→ كتاب آداب النكاح | إحياء علوم الدين كتاب آداب النكاح- الباب الأول المؤلف: أبو حامد الغزالي |
الباب الثاني ← |
اعلم أن العلماء قد اختلفوا في فضل النكاح فبالغ بعضهم فيه حتى زعم أنه أفضل من التخلي لعبادة الله واعترف آخرون بفضله ولكن قدموا عليه التخلي لعبادة الله مهما لم تتق النفس إلى النكاح توقاناً يشوش الحال ويدعو إلى الوقاع. وقال آخرون: الأفضل تركه في زماننا هذا وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة. ولا ينكشف الحق فيه إلا بان نقدم أولاً ما ورد من الأخبار والآثار في الترغيب فيه والترغيب عنه ثم نشرح فوائد النكاح وغوائله حتى يتضح منها فضيلة النكاح وتركه في حق كل من سلم من غوائله أو لم يسلم منها الترغيب في النكاح: أما من الآيات: فقد قال تعالى: "وانكحوا الأيامى منكم" وهذا أمر وقال تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" وهذا منع من العضل ونهي عنه. وقال تعالى في وصف الرسل ومدحهم "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية" فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل. ومدح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء فقال: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" الآية ويقال إن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين فقالوا إن يحي ﷺ قد تزوج ولم يجامع قيل: إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السنة وقيل: لغض البصر، وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له. وأما الأخبار فقوله ﷺ "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فقد رغب عني" وقال ﷺ "النكاح سنتي فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي" وقال أيضاً ﷺ "تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط" وقال أيضاً عليه السلام "من رغب عن سنتي فليس مني وإن من سنتي النكاح فمن أحبني فليستن بسنتي" وقال النبي ﷺ "من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا"وهذا ذم لعلة الامتناع لا لأصل الترك وقال ﷺ "من كان ذا طول فليتزوج" وقال"من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لا فليصم فإن الصوم له وجاء" وهذا يدل على أن سبب الترغيب فيه خوف الفساد في العين والفرج. والوجاء هو عبارة عن رض الخصيتين للفحل حتى تزول فحولته فهو مستعار للضعف عن الوقاع في الصوم. وقال ﷺ "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وهذا أيضاً تعليل في الترغيب لخوف الفساد. وقال ﷺ "من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله" وقال ﷺ "من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني" وهذا أيضاً إشارةً إلى أن فضيلته لأجل التحرز من المخالفة تحصناً من الفساد فكأن المفسد لدين المرء في الأغلب فرجه وبطنه وقد كفى بالتزويج أحدهما. وقال ﷺ "كل عمل ابن آدم ينقطع إلا ثلاث ولد صالح يدعو له - لحديث -. ولا يوصل إلى هذا إلا بالنكاح.
وأما الآثار: فقال عمر رضي الله عنه لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور. فبين أن الدين غير مانع منه وحصر المانع في أمرين مذمومين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. يحتمل أن جعله من النسك وتتمة له. ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب ولذلك كان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريبا وغيرهما ويقول: إن أردتم النكاح أنكحتكم فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول:لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزباً. وماتت امرأتان لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً. وهذا منهما يدل على أنهما رأيا في النكاح فضلاً لا من حيث التحرز عن غائلة الشهوة. وكان عمر رضي الله عنه يكثر النكاح ويقول: ما أتزوج إلا لأجل الولد وكان بعض الصحابة قد انقطع إلى رسول الله ﷺ يخدمه ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال له رسول الله ﷺ:ألا تتزوج? فقال يا رسول الله إني فقير لاشيء لي وأنقطع عن خدمتك فسكت. ثم عاد ثانياً فأعاد الجواب. ثم تفكر الصحابي وقال: والله لرسول الله ﷺ أعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي وما يقربني إلى الله مني ولئن قال لي الثالثة لأفعلن. فقال له الثالثة: "ألا تتزوج?" قال: فقلت يا رسول الله زوجني قال. "اذهب إلى بني فلان فقل إن رسول الله ﷺ يأمركم أن تزوجوني فتاتكم" قال: فقلت يا رسول الله لاشيء لي، فقال لأصحابه: "اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب" فجمعوا له فذهبوا به إلى القوم فأنكحوه فقال له: أولم فجمعوا له من أصحابه شاة للوليمة