الرئيسيةبحث

الاستقامة/5


وقال أبو القاسم سمعت محمد بن الحسين سمعت محمد بن علي الحافظ سمعت ابا معاذ القزويني سمعت أبا علي الدلال سمعت أبا عبد الله بن قهرمان سمعت إبراهيم الخواص يقول انتهيت إلى رجل وقد صرعه الشيطان فجعلت أؤذن في أذنه فناداني الشيطان من جوفه دعني أقتله فإنه يقول القرآن مخلوق

قلت هذه الحكاية موافقة لأصول السنة وقد ذكروا نحوها حكايات واعترض في ذلك الغزالي وغيره بأن هذا الاستدلال بكلام الشياطين في أصول الدين وذكر عن الإمام أحمد في ذلك حكاية باطلة ذكرها في المنخول فقال رب رجل يعتقد الشئ دليلا وليس بدليل كما يذكر

وجواب هذا أن الجن فيهم المؤمن والكافر كما دل على ذلك القرآن ويعرف ذلك بحال المصروع ويعرف بأسباب قد يقضي بها أهل المعرفة فإذا عرف ان الجني من أهل الإيمان كان هذا مثل ما قصه الله في القرآن من إيمان الجن بالقرآن وكما في السيرة من أخبار الهواتف

وإبراهيم الخواص من أكبر الرجال الذين لهم خوارق فله علمه بأن هذا الجني من المؤمنين لما ذكر هذه الحكاية على سبيل الذم لمن يقول بخلق القرآن

فصل

قال أبو القاسم وقال ابن عطاء لما خلق الله الأحرف جعلها سرا فلما

خلق آدم بث ذلك السر فيه ولم يبث ذلك السر في أحد من الملائكة فجرت الأحرف على لسان آدم بفنون الجريان وفنون المعارف فجعلها الله صورا لها

قال أبو القاسم صرح ابن عطاء رحمه الله بأن الحروف مخلوقة

قلت لم يذكر لهذه الحكاية إسنادا ومثل هذا لا تقوم به حجة ولا يحل لأحد أن يدل المسلمين في أصول دينهم بكلام لم تعرف صحة نقله مع ما علم من كثرة الكذب على المشايخ المقتدى بهم فلا يثبت بمثل هذا الكلام قول لابن عطاء ولا مذهب بل قد ظهر على هذه الحكاية من كذب ناقلها وجهل قائلها ما لا يصلح معه أن يحمد الاعتقاد بها فلو فرض ان هذه الحكاية قالها بعض الأعيان لكان فيها من الغلط ما يردها على قائلها

وكذلك أن الله لم يخص آدم بالأحرف وإنما خصه بتعليم الأسماء كلها كما قال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء سورة البقرة 31

وقد تنازع الناس هل المراد بها أسماء من يعقل لقوله ثم عرضهم أو أسماء كل شئ على قولين

والأول اختيار ابن جرير الطبري وأبي بكر عبد العزيز صاحب الخلال وغيرهما

والثاني أصح لأن في الصحيحين في حديث الشفاعة عن النبي ﷺ يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ ويبين ذلك أن الملائكة كانوا يتكلمون قبل أن يخبرهم آدم بالأسماء وقد خاطبوا الله وخاطبوا آدم قبل ذلك

قال الله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية سورة البقرة 30

قال وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لما خلق الله آدم قال اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم واسمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك فذهب إليهم فقال السلام عليكم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فزادوه

وأيضا فآدم عليه السلام تكلم قبل أن يعلمه الله أسماء كل شئ كما في الصحيحين أن الله لما خلق آدم عطس فقال الحمد لله رب العالمين فقال الله له يرحمك ربك

وأيضا فمن المعلوم أن الملائكة كانوا يسبحون الله ويمجدونه قبل خلق آدم وقبل إخباره إياهم بالأسماء فكيف يظن ظان ان النطق كان مختصا بآدم لما علم الأسماء

وأيضا فإن هذه الحكاية من قائلها الأول مرسلة لا إسناد لها ولم يأثرها عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحابه وأحسن أحوالها أن تكون من الإسرائليات التي إذا لم يعرف أنها حق أو باطل لم يصدق بها ولم يكذب ومثل هذه لا يعتمد عليها في الدين بحال

والمعروف عن بعض المشايخ حكاية لو ذكرها أبو القاسم لكان احتجاجه بها أمثل وهو ما أن الإمام أحمد ذكر له عن السري السقطي أنه ذكر عن بكر بن حبيش العابد أنه قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أومر فقال احمد هذا كفر

وهذا الكلام لم يقله بكر بن حبيش والسرى ونحوه من العباد إلا ليبينوا الفرق بين من لا يفعل إلا ما أمر به ومن يعتمد بما لم يؤمر به من البدع وهذا مقصود صحيح فإن العمل الصالح المقبول هو ما أمر الله به ورسوله دون شرع من الدين الذي لم يأذن به الله لكن كثير من العباد لا يحفظ الأحاديث ولا أسانيدها فكثيرا ما يغلطون في إسناد الحديث أو متنه ولهذا قال يحيى بن سعيد ما رأينا الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث يعني على سبيل الخطأ وقال أيوب السختياني إن من جيراني لمن ارجو بركة دعائهم في السحر ولو شهد عندي على جزرة بقل لما قبلت شهادته

ولهذا يميزون في اهل الخير والزهد والعبادة بين ثابت البناني والفضيل ابن عياض ونحوهما وبين مالك بن دينار وفرقد السبخي وحبيب العجمي وطبقتهم وكل هؤلاء أهل خير وفضل ودين والطبقة الأولى يدخل حديثها في الصحيح

وقال مالك بن أنس رحمه الله ادركت في هذا المسجد ثمانين رجلا لهم خير وفضل وصلاح كل يقول حدثني أبي عن جدي عن النبي ﷺ لم نأخذ عن أحد منهم شيئا وكان ابن شهاب يأتينا وهو شاب فنزدحم على بابه لأنه كان يعرف هذا الشأن

هذا وابن شهاب كان فيه من مداخلة الملوك وقبول جوائزهم ما لا يحبه أهل الزهد والنسك والله يختص كل قوم بما يختاره فأولئك النساك رووا هذا الاثر ليفرقوا بين العمل المشروع المأمور به وما ليس بمشروع مأمور به

وجاء في لفظ لما خلق الله الحروف فآحتج بهذا من يقول من الجهمية إن القرآن أو حروفه مخلوقة فقال أحمد هذا كفر لأن فيه القول بخلق ما هو من القرآن وذلك الأثر لا يعرف له إسناد ولا يعرف قائله ولا ناقله ولا يؤثر عن صاحب ولا تابع ولعله من الإسرائيليات فرد الاحتجاج به أسهل الأمور

وأما ما تضمنه من الفرق بين العمل الذي يؤمر به والذي لا يؤمر به فهذا الفرق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة متى كان في الأحاديث التي لا تعرف صحتها والأحاديث الضعيفة ما يوافق أصول الإسلام وما لا يوافق قبول الحق وترك الباطل فنقبل من هذه الحكاية ما وافق الاصول الاصول وهو الذي أخذه بكر بن حبيش والسرى وغيرهما ونرد منها ما خالف الأصول وهو الذي رده الإمام أحمد وغيره من أئمة الهدى مع أن أحمد من أعظم الناس قولا لما قصده السرى من الفرق بين المأمور وغير المأمور وهو من أعظم الناس أمرا بالعمل المشروع ونهيا عن غير المشروع

ثم حكاية السرى لعله لم يرد بالحروف إلا المداد الذي تكتب به الحروف فسجدت فإنه قال فسجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أومر وهذا إشارة إلى انتصاب الألف وانخفاض غيرها وهذا صورة ما يكتب به من المراد وأما الحروف التي أنزلها الله في كتابه فلا يختلف حكمها باختلاف ما يكتب به من صورة المداد

ولعل هذا أيضا هو الذي قصده في حكاية ابن عطاء إن كان لها أصل فإنه قد ذكرابن قتيبة في المعارف أن الله لما أهبط آدم انزل عليه حروف المعجم في إحدى وعشرين صحيفة فيكون ناقلها قصد أن آدم اختص من بين الملائكة بأن علم الكتابة بهده الحروف كما قال تعالى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم سورة العلق 4 5

والملائكة وإن كان الله قد وصفهم بأنهم يكتبون كما قال تعالى كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون سورة الانفطار 1112 وقال ورسلنا لديهم يكتبون سورة الزخرف 80 فلا يجب أن تكون حروفهم المكتوبة مثل الحروف التي يكتبها الآدميون إذ يكون الذين قالوا إنه خلق الحروف أرادوا أنه خلق أصوات العباد فلا ريب أن الله خالق أصوات العباد وأفعالهم لكن هذا لا يقتضي ان حروف القرآن أو مطلق الحروف مخلوقة بل يجب التفريق بين ما هو من صفات الله تعالى وما هو من خصائص المخلوقين

والتأويل من المداد ليس هو الظاهر من الحكاية فإنه قال فجرت الأحرف على لسان آدم ولا هو أيضا بذاك ولكن ذكر أمثاله هذه الحكايات لبيان المعتقدات نوع من ركوب الجهالات والضلالات فإذا تبين أنها لا تصح لا من ناقلها ولا من قائلها وأنها مشتملة على أنواع من الباطل كان بعد ذلك ذكر هذه التأويلات أحسن مما يذكره المحتجون بها من تأويلاتهم لنصوص الكتاب والسنة الصحيحات الصريحات

فتبين بذلك أن اهل السنة في كل مقام أصح نقلا وعقلا من غيرهم لان ذلك من تمام ظهور ما ارسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ظهوره بالحجة وظهوره بالقدرة

ثم إن هذه الحكاية المعروفة عن السرى لما بلغت الإمام أحمد أنكرها غاية الإنكار حتى توقف عن مدح السرى مع ما كان يذكر من فضله وورعه ونهى عن أن يذكر عنه مدحه حتى يظهر خطأه في ذلك مع أن السرى اعترف بأنه لم يقلها ذاكرا وإنما قالها آثرا

فذكر الخلال في كتاب السنة ذكر السرى وما أحدث اخبرني أحمد بن محمد عن مطر وزكريا بن يحيى أن ابا طالب حدثهم أنه قال لأبي عبد الله جاءني كتاب من طرسوس أن سريا قال لما خلق الله الحروف سجدت إلا الألف فإنه قال لا أسجد حتى أومر فقال هذا الكفر

قال الخلال فأخبرنا ابو بكر المروذي قال جاءني كتاب من الثغر في أمر رجل تكلم بكلام وعرضته على ابي عبد الله فيه لما خلق الله الحروف سجدت إلا الألف فغضب أبو عبد الله غضبا شديدا حتى قال هذا كلام الزنادقة ويله هذا جهمي وكان في الكتاب الذي كتب به أن هذا الرجل قال لو أن غلاما من غلمان حارث يعني المحاسبي لخبر أهل طرطوس فقال أبو عبد الله أشد ما ها هنا قوله لو أن غلاما من غلمان حارث لخبر أهل طرطوس ما البلية إلا حارث حذروا عنه أشد التحذير

قال أبو بكر المروذي جاءني حسن بن البزاز برقعة فيها كلام هذا الرجل بخطه قال إن هذا خطه فيها مكتوب إني إنما حكيت عن غيري فلما قرأتها قلت لحسن قد أقر قال إني أقر قلت فقوله حكيت عن غيري قلت لأبي عبد الله بأي شئ ترى قال دعه حتى يقر وبلغ أبا عبد الله عن حسن أنه قال بعد مجيئه إلى أبي عبد الله بالرقعة ليس له عند ابي عبد الله إلا خيرا فقال اذهب إليه فقل له قد علمت ما في قلبي حتى على مثل هذا قل له لا تحك عني شيئا مرة فلقيت حسنا فقال ليس أحكى عنه شيئا

ثم أيضا قول القائل لما خلق الله الأحرف جعلها سرا له فلما خلق آدم عليه السلام بث ذلك السر فيه ولم يبث ذلك السر في أحد من ملائكته فساده ظاهر من وجوه

أحدها أن فيه أنه خلق الحروف قبل خلق آدم وهذا لم يقله أحد من المسلمين فإن الذين يقولون بخلقها يقولون إنما يخلقها إذا اراد إنزال كلامه على رسوله فيخلق حروفا في الهواء يسمعها جبريل أو غيره ينزل بها ويفهمه المعنى الذي أراده بتلك الحروف فيكون جبريل أول من تكلم بتلك الحروف وعبر بها عن مراد الله وهو المعنى القائم بنفسه كما يعبر عن الأخرس من فهم معناه بإشارته فأما أن يقال خلقت الحروف قبل خلق آدم عليه السلام ولم تخاطب بها الملائكة فهذا لم يقله أحد

الثاني أنه جعل الحروف لآدم دون الملائكة ومن المعلوم أن الذي نزل بالقرآن وغيره من كلام الله هم الملائكة وهم تلقوا الحروف عن الله قبل أن يتلقاها الأنبياء فكيف يسلبون ذلك

الثالث أن قوله جعلها سرا له كلام لا حاصل له لأن السر ما أسره الله فأخفاه عن عباده أو بعضهم أو ما تضمن ما أسره وهذه الحروف أظهر شئ لبني ادم حتى أن النطق بها أظهر صفاته

وكذلك قال الله تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون سورة الذاريات 23

وإن قيل إن الحروف تتضمن من المعاني ما أسره الله فلا ريب أنها تتضمن كل ما يعبر عنه من المعاني سرها وجهرها فالاختصاص للسر بها

قال أبو القاسم قال سهل بن عبد الله إن الحروف لسان فعل لا لسان ذات لانها فعل في مفعول قال وهذا أيضا صربح لأن الحروف مخلوقة

قلت هذا الكلام ليس له إسناد عن سهل وكلام سهل بن عبد الله وأصحابه في السنة والصفات والقرآن اشهر من ان يذكر هنا وسهل من اعظم الناس قولا بأن القرآن كله حروف ومعانيه غير مخلوقة بل صاحبه أبو الحسن بن سالم أخبر الناس بقوله قد عرف قوله وقول أصحابه في ذلك وقد ذكر أبو بكر بن اسحاق الكلاباذي في التعرف في مذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي وأبي الحسن بن سالم أنهما كانا يقولان إن الله يتكلم بصوت ومذهب السالمية أصحاب سهل ظاهر في ذلك فلا يترك هذا الأمر المشهور المعروف الظاهر لحكاية مرسلة لا إسناد لها

ثم هذا الكلام في ظاهره من قلة المعرفة ما لا يصلح أن يضاف إلى سهل بن عبد الله لأن قوله لأنها فعل في مفعول إن أراد فعل قائم بذات الله كما يقال تكلم وخلق ورزق عند الجمهور الذين يقولون هذه أمور قائمة بذاته فقوله بعد ذلك في مفعول لا يصلح فإنه فعل قائم بذات الله ليس في مفعول

وإن أراد بها فعل منفصل عن الله فكل متصل عن الله فهو مفعول مثل قول القائل مفعول في مفعول وفعل في فعل وهذا لا يصلح أن يحتج به لأنه متى علم أنها مفعولة وأنها فعل بمعنى مفعول فسواء كانت في نظيرها أو لم تكن هي مخلوقة

وإن قيل إنه أراد فعل في الآدمي الذي هو مفعول فيقال كلاهما مفعول وأيضا فهذا إنما يدل على أن اصوات العباد ومدادهم مخلوق لا يدل على أن الحروف التي هي من كلام الله مخلوقة

قال أبو القاسم وقال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين التوكل عمل القلب والتوحيد قول القلب

قال أبو القاسم وهذا قول أهل الأصول إن الكلام هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي والخبر والاستخبار

قلت هذه المقالة لما أسند موضعها من كلام أبي القاسم الجنيد لم يكن فيها حجة لمطلوبه فالمذكور عن المشايخ الكبار ليس فيه صحيح صريح المطلوبه الذي يخالف به الأحاديث الصحيحة وإجماع السلف بل إما أن يفقد فيه الوصفان أو احدهما وذلك أن الجنيد رضي الله عنه ذكر أن التوحيد قول القلب فأضاف القول إلى القلب وهذا مما لا نزاع فيه أن القول والحديث ونحوهما مع التقييد يضاف إلى النفس والقلب

كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل

وقد قال تعالى إن النفس لأمارة بالسوء سورة يوسف 53 وقال ابو الدرداء ليحذر أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر وقال الحسن البصري ما زال أهل العلم يوعدون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالعلم وأورثت الحكمة

فوصف القلب والنفس بأنه يقول ويأمر ويتحدث وينطق ونحو ذلك يستعمل مع التقييد بأتفاق المسلمين لكن النزاع في شيئين

أحدهما أن الكلام على الإطلاق من غير إضافة إلى نفس وقلب أو نحو ذلك هل هو اسم لمجرد أو لمجرد الحروف أو لمجموع المعاني والحروف

هذا فيه ثلاثة أقوال فالقشيري وطائفة يقولون بالاول وطائفة أخرى من أهل الكلام والفقه والعربية تقول بالثاني وأما سلف الأمة وأئمتها فإنهم يقولون بالوسط وهو الثالث أن الكلام عند الإطلاق يتناول الحروف والمعاني جميعا

وقول النبي ﷺ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتلكم أو تعمل به يفرق بين الحديث المقيد بالنفس وبين الكلام المطلق

الثاني أن معنى الكلام الذي تطابقه العبارة هل هو من جنس العلوم والإرادات أم ليس من هذا الأحسن بل هو حقيقة أخرى وهذا فيه نزاع بين الطوائف المنتسبة إلى السنة والتي ليست منتسبة إليها ففي هؤلاء وهؤلاء من يقول بهذا وفي هؤلاء وهؤلاء من يقول بهذا

فتبين أن ما ذكره الجنيد من قول القلب ليس هو قول من يقول إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس

وأما قول أبي القاسم إن هذا قول أهل الأصول بالعموم فلا خلاف بين الناس أن أول من أحدث هذا القول في الإسلام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري واتبعه على ذلك أبو الحسن الأشعري ومن نصر طريقتهما وكانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقا

وهذه المسألة مسالة حد الكلام قد أنكرها عليهما جميع طوائف المسلمين حتى الفقهاء والأصوليون والمصنفون في اصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يذكرون الكلام وأنواعه من الأمر والنهي والخبر وما فيه من العام والخاص وأن الصيغة داخلة في مسمى ذلك عند جميع فرق الأمة أصوليها وفقيهها ومحدثها وصوفيها إلا عند هؤلاء فكيف يضاف هذا القول إلى أهل الاصول عموما وإطلاقا

ثم من العجب قول ابي القاسم عن أهل الأصول هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي والخبر والاستخبار ومعلوم أن الأمر والنهي والخبر والاستخبار أنواع الكلام والجنس ينقسم إلى أنواعه واسمه صادق على كل نوع من الانواع كما إذا قسمنا الحيوان إلى طير ودواب يعمهما ويصدق اسمه على كل منهما فيجب أن يكون حد الكلام واسمه صادقا على أنواعه من الأمر والنهي والخبر والاستخبار فإن كان الكلام ليس إلا مجرد المعنى فهذه الأنواع ليست إلا مجرد معنى فإذا قال إن الكلام هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي والخبر والاستخبار كان قد جعل المعنى الذي للأمر غير الأمر وهذا يطابق قول اهل الجماعة لا يطابق قوله بل كان حقه أن يقول المعنى الذي قام بالقلب من الأمر والنهي لا من معنى الأمر والنهي لكنه تكلم في الأمر والنهي والخبر والاستخبار

فأما في الكلام فتكلم فيه بما تلقاه عن أولئك المتكلمة الذين أحسنوا في مواضع كثيرة وردوا بها على المعتزلة وغيرهم وأساءوا في مواضع خالفوا بها السنة وإن كانوا متأولين والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم سورة الحشر 10

فصل في الحديث الذي في الصحيحين عن جويرية أم المؤمنين لما خرج النبي

ص من عندها ثم رجع إليها فوجدها تسبح بحصى فقال لها ما زلت منذ اليوم قالت نعم قال النبي ﷺ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتيهن منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته

فيه فوائد ترد على الجهمية والمتفلسفة

منها قوله زنة عرشه وذلك في معرض التعظيم لوزن العرش وأنه أعظم المخلوقات وزنا وذلك يدل على ثقله كما جاءت بعض الأحاديث بثقله خلافا لما يقوله من يقوله المتفلسفة إن الأفلاك وما فوقها ليس بثقيل ولا خفيف بناء على اصطلاح لهم الثقيل ما تحرك إلى السفل والخفيف ما تحرك إلى فوق وإن الأفلاك لا تهبط ولا تصعد وذلك أن الله أمسكها بقدرته كما امسك الارض في مقرها مع العلم بأن مقر الأجسام أمر عدمي ليس فيه ما يوجب اختصاص شئ به دون الآخر

ومنها قوله رضا نفسه فيه إثبات نفسه وإثبات رضاه وأن رضاه ليس هو مجرد إرادته فإنه قد قال عدد خلقه والمخلوق هو الذي أراده وشاءه فلو كان رضاه هو إرادته لكان مراده موجودا فإن مراده قد وجد قبل هذا الكلام فإنه ما شاء الله كان وهذا الكلام يقتضي أن رضى نفسه أعظم من ذلك ومن ذلك أنه جمع بين رضا نفسه ومداد كلماته فأثبت له الرضا والكلام والرضا مستلزم الإرادة وإن لم يكن هو عين الإرادة ففيه إثبات كلامه ورضاه الذي يتضمن محبته ومشيئته

وهاتان الصفتان الصفتان هما اللتان أنكرهما الجعد بن درهم أول الجهمية لما زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا إذ لا محبة له ولا رضا ولم يكلم موسى تكليما وعن ذلك نفت المعتزلة أن يكون له في نفسه إرادة أو كلام ولم يجعلوا ذلك إلا مخلوقا في غيره

وتقرب منهم طائفة من الأشعرية فأثبتت الإرادة ولم يجعلوا المحبة والرضا صفة إلا الإرادة وأثبتت الكلام ولم يجعلوه إلا معنى واحدا قائما بذاته فوافقوا أهل الإثبات في بعض الحق والجهمية في بعض الباطل

ومن ذلك أنه انتقل من صفة المخلوق إلى صفة الخالق فذكر عدد المخلوقات وذكر وزن سقفها وأعظمها كما في الحديث الصحيح قال النبي ﷺ إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنها وسط الجنة وأعلى الجنة وسقفها عرش الرحمن

فصل يتعلق بالسماع

قال أبو القاسم القشيري في باب السماع قال الله

تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18

قال أبو القاسم اللام في قوله القول تقتضي التعميم والاستغراق والدليل عليه أنه مدحهم بأتباع الأحسن

قلت وهذا يذكره طائفة منهم أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وهو غلط بأتفاق الأمة وأئمتها لوجوه

احدهما أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر باستماع كل قول بإجماع المسلمين حتى يقال اللام للاستغراق والعموم بل من القول ما يحرم استماعه ومنه ما يكره كما قال النبي ﷺ من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة

وقد قال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون سورة الأنعام 68 69

فقد أمر سبحانه بالإعراض عن كلام الخائضين في آياته ونهى عن القعود معهم فكيف يكون استماع كل قول محمودا

وقال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيا ت الله يكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم سورة النساء 140

فجعل الله المستمع لهذا الحديث مثل قائله فكيف يمدح كل مستمع كل قول

وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون سورة المؤمنون 1 3

وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما إلى قوله وإذا مروا باللغو مروا كراما سورة الفرقان 63 72

وروى أن ابن مسعود سمع صوت لهو فأعرض عنه فقال النبي ﷺ إن كان ابن مسعود لكريما

فإذا كان الله تعالى قد مدح وأثنى علي من أعرض عن اللغو ومر به كريما لم يستمعه كيف يكون استماع كل قول مدوحا

وقد قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا سورة الإسراء 36 فقد أخبر أنه يسأل العبد عن سمعه وبصره وفؤاده ونهاه أن يقول ما ليس له به علم

وإذا كان السمع والبصر والفؤاد كل ذلك منقسم إلى ما يؤمر به وإلى ما ينهى عنه والعبد مسئول عن ذلك كله كيف يجوز أن يقال كل قول في العالم كان فالعبد محمود على استماعه هذا بمنزلة أن يقال كل مرئي في العالم فالعبد ممدوح على النظر إليه

ولهذا دخل الشيطان من هذين البابين على كثير من النساك فتوسعوا في النظر إلى الصور المنهى عن النظر إليها وفي استماع الأقوال والأصوات التي نهوا عن استماعها ولم يكتف الشيطان بذلك حتى زين لهم أن جعلوا ما نهوا عنه عبادة وقربة وطاعة فلم يحرموا ما حرم الله ورسوله ولم يدينوا دين الحق

كما حكى عن أبي سعيد الخراز أنه قال رأيت إبليس في النوم وهو يمر عني ناحية فقلت له تعال مالك فقال بقى لي فيكم لطيفة السماع وصحبة الأحداث

وأصحاب ذلك وإن كان فيهم من ولاية الله وتقواهم ومحبته والقرب إليه ما فاقوا به على من لم يساوهم في مقامهم فليسوا في ذلك بأعظم من أكابر السلف المقتتلين في الفتنة والسلف المستحلين لطائفة من الأشربة المسكرة والمستحلين لربا الفضل والمتعة والمستحلين للحشوش كما قال عبد الله بن المبارك رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته

والغلط يقع تارة في استحلال المحرم بالتأويل وفي ترك الواجب بالتأويل وفي جعل المحرم عبادة بالتأويل كالمقتتلين في الفتنة حيث رأوا ذلك واجبا ومستحبا وكما قال طائفة مثل عبد الله بن داود الحربي وغيره إن شرب النبيذ المختلف فيه أفضل من تركه

فالتأويل يتناول الأصناف الخمسة فيجعل الواجب مستحبا ومباحا ومكروها ومحرما ويجعل المرحم مكروها ومباحا ومستحبا وواجبا وهكذا في سائرها

ومما يعتبر به أن النساك وأهل العبادة والإرادة توسعوا في السمع والبصر وتوسع العلماء وأهل الكلام والنظر في الكلام والنظر بالقلب حتى صار لهؤلاء الكلام المحدث ولهؤلاء السماع المحدث هؤلاء في الحروف وهؤلاء في الصوت وتجد أهل السماع كثيري الإنكار على أهل الكلام كما صنف الشيخ ابو عبد الرحمن السلمي مصنفا في ذم الكلام وأهله وهما من أئمة أهل السماع ونجد أهل العلم والكلام مبالغين في ذم أهل السماع كما نجده في كلام أبي بكر بن فورك وكلام المتكلمين في ذم السماع وأهله والصوفية ما لا يحصى كثرة

وذلك أن هؤلاء فيهم انحراف يشبه انحراف اليهود أهل العلم والكلام وهؤلاء فيهم انحراف يشبه انحراف النصارى أهل العبادة والإرادة

وقد قال الله في الطائفتين وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون سورة البقرة 113

ولهذا تجد تنافرا بين الفقهاء والصوفية وبين العلماء والفقراء إمن هذا الوجه

والصواب أن يحمد من حال كل قوم ما حمده الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة ويذم من حال كل قوم ما ذمه الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة ويجتهد المسلم في تحقيق قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة 6 7 قال النبي ﷺ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون وقد تكلمنا على بعض ما يتعلق بهذه الأمور في غير هذا الموضع في مواضع

الوجه الثاني أن المراد بالقول في هذا الموضع القرآن كما جاء ذلك في قوله ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون سورة القصص 51 فإن القول الذي أمروا بتدبره هو الذي أمروا بأستماعه والتدبر بالنظر والاستدلال والاعتبار والاستماع فمن أمرنا بأستماع كل قول أو بأستماع القول الذي لم يشرع استماعه فهو بمنزلة من أمر بتدبر كل قول والنظر فيه أو بالتدبر للكلام الذي لم يشرع تدبره والنظر فيه فالمنحرفون في النظر والاستدلال بمثل هذه الأقوال من أهل الكلام المبتدع

وذلك أن اللام في لغة العرب هي للتعريف فتنصرف إلى المعروف عند المتكلم والمخاطب وهي تعم جميع المعروف فاللام في القول تقتضي التعميم والاستغراق لكن عموم ما عرفته وهو القول المعهود المعروف بين المخاطب والمخاطب ومعلوم ان ذلك هو القول الذي أثنى الله عليه وأمرنا بأستماعه والتدبر له واتباعه فإنه قال في أول هذه السورة تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فأعبد الله مخلصا له الدين الا لله الدين الخالص سورة الزمر 1 3 فذكر في السورة كلامه ودينه الكلم الطيب والعمل الصالح

وخير الكلام كلام الله وأصل العمل الصالح عبادة الله وحده لا شريك له كما في قوله قل الله أعبد مخلصا له ديني فأعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين إلى قوله والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوا وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولو الألباب سورة الزمر 14 18

ثم قال بعد ذلك أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله سورة الزمر 22 23

فأثنى على أهل السماع والوجد للحديث الذي نزله وهو أحسن الحديث ولم يثن على مطلق الحديث ومستمعه بل تضمن السياق الثناء على أهل ذكره والاستماع لحديثه كما جمع بينهما في قوله ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق سورة الحديد 16 وفي قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا سورة الأنفال 2

وقال تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول سورة الأعراف 204 205

ثم قال بعد ذلك ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون سورة الزمر 27 28 فذكر القرآن وبين أنه قدر فيه من جميع المقاييس والأمثال المضروبة لأجل التذكير فدعى هنا إلى التذكير والاعتبار بما فيه من الأمثال وذلك يتضمن النظر والاستدلال والكلام المشروع كما أنه في الآية الأولى أثنى على أهل السماع له والوجد وذلك يتضمن السماع والوجد المشروع

ثم قال بعد ذلك فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للمتكبرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر 32 33

ذكر البخاري في صحيحه تفسير مجاهد وهو أصح تفسير التابعين قال والذي جاء بالصدق القرآن وصدق به المؤمن يجئ يوم القيامة يقول هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه فذكر الصدق والمصدق به مثنيا عليه وذكر الكاذب والمكذب للحق وهما نوعان من القول ملعونان هما وأهلها فكيف يكون مثنيا على من استمعها

ولا ريب أن البدعة الكلامية والسماعية المخالفة للكتاب والسنة تتضمن الكذب على الله والتكذيب بالحق كالجهمية الذين يصفون الله بخلاف ماوصف به نفسه فيفترون عليه الكذب أو يروون في ذلك آثار مضافة إلى الله أو يضربون مقاييس ويسندونها إلى العلوم الضرورية والمعقول الصحيح الذي هو حق من الله وكل ذلك كذب ويكذبون بالحق لما جاءه وهو ما ورد به الكتاب والسنة من الخبر بالحق والأمثال المضروبة له وكذلك كثير من الأشعارالتي يسمعها اهل السماع قد يتضمن من الكذب على الله والتكذيب بالحق أنواعا

ونفس الانتصار لما خالف الشريعة من السماع وغيره يتضمن الكذب على الله مثل أن يقول القائل إن الله أراد بقوله الذين يستمعون القول سورة الزمر 18 مستمع كل قول في العالم فهذا كذب على الله وإن كان قائله منا ولأنهم يكذبون بالحق المخالف لأهوائهم

ثم قال تعالى بعد ذلك إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما انت عليهم بوكيل سورة الزمر 41 فأخبر أنه أنزل القول الذي هو الكتاب بالحق وإن المهتدى لنفسه هداه وضلاله على نفسه والرسول ليس بوكيل عليهم يحصى أعمالهم ويجزيهم عليها بل إلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم

ثم قال يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ولا تقنطوا من رحمة الله إلى قوله واتبعوا احسن ما أنزل إليكم من ربكم سورة الزمر 53 55 وهذا الأحسن هنا هو الأحسن الذي في قوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 وفي قوله لموسى عن التوراة فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سورة الأعراف 145 كما سنذكره إن شاء الله

ثم قال وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت ابوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلا إلى قوله وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا إلى قوله وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين سورة الزمر 71 74 مع قوله وجئ بالنبيين والشهداء سورة الزمر 69

فجعل الفرقان بين أهل الجنة والنار هؤلاء الآيات التي تلتها الرسل عليهم فمن استمعها واتبعها كان من المؤمنين أهل الجنة ومن أعرض عنها كان من الكافرين أهل النار

والكتاب هو الذي جعله الله حاكما بين الناس كما قال وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه سورة البقرة

فهذا كله إذا تدبره المؤمن علم علما يقينا أن الكتاب والقول والحديث وآيات الله كل ذلك واحد والمحمودون الذين أثنى الله عليهم هم المتبعون لذلك استماعا وتدبرا وإيمانا وعملا أما مدح الاستماع لكل قول فهذا لا يقصده عاقل فضلا عن ان يفسر به كلام الله وهذا يتوكد بالوجه الثالث

وهو ان الله في كتابه إنما حمد استماع القرآن وذم المعرضين عن استماعه وجعلهم أهل الكفر والجهل الصم البكم فأما مدحه لاستماع كل قول فهذا شئ لم يذكره الله قط كما قال تعالى وإذا قرئ القرآن فآستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون سورة الأعراف 204

وقال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا سورة الأنفال 2

وقال تعالى أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا سورة مريم 58

وقال تعالى وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق سورة المائدة 83

وقال تعالى الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا سورة الإسراء 107 109

وقال الله تعالى في ذم المعرضين عنه إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون سورة الأنفال 22 23

وقال تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون سورة البقرة 171

وقال تعالى والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا سورة الفرقان 73

وفال تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون سورة فصلت 26

وقال تعالى فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستفرة فرت من قسورة سورة المدثر 49 51

وقال تعالى أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون سورة النجم 59 61 قال غير واحد من السلف هو الغناء فقال اسمد لنا أي عن لنا فذم المعرض عما يجب من استماع المشتغل عنه باستماع الغناء كما هو فعل كثير من الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وحال كثير من المتنسكة في اعتياضهم بسماع المكاء والتصدية عن سماع قول الله تعالى

ومثل هذا قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا سورة لقمان 6

وقال تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ثم قال وعلى أبصارهم غشاوة سورة البقرة 6 7

وقال تعالى وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون سورة فصلت 5

وقال تعالى ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم سورة محمد 16

وقال ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون سورة يونس 42

وقال ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون سورة يونس 43

وقال تعالى ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا سورة الأنعام 25

الوجه الرابع أنهم لا يستحسنون استماع كل قول منظوم ومنثور بل هم من أعظم الناس كراهة ونفرة لما لا يحبونه من الأقوال منظومها ومنثورها و نفورهم عن كثير من الأقوال أعظم من نفور المنازع لهم في سماع المكاء والتصدية عن هذا السماع وإذا لم يكن العموم مرادا بالاتفاق كان حمل الآية عليه باطلا

الوجه الخامس أنه قال فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 17 18 فمدحهم بأستماع القول واتباع أحسنه

ومعلوم أن كثيرا من القول ليس فيه حسن فضلا عن ان يكون فيه أحسن بل فيه كما قال الله تعالى ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار سورة إبراهيم 26

وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أوكذب بالحق لما جاءوه سورة العنكبوت 68

وقال وكذلك نجزي المفترين سورة الاعراف 152

وقال ولا يغتب بعضكم بعبضا سورة الحجرات 12

وقال تعالى ولا تنابزوا بالألقاب سورة الحجرات 11

وقال إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول سورة المجادلة 9

وقال تعالى ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا سورة النساء 81

وهو قد استدل بقوله فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 على العموم وهو حجة على صدق ذلك كما تقدم

وقوله فيتبعون أحسنه كقوله في هذه السورة واتبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربكم سورة الزمر 55 فهذه الكلمة مثل هذه الكلمة سواء بسواء

وهذا من معاني تشابه القرآن كما قال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى سورة الزمر 23 فاتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا هو اتباع أحسن القول

وبهذا أمر بني إسرائيل حيث قال وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سورة الأعراف 145