الرئيسيةبحث

الاستقامة/6


ثم قال ابو القاسم وقال تعالى فهم في روضة يحبرون سورة الروم 15 جاء في التفسير أنه السماع

قلت فهذا قد ورد عن طائفة من السلف أنه السماع الحسن في الجنة وان الحور العين يغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بأحسن منها لكن تنعيم الله تعالى لعباده بالأصوات الحسنة في الجنة واستماعها لا يقتضي أنه يشرع أو يبيح سماع كل صوت في الدنيا فقد وعد في الآخرة بأشياء حرمها في الدنيا كالخمر والحرير واواني الذهب والفضة

بل قال ﷺ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة وقال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وقال لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة

وهذه الأحاديث من الصحاح المشاهير المجمع على صحتها فقد أخبر أنه من استعمل هذه الامور في الدنيا من المطعوم والملبوس وغيرها لم يستعلمه في الآخرة

فلو قيل له هذا السماع الحسن الموعود به في الجنة هو لمن نزه مسامعه في الدنيا عن سماع الملاهي لكان هذا أشبه بالحق والسنة وقد ورد به الأثر يقول الله يوم القيامة أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشياطين أدخلوهم وأسمعوهم تحميدي وتمجيدي والثناء على وأخبروهم أنهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون

ثم قال أبو القاسم واعلم أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورا ولم يسمع على مذموم في الشرع ولم ينجر في زمان هواه ولم ينخرط في سلك لهوه مباحا في الجملة ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي النبي ﷺ وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان هذا ظاهر من الأمر ثم ما يوجب للمستمع توفر الرغبة على الطاعات وتذكر ما أعد الله لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرز من الزلات ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع

قال وقد جرى على لفظ الرسول ﷺ ما هو قريب من الشعر وإن لم يقصد أن يكون شعرا وذكر الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك قال كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون

... نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ...

فأجابهم رسول الله ﷺ ... اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة ...

وقال ليس هذا اللفظ منه ﷺ على وزن الشعر

قلت تضمن هذا الكلام شيئين

أحدهما إباحة سماع الألحان والنغمات المستلذة بشرط ألا يعتقد المستمع محظورا وألا يسمع مذموما في الشرع وألا يتبع منه هواه

والثاني أنما أوجد للمستمع الرغبة في الطاعات والاحتراز من الذنوب وتذكر وعد الحق ووصول الأحوال الحسنة إلى قلبه فهو مستحب

وعلى هاتين المقدمتين بني من قال بأستحباب ذلك مثل أبي عبد الرحمن السلمى وأبي حامد وغيرهما وفي هؤلاء من قد يوجبه أحيانا إذا رأوا أنه لا يؤدي الواجب إلا به

وكذلك يفضلونه على سماع القرآن إذا رأوا أن ما يحصل بسماع الألحان أكثر مما يحصل بسماع القرآن وهم في ذلك يضاهون لمن يوجب من الكلام المحدث ما يوجبه ولمن يفضل ما فيه من العلم على ما يستفاد من القرآن والحديث

لكن في أولئك من يرى الإيمان لا يتم إلا بما ابتدعوه من الكلام وفيهم من يفكى بمخالفته او يفسق

وأهل السماع أيضا فيهم من يرى الإيمان لا يتم إلا به وفيهم من يقول في منكره الأقوال العظيمة وقد يكون يسعى في قتل منكره لكن جنسهم كان خيرا من جنس المتكلمة مما فعلوا غير ذلك من الذنوب كما يستحبون علم الكلام ويوجبونه ويذمون تاركه ويسبونه ويعاملونه من العداوة بما يعامل به الكافر وبإزاء استحباب هؤلاء أو ايجابهم أن قوما من أهل العلم يكفرونهم بأستحباب ذلك أو إيجابه ولهذا تجد في المستحبين له وفي المنكرين له من الغلو ما اوجب الافتراق والعداوة والبغضاء وأصل ذلك ترك الفريقين جميعا لما شرعه الله من السماع الشرعي الذي يحبه الله ورسوله وعباده المؤمنون

وهاتان المقدمتان كلاهما غلط مشتمل على دليل مجمل من جنس استدلالهم بما ظنوه من العموم في قوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 وبما وعد الله به في الآخرة من السماع الحسن

ولهذا نشأ من هاتين المقدمتين اللتين لبس فيهما الحق بالباطل قول لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها فإنه وإن نقل عن بعض أهل المدينة وغيرهم أنه سمع الغناء فلم يقل أحد منهم أنه مستحب في الدين ومختار في الشرع اصلا بل كان فاعل ذلك منهم يرى مع ذلك كراهته وأن تركه أفضل أو يرى أنه من الذنوب وغايته أن يطلب سلامته من الإثم او يراه مباحا كألتوسع في لذات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن فأما رجاء الثواب بفعله والتقرب إلى الله فهذا لا يحفظ عن أحد من سلف الأمة وأئمتها بل المحفوظ عنهم أنهم رأوا هذا من ابتداع الزنادقة كما قال الحسن بن عبد العزيز الجروي سمعت الشافعي يقول خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن

والتغبير هو الضرب بالقضيب غبر أي أثار غبارا وهو آلة من الآلات التي تقرن بتلحين الغناء

والشافعي بكمال علمه وإيمانه علم ان هذا مما يصد القلوب عن القرآن ويعوضها به عنه كما قد وقع أن هذا إنما يقصده زندبق منافق من منافقة المشركين أو الصابئين وأهل الكتاب فإنهم هم الذين أمروا بهذا في الأصل كما قال ابن الرواندي اختلف الفقهاء في السماع فقال بعضهم هو مباح وقال بعضهم هو محرم وعندي أنه واجب وهذا مما اعتضد به أبو عبد الرحمن في مسألة السماع وهذا متهم بالزندقة

وكذلك ابن سينا في إشاراته أمر بسماع الألحان وبعشق الصور وجعل ذلك مما يزكي النفوس ويهذبها ويصفيها وهو من الصابئة الذين خلطوا بها من الحنيفة ما خلطوا وقبله الفارابي كان إماما في صناعة التصويت موسيقيا عظيما

فهذا كله يحقق قول الشافعي رضي الله عنه ونحن نتكلم على المقدمتين إن شاء الله بكلام يناسب ما كتبته هنا

فأما احتجاجه بأن النبي ﷺ سمع ما أنشد بين يديه من الأشعار ولم ينكره وأنه قال ما يشبه الشعر فيقال بل الشعر أعظم مما وصفته فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إن من الشعر حكمة

وقال جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم

وكان ينصب لحسان منبرا لينشد الشعر الذي يهجو فيه المشركين وقال اللهم أيده بروح القدس وقال ﷺ له إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه

وقال عن عبد الله بن رواحة إن أخا لكم لا يقول الرفث

وقد استنشد الشريد بن سويد الثقفي مائة قافية من شعر أمية بن أبي الصلت وهو يقول هيه هيه

وسمع قصيدة كعب بن زهير وهذا باب واسع

وقد قال الله تعالى في كتابه بعد ان قال والشعراء يتبعهم الغاوون سورة الشعراء 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون سورة الشعراء 225 227 فلم يذم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا من الشعراء المنتصرين من بعد ما ظلموا

ولهذا قال النبي ﷺ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا فذم الممتلئ بالشعر الذي لم يستعمل بما يوجب الإيمان والعمل الصالح وذكر الله كثيرا ولم يذم الشعر مطلقا بل قد يبين معنى الحديث ما قاله الشافعي الشعر كلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه هذا قوله في الشعر مع قوله في التغبير ليبين أن إباحة أحدهما غير مستلزمة الآخر

وأما قوله فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن تسمع بالألحان الطيبة هذا ظاهر من الأمر فإن هذه حجة فاسدة جدا والظاهر إنما هو عكس ذلك فإن نفس سماع الالحان مجردا عن كلام يحتاج إلى ان تكون مباحة مع انفرادها وهذا من أكبر مواقع النزاع فإن أكثر المسلمين على خلاف ذلك ولو كان كل من الشعر أو التلحين مباحا على الانفراد لم يلزم الإباحة عند الاجتماع إلا بدليل خاص فإن التركيب له خاصة يتعين الحكم بها

وهذه الحجة بمنزلة حجة من قال إن خبر الواحد إذا لم يفد العلم عند انفراده لم يفد العلم مع نظائره ومع القرائن فجحد العلم الحاصل بالتواتر

وبمنزلة ما يذكر عن إياس بن معاوية أن رجلا قال له ما تقول في الماء قال حلال قال والتمر قال حلال قال فالنبيذ قال ماء وتمر

فقال له إياس بن معاوية أرأيت لو ضربتك بكف من تراب أكنت أقتلك قال لا قال فإن ضربتك بكف من تبن أكنت أقتلك قال لا قال فإن ضربتك بماء أكنت أقتلك قال لا قال فإن أخذت الماء والتبن والتراب فجعلتهما طينا وتركته حتى جف وضربتك به أقتلك قال نعم فقال كذلك النبيذ يقول إن القاتل هو القوة الحاصلة بالتركيب والمفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب

وكذلك هنا الذي يسكر النفوس ويلهيها ويصدها عن ذكر الله وعن الصلاة قد يكون في التركيب وليست الأصوات المجتمعة في استفزارها للنفوس وإزعاجها إما بنياحة وتحزين وإما بإطراب وإسكار وإما بإغضاب وحمية بمنزلة الصوت الواحد

وهذا القرآن الذي هو كلام الله وقد ندب النبي ﷺ إلى تحسين الصوت به وقال زينوا القرآن بأصواتكم

وقال لأبي موسى لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا

وكان عمر يقول يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون

وقال النبي ﷺ ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ويجهر به

وقال لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته

ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء ولا أن يقرن به من الألحان ما يقرن بالغناء من الآلات وغيرها لا عند من يقول بإباحة ذلك ولا عند من يحرمه بل المسلمون متفقون على الإنكار لأن يقرن بتحسين الصوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير وباليد كالغرابيل

