الحمد لله الذي سهل لنا سلوك شرائع الدين، وأوضح أعلامه، وبين لنا مناهج اليقين، فأكمل بذلك علينا إنعامه، وخصّنا بسيد أنبيائه ونخبة أصفيائه، فاستنقذنا به من شفا جرف الهلكات، وبصّرنا به طريق الإرتقاء على أعالي الدرجات. وأكرمنا بأهل بيت نبيّه سادات البشر وشفعاء يوم المحشر، فنوّر قلوبنا بأنوار هدايتهم، وشرح صدورنا بأسرار محبّتهم، صلوات الله عليه وعليهم أبد الآبدين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أما بعد، فيقول المفتاق إلى رحمة ربه الغافر، ابن محمد تقي، محمد باقر - أُوتيا كتابهما يميناً وحُوسبا حساباً يسيراً -: إنه قد سألني بعض من هداه الله تعالى إلى طلب مسالك الحق والرشاد، وأودع قلبه خوف المعاد، أن أبين له ما هداني الله تعالى إليه من طريق النجاة في هذا الزمان الذي اشتبه على الناس الطرق، وأظلم عليهم المسالك، واستحوذ الشيطان على أوليائه فأوردهم المهالك، فنصب الشيطان وأحزابه من الجن والإنس على طريق السالكين إلى الله فخوخهم ومصائدهم يميناً وشمالاً، وسوّلوا لهم على مثال الحق بدعة وضلالة.
فوجب عليّ أن أبين له مناهج الحق والنجاة، بأعلام نيّرة ودلائل واضحة، وإن كنت على وجل من فراعنة أهل البدع وطغاتهم.
فاعلموا يا إخواني أني لا آلوكم نصحاً ولا أطوي عنكم كشحاً في بيان ما ظهر لي من الحق، وإن أرغمت منه المراغم، فلا أخاف في الله لومة لائم.
يا إخواني، لا تذهبوا شمالاً ويميناً، واعلموا يقيناً أن الله تعالى أكرم نبيه محمداً ﷺ وأهل بيته سلام الله عليهم أجمعين، ففضلهم على جميع خلقه، وجعلهم معادن رحمته وعلمه وحكمته، فهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود، والمخصوصون بالشفاعة الكبرى والمقام المحمود، ومعنى الشفاعة الكبرى أنهم وسائط فيوض الله تعالى في هذه النشأة والنشأة الأخرى إذ هم القابلون للفيوض الإلهية والرحمات القدسية، وبتطفلهم تفيض الرحمة على سائر الموجودات.
وهذه هي الحكمة في لزوم الصلاة عليهم والتوسل بهم في كل حاجة، لأنه إذا صلى عليهم لا يرد، لأن المبدأ فياض، والمحل قابل، وببركتهم تفيض على الداعي بل على جميع الخلق.
أمثّل لكم مثالاً، تقريباً إلى أفهامكم، مثلاً إذا جاء كردي أو أعرابي جاهل غير مستأهل للإكرام إلى باب سلطان، فأمر له السلطان ببسط الموائد وأنواع الكرائم والفوائد، ينسبه العقلاء إلى قلة العقل وسخافة الرأي بخلاف ما إذا بسط ذلك لأحد من مقدمي حضرته أو وزرائه أو أمراء أجناده، فحضر الكردي أو الأعرابي تلك المائدة فأكل يكون مستحسناً، بل لو أكل منه آلاف أمثاله يعد من جميل الكرم، بل ربما يعد منعهم قبيحاً.
وأيضاً، لمّا كنا في غاية البعد عن جناب قدسه تعالى وحريم ملكوته، وما كنا مرتبطين بساحة عزّه وجبروته؛ فلا بد أن يكون بيننا وبين ربنا سفراء وحجب ذوو جهات قدسية وحالات بشرية يكون لهم بالجهات الأولى ارتباط بالجناب الأعلى، بها يأخذون عنه الأحكام والحكم، ويكون لهم بالجهات الثانية مناسبة للخلق، يلقون إليهم ما أخذوا عن ربهم.
فلذا جعل الله تعالى سفراءه وأنبياءه ظاهراً من جنس البشر، وباطناً متباينين عنهم في أطوارهم وأخلاقهم ونفوسهم وقابليّاتهم، فهم مقدّسون روحانيون قائلون: {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}، لئلا ينفر عنهم أمتهم، ويقبلوا عليهم ويأنسوا بهم لكونهم من جنسهم وشكلهم، وإليه يشير قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}. وبه يمكن تفسير الخبر المشهور في العقل، بأن يكون المراد بالعقل نفس النبي (صلى الله عليه وآله) وأمره بالإقبال عبارة عن طلبه إلى مراتب الفضل والكمال والقرب والوصال، وإدباره عن التوجّه بعد وصوله إلى أقصى مراتب الكمال إلى التنزّل عن تلك المرتبة والتوجّه إلى تكميل الخلق.
ويمكن أن يكون قوله تعالى: { قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولا} مشيراً إليه بأن يكون إنزال الرسول كناية عن تنزله عن تلك الدرجة القصوى التي لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل إلى معاشرة الخلق وهدايتهم ومؤانستهم.
فكذلك في إفاضة سائر الفيوض والكمالات، هم وسائط بين ربهم وبين سائر الموجودات، فكل فيض وجود يبتدأ بهم (صلوات الله عليهم)، ثم ينقسم على سائر الخلق، ففي الصلاة عليهم استجلاب للرحمة إلى معدنها، وللفيوض إلى مقسّمها، لتنقسم على سائر البرايا.
ثم اعلموا أن الله تعالى لما أكمل نبيه ﷺ، قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، فيجب علينا بنصّه تعالى متابعة النبي ﷺ في أصول ديننا وفروعه وأمور معاشنا ومعادنا، وأخذ جميع أمورنا عنه.
وأنه ﷺ أودع حكمه ومعارفه وأحكامه وآثاره وما نزل عليه من الآيات القرآنية والمعجزات الربّانية، أهل بيته صلوات الله عليهم، فقال بالنصّ المتواتر: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، وقد ظهر من الأخبار المستفيضة أن علم القرآن عندهم صلوات الله عليهم، وهذا الخبر المتواتر يدل عليه أيضاً.
ثم إنهم صلوات الله عليهم تركوا بيننا أخبارهم، فليس لنا في هذا الزمان إلا التمسك بأخبارهم والتدبّر في آثارهم، فترك أكثر الناس في زماننا آثار أهل بيت نبيهم واستبدوا بآرائهم؛ فمنهم من سلك مسلك الحكماء الذي ضلّوا وأضلّوا، ولم يقرّوا بنبي ولم يؤمنوا بكتاب، واعتمدوا على عقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، فاتخذوهم أئمة وقادة.
فهم يؤولون النصوص الصريحة الصحيحة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم بأنه لا يوافق ما ذهب إليه الحكماء مع أنهم يرون أن دلائلهم وشبههم لا تفيد ظناً ولا وهماً، بل ليس أفكارهم إلا كنسج العنكبوت، وأيضاً يرون تخالف أهوائهم وتباين آرائهم، فمنهم مشاؤون، ومنهم إشراقيون، قلّ ما يوافق رأي إحدى الطائفتين رأي الأخرى، ومعاذ الله أن يتكلّ الناس إلى عقولهم في أصول العقائد، فيتحيّرون في مراتع الجهالات.
ولعمري إنهم كيف يجترئون أن يؤولوا النصوص الواضحة الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة لحسن ظنهم بيوناني كافر لا يعتقد ديناً ولا مذهباً!
وطائفة من أهل دهرنا اتخذوا البدع ديناً يعبدون الله به، وسموه بالتصوف، فاتخذوا الرهبانية عبادة مع أن نبينا ﷺ قد نهى عنها، وأمر بالتزويج، ومعاشرة الخلق، والحضور في الجماعة، والاجتماع مع المؤمنين في مجالسهم، وهداية بعضهم بعضاً، وتعلّم أحكام الله تعالى وتعليمها، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة المؤمنين، والسعي في حوائجهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله، ونشر أحكام الله، والرهبانية التي ابتدعوها تستلزم ترك جميع تلك الفرائض والسنن.
ثم إنهم في تلك الرهبانية أحدثوا عبادات مخترعة؛ فمنها الذكر الخفي، الذي هو عمل خاص على هيئة خاصة لم يرد به نص ولا خبر، ولم يوجد في كتاب ولا أثر، ومثل هذا بدعة محرمة بلا شك ولا ريب. قال رسول الله ﷺ: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار». ومنها الذكر الجلي الذي يتغنون فيه بالأشعار، ويشهقون شهيق الحمار، ويعبدون الله بالمكاء والتصدية. ويزعمون أن ليس لله تبارك وتعالى عبادة سوى هذين الذكرين المبتدعين، ويتركون جميع السنن والنوافل، ويقنعون من الصلاة الفريضة بنقر كنقر الغراب، ولولا خوف العلماء لكانوا يتركونها رأساً، ثم إنهم لعنهم الله لا يقنعون بتلك البدع؛ بل يحرفون أصول الدين، ويقولون بوحدة الوجود، والمعنى المشهور في هذا الزمان المسموع من مشائخهم، كفر بالله العظيم، ويقولون بالجبر وسقوط العبادات وغيرها من الأصول الفاسدة السخيفة.
فاحذروا يا إخواني، واحفظوا إيمانكم وأديانكم من وساوس هؤلاء الشياطين وتسويلاتهم، وإياكم أن تخدعوا من أطوارهم المتصنعة التي تعلقت بقلوب الجاهلين.
فها أنا ذا أحرر مجملاً مما تبين وظهر لي من الأخبار المتواترة من أصول المذهب لئلّا تضلوا بخدعهم وغرورهم، وأتمم حجة ربكم عليكم، وأؤدي ما وصل إليَّ من مواليكم إليكم، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}. وأتلوا عليكم ما أردت إيراده في بابين.