وهذا التكرير يدل على فضل في نفس النكاح ويحتمل أنه توسم فيه الحاجة إلى النكاح. وحكى أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة فذكر لنبي زمانه حسن عبادته فقال: نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة فاغتم العابد لما سمع ذلك فسأل النبي عن ذلك فقال: أنت تارك للتزويج، فقال: لست أحرمه ولكني فقير وأنا عيال على الناس، قال: أنا أزوجك ابنتي فزوجه النبي عليه السلام ابنته. وقال. بشر بن الحرث: فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث: بطلب الحلال بنفسه ولغيره وأنا أطلبه لنفسي فقط ولاتساعه في النكاح وضيقي عنه ولأنه نصب إماماً للعامة. ويقال إن أحمد رحمه الله تزوج في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله وقال: أكره أن أبيت عزباً. وأما بشر فإنه لما قيل له. إن الناس يتكلمون فيك لتركك النكاح ويقولون هو تارك للسنة، فقال: قولوا لهم مشغول بالفرض عن السنة. وعوتب مرة أخرى فقال: ما يمنعني من التزويج إلا قوله تعالى "ولهن مثل الذي بالمعروف" فذكر ذلك لأحمد فقال: وأين مثل بشر? إنه قعد على مثل حد السنان. ومع ذلك فقد روي أنه رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك? فقال: رفعت منازلي في الجنة وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين. وفي رواية قال لي: ما كنت أحب أن تلقاني عزباً قال: فقلنا له، ما فعل أبو نصر التمار? فقال: رفع فوقي بسبعين درجة، قلنا: بماذا فقد كنا نراك فوقه? قال: بصبره على بنياته والعيال. وقال سفيان بن عيينة: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن علياً رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله عليه وسلم وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية. فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء. وقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة؛ فقال: لروعة منك بسبب العيال: أفضل من جميع ما أنا فيه، قال: فما الذي يمنعك من النكاح، فقال: مالي حاجة في إمرأة وما أريد أن أغر امرأة بنفسي. وقد قيل: فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد وركعة من متأهل من سبعين ركعة من عزب.
وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح:فقد قال ﷺ "خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد" وقال ﷺ "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه مالا يطيق، فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك" وفي الخبر "قلة العيال أحد اليسارين وكثرتهم أحد الفقرين" وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال: الصبر عنهن خير من الصبر عليهن والصبر عليهن خير من الصبر على النار. وقال أيضاً: الوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل. وقال مرة: ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى. وقال أيضاً: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا من طلب معاشاً أو تزوج امرأةً أو كتب الحديث. وقال الحسن رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال، وقال ابن الحواري: تناظر جماعة في هذا الحديث فاستقر رأيهم على أنه ليس معناه أن لا يكون له بل أن يكونا له ولا يشغلانه وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني: ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم وبالجملة لم ينقل عن أحد الترغيب عن النكاح مطلقاً إلا مقروناً بشرط. وأما الترغيب في النكاح فقد ورد مطلقاً ومقروناً بشرط فلنكشف الغطاء عنه بحصر آفات النكاح وفوائده.
آفات النكاح وفوائده، وفيه خمسة: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن.
الفائدة الأولى: الولد، وهو الأصل وله وضع النكاح. والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس. وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل في إخراج البذر وبالأنثى في التمكين من الحرث تلطفاً بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع، كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداءً من غير حراثة وازدواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها إظهاراً للقدرة وإتماماً لعجائب الصنعة وتحقيقاً لما سبقت به المشيئة وحقت به الكلمة وجرى به القلم. وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزباً. الأول موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان والثاني طلب محبة رسول الله ﷺ في تكثير من به مباهاته . والثالث طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده . والرابع طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.