فلو قال قائل النبي ﷺ قد قرأ القرآن وقد استقرأه من ابن مسعود وقد استمع لقراءة أبي موسى وقال لقد أوتى مزمارا من مزامير داود فإذا قال قائل إذا جاز ذلك بغير هذه الألحان فلا بتغير الحكم بأن يسمع بالألحان كان هذا منكرا من القول وزورا بأفاق الناس

وأما المقدمة الثانية وهي قوله بعد أن أثبت الإباحة إن ما أوجب للمستمع أن يوفر الرغبة على الطاعات ويذكر ما أعد الله لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرز من الزلات ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع فنقول تحقيق هذه المقدمة أن الله سبحانه يحب الرغبة فيما أمر به والحذر مما نهى عنه ويحب الإيمان بوعده ووعيده وتذكر ذلك وما يوجبه من خشيته ورجائه ومحبته والإنابة إليه ويحب الذين يحبونه فهو يحب الإيمان أصوله وفروعه والمؤمنين والسماع يحصل المحبوب وما حصل المحبوب فهو محبوب فالسماع محبوب

وهذه المقدمة مبناها على أصلين أحدهما معرفة ما يحبه الله

والثاني أن السماع يحصل محبوب الله خالصا أو راجحا

فإنه إذا حصل محبوبه ومكروهه والمكروه أغلب كان مذموما وإن تكافأ فيه المحبوب والمكروه لم يكن ولا مكروها

أما الأصل الأول وهو معرفة ما يحبه الله فهي أسهل وإن كان غلط في كثير منها كثير من الناس

وأما الأصل الثاني وهو ان السماع المحدث يحصل هذه المحبوبات فالشأن فيها ففيها زل من زل وضل من ضل ولا حول ولا قوة إلا بالله

ونحن نتكلم على ذلك بوجوه نبين بها إن شاء الله المقصود

الوجه الأول أن نقول يجب أن يعرف أن المرجع في القرب والطاعات والديانات والمستحبات إلى الشريعة ليس لأحد أن يبتدع دينا لم يأذن الله به ويقول هذا يحبه الله بل بهذه الطريق بدل دين الله وشرائعه وابتدع الشرك وما لم ينزل الله به سلطانا

وكل ما في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وأئمة الدين ومشايخه من الحض على اتباع ما أنزل إلينا من ربنا واتباع صراطه المستقيم واتباع الكتاب واتباع الشريعة والنهي عن ضد ذلك فكله نهى عن هذا وهو ابتداع دين لم يأذن الله به سواء كان الدين فيه عبادة غير الله وعبادة الله بما لم يأمر به بل دين الحق أن نعبد الله وحده لا شريك له بما أمرنا به على ألسنة رسله كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة الملك 2 قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على ألسنة

وكلام المشايخ الذين ذكرهم أبو القاسم في هذا الأصل كثير مثل ما ذكره عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال ربما يقع النكتة في قلبي من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة

وعن صاحبه أحمد بن أبي الحواري أنه قال من عمل بلا أتباع سنة فباطل عمله

وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يقفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس وعن أبي حفص النيسابوري أنه قال من لم يزن أفعاله وأحواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال

وعن الجنيد بن محمد أنه قال الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ص

وعن الجنيد أيضا أنه قال من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وعن أبي عثمان النيسابوري أنه قال من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة قال الله تعالى وإن تطيعوا تهتدوا سورة النور 54

وعن أبي حمزة البغدادي قال من علم طريق الحق تعالى سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله

وعن ابي عمرو بن نجيد قال كل حال لا يكون نتيجة علم فإن ضرره أكثر على صاحبه من نفعه وسئل عن التصوف فقال الصبر تحت الأمر والنهى

وعن أبي يعقوب النهرجورى قال أفضل الأحوال ما قارن العلم ومثل هذا كثير في كلام أئمة المشايخ وهم إنما وصوا بذلك لما يعلمونه من حال كثير من السالكين أنه يجري مع ذوقه ووجده وما يراه ويهواه غير متبع لسبيل الله التي بعث بها وهذا نوع الهوى بغير هدى من الله

والسماع المحدث يحرك الهوى ولهذا كان بعض المشايخ المصنفين في ذمه سمى كتابه الدليل الواضح في النهى عن ارتكاب الهوى الفاضح ولهذا كثيرا ما يوجد في كلام المشايخ الأمر بمتابعة العلم يعنون بذلك الشريعة كقول أبي يزيد البسطامي رحمه الله عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لتفتت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد

وقال أبو الحسين النوري من رأيته يدعى مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه

وقال أبو عثمان النيسابوري الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع الرسول ﷺ بأتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة والصحبة مع الأهل بحسن الخلق والصحبة مع الإخوان بدوام البشر ما لم يكن إثما والصحبة مع الجهالة بالدعاء لهم والرحمة عليهم

وذلك لأنه لما كان أصل الطريق هو الإرادة والقصد والعمل في ذلك فيه من الحب والوجد ما لا ينضبط فكثير ما يعمل السالك بمقتضى ما يجده في قلبه من المحبة وما يدركه ويذوقه من طعم العبادة وهذا إذا لم يكن موافقا لأمر الله ورسوله وإلا كان صاحبه في ضلال من جنس ضلال المشركين وأهل الكتاب الذين اتبعوا أهوائهم بغير هدى من الله

