الرئيسيةبحث

اعتقادات المجلسي/الباب الثاني


قد علمت يا خليلي ما أثبتناه أولاً من لزوم متابعة أهل بيت العصمة سلام الله عليهم في أقوالهم وأفعالهم، والتدبّر في أخبارهم وآثارهم.

فاعلم أنّ الخير كلّ الخير وجدناه في أخبارهم إذ ما من حكمة من الحكم الإلهية إلا وهي فيها مصرحة مشروحة لمن أتاها بقلب سليم وعقل مستقيم، لم يعوج عقله بسلوك طرق الضلال والعمى، ولم يأنس فهمه بأطوار أهل الزيغ والردى.

وطريق الوصول إلى النجاة والفوز بالسعادات ظاهرة بيّنة فيها لمن رفع غشاوة الهوى عن بصيرته وتوسّل إلى ربّه في تصحيح نيّته، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، ومحال أن يخلف الله تعالى وعده إذا أتى الله من الأبواب التي أمر الله تعالى أن يُؤتى منها.

فالذي يجب أولاً للسالك إلى الله أن يصحح نيته، لأن مدار الأعمال في قبولها وكمالها على مراتب النيات، ولا يتأتى ذلك إلا بالتوسل التام بجنابه تعالى والاستعاذة من شر الشياطين وغلبة الأهواء.

ثم يتفكر في عظم هذا المقصد الأقصى، ويتفكر في أنه بعد ذهابه عن هذه النشأة، لا يتأتى له الرجوع إليها لتدارك ما قد فات منه ويحذر عن الحسرة العظمى والمصيبة الكبرى.

ثم يتفكر في فناء هذه الدنيا وتقلب أحوالها، وعدم الاعتماد عليها وعلى عزها وفخرها، ويرجع في أثناء هذه التفكرات إلى ما ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام في ذلك، لا إلى كلام غيرهم، لأن لها لصدورها عن منابع الوحي والإلهام تأثيراً غريباً ليس لكلام غيرهم وإن كان المضمون واحداً.

وأيضاً كلام غيرهم كالغزالي وأبي طالب المكي وأضرابهما مشتمل على حق وباطل، وإنهم يسولون باطلهم في أثناء ذكر الحق في نظر الناظرين إلى كلامهم، ليدخلوهم في حبائلهم ومصائدهم.

ثم اعلم أن النية ليست هي ما اشتهر بين الناس من خطور القلب، أو التلفظ بها بألفاظ عربية أو عجمية، بل هي الداعي على فعل الإنسان، وهي أمر كامن في النفس لا يطلع عليها إلا المجدون في طاعة الله الذين بصرهم الله عيوب النفس ودائها ودوائها، كما قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، وهي تابعة للحالة التي الإنسان مقيم عليها، كما ورد في تفسير قوله تعالى: {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته}، أي على نيته، وهذا ظاهر لمن تدبر فيه.

مثلاً: إذا كان رجل شاكلته وطريقته وسجيته حب الدنيا والحرص عليها، لا يعمل عملاً من أعمال الخير والشر إلا ومقصوده الأصلي منه حيازة الدنيا. فإذا صلى كان الباعث له عليه أنه إذا أخل بالصلاة، يخل ذلك بدنياه، وإذا شرب الخمر يشرب لأنه يعينه على دنياه وهكذا.

وإذا غلب على أحد حب الملوك والتقرب عندهم لا يعمل شيئاً إلا وهو يلاحظ أن يكون لهذا العمل مدخل في التقرب إليهم، والقرينة على ذلك أنه يترك كثيراً من أعمال الخير لا يوافق طباعهم.

فإذا تفطنت لذلك، فاعلم أن للناس في نياتهم منازل ودرجات:

فمنهم: من غلب عليه شقوتهم - كما أشرنا إليه - وليس المنظور في أعمالهم إلا أمثال ما ذكرناه من الأمور الفاسدة. وهذا إذا لم يسع في ترك تلك الحالة، يتدرج في الشقاوة إلى أن يترك دينه وعقائده ولا يرجى خيره أبداً.