أما الوجه الأول: فهو أدق الوجوه وأبعدها عن إفهام الجماهير وهو أحقها وأقواها عند ذوي البصائر النافذة في عجائب صنع الله تعالى ومجاري حكمه. وبيانه أن السيد إذا سلم إلى عبده البزر وآلات الحرث وهيأ له أرضاً مهيأة للحراثة وكان العبد قادراً على الحراثة ووكل به من يتقاضاه عليها فإن تكاسل وعطل آلة الحرث وترك البزر ضائعاً حتى فسد ودفع الموكل عن نفسه بنوع من الحيلة كان مستحقاً للمقت والعتاب من سيده. والله تعالى خلق الزوجين وخلق الذكر والأنثى وخلق النطفة في الفقار وهيأ لها في الأنثيين عروقاً ومجاري وخلق الرحم قراراً ومستودعاً للنطفة وسلط متقاضى الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى، فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقها وتنادى أرباب الألباب بتعريف ما أعدت له. هذا إن لن يصرح به الخالق تعالى على لسان رسوله ﷺ بالمراد حيث قال "تناكحوا تناسلوا" فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر? فكل ممتنع عن النكاح معرض عن الحراثة مضيع لخلق لما خلق الله من الآلات المعدة وجان على مقصود الفطرة والحكمة المفهومة من شواهد الخلقة المكتوبة على هذه الأعضاء بخط إلهي ليس برقم حروف وأصوات يقرأه كل من له بصيرة ربانية نافذة في إدراك دقائق الحكمة الأزلية، ولذلك عظم الشرع الأمر في القتل للأولاد وفي الوأد لأنه منع لتمام الوجود، وإليه أشار أحد الوأدين فالناكح ساع في إتمام ما أحب الله تعالى تمامه والمعرض معطل ومضيع لما كره الله ضياعه، ولأجل محبة الله تعالى لبقاء النفوس أمر بالإطعام وحث عليه وعبر عنه بعبادة القرض فقال "من ذا الذي يقرض له قرضاً حسناً" فإن قلت: قولك: إن بقاء النسل والنفس محبوب يوهم أن فناءها مكروه عند الله، وهو فرق بين الموت والحياة بالإضافة إلى إرادة الله تعالى، ومعلوم أن الكل بمشيئة الله وأن الله غني عن العالمين فمن يتميز عنده موتهم عن حياتهم أو بقاؤهم عن فنائهم? فأعلم أن هذه الكلمة حق أريد بها باطل ما ذكرناه لا ينافي إضافة الكائنات كلها إلى إرادة الله خيرها وشرها ونفعها وضرها، ولكن المحبة والكراهية يتضادان وكلاهما لا يضادان الإرادة، فرب مراد مكروه، ورب مراد محبوب، فالمعاصي مكروهة وهي مع الكراهة مرادة، ومزمع كونها مرادة محبوبة ومرضية أما الكفر والشر فلا نقول إنه مرضي ومحبوب بل هو مراد. وقد قال الله تعالى: "ولا يرضى لعباده الكفر" فكيف يكون الفناء بالإضافة إلى محبة الله وكراهته كالبقاء، فإنه تعالى يقول: "ما ترددت في شيء كترددي في قبض روح عبدي المسلم هو يكره الموت وأنا أكره مساءته ولابد له من الموت" فقوله: " لابد له من الموت" إشارة إلى سبق الإرادة والتقدير المذكور في قوله تعالى "نحن قدرنا بينكم الموت" وفي قوله تعالى "الذي خلق الموت والحياة" ولا مناقضة بين قوله تعالى "نحن قدرنا بينكم الموت" وبين قوله "وأنا أكره مساءته"، ولكن إيضاح الحق في هذا يستدعي تحقيق معنى الإرادة والمحبة والكراهة وبيان حقائقها، فإن السابق إلى الإفهام منها أمور تناسب إرادة الخلق ومحبتهم وكراهتهم، وهيهات فبين صفات الله تعالى وصفات الخلق من البعد ما بين