قال الله تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا سورة الفرقان 43

وقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين سورة القصص 50

وقال تعالى وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين سورة الأنعام 119

وقال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير سورة البقرة 120

وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة 77

وكثيرا ما يبتلى من أهل السماع بشعبة من حال النصارى من الغلو في الدين واتباع أهواء قوم قد ضلوا من قبل وإن كان فيهم من فيه فضل وصلاح فهم فيما ابتدعوه من ذلك ضالون عن سبيل الله يحسبون أن هذه البدعة تهديهم إلى محبة الله وإنها لتصدهم عن سبيل الله فإنهم عشوا عن ذكر الله الذي هو كتابه عن استماعه وتدبره واتباعه

وقد قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون سورة الزخرف 36 39

وقد قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فآتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين سورة الجاثية 18 19 فالشريعة التي جعله عليها تتضمن ما أمر به وكل حب وذوق ووجد لا تشهد له هذه الشريعة فهو من أهواء الذين لا يعلمون فإن العلم بما يحبه الله إنما هو ما أنزله الله إلى عباده من هداه

ولهذا قال في إحدى الآيتين وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم سورة الأنعام 119 وقال في الآية الأخرى فإن لم يستجيبوا لك فآعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص 50

فكل من اتبع ذوقا أو وجدا بغير هدى من الله سواء كان ذلك عن حب أو بغض فليس لأحد أن يتبع ما يحبه فيأمر به ويتخذه دينا وينهى عما يبغضه ويذمه ويتخذ ذلك دينا إلا بهدى من الله وهو شريعة الله التي جعل عليها رسوله ومن اتبع ما يهواه حبا وبغضا بغير الشريعة فقد اتبع هواه بغير هدى من الله

ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شئ من الدين من أهل الأهواء ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء ويذمونهم بذلك ويأمرون بألا يغتر بهم ولو أظهروا ما أظهروه من العلم والكلام والحجاج أو العبادة والأحوال مثل المكاشفات وخرق العادات كقول يونس بن عبد الأعلى قلت للشافعي تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا أريد الليث بن سعد وغيره كان يقول لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به ولا تكلمه قال الشافعي فإنه والله ما قصر

وعن عاصم قال قال أبو العالية تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا الإسلام يمينا وشمالا وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه وإياكم وهذه الأهواء التي تلقى بين الناس العداوة والبغضاء فحدثت الحسن قال صدق ونصح قال فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت أبا علي أنت حدثت محمدا بهذا قلت لا قالت فحدثه إذا

وقال أبي بن كعب عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت به عيناه من خشية الله فيعذبه

وما على الأرض عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فأقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهى كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها ولتحط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم

وكذلك قال عبد الله بن مسعود الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة

وقيل لأبي بكر بن عياش يا أبا بكر من السنى قال الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشئ منها

وهذا أصل عظيم من أصول سبيل الله وطريقه يجب الاعتناء به وذلك أن كثيرا من الأفعال قد يكون مباحا في الشريعة أو مكروها أو متنازعا في إباحته وكراهته وربما كان محرما أو متنازعا في تحريمه فتستحبه طائفة من الناس يفعلونه على أنه حسن مستحب ودين وطريق يتقربون به حتى يعدون من يفعل ذلك أفضل ممن لا يفعله وربما جعلوا ذلك من لوازم طريقتهم إلى الله أو جعلوه شعار الصالحين وأولياء الله ويكون ذلك خطأ وضلالا وابتداع دين لم يأذن به الله

مثال ذلك حلق الرأس في غير الحج والعمرة لغير عذر فإن الله قد ذكر في كتابه حلق الرأس وتقصيره في النسك وذكر حلقه لعذر في قوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك سورة البقرة 196

وأما حلقه لغير ذلك فقد تنازع العلماء في إباحته وكراهته نزاعا معروفا على قولين هما روايتان عن أحمد ولا نزاع بين علماء المسلمين وأئمة الدين أن ذلك لا يشرع ولا يستحب ولا هو من سبيل الله وطريقه ولا من الزهد المشروع للمسلمين ولا مما أثنى الله به على أحد من الفقراء

ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النساك الفقراء والصوفية دينا حتى جعلوه شعارا وعلامة على أهل الدين والنسك والخير والتوبة والسلوك إلى الله المشير إلى الفقر والصوفية حتى أن من لم يفعل ذلك يكون منقوصا عندهم خارجا عن الطريقة المفضلة المحمودة عندهم ومن فعل ذلك دخل في هديهم وطريقهم

وهذا ضلال عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين واتخاذ ذلك دينا وشعارا لاهل الدين من أسباب تبديل الدين بل جعله علامة على المروق من الدين أقرب فإن الذي يكرهه وإن فعله صاحبه عادة لا عبادة يحتج بأنه من سيماء الخوارج المارقين الذين جاءت الأحاديث الصحاح عن النبي ﷺ بذمهم من غير وجه وروى عنه ﷺ سيماهم التحليق

