الرئيسيةبحث

إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الزكاة/الفصل الثالث



الفصل الثالث
في القابض وأسباب استحقاقه ووظائف قبضه


بيان أسباب الاستحقاق

اعلم أنه لا يستحق الزكاة إلا حر مسلم ليس بهاشمي ولا مطلبي اتصف بصفة من صفات الأصناف الثمانية المذكورين في كتاب الله عز وجل. ولا تصرف زكاة إلى كافر ولا إلى عبد ولا إلى هاشمي ولا إلى مطلبي. أما الصبي والمجنون فيجوز الصرف إليهما إذا قبض وليهما فلنذكر صفات الأصناف الثمانية الصنف الأول الفقراء: والفقير هو الذي ليس له مال ولا قدرة على الكسب، فإن كان معه قوت يومه وكسوة حاله فليس بفقير ولكنه مسكين، وإن كان معه نصف قوت يومه فهو فقير، وإن كان معه قميص وليس معه منديل ولا خف ولا سراويل ولم تكن قيمة القميص بحيث تفي بجميع ذلك كما يليق بالفقراء فهو فقير، لأنه في الحال قد عدم ما هو محتاج إليه وما هو عاجز عنه فلا ينبغي أن يشترط في الفقير أن لا يكون له كسوة سوى ساتر العورة فإن هذا غلو، والغالب أنه لا يوجد مثله ولا يخرجه عن الفقر كونه معتاداً للسؤال، فلا يجعل السؤال كسباً بخلاف ما لو قدر على كسب فإن ذلك يخرجه عن الفقر فإن قدر على الكسب بآلة فهو فقير ويجوز أن يشتري له آلة. وإن قدر على كسب لا يليق بمروءته وبحال مثله فهو فقير، وإن كان متفقهاً ويمنعه الاشتغال بالكسب عن التفقه فهو فقير ولا تعتبر قدرته، وإن كان متعبداً يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات فليكتسب لأن الكسب أولى من ذلك قال ﷺ "طلب الحلال فريضة بعد الفريضة" وأراد به السعي في الاكتساب. وقال عمر رضي الله عنه: كسب في شبهة خير من مسألة. وإن كان مكتفياً بنفقة أبيه أو من تجب عليه نفقته فهذا أهون من الكسب فليس بفقير الصنف الثاني المساكين: والمسكين هو الذي لا يفي دخله بخرجه فقد يملك ألف درهم وهو مسكين وقد لا يملك إلا فأساً وحبلاً وهو غني، والدويرة التي يسكنها والثوب الذي يستره على قدر حاله لا يسلبه اسم المسكين، وكذا أثاث البيت - أعني ما يحتاج إليه - وذلك ما يليق به، وكذا كتب الفقه لا تخرجه عن المسكنة وإذا لم يملك إلا الكتب فلا تلزمه صدقة الفطر. وحكم الكتاب حكم الثوب وأثاث البيت فإنه محتاج إليه ولكن ينبغي أن يحتاط في قطع الحاجة بالكتاب، فالكتاب محتاج إليه لثلاثة أغراض: التعليم والاستفادة والتفرج بالمطالعة. أما حاجة التفرج فلا تعتبر كاقتناء كتب الأشعار وتواريخ الأخبار وأمثال ذلك مما لا ينفع في الآخرة ولا يجري في الدنيا إلا مجرى التفرج والاستئناس، فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر وتمنع اسم المسكنة. وأما حاجة التعليم إن كان لأجل الكسب كالمؤدب والمعلم والمدرس بأجره فهذه آلته فلا تباع في الفطرة كأدوات الخياط وسائر المحترفين، وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية فلا تباع ولا يسلبه ذلك اسم المسكين لأنها حاجة مهمة، وأما حاجة الاستفادة والتعلم من الكتاب كادخاره كتب طب ليعالج بها نفسه أو كتاب وعظ ليطالع فيه ويتعظ به فإن كان في البلد طبيب وواعظ فهذا مستغنى عنه وإن لم يكن فهو محتاج إليه. ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعة الكتاب إلا بعد مدة فينبغي أن يضبط مدة الحاجة. والأقرب أن يقال ما لا يحتاج إليه في السنة فهو مستغنى عنه فإن من فضل من قوت يومه شيء لزمته الفطرة. فإذا قدرنا القوت باليوم فحاجة أثاث البيت وثياب البدن ينبغي أن تقدر بالسنة؛ فلا تباع ثياب الصيف في الشتاء والكتب بالثياب والأثاث أشبه وقد يكون له من كتاب نسختان فلا حاجة إلى إحداهما. فإن قال: إحداهما أصح والأخرى أحسن فأنا محتاج إليهما? قلنا: اكتف بالأصح وبع الأحسن ودع التفرج والترفه. وإن كان نسختان من علم واحد إحداهما بسيطة والأخرى وجيزة فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالبسيطة وإن كان قصده التدريس فيحتاج إليهما إذ في كل واحدة فائدة ليست في الأخرى. وأمثال هذه الصور لا تنحصر ولم يتعرض له في فن الفقه وإنما أوردناه لعموم البلوى والتنبيه بحسن هذا النظر على غيره. فإن استقصاء هذه الصور غير ممكن إذ يتعدى مثل هذا النظر في أثاث البيت في مقدارها وعددها ونوعها وفي ثياب البدن وفي الدار وسعتها وضيقها. وليس لهذه الأمور حدود محدودة ولكن الفقيه يجتهد فيها برأيه ويقرب في التحديدات بما يراه ويقتحم فيه خطر الشبهات. والمتورع يأخذ فيه بالأحوط ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه. والدرجات المتوسطة المشكلة بين الأطراف المتقابلة الجلية كثيرة ولا ينجي منها إلا الاحتياط والله أعلم. الصنف الثالث العاملون: وهم السعاة الذين يجمعون الزكوات سوى الخليفة والقاضي ويدخل فيه العريف والكاتب والمستوفى والحافظ والنقال ولا يزاد واحد منهم على أجرة المثل؛ فإن فضل شيء من الثمن عن أجر مثلهم رد على بقية الأصناف وإن نقص كمل من مال المصالح الصنف الرابع المؤلفة قلوبهم على الإسلام: وهم الأشراف الذين أسلموا وهم مطاعون في قومهم، وفي إعطائهم تقريرهم على الإسلام وترغيب نظائرهم وأتباعهم الصنف الخامس المكاتبون: فيدفع إلى السيد سهم المكاتب وإن دفع إلى المكاتب جاز ولا يدفع السيد زكاته إلى مكاتب نفسه لأنه يعد عبداً له. الصنف السادس الغارمون: والغارم هو الذي استقرض في طاعة أو مباح وهو فقير فإن استقرض في معصية فلا يعطى إلا إذا تاب، وإن كان غنياً لم يقض دينه إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة أو إطفاء فتنة الصنف السابع الغزاة: الذين ليس لهم مرسوم في ديوان المرتزقة فيصرف إليهم سهم وإن كانوا أغنياء إعانة لهم على الغزو الصنف الثامن ابن السبيل: وهو الذي شخص من بلده ليسافر في غير معصية أو اجتاز بها فيعطى إن كان فقيراً وإن كان له مال ببلد آخر أعطي بقدر بلغته. فإن قلت: فبم تعرف هذه الصفات? قلنا: أما الفقر والمسكنة فبقول الآخذ ولا يطالب ببينة ولا يحلف بل يجوز اعتماد قوه إذا لم يعلم كذبه. وأما الغزو والسفر فهو أمر مستقبل فيعطى بقوله إني غاز فإن لم يف به استرد. وأما بقية الأصناف فلا بد فيها من البينة فهذه شروط الاستحقاق. وأما مقدار ما يصرف إلى كل واحد فسيأتي.

بيان وظائف القابض وهي خمسة

الأولى أن يعلم أن الله عز وجل أوجب صرف الزكاة إليه ليكفي همه ويجعل همومه هماً واحداً. فقد تعبد الله عز وجل الخلق بأن يكون همهم واحداً وهو الله سبحانه واليوم الآخر وهو المعنى بقوله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ولكن لما اقتضت الحكمة أن يسلط على العبد الشهوات والحاجات وهي تفرق هما اقتضى الكرم إفاضة نعمة تكفي الحاجات فأكثر الأموال وصبها في أيدي عباده لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم ووسيلة لتفرغهم لطاعاتهم، فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر ومنهم من أحبه فحماه عن الدنيا كما يحمي المشفق مريضه فزوى عنه فضولها وساق إليه قدر حاجته على يد الأغنياء ليكون سهل الكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم، وفائدته تنصب إلى الفقراء فيتجردون لعبادة الله والاستعداد لما بعد الموت فلا تصرفهم عنها فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة وهذا منتهى النعمة. فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر ويتحقق أن فضل الله عليه فيما زواه عنه أكثر من فضله فيما أعطاه - كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه إن شاء الله تعالى - فليأخذ ما يأخذه من الله سبحانه رزقاً له وعوناً له على الطاعة ولتكن نيته فيه أن يتقوى به على طاعة الله فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله عز وجل فإن استعان به على معصية الله كان كافراً لأنعم الله عز وجل مستحقاً للبعد والمقت من الله سبحانه الثانية أن يشكر المعطي ويدعو له ويثني عليه ويكون شكره ودعاؤه بحيث لا يخرجه عن كونه واسطة ولكنه طريق وصول نعمة الله سبحانه إليه، وللطريق حق من حيث جعله الله طريقاً وواسطة وذلك لا ينافي رؤية النعمة من الله سبحانه فقد قال ﷺ "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم وهو خالقها وفاطر القدرة عليها نحو قوله تعالى "نعم العبد إنه أواب" إلى غير ذلك. وليقل القابض في دعائه طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار وصلى على روحك في أرواح الشهداء وقد قال ﷺ "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه" ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عند نفسه وعند الناس صنيعه. فوظيفة المعطي الاستصغار ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام. وعلى كل عبد القيام بحقه؛ وذلك لا تناقض فيه إذ موجبات التصغير والتعظيم تتعارض. والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير ويضره خلافه والآخذ بالعكس منه. وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلاً الثالثة أن ينظر فيما يأخذه فإن لم يكن من حل تورع عنه "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" ولن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال. فلا يأخذ من أموال الأتراك والجنود وعمال السلاطين ومن أكثر كسبه من الحرام إلا إذا ضاق الأمر عليه وكان ما يسلم إليه لا يعرف له مالكاً معيناً فله أن يأخذ بقدر الحاجة؛ فإن فتوى الشرع في مثل هذا أن يتصدق به - على ما سيأتي بيانه في كتاب الحلال والحرام - وذلك إذا عجز عن الحلال فإذا أخذ لم يكن أخذه أخذ زكاة إذ لا يقع زكاة عن مؤديه وهو حرام الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق. فإن كان يأخذه بالكتابة والغرامة فلا يزيد على مقدار الدين. وإن كان يأخذ بالعمل فلا يزيد على أجرة المثل. وإن أعطى زيادة أبى وامتنع إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به. وإن كان مسافراً لم يزد على الزاد وكراء الدابة إلى مقصده. وإن كان غازياً لم يأخذ إلا ما يحتاج إليه للغزو خاصة من خيل وسلاح ونفقة. وتقدير ذلك بالاجتهاد وليس له حد، وكذا زاد السفر، والورع ترك ما يريبه إلى مالا يريبه. وإن أخذ بالمسكنة فلينظر أولاً إلى أثاث بيته وثيابه وكتبه هل فيها ما يستغنى عنه بعينه أو يستغنى عن نفاسته فيمكن أن يبدل بما يكفي ويفضل بعض قيمته? وكل ذلك إلى اجتهاده. وفيه طرف ظاهر يتحقق معه أنه مستحق وطرف آخر مقابل يتحقق معه أنه غير مستحق وبينهما أوساط مشتبهة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والاعتماد في هذا على قول الآخذ ظاهراً. والمحتاج في تقدير الحاجات مقامات في التضييق والتوسيع ولا تحصر مراتبه وميل الورع إلى التضييق وميل المتساهل إلى التوسيع حتى يرى نفسه محتاجاً إلى فنون من التوسع وهو ممقوت في الشرع. ثم إذا تحققت حاجته فلا يأخذن مالاً كثيراً بل ما يتمم كفايته من وقت أخذه إلى سنة. فهذا أقصى ما يرخص فيه من حيث أن السنة إذا تكررت تكررت أسباب الدخل. ومن حيث إن رسول الله ﷺ ادخر لعياله قوت سنة فهذا أقرب ما يحد به حد الفقير والمسكين ولو اقتصر على حاجة شهره أو حاجة يومه فهو أقرب للتقوى. ومذاهب العلماء في قدر المأخوذ بحكم الزكاة والصدقة مختلفة فمن مبالغ في التقليل إلى حد أوجب الاقتصار على قدر قوت يومه وليلته وتمسكوا بما روى سهل بن الحنظيلية "أنه ﷺ نهى عن السؤال مع الغنى فسئل عن غناه فقال ﷺ غداؤه وعشاؤه" وقال آخرون: يأخذ إلى حد الغنى. حد الغنى نصاب الزكاة إذ لم يوجب الله تعالى الزكاة إلا على الأغنياء فقالوا له أن يأخذ بنفسه ولكل واحد من عياله نصاب زكاة. وقال آخرون: حد الغنى خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب لما روى ابن مسعود أنه ﷺ قال "من سال وله مال يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه خموش فسئل وما غناء? قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب" وقيل: رواية ليس بقوي وقال قوم: أربعون، لما رواه عطاء بن يسار منقطعاً أنه ﷺ قال "من سأل وله أوقية فقد ألحف في السؤال" وبالغ آخرون في التوسيع فقالوا: له أن يأخذ مقداراً ما يشتري به ضيعة فيستغني به طول عمره أو يهيىء بضاعة ليتجر بها ويستغني بها طول عمره لأن هذا هو الغنى وقد قال عمر رضي الله عنه: إذا أعطيتم فأغنوا، حتى ذهب قوم إلى أن من افتقر فله أن يأخذ بقدر ما يعود به إلى مثل حاله ولو عشرة آلاف درهم إلا إذا خرج عن حد الاعتدال. ولما شغل أبو طلحة ببستانه عن الصلاة قال: جعلته صدقة. فقال ﷺ "اجعله في قرابتك فهو خير لك" فأعطاه حسان وأبا قتادة. فحائط من نخل لرجلين كثير مغن وأعطى عمر رضي الله عنه أعرابياً ناقة معها ظئر لها، فهذا ما حكي فيه فأما التقليل إلى قوت اليوم أو الأوقية فذلك ورد في كراهية السؤال والتردد على الأبواب وذلك مستنكر وله حكم آخر، بل التجويز إلى أن يشتري ضيعة فسيتغني بها أقرب إلى الاحتمال وهو أيضاً مائل إلى الإسراف. والأقرب إلى الاعتدال كفاية سنة فما وراءه فيه خطر وفيما دونه تضييق. وهذه الأمور إذا لم يكن فيها تقدير جزم بالتوقيف فليس للمجتهد إلا الحكم بما يقع له. ثم يقال للورع "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك" كما قاله ﷺ إذ الإثم حزاز القلوب، فإذا وجد القابض في نفسه شيئاً مما يأخذه فليتق الله فيه ولا يترخص تعللاً بالفتوى من علماء الظاهر فإن لفتواهم قيوداً ومطلقات من الضرورات، وفيها تخمينات واقتحام شبهات. والتوقي من الشبهات من شيم ذوي الدين وعادات السالكين لطريق الآخرة الخامسة أن يسأل صاحب المال عن قدر الواجب عليه فإن كان ما يعطيه فوق الثمن فلا يأخذه منه فإنه لا يستحق مع شريكه إلا الثمن فلينقص من الثمن مقدار ما يصرف إلى اثنين من صنفه. وهذا السؤال واجب على أكثر الخلق فإنهم لا يراعون هذه القسمة إما لجهل وإما لتساهل، وإنما يجوز ترك السؤال عن مثل هذه الأمور إذا لم يغلب على الظن احتمال التحريم. وسيأتي ذكر مظان السؤال ودرجة الاحتمال في كتاب الحلال والحرام إن شاء الله تعالى.