ذاته العزيز وذاتهم وكما أن ذوات الخلق جوهر وعرض وذات الله مقدس عنه، ولا يناسب ما ليس بجوهر وعرض الجوهر والعرض، فكذا صفاته لا تناسب صفات الخلق وهذه الحقائق داخلة في علم المكاشفة، ووراء سر القدر الذي منع عن ذكره،، ولنقتصر على ما نبهنا عليه من الفرق بين الإقدام على النكاح والإحجام عنه، فإن أحدهما مضيع نسلاً أدام الله وجوده من آدم ﷺ عقباً بعد عقب إلى أن انتهى إليه؛ فالممتنع عن النكاح قد حسم الوجود المستدام من لدن وجود آدم عليه السلام على نفسه فمات أبتر لا عقب له، ولو كان الباعث على النكاح مجرد دفع الشهوة لما قال معاذ في الطاعون: "زوجوني لا ألقى الله عزباً فإن قلت: فما كان معاز يتوقع ولداً في ذلك الوقت فما وجه رغبته فيه? فأقول: الولد يحصل بالوقاع بباعث الشهوة، وذلك أمر لا يدخل في الاختيار، وإنما المعلق باختيار العبد إحضار المحرك للشهوة، وذلك متوقع في كل حال، فمن عقد فقد أدى ما عليه وفعل ما إليه، والباقي خارج عن اختياره، ولذلك يستحب النكاح للعنين أيضاً، فإن نهضات الشهوة خفية لا يطلع عليها حتى إن المسموح الذي لا يتوقع له ولد لا ينقطع الاستحباب أيضاً في حقه على الوجه الذي يستحب للأصلع إمرار الموسى على رأسه إقتداءً بغيره وتشبهاً بالسلف الصالحين، وكما يستحب الرمل والاضطباع في الحج الآن وقد كان المراد منه أولاً إظهار الجلد للكفار. فصار الاقتداء والتشبه بالذين أظهروا الجلد سنة في حق من بعدهم، ويضعف هذا الاستحباب بالإضافة إلى الاستحباب في حق القادر على الحرث وربما يزداد ضعفاً بما يقابله من كراهة تعطيل المرأة وتضييعها فيما يرجع إلى قضاء الوطر، فإن ذلك لا يخلو عن نوع من الخطر، فهذا المعنى هو الذي ينبه على شدة إنكارهم لترك النكاح مع فتور الشهوة.
الوجه الثاني: السعي في محبة رسول الله ﷺ ورضاه بتكثير ما به مباهاته، إذ قد صرح رسول الله ﷺ بذلك، ويدل على مراعاة أمر الولد جملة بالوجوه كلها ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينكح كثيراً ويقول: إنما أنكح للولد. وما روي في الأخبار في مذمة المرأة العقيم، إذ قال عليه السلام" لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد" وقال خير نسائكم الولود الودود" وقال سوداء ولود، خير من حسناء لا تلد" وهذا يدل على أن طلب الولد أدخل في اقتضاء فضل النكاح من طلب دفع غائلة الشهوة، لأن الحسناء أصلح للتحصين وغض البصر وقطع الشهوة.
الوجه الثالث: أن يبقى بعده ولد صالحاً يدعو له، كما ورد في الخبر أن جميع عمل إبن آدم منقطع إلا ثلاثاً فذكر الولد الصالح. وفي الخبر" إن الأدعية تعرض على الموتى على أطباق من نور" وقول القائل: إن الولد ربما لم يكن صالحاً: لا يؤثر فإنه مؤمن، والصلاح هو الغالب على أولاد ذوي الدين لاسيما إذا عزم على تربيته وحمله على الصلاح، وبالجملة دعاء المؤمن لأبويه مفيداً براً كان أو فاجراً، فهو مثاب على دعواته وحسناته فإنه من كسبه وغير مؤاخذ بسيئاته، فإنه لاتزر وازرة وزر أخرى، ولذلك قال تعالى: "ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء" أي ما نقصناهم من أعمالهم، وجعلنا أولادهم مزيداً في إحسانهم.
الوجه الرابع: أن يموت الولد قبله فيكون له شفيعاً، فقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إن الطفل يجر بأبويه إلى الجنة" وفي بعض الأخبار "يأخذ بثوبه كما أنا الآن آخذ بثوبك" وقال أيضاً ﷺ: "إن المولود يقال ادخل الجنة فيقف على باب الجنة فيظل محبطاً" أي ممتلئاً غيظا وغضباً ويقول: "لا أدخل الجنة إلا وأبواي معي، فيقال: أدخلوا أبويه معه الجنة" وفي خبر آخر: "إن الأطفال يجتمعون في موقف عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة اذهبوا بهولاء إلى الجنة فيقفون على باب الجنة فيقال لهم: مرحباً بذراري المسلمين ادخلوا لا حساب عليكم، فيقولون: فأين آباؤنا وأمهاتنا? فيقول الخزنة: إن آباءكم وأمهاتكم ليسوا مثلكم، إنه كانت لهم ذنوب وسيئات فهم يحاسبون عليها ويطالبون. قال: فيتضاغون ويضجون على أبواب الجنة ضجةً واحدةً، فيقول الله سبحانه وهو أعلم بهم: ما هذه الضجة? فيقولون: ربنا أطفال المسلمين قالوا لا ندخل الجنة إلا مع آبائنا؛ فيقول الله تعالى: تخللوا الجمع فخذوا بأيدي آبائهم فأدخلوهم الجنة" وقال ﷺ: "من مات له اثنان من الولد فقد احتظر بحظار من النار" وقال ﷺ: "من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" قيل: يا رسول الله واثنان? قال" واثنان" وحكي أن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج فيأبى برهةً من دهره، قال فانتبه من نومه ذات يوم وقال: زوجوني،زوجوني،فزوجوه، فسئل عن ذلك فقال: لعل الله يرزقني ولداً ويقبضه فيكون لي مقدمةً في الآخرة، ثم قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وكأني في جملة الخلائق في الموقف،وبي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي، وكذا الخلائق في شدة العطش والكرب، فنحن كذلك إذ ولدان يتخللون الجمع، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، وهم يسقون الواحد بعد الواحد، يتخللون الجمع ويتجاوزون أكثر الناس فمددت يدي إلى أحدهم وقلت: اسقني فقد أجهدني العطش، فقال:ليس لك فينا ولد، إنما نسقي آباءنا، فقلت ومن أنتم? فقالوا:نحن من مات من أطفال المسلمين. وأحد المعاني المذكورة في قوله تعالى "فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم" تقديم الأطفال إلى الآخرة:فقد ظهر بهذه الوجوه الأربعة أن أكثر فضل النكاح لأجل كونه سبباً للولد.
الفائدة الثانية: التحصن عن الشيطان، وكسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام "من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر" وإليه الإشارة بقوله "عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء" وأكثر ما نقلناه من الآثار والأخبار إشارةً إلى هذا المعنى، وهذا المعنى دون الأول؛ لأن الشهوة موكلة بتقاضي تحصيل الولد؛ فالنكاح كاف لشغله دافع لجعله وصارف لشر سطوته، وليس من يجيب مولاه رغبةً في تحصيل رضاه، كمن يجيب لطلب الخلاص عن غائلة التوكيل؛ فالشهوة والولد مقدران وبينهما ارتباط، وليس يجوز أن يقال: المقصود اللذة، والولد لازم منهما كما يلزم مثلاً قضاء الحاجة من الأكل وليس مقصوداً في ذاته، بل الولد هو المقصود بالفطرة والحكمة، والشهوة باعثة عليه؛ ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق حتى الإيلاء، وهو ما في قضائها من اللذة التي لا توازيها لذة لو دامت، فهي منبه على اللذات الموعودة في الجنان، إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقاً لا ينفع، فلو رغب العنين في لذة الجماع أو الصبي في لذة الملك والسلطنة لم ينفع الترغيب، وإحدى فوائد لذات الدنيا الرغبة في دوامها في الجنة، ليكون باعثاً على عبادة الله. فانظر إلى الحكمة، ثن إلى الرحمة، ثم إلى التعبئة الإلهية كيف عبيت تحت شهوة واحدة حياتان حياةً ظاهرةً وحياةً باطنةً، فالحياة الظاهرة حياة المرء ببقاء نسله فإنه نوع من دوام الوجود، والحياة الباطنة هي الحياة الأخروية "فإن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام، فيستحث على العبادة الموصلة إليها، فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة على ما يوصله إلى نعيم الجنان،وما من ذرة من ذرات بدن الإنسان باطناً وظاهراً، بل ذرات ملكوت السموات والأرض، إلا وتحتها من لطائف الحكمة وعجائبها ما تحار العقول فيها،ولكن إنما ينكشف للقلوب الطاهرة بقدر صفاتها وبقدر رغبتها عن زهرة الدنيا وغرورها وغوائلها، فالنكاح بسبب دفع غائلة الشهوة مهم في الدين لكل من لا يؤتى عن عجز وعنة وهم غالب الخلق، فإن الشهوة إذا غلبت ولم يقاومها قوة التقوى جرت إلى اقتحام الفواحش، وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى: "غلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وإن كان ملجماً بلجام التقوى فغايته أن يكف الجوارح عن إجابة الشهوة، فيغض البصر ويحفظ الفرج، فأما حفظ القلب عن الوسواس والفكر فلا يدخل تحت اختياره، بل لا تزال النفس تجاذبه وتحدثه بأمور الوقاع ولا يفتر عنه الشيطان الموسوس إليه في أكثر الأوقات، وقد يعرض له ذلك في أثناء الصلاة حتى يجري على خاطره من أمور الوقاع ما لو صرح به بين يدي أخس الخلق لاستحى منه والله مطلع على قلبه، والقلب في حق الله كاللسان في حق الخلق، ورأس الأمور للمريد في سلوك طريق الآخرة قلبه، والمواظبة على الصيام لا تقطع مادة الوسوسة في حق أكثر الخلق إلا أن ينضاف إليه ضعف في البدن وفساد في المزاج، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتم نسك الناسك إلا بالنكاح. وهذه محنة عامة قل من يتخلص منها. قال قتادة في معنى قوله تعالى "ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" هو الغلة. وعن عكرمة ومجاهد أنهما قالا في معنى قوله تعالى "وخلق الإنسان ضعيفا" أنه لا يصبر عن النساء وقال فياض بن نجيح: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله. وبعضهم يقول: ذهب ثلث دينه. وفي نوادر التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما "ومن شر غاسق إذا وقب" قال قيام الذكر، وهذه بلية غالبة إذا هاجت لا يقاومها عقل ولا دين، وهي مع أنها صالحة لأن تكون باعثة على الحياتين كما سبق فهي أقوى آلة الشيطان على بني آدم، وإليه أشار عليه السلام بقوله " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب منكن" وإنما ذلك لهيجان الشهوات وقال ﷺ في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وشر منيي" وقال: "أسألك أن تطهر قلبي وتحفظ فرجي" فما يستعيذ منه رسول الله ﷺ كيف يجوز التساهل فيه لغيره، وكان بعض الصالحين يكثر النكاح حتى لا يكاد يخلو من اثنتين وثلاث، فأنكر عليه بعض الصوفية فقال: هل يعرف أحد منكم أنه إذا جلس بين يدي الله تعالى جلسة أو وقف بين يديه موقفاً في معاملة فخطر على قلبه خاطرة شهوة، فقالوا: يصيبنا من ذلك كثير، فقال: لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد لما تزوجت، لكني ما خطر على قلبي خاطر يشغلني عن حالي إلا نفذته فأستريح وأرجع إلى شغلي، ومنذ أربعين سنة ما خطر على قلبي معصية. وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له بعض ذوي الدين: ما الذي تنكر منهم? قال: يأكلون كثيراً. قال: وأنت أيضلً لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون، قال: ينكحون كثيراً. قال وأنت أيضاً لو حفظت عينيك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون. وكان الجنيد يقول: أحتاج إلى القوت، فالزوجة على التحقيق قوت وسبب لطهارة القلب، ولذلك أمر رسول الله ﷺ كل من وقع نظره على امرأة فطلقت إليه نفسه أن يجامع أهله؛ لأن ذلك يدفع الوسواس عن النفس. وروى جابر رضي الله عنه: أن النبي ﷺ رأى إمرأة فدخل على زينب فقضى حاجته وخرج. وقال ﷺ: "إن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأت أهله فإن معه مثل الذي معها" وقال عليه السلام:" لا تدخلوا على المغيبات وهي التي غاب زوجها عنها فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم" قلنا: ومنك? قال "ومني، ولكن الله أعانني عليه فأسلم" قال سفيان بن عيينة: فأسلم