فإذا كان هذا سيماء أولئك المارقين وفي المسند والسنن عن النبي ﷺ أنه قال من تشبه بقوم فهو منهم كان هذا على بعده من شعار أهل الدين أولى من العكس

ولهذا لما جاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله من المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه ضربا عظيما كشف رأسه فوجده ذا ضفيرتين فقال لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك لأنه لو وجده محلوقا استدل بذلك على أنه من الخوارج المارقين وكان يقتله لأمر النبي ﷺ بقتالهم

وقد قال النبي ﷺ في صفتهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية

ولا ريب أن الخوارج كان فيهم من الاجتهاد في العبادة والورع ما لم يكن في الصحابة كما ذكره النبي ﷺ لكن لما كان على غير الوجه المشروع أفضى بهم إلى المروق من الدين

ولهذا قال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة

وقد تأول فيهم على بن أبي طالب الذي قاتلهم بأمر النبي ﷺ وكان قتاله لهم من أعظم حسناته وغزواته التي يمدح بها لأن النبي ﷺ حض على قتالهم وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد

وقال أينما لقيتموهم فآقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة

وفي الصحيح عن علي أيضا لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل

وكانوا يتشددون في أمر الذنوب والمعاصي حتى كفروا المسلمين وأوجبوا لهم الخلود في النار

ولا ريب أن كثيرا من النساك والعباد والزهاد قد يكون فيه شعبة من الخوارج وإن كان مخالفا لهم في شعب أخرى فلزوم زي معين من اللباس سواء كان مباحا أو كان مما يقال إنه مكروه بحيث يجعل ذلك دينا ومستحبا وشعارا لأهل الدين هو من البدع أيضا فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه الله فلا دين إلا ما شرعه الله

الوجه الثاني ان قولهم إن هذا السماع يحصل محبوب الله وما حصل محبوبه فهو محبوب له قول باطل وكثير من هؤلاء أو أكثرهم حصل لهم الضلال والغواية من هذه الجهة فظنوا أن السماع يثير محبة الله ومحبة الله هي أصل الإيمان الذي هو عمل القلب وبكمالها يكمل وهي فيما يذكره أبو طالب وغيره نهاية المقامات وربما قال بعضهم هي المقام التي يرتقي مقدمة العامة وساقه الخاصة ويقول من يقول منهم إن السماع هو من توابع المحبة وأنهم إنما فعلوه لما يحركه من محبة الله سبحانه وتعالى إذ السماع يحرك من كل قلب ما فيه فمن كان في قلبه حب الله ورسوله حرك السماع هذا الحب وما يتبع الحب من الوجد والحلاوة وغير ذلك كما يثير من قلوب أخرى محبة الأوثان والصلبان والإخوان والخلان والأوطان والعشراء والمردان والنسوان ولهذا يذكر عن طائفة من أعيانهم سماع القصائد في باب المحبة كما فعل ابو طالب

فيقال إن ما يهيجه هذا السماع المبتدع ونحوه من الحب وحركة القلب ليس هو الذي يحبه الله ورسوله بل اشتماله على ما لا يحبه الله وعلى ما يبغضيه أكثر من اشتماله على ما يحبه ولا يبغضبه وحده عما يحبه الله ونهيه عن ذلك أعظم من تحريكه لما يحبه الله وإن كان يثير حبا وحركة ويظن أن ذلك يحبه الله وأنه مما يحبه الله فإنما ذلك من باب اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى

ومما يبين ذلك أن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه محبته وذكر موجباتهما وعلاماتها وهذا السماع يوجب مضادا لذلك منافيا له

وذلك أن الله يقول في كتابه ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165

وقال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم سورة آل عمران 31

ويقول فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة 54

فهذه ثلاثة أصول لاهل محبة الله إخلاص دينهم ومتابعة رسوله والجهاد في سبيله

فإنه اخبر عن المشركين الذين يتخذون الأنداد أنهم يحبونهم كما يحبون الله ثم قال والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165 فالمؤمنون أشد حبا لله من المشركين الذين يحبون الأنداد كما يحبون الله فمن أحب شيئا غير الله كما يحب الله فهو من المشركين لا من المؤمنين

ومحبة رسوله من محبته ولهذا قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه في الصحيحين والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين

وفي صحيح البخاري أن عمر قال له يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت أحب إلى من نفسي قال فأنت الآن يا عمر

وفي الصحيحين أنه قال ثلاث من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان وفي لفظ لا يجد حلاوة الإيمان إلا من كان فيه ثلاث خصال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار

وقد قال الله تعالى قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فيتربصوا حتى يأتي الله بأمره فلم يرض منهم أن يكون حبهم لله ورسوله كحب الأهل والمال وأن يكون حب الجهاد في سبيله كحب الأهل والمال بل حتى يكون الجهاد في سبيله الذي هو تمام حبه وحب رسوله أحب إليهم من الأهل والمال

فهذا يقتضي أن يكون حبهم لله ورسوله مقدما على كل محبة ليس عندهم شئ يحبونه كحب الله بخلاف المشركين

ويقتضي الأصل الثاني وهو ان يكون الجهاد في سبيله أحب إليهم من الأهل والمال فإن ذلك هو تمام الإيمان الذي ثوابه حب الله ورسوله

كما قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم برتابوا إيمانا لا يكون بعده ريب وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله سورة الحجرات 15

وبذلك وصف أهل المحبة في قوله يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة 54 فأخبر سبحانه بذلهم للمؤمنين وعزهم على الكافرين وجهادهم في سبيله وأنهم لا يخافون لومة لائم فلا يخافون لوم الخلق لهم على ذلك

وهؤلاء هم الذين يحتملون الملام والعذل في حب الله ورسوله والجهاد في سبيله والله يحبهم وهم يحبونه ليسوا بمنزلة من يحتمل الملام والعذل في محبة ما لا يحبه الله ورسوله ولا بمنزلة الذين أظهروا من مكروهات الحق ما يلامون عليه ويسمون بالملامتية ظانين أنهم لما أظهروا ما يلومهم الخلق عليه من المنكرات مع صحتهم في الباطن كان ذلك من صدقهم وإخلاصهم وهم في ذلك إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس

فإن ذلك المنكر الذي يكرهه الله ورسوله لا يكون فعله مما يحبه الله ورسوله ولا يكون من الصدق والإخلاص في حب الله ورسوله والناس يلامون عليه

وسنام ذلك الجهاد في سبيل الله فإنه أعلى ما يحبه الله ورسوله واللائمون عليه كثير إذ كثير من الناس الذين فيهم إيمان يكرهونه وهم إما مخذلون مفترون للهمة والإرادة فيه وإما مرجفون مضعفون للقوة والقدرة عليه وإن كان ذلك من النفاق

قال الله تعالى قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا سورة الأحزاب 18

وقال تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونكم فيها إلا قليلا سورة الأحزاب 60

وأما الأصل الثالث وهو متابعة السنة والشريعة النبوية قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فآتبعوني يحببكم الله سورة آل عمران 31

قال طائفة من السلف ادعى قوم على عهد النبي ﷺ أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية فجعل حب العبد لربه موجبا ومقتضيا لاتباع رسوله وجعل اتباع رسوله موجبا ومقتضيا لمحبة الرب عبده فأهل اتباع الرسول يحبهم الله ولا يكون حبا لله إلا من يكون منهم

وإذا عرفت هذه الأصول فعامة أهل السماع المحدث مقصرون في هذه الأصول الثلاثة وهم في ذلك متفاوتون تفاوتا كثيرا بحسب قوة اعتياضهم بالسماع المحدث عن السماع المشروع وما يتبع ذلك حتى آل الأمر بأخر إلى الانسلاخ من الإيمان بالكلية ومصيره منافقا محضا أو كافرا صرفا

وأما عامتهم وغالبهم الذين فيهم حب الله ورسوله وما يتبع ذلك فهم فيه مقصرون تجد فيهم من التفريط في الجهاد في سبيل الله وما يدخل فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتفريط في متابعة رسول الله ﷺ في شريعته وسنته وأوامره وزواجره أمرا عظيما جدا وكذلك في أمر الإخلاص لله تجد فيهم من الشرك الخفي أو الجلى أمورا كثيرة

ولهذا كان هذا السماع سماع المكاء والتصدية إنما هو في الأصل سماع المشركين كما قال تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 وفيهم من اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ما ضاهوا به النصارى في كثير من ذلك حتى ان منهم من يعبد بعض البشر ويعبد قبورهم فيدعوهم ويستغيث بهم ويتوكل عليهم ويخافهم ويرجوهم إلى غير ذلك مما هو من حقوق الله وحده لا شريك له ويطيعون سادتهم وكبارهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال ويقول بعضهم في اتحاد الله ببعض مخلوقاته وحلوله فيهم شبيه ما قالته النصارى في المسيح عليه الصلاة و السلام

ولهذا يكون كثير من سماعهم الذي يحرك وجدهم ومحبتهم إنما يحرك وجدهم ومحبتهم لغير الله كالذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله

وأما الشريعة وما أمر الله به ونهى عنه وأحله وحرمه ففيهم من المخالفة لذلك بل من الاستخفاف بمن يتمسك به ما الله به عليم حتى سقط من قلبوهم تعظيم كثير من فرائض الله وتحريم كثير من محارمه فكثيرا ما يضيعون فرائضه ويستحلون محارمه ويتعدون حدوده تارة اعتقادا وتارة عملا

وكثير من خيارهم الذين هم مؤمنون يقعون في كثير من فروع ذلك وإن كانوا مستمسكين بأصول الإسلام

