له كذا وكذا لكان جسيما ثم يقال : والأجسام متماثلة فيجب اشتراكها فيما يجب ونجوز ويمتنع وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا الملك معتمدا في ننفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله وإنما المقصود هنا : أن مجرد الإعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن نفي المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد : وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفي مماثله بشيء من المخلوقات

( فإن قيل ) هب الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا قيل : انه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيا سميعا عليما بصيرا فإذا قيل : يلزم انه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل : لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا مكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أ السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدير المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يخص بالواجب القديم فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه

فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدر ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود

ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا وربما قالت الجهمية هو شيء لا كالأشياء

فإن نفى القدر المشترك مطلقا لزم التعطيل العام

والمعاني التي يوقف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدر بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك : يجب لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبرت اللازم وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوقات من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك والله سبحانه منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره : زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام وقد بسط هذا في مواضع كثيرة

وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وان معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وان ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله

ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة

ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ما هيته ؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك للفظي أو التواطؤ أو التشكيك ؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال نفيها

وفي أن المعدوم هل هو شيء أن لا ؟ وفي وجود الموجودات قل هو زائد على ماهيتها أم لا ؟

وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين ويحكى عن الناس مقالات ما قالوها وتارة يبقى في الشك والتحير

وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من اشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة مالا تتسع له هذه الجمل المختصرة

وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودين في الخارج بخلاف الماهية التي الذهن فإنهما مغيرة للموجود في الخارج وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة