الرئيسيةبحث

إحياء علوم الدين/كتاب العلم/الباب الأول




الباب الأول
في فضل العلم والتعليم والتعلم
وشواهده من النقل والعقل


فضيلة العلم

شواهدها من القرآن قوله عز وجل "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط" فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم؛ وناهيك بهذا شرفاً وفضلاً وجلاء ونبلاً. وقال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" قال ابن عباس رضي الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام. وقال عز وجل "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقال تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال تعالى "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب" وقال تعالى "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به" تنبيهاً على أنه اقتدر بقوة العلم. وقال عز وجل "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً" بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم. وقال تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال تعالى "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" رد حكمه في الوقائع إلى استنباطهم وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء في كشف حكم الله. وقيل في قوله تعالى "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سواءتكم - يعني العلم - وريشاً - يعني اليقين - ولباس التقوى" يعني الحياء. وقال عز وجل "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم" وقال تعالى "فلنقصن عليهم بعلم" وقال عز وجل "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" وقال تعالى "خلق الإنسان علمه البيان" وإنما ذكر في معرض الامتنان. وأما الأخبار فقال رسول الله ﷺ "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده" وقال ﷺ "العلماء ورثة الأنبياء"، ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة. وقال ﷺ "يستغفر للعالم ما في السموات والأرض وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له. وقال ﷺ "إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك" وقد نبه بهذا على ثمراته في الدنيا، ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى. وقال ﷺ "خصلتان لا يكونان في منافق: حسن سمت وفقه في الدين" ولا تشكن في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان، فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته، وسيأتي معنى الفقه. وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا، وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برىء بها من النفاق والرياء.

وقال ﷺ "أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه" وقال ﷺ "الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم" وقال ﷺ "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد: أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل". وقال ﷺ "لموت قبيلة أيسر من موت عالم" وقال عليه الصلاة والسلام "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وقال ﷺ "يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء" وقال ﷺ "من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة" وقال ﷺ "من حمل من أمتي أربعين حديثاً لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيهاً عالماً" وقال ﷺ "من تفقه في دين الله عز وجل كفاه الله تعالى ما أهمه ورزقه من حيث لا يحتسب" وقال ﷺ "أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام: يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم" وقال ﷺ "العالم أمين الله سبحانه في الأرض" وقال ﷺ "صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس: الأمراء والفقهاء" وقال عليه السلام "إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم، وقال ﷺ في تفضيل العلم على العبادة والشهادة "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" فانظر كيف جعل العلم مقارناً لدرجة النبوة وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها ولولاه لم تكن عبادة? وقال ﷺ "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وقال ﷺ "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" فأعظم بمرتبة هي تلو النبوة وفوق الشهادة مع ما ورد في فضل الشهادة. وقال رسول الله ﷺ "ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من فقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه" وقال ﷺ "خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه" وقال ﷺ "فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد بسبعين درجة" وقال ﷺ "إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه والعلم فيه خير من العمل" وقال ﷺ " بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة" وقيل: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل? فقال "العلم بالله عز وجل" فقيل: أي العلم تريد? قال ﷺ "العلم بالله سبحانه" فقيل له: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم! فقال ﷺ "إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله" وقال ﷺ "يبعث الله سبحانه العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء ثم يقول: يا معشر العلماء، إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم" نسأل الله حسن الخاتمة. وأما الآثار فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق. وقال علي أيضاً رضي الله عنه: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وقال رضي الله عنه نظماً:

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهـم
 
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه
 
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً بـه أبـداً
 
الناس موتى وأهل العلم أحياء


وقال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وسئل ابن المبارك: من الناس? فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك? قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة? قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم. وقال بعض العلماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فاته من أدرك العلم. وقال عليه الصلاة والسلام "من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقر ما عظم الله تعالى" وقال فتح الموصلي رحمه الله: أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت? قالوا: بلى قال: كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت. ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته، كما أن غذاء الجسم الطعام، ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به؛ إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه؛ كما أن غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعاً؛ فإذا حط الموت عنه أعباء الدنيا أحس بهلاكه وتحسر تحسراً عظيماً ثم لا ينفعه وذلك كإحساس الآمن خوفه والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وقال الحسن رحمه الله: يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، فإن أحداً لم يولد عالماً وإنما العلم بالتعلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها، وكذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وأحمد بن حنبل رحمه الله. وقال الحسن في قوله تعالى "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" إن الحسنة في الدنيا هي العلم والعبادة، وفي الآخرة هي الجنة. وقيل لبعض الحكماء: إن الأشياء تقتنى? قال: الأشياء التي إذا غرقت سفينتك سبحت معك، يعني العلم وقيل. أراد بغرف السفينة هلاك بدنه بالموت. وقال بعضهم: من اتخذ الحكمة لجاماً اتخذه الناس إماماً، ومن عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار. وقال الشافعي رحمة الله عليه: من شرف للعلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح، ومن رفع عنه حزن. وقال عمر رضي الله عنه: يا أيها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه، فمن طلب باباً من العلم رداه الله عز وجل بردائه، فإن أذنب ذنباً استعتبه ثلاث مرات لئلا يسلبه رداءه ذلك وإن تطاول به ذلك الذنب حتى يموت. وقال الأحنف رحمه الله: كاد العلماء أن يكونوا أرباباً وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره.

وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني، فقلت بأي شيء أحترف? فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً فلم آذن له. وقال الزبير بن أبي بكر: كتب إلي أبي بالعراق: عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالاً، وإن استغنيت كان لك جمالاً. وحكى ذلك في وصايا لقمان لابنه قال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء. وقال بعض الحكماء: إذا مات العالم بكاه الحوت في الماء والطير في الهواء ويفقد وجهه ولا ينسى ذكره. وقال الزهري رحمه الله: العلم ذكر ولا تحبه إلا ذكران الرجال.

فضيلة التعلم

أما الآيات فقوله تعالى "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" وقوله عز وجل "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" أما الأخبار فقوله ﷺ "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة" وقال ﷺ "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع" وقال ﷺ "لأن تغدو فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة" وقال ﷺ "باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها" وقال ﷺ "اطلبوا العلم ولو بالصين" وقال ﷺ "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وقال عليه الصلاة والسلام "العلم خزائن مفاتيحها السؤال، ألا فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة. السائل والعالم والمستمع والمحب لهم" وقال ﷺ "لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه" وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه "حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ألف مريض وشهود ألف جنازة" فقيل يا رسول الله، ومن قراءة القرآن? فقال ﷺ "وهل ينفع القرآن إلا بالعلم?" وقال عليه الصلاة والسلام "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة" وأما الآثار فقال ابن عباس رضي الله عنها ذللت طالباً فعززت مطلوباً. وكذلك قال ابن أبي مليكة رحمه الله: ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته رايت أحسن الناس وجهاً. وإذا تكلم فأعرب الناس لساناً وإذا أفتى فأكثر الناس علماً. وقال ابن المبارك رحمه الله: عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة? وقال بعض الحكماء: إني لا أرحم رجالاً كرحمتي لأحد رجلين: رجل يطلب العلم ولا يفهم، ورجل يفهم العلم ولا يطلبه. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة. وقال أيضاً: كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع فتهلك. وقال عطاء: مجلس علم يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو. وقال عمر رضي الله عنه: موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه. وقال الشافعي رضي الله عنه: طلب العلم أفضل من النافلة. وقال ابن عبد الحكم رحمه الله: كنت عند مالك أقرأ عليه العلم فدخل الظهر فجمعت الكتب لأصلي فقال: يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله.

فضيلة التعليم

أما الآيات فقوله عز وجل: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" والمراد هوالتعليم والإرشاد. وقوله تعالى "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه" وهو إيجاب للتعليم. وقوله تعالى "وإن فريقاً ليكتمون الحق وهم يعلمون" وهو تحريم للكتمان كما قال تعالى في الشهادة "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" وقال ﷺ "ما آتى الله عالماً علماً إلا وأخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينوه للناس ولا يكتموه" وقال تعالى "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً" وقال تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" وقال تعالى "ويعلمهم الكتاب والحكمة" وأما الأخبار فقوله ﷺ لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها" وقال ﷺ "من تعلم باباً من العلم ليعلم الناس أعطي ثواب سبعين صديقاً" وقال عيسى ﷺ: من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السموات. وقال رسول الله ﷺ "إذا كان يوم القيامة يقول الله سبحانه للعابدين والمجاهدين: ادخلوا الجنة، فيقول العلماء بفضل علمنا تعبدوا وجاهدوا، فيقول الله عز وجل: أنتم عندي كبعض ملائكتي اشفعوا تشفعوا فيشفعون ثم يدخلون الجنة" وهذا إنما يكون بالعلم المتعدى بالتعليم لا العلم اللازم الذي لا يتعدى. وقال ﷺ "إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعاً من الناس بعد أن يؤتيهم إياه ولكن يذهب بذهاب العلماء، فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق إلا رؤساء جهالاً إن سئلوا أفتوا بغير علم فيضلون ويضلون وقال ﷺ "من علم علماً فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" وقال ﷺ "نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوي عليها ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها تعدل عبادة سنة" وقال ﷺ "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه أو معلماً أو متعلماً" وقال ﷺ "إن الله سبحانه وملائكته وأهل سمواته وأرضه حتى النملة في جحرها حتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير" وقال ﷺ "ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه" وقال ﷺ "كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعلمها ويعمل بها خير له من عبادة سنة" وخرج رسول الله ﷺ ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه والثاني يعلمون الناس، فقال "أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الناس وإنما بعثت معلماً ثم عدل إليهم وجلس معهم" وقال ﷺ "مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ".

فالأول ذكره مثلاً للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلاً للنافع، والثالث للمحروم منهما وقال ﷺ "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به الحديث" وقال ﷺ "الدال على الخير كفاعله" وقال ﷺ "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الخير" وقال ﷺ "على خلفائي رحمة الله" قيل: ومن خلفاؤك? قال "الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله" وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه: من حدث حديثاً فعمل به فله مثل أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر. وقال بعض العلماء: العالم يدخلفيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل. وروي أن سفيان الثوري رحمه الله قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكروا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم. وإنما قال ذلك حرصاً على فضيلة التعليم واستقباء العلم به وقال عطاء رضي الله عنه: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك? قال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال بعضهم: العلماء سرج الأزمنة، كل واحد مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم: أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمناً. قيل وما هو? قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه. وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد ﷺ من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك? قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة. وقيل: أول العلم الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره.

وقيل: علم علمك من يجهل وتعلم ممن يعلم ما تجهل؛ فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت. وقال معاذ بن جبل في التعليم والتعلم ورأيته أيضاً مرفوعاً "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والمصبر على السراء والضراء، والوزير عند الأخلاء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة، يقتدي بهم، أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أفعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب ويابس لهم يستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها، لأن العلم حياة القلوب من العمى. ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل وبه يعبد، وبه يوحد وبه يمجد، وبه يتورع، وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء. نسأل الله تعالى حسن التوفيق.

في الشواهد العقلية

اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته، وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال، فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيداً حكيم أم لا، وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها. والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة؛ فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء كما يقال: الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو وحسن الصورة، فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل إنه أفضل؛ لأن تلك زيادة في الجسم ونقصان في المعنى وليست من الكمال في شيء، والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه؛ فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف، كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات؛ بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق، والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة؛ فإنه وصف كمال الله سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبياء، بل الكيس من الخيل خير من البليد فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة. واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره، وإلى ما يطلب لذاته، وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره، والمطلوب لغيره: الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما، ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة. والذي يطلب لذاته: فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى. والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن، فإن سلامة الرجل مثلاً مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة للشيء بها والتوصل إلى المآرب والحاجات، وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذاً في نفسه فيكون مطلوباً لذاته، ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال، وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضاً بشرف ثمرته! وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى، هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتمييز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها: هذه فضيلة العلم مطلقاً ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها. وأما فضيلة التعليم والتعلم فظاهرة مما ذكرناه، فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلباً للأفضل فكان تعليمه إفادة للأفضل، وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لم اتخذها آلة ومنزلاً لمن يتخذها مستقراً ووطناً؛ وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين. وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام: أحدها أصول لا قوا للعالم دونها، وهي أربعة: الزراعة، وهي للمطعم. والحياكة، وهي للملبس. والبناء، وهو للمسكن. والسياسة، وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها.

الثاني ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها: كالحدادة فإنها تخدم الزراعة وجملة من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد عملها.

الثالث ما هي متممة للأصول ومزينة، كالطحن والخبز للزراعة؛ وكالقصارة والخياطة للحياكة؛ وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته فإنها ثلاثة أضرب أيضاً: إما أصول كالقلب والكبد والدماغ؛ وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب والأوردة، وإما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين، وأشرف هذه الصناعات أصولها، وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح ولذلك تستدعي هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات، ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب: الأولى - وهي العليا: سياسة الأنبياء عليهم السلام وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً في ظاهرهم وباطنهم. والثانية: الخلفاء والملوك والسلاطين وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم. والثالثة: العلماء بالله عز وجل وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء، وحكمهم على باطن الخاصة فقط، ولا يرتفع فهم العامة على الاستفادة منهم ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع والشرع.

والرابعة: الوعاظ وحكمهم على بواطن العوام فقط؛ فأشرف هذه الصناعات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلكة وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعدة وهو المراد بالتعليم؛ وإنما قلنا إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات لأن شرف الصناعات يعرف بثلاثة أمور: إما بالالتفات إلى الغريرزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العقول العقلية على اللغوية: إذ تدرك الحكمة بالعقل، واللغة بالسمع، والعقل أشرف من السمع؛ وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة، وإما بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة: إذ محل أحدهما الذهب ومحل الآخر جلد الميتة؛ وليس يخفي أن العلوم الدينية وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء، والعقل أشرف صفات الإنسان كما سيأتي بيانه؛ إذ به تقبل أمانة الله، وبه يتوصل إلى جوار الله سبحانه. وأما عموم النفع فلا يستراب فيه فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة. وأما شرف المحل فكيف يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم، وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه، والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل، فتعليم العلم من وجه: عبادة لله تعالى، ومن وجه خلافة لله تعالى، وهو من أجل خلافة الله؛ فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته. فهو كالخازن لأنفس خز ائنه؛ ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه؛ فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زلفى وسياقتهم إلى جنة المأوى، جعلنا الله منهم بكرمه؛ وصلى الله على كل عبد مصطفى.