والثاني: من ارتفع عن هذه الدرجة، ففي نفسه حب الدنيا وحب الآخرة معاً، ويزعم باطلاً أنهما يجتمعان، فقد يغلب عليه حب الآخرة فيعمل لها، وقد يغلب عليه حب الدنيا فيعمل لها، وهذا إذا لم يرفع نفسه عن هذه الدرجة، يلحق عما قريب بالأول.

والثالث: من غلب عليه خوف عقاب الله، وتنبَّه وتفكَّر في شديد عذابه وأليم عقابه، فصار ذلك سبباً لحط الدنيا عن نظره، فهو يعمل على كل ما يعمل من الأعمال الحسنة، ويترك من الأعمال السيئة خوفاً، وهذه العبادة صحيحة على الأظهر، لكن ليس في درجة الكمال، وقد ورد عن الصادق "عليه السلام" أنها عبادة العبيد.

والرابع: إنه غلب عليه الشوق إلى ما أعد الله للمحسنين في الجنة، فيعبد الله لطلب تلك الأمور، وقد ورد في الخبر أنه عبادة الأجراء، وهذا قريب من السابق.

والخامس: إنه يعبد الله لأنه تعالى أهل للعبادة، وهذه درجة الصدّيقين، وقد قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك. وقد ورد عن الصادق "عليه السلام" أنها عبادة الأحرار. ولا يسمع هذه الدعوى من غيرهم، إذ لا يكون هذا إلا لمن يعلم من نفسه أنه لو لم يكن لله جنة ولا نار، بل لو كان - والعياذ بالله - العاصي في الجنة والمطيع في النار، لاختار الإطاعة لأن الله تعالى أهل لها.

والسادس: إنه يعبد الله تعالى شكراً له، فإنه يلاحظ نعمه تعالى الغير متناهية، فيحكم عقله بأن هذا المنعم يستحق لأن يُعبد لنعمه.

والسابع: إنه يعبد الله تعالى حياءاً فإنه يحكم عقله بحسن الحسنات وقبح السيئات، ويعلم أن الله تعالى مطلع عليه في جميع أحواله، فهذا يعبده حياءاً، ولا يلتفت إلا ثواب ولا عقاب، وإليه يشير ما ورد في تفسير الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

والثامن: أن يعبده تعالى حباً له، ومرتبة المحبة أعلى مراتب الكمال، وهي تحصل بدوام ذكره تعالى، وكثرة العبادة وتذكر نعم الله تعالى عليه وألطافه إليه. وإذا حصلت المحبة، لا يجوز مخالفة محبوبه لحبه إياه، ولا ينظر إلى نفع ولا ضرر.

والتاسع: إنه يعبده تقرباً إليه أي طلباً لقربه.

وللقربة معانٍ دقيقة نشير إلى بعضها إذ لا يتصور في شأنه تعالى القرب الزماني والمكاني، فالمراد إما القرب بحسب الدرجة والكمال إذ في مراتب النقص له غاية البعد عن جنابه تعالى لغاية كماله، فإذا رفع عن نفسه بعض النقائص، واتصف ببعض الكمالات، قل بعده عن جنابه وتخلق ببعض أخلاقه.

أو القرب بحسب المصاحبة المعنوية والتذكر، فإنه إذا كان محب في المشرق ومحبوبه في المغرب، فهو على الدوام في ذكره وفكره، ومشغول بخدماته وبالأمور المفوضة إليه، وهذا في الحقيقة أقرب من المحبوب من العدو الذي هو جالس بجنبه.

ولا ريب أن هذين المعنيين اللذين ذكرناهما يحصلان من العبادة فيمكن أن يكون غرض العابد حصول هذين المعنيين.

وللقرب معانٍ أخر، وللنية درجات أخر فيما بين المراتب التي ذكرنا لا يتناهى، وإنما أشرنا إلى بعضها على سبيل التمثيل، ليعرف المؤمن السالك إلى الله خطر هذا الطريق، ويتوسل إليه تعالى لينجيه من مهالك هذه المسالك حتى إذا دخل في زمرة عباد الله المخلصين، أمن من شر الشياطين، كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَان}.

ولنعم ما مثل الشيطان بالكلب الذي يكون على أبواب الناس، ويؤذي من بهم بدخول دار مالكه، ولا يمكن دفعه إلا بأنه ينهره المالك ويزجره، أو يعلم أن الداخل من أصدقاء صاحب البيت، فكذا هذا الكلب اللعين موكل على باب الله تعالى لئلا يدخله الأجانب ومن لا يليق لشقائه بالدخول فيه، فإذا نهره صاحب البيت جل شأنه بسبب استعاذة العبد به من شره، أو علم أنه من مقربي هذه الحضرة، ومن خواص مالك الملاك، وكثيراً ما يدخل في هذا الباب ويخرج منه، وله أنس بصاحب البيت لا يتعرض له هذا الكلب.

فإذا توسل السالك بجنابه تعالى، وصحح نيته بقدر الجهد في بدو الأمر، يطلب ما يُعلم أنه خير آخرته فيه، ولا يُبالي بأن يعده أهل الزمان وجهلة الدوران حشوياً أو قشرياً، أو زاهداً متحجراً، أو ينسبونه إلى الجهل، وإذا كان بهذه المنزلة يظهر له الحق عياناً.

فينبغي بعد ذلك أن يبتغي معلماً مستأنساً بكلام أهل البيت عليهم السلام وأخبارهم معتقداً لها، لا من يؤول الأخبار بالآراء، بل من صحح عقائده من الأخيار، ويشرع في طلب العلم ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته، ويتدبر في أخبار أهل البيت عليهم السلام، ويكون مقصده التحصيل للعمل.

فلا العمل ينفع بدون العلم، كما ورد عن الصادق "عليه السلام": «إن العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً». ولا العلم ينفع بدون العمل، وأيضاً لا يحصل العلم بدون العمل، كما روي: «من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم».

ولقد شبه العلم بسراج يكون مع السائر في طريق مظلم إذا وقف ولم يمشِ، لا يضيء له إلا مقدار معلوم، وكلما مشى، يضيء له مقدار آخر، فالعلم يعين على العمل، والعمل يزيد في العلم.

فينبغي أن يقسم يومه ثلاثة أقسام، ففي بعض اليوم يسعى لطلب الرزق الحلال، وفي بعض في طلب العلم، وفي بعض آخر يشتغل بالفرائض والسنن والنوافل.

وينبغي أن يحصل نبذة من العلوم الآلية لافتقار علم الحديث إليها كعلم الصرف والنحو وقليلاً من المنطق، وقليلاً من علم الأصول، وبعض الكتب الفقهية، ثم يبذل غاية الجهد في علم الحديث، ويطالع الكتب الأربعة وغيرها من تصانيف الصدوق وغيره.

ولقد اجتمع عندنا بحمد الله سوى الكتب الأربعة نحو من مائتي كتاب، ولقد جمعتها وفسرتها في كتاب بحار الأنوار، فعليك بالنظر فيه والخوض في لججه والاستفادة منه، فإنه بحر كما سمي به.

ثم اعلم يا أخي أن لكل عبادة روحاً وجسداً، وظاهراً وباطناً، فظاهرها وجسدها الحركات المخصوصة، وباطنها الأسرار المقصودة منها والثمرات المترتبة عليها، وروحها حضور القلب والإقبال عليها، وطلب حصول ما هو المقصود منها، ولا تحصل تلك الثمرات إلا بذلك.

كالصلاة التي هي عمود الدين، جعلها الله تعالى أفضل الأعمال البدنية، ورتب عليها آثاراً عظيمة. قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}، وقال رسول الله ﷺ: «الصلاة معراج المؤمن»، ولا يترتب عليها تلك الثمرات إلا بحضور القلب التي هي روحها إذ الجسد بلا روح لا يترتب عليه أثر.

ولذا صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، ولا يحصل لنا بها العروج عن تلك الدركات الدنية إلى الدرجات العلية، فإن الصلاة معجون إلهي ومركب سماوي إذا لوحظت فيها شرائط عملها، ينفع لجميع الأمراض النفسانية والأدواء الروحانية.

فيلزم أن يكون الإنسان متذكراً في كل فعل من أفعال الصلاة سر ذلك الفعل، والغرض المقصود منه، ففي الدعوات المقدمة عليها إيناس للنفس التي استوحشت بسبب الاشتغال بالأمور الدنيوية التي اضطر إليها الإنسان بحسب الحكم والمصالح، ليكون عند الشروع فيها مستأنساً بجنابه تعالى.

وأيضاً من شرائط قبول العمل التقوى والورع عن المعاصي إذ بارتكابها ببعد عن ساحة قربه. وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، ولما ارتكب العبد الأفعال السيئة، وبعد بسببها غاية البعد، يتضرع قبل الصلاة أن يغفر له ويصفح عن جرائمه ليصير أهلاً لأن يعبده ويناجيه.

وفي التكبيرات تنزيه لجنابه تعالى عن الشريك والمثل والنقص، وعن أن يمكن للعبد إدراكه بالقوى الظاهرة والباطنة والعقول والأفهام، وتذكر للعقائد الحقة لتستقر في النفوس.

وفي دعاء التوجه تلقين للإخلاص في النية وإظهار لغاية العبودية ورفع النظر عما سواه، والتوجه بشراشره إليه.

وفي القراءة مكالمة مع المحبوب الحقيقي ومناجاة بذكر محامده أولاً، ووصفه بالأوصاف الكمالية وسيلة أمام الحاجة، ورعاية لآداب المكالمة والمناجاة، ثم إظهار العبودية، ثم التخلّي عن الحول والقوة، والاستعانة به في جميع الأمور، خصوصاً في العبادات، ثم طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو صراط النبي والأئمة عليهم السلام في جميع العقائد والأعمال والأخلاق والطريق إلى الله.

وهذا الطلب مشتملٌ على جميع المطالب العالية - ثم الاستعاذة عن صراط أعدائهم، ويندرج فيه جميع العقائد الباطلة والأخلاق الردية والطرق المضلّة وجميع الفسوق، فإنها جميعاً صراط أعدائهم.

وكذا في الركوع والسجود خضوع وتذلّلٌ لله تعالى لدفع ما يحدث في الإنسان من التكبّر والفخر والعجب، فأمر بأن يضع مكارم بدنه على التراب عند ربّه.

وكذا في كل فعل من الأفعال حكم جسيمة ومصالح عظيم لا تفي بشرحها الكتب العظيمة، وقد ورد في الأخبار في كل فعل من أفعال الصلاة أسرار غريبة وحكم عجيبة، وإنما أومئنا في هذا المقام إلى بعض منها على جهة التمثيل، وغلا فلا تفي هذه الرسالة وآلاف أمثالها بشرح واحد منها.

فينبغي أن يرجع الإنسان إلى الأخبار الواردة فيها وفي أسرار جميع العبادات وحكمها، ويأتي بكل فعل على وجهه، ليكون كل فعل من أفعاله وسيلة لقربه، وسبباً لتكميل نفسه، وهادياً له إلى سبيل نجاته.

ثم اعلم أن أقرب الطرق إلى الله تعالى كما هو ظاهر كثير من الآيات والأخبار هو طريق الدعاء والمناجاة، لكن لهما شرائط من حضور القلب، والتوس التام، وقطع الرجاء عمّن سواه تعالى، والاعتماد الكامل عليه، والتوجّه في صغير الأمور وكبيرها وقليلها وكثيرها إليه سبحانه.

والأدعية المأثورة على نوعين.