وأما غير هؤلاء فيصرحون بسقوط الفرائض كالصلوات الخمس وغيرها وبحل الخبائث من الخمر والفواحش او الظلم أو البغي أو غير ذلك لهم وتزول عن قلوبهم المحبة لكثير مما يحبه الله ورسوله كالمحبة التامة التي هي كمال الإيمان بل لا بد أن ينقص في قلوبهم حب ما أحبه الله ورسوله فلا يبقى للقرآن والصلاة ونحو ذلك في قلوبهم من المحبة والحلاوة والطيب وقرة العين ما هو المعروف لاهل كمال الإيمان بل قد يكرهون بعض ذلك ويستثقلونه كما هو من نعت المنافقين الذين قال الله فيهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى سورة النساء 142 وقد يهجرون القرآن الذي ما تقرب العباد إلى الله بأحب إليه منه بل قد يستثقلون سماعه وقراءته لما اعتاضوا عنه من السماع وقد يقومون ببعض هذه العبادات الشرعية صورا ورسما كما يفعله المنافقون لا محبة وحقيقة ووجدا كما يفعله المؤمنون

وأما الجهاد في سبيل الله فالغالب عليهم أنهم ابعد عنه من غيرهم حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله والغضب والغيرة لمحارم الله وقوة المحبة والموالاة لأولياء الله وقوة البغض والعداوة لأعداء الله ما لا يوجد فيهم بل يوجد فيهم ضد ذلك

ومعلوم أن أهل الإيمان والصلاح منهم لا يفقدون هذا بالكلية لكن هذا السماع المحدث هو وتوابعه سبب ومظنة لضد الجهاد في سبيل الله حتى ان كثيرا منهم يعدون ذلك نقصا في طريق الله وعيبا ومنافيا للسلوك الكامل إلى الله

ومن السبب الذي ضل به هؤلاء وغووا ما وجدوه في كثير ممن ينتسب إلى الشريعة من الداعين إلى الجهاد من ضعف حقيقة الإيمان وسوء النيات والمقاصد وبعدهم عن النيات الخالصة لله وصلاح قلوبهم وسرائرهم وعن أن يقصدوا بالجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله كما وجدوه في كثير ممن يذم السماع المحدث من قسوة القلب والبعد عن مكارم الأخلاق وذوق حقيقة الإيمان

فهذا التفريط في حقوق الله والعدوان على حدوده الذي وجد في هؤلاء وأمثالهم ممن لا يتدين بالسماع المحدث بل يتدين ببعض هذه الأمور صار شبهة لأولئك كما أن التفريط والعدوان الموجود في أهل السماع المحدث صار شبهة لأولئك في ترك كثير مما عليه كثير منهم من حقائق الإيمان وطاعة الله ورسوله

ولهذا تفرق هؤلاء في الدين وصارت كل طائفة مبتدعة لدين لم يشرعه االله ومنكرة لما مع الطائفة الأخرى من دين الله وصار فيهم شبه الأمم قبلهم

كما قال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأعرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة سورة المائدة 14

وقال تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ سورة البقرة 113

وقال تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض سورة البقرة 85

وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات سورة آل عمران 105

وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ سورة الأنعام 159

وأما دين الله وهداه الذي أنزل به كتابه وبعث به رسوله فهو اتباع كتابه وسنته في جميع الأمور وترك اتباع ما يخالف ذلك في جميع الأمور والإجماع على ذلك

كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتهم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون سورة آل عمران 102 107

وأما كون الشعر في نفسه لا يستمع إليه إلا إذا كان من الكلام المباح أو المستحب والشعر المقول في سماع المكاء والتصدية كثير منه أو أكثره ليس كذلك فهذا مقام آخر نبينه إن شاء الله فصار احتجاجهم بما سمعه النبي ﷺ من الشعر على استماع الغناء مردودا بهذه الوجوه الثلاث

قال أبو القاسم وقد سمع الأكابر الابيات بالألحان فمن قال بإباحته مالك بن أنس وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء فأما الحداء فإجماع منهم على إباحته

قلت هذا النقل يتضمن غلطا بإثبات باطل وترك حق وقد تبع فيه أبا عبد الرحمن على ما ذكره في مسألة السماع وذلك أن المعروف عند أئمة السلف من الصحابة والتابعين مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم وعن أئمة التابعين ذم الغناء وإنكاره

وكذلك من بعدهم من أئمة الإسلام في القرون الثلاثة حتى ذكر زكريا بن يحيى الساجي في كتابه الذي ذكر فيه إجماع أهل العلم واختلافهم فذكر أنهم متفقون على كراهته إلا رجلان إبراهيم بن سعد من أهل المدينة وعبيد بن الحسن العنبري من أهل البصرة

وأما نقلهم لإباحته عن مالك وأهل الحجاز كلهم فهذا غلط من أسوأ الغلط فإن أهل الحجاز على كراهته وذمه ومالك نفسه لم يختلف قوله وقول أصحابه في ذمه وكراهته بل هو من المبالغين في ذلك حتى صنف أصحابه كتبا مفردة في ذم الغناء والسماع وحتى سأله إسحاق بن عيسى الطباع عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق

وقد ذكر محمد بن طاهر في مسألة السماع حكاية عن مالك أنه ضرب بطبل وأنشد ابياتا وهذه الحكاية مما لا يتنازع أهل المعرفة في أنها كذب على مالك

وكذلك الشافعي لم يختلف قوله في كراهته وقال في كتابه المعروف بأدب القضاة الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وقد قال عن السماع الديني المحدث خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن

نعم كان كثير من أهل المدينة يسمع الغناء وقد دخل معهم في ذلك بعض فقهائهم فأما أن يكون هذا قول اهل الحجاز كلهم أو قول مالك فهذا غلط وكان الناس يعيبون من استحل ذلك من أهل المدينة كما عابوا على غيرهم حتى كان الأوزاعي يقول من أخذ يقول أهل الكوفة في النبيذ وبقول أهل مكة في المتعة والصرف ويقول أهل المدينة في الغناء أو قال الحشوش والغناء فقد جمع الشر كله أو كلاما هذا معناه

وأما فقهاء الكوفة فمن أشد الناس تحريما للغناء ولم يتنازعوا في ذلك ولم يكونوا يعتادونه كما كان يفعله أهل المدينة بل كانوا بالنبيذ المتنازع فيه

وقد سئل ماللك عماا يترخص فيه بعض ااهل المدينة من الغناء فقال لا إنما يفعله عندنا الفساق

وقد سئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال إذا ميز الله الحق من الباطل من أي قسم يكون الغناء

ثم قال أبو القاسم وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك وروى عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له إذا أتى بك يوم القيامة ويؤتى بحسناتك وسيئاتك ففي أي الجنبين يكون سماعك فقال لا في الحسنات ولا في السيئات يعني أنه من المباحات

قلت ليس ابن جريج وأهل مكة ممن يعرف عنهم الغناء بل المشهور عنهم أنهم كانوا يعيرون من يفعل ذلك من أهل المدينة وإنما المعروف عنهم المتعة والصرف ثم هذا الأثر وأمثاله حجة على من احتج به فإنه لم يجعل منه شيئا من الحسنات ولم ينقل عن السلف أنه عد شيئا من أنواعه حسنة فقوله على ذلك لا يخالف الإجماع

ومن فعل شيئا من ذلك على انه من اللذة الباطلة التي لا مضرة فيها ولا منفعة فهذا كما يرخص للنساء في الغناء والضرب بالدف في الأفراح مثل قدوم الغائب وأيام الأعياد بل يؤمرون بذلك في العرسات كما روى اعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف وهو مع ذلك باطل كما في الحديث الذي في السنن أن امرأة نذرت أن تضرب لقدوم رسول الله ﷺ فلما قدم عمر أمرها بالسكوت وقال إن هذا رجل لا يحب الباطل

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امرأته فإنهن من الحق

والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك

وهذه نفوس النساء والصبيان فهن اللواتي كن يغنين في ذلك على عهد النبي ﷺ وخلفائه ويضربن بالدف وأما الرجال فلم يكن ذلك فيهم بل كان السلف يسمون الرجل المغنى مخنثا لتشبهه بالنساء ولهذا روى اقرأوا القرآن بلحون العرب وإياكم ولحون العجم والمخانيث والنساء

ولهذا لما سئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال للسائل با ابن أخي ارأيت إذا ميز الله يوم القيامة بين الحق والباطل ففي أيهما يجعل الغناء فقال في الباطل قال فماذا بعد الحق إلا الضلال

فكان العلم بأنه من الباطل مستقرا في نفوسهم كلهم وإن فعله بعضهم مع ذلك إذ مجرد كون الفعل باطلا إنما يقتضي عدم منفعته لا يقتضي تحريمه إلا أن يتضمن مفسدة

قال أبو القاسم وأما الشافعي رحمه الله فإنه لا يحرمه ويجعله في العوام مكروها حتى لو احترف الغناء او اتصف على الدوام بسماعه على وجه التلهي به ترد به الشهادة ويجعله مما يسقط المروءة ولا يلحقه بالمحرمات

قال وليس كلامنا في هذا النوع من السماع فإن هذه الطائفة جلت مرتبتهم عن أن يسمعوا بلهو أو يقعدوا للسماع بسهو أو يكونوا بقلوبهم متفكرين في مضمون لغو أو يستمعوا على صفة غير كفء

قلت لم يختلف قول الشافعي في كراهته والنهى عنه للعوام والخواص لكن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه أو تفضيل بين بعض وبعض هذا مما يتنازع فيه أصحابه وهذا قوله في سماع العامة وأما السماع الديني الذي جعله أبو القاسم للخاصة فهو عند الشافعي من فعل الزنادقة كما قال خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فعنده أن هذا السماع اعظم من ان يقال فيه مكروه أو حرام بل هو عنده مضاد للإيمان وشرع دين لم يأذن الله به ولم ينزل به سلطان

وإن كان من المشايخ الصالحين من تأول في ذلك وبتأويله واجتهاده يغفر الله له خطأه ويثيبه على ما مع التأويل من عمل صالح فذلك لا يمنع أن يقال ما في الفعل من الفساد إذ التأويل من باب المعارض في حق بعض الناس تدفع به عند العقوبة كما تدفع بالتوبة والحسنات الماحية وهذا لمن استفرغ وسعه في طلب الحق

فقول الشافعي رضي الله عنه في هؤلاء كقوله في اهل الكلام حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقوله لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام

ومع هذا فقد ابتلى ببعض ذلك على وجه التأويل طوائف من أهل العلم والدين والتصوف والعبادة