معناه فأسلم أنا منه، هذا معناه، فإن الشيطان لايسلم، وكذلك حكى على ابن عمر رضي الله عنهما وكان من زهاد الصحبة وعلمائهم أنه كان يفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل، وربما أنه جامع ثلاثاً من جواريه في شهر رمضان قبل العشاء الأخير وقال ابن عباس خير هذه الأمة أكثرها نساءً ولما كانت الشهوة أغلب على مزاج العب كان استكثار الصالحين منهم للنكاح أشد ولأجل فراغ القلب أبيح نكاح الأمة عند خوف العنت مع أن فيه إرقاق الولد وهو نوع إهلاك، وهو محرم على كل من قدر على حرة، ولكن إرقاق الولد أهون من إهلاك الدين، وليس فيه إلا تنغيص الحياة على الولد مدة، وفي اقتحام الفاحشة تفويت الحية الأخروية التي تستحقر الأعمار الطويلة بالإضافة إلى يوم من أيامها. وروي أنه انصرف الناس ذات يوم من مجلس ابن عباس وبقي شاب لم يبرح، فقال له ابن عباس: هل لك من حاجة? قال: نعم أردت أن أسأل فاستحييت من الناس، وأنا الآن أهابك وأجلك، فقال ابن عباس: إن العلم بمنزلة الوالد، فما كنت أفضيت به إلى أبيك فأفض إلي به، فقال: إني شاب لا زوجة لي وربما خشيت العنة على نفسي، فربما استمنيت بيدي فهل في ذلك معصية? فأعرض عنه ابن عباس ثم قال: أف وتف نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنى، فهذا تنبيه أن العزب المغتلم مردد بين ثلاثة شرور أدناها نكاح الأمة، وفيه إرقاق الولد، وأشد منه الاستنماء باليد، وأفحشه الزنى، ولم يطلق ابن عباس الإباحة في شيء منه لأنهما محذوران يفزع إليهما حذراً من الوقوع في محذور أشد منه، كما يفزع إلى تناول الميت حذراً من هلاك النفس، فليس ترجيح أهون الشرين في معنى الإباحة المطلقة ولا في معنى الخير المطلق، وليس قطع اليد المتآكلة من الخيرات وإن كان يؤذن فيه عند إشراف النفس على الهلاك، فإذاً في النكاح فضل من هذا الوجه، ولكن هذا لا يعمم الكل بل الأكثر، فرب شخص فترت شهوته لكبر سن أو مرض أو غيره فينعدم هذا الباعث في حقه، ويبقى ما سبق من أمر الولد. فإن ذلك عام إلا للممسوح وهو نادر، ومن الطباع ما تغلب عليها الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة فيستحب لصاحبها الزيادة على الواحدة إلى الأربع فإن يسر الله له مودة ورحمة واطمأن قلبه بهن وإلا فيستحب له الاستبدال، فقد نكح علي رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة عليها السلام بسبع ليال، ويقال إن الحسن بن علي كان منكاحاً حتى نكح زيادة على مائتي امرأة وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد، وربما طلق أربعاً في وقت واحد واستبدل بهن، وقد قال عليه الصلاة والسلام للحسن: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال ﷺ: "حسن مني وحسين من علي" فقال إن كثرة نكاحه أحد ما أشبه به خلق رسول الله ﷺ، وتزوج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة، وكان في الصحابة من له الثلاث والأربع، ومن كان له اثنتان لا يحصى، ومهما كان الباعث معلوماً فينبغي أن يكون العلاج بقدر العلة فالمراد تسكين النفس فلينظر إليه في الكثرة والقلة.
الفائدة الثالثة: ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة إراحة للقلب وتقوية له على العبادة فإن النفس ملول وهي عن الحق نفور لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القليب، وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات، ولذلك قال الله تعالى: "ليسكن إليها" وقال علي رضي الله عنه: "روحوا القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت وفي الخبر على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بمطعمه ومشربه فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات" ومثله بلفظ آخر "لا يكون العاقل ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم" وقال عليه الصلاة والسلام" لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى" والشرة الجد والمكابدة بحدة وقوة، وذلك في ابتداء الإرادة، والفترة،. الوقوف للإستراحة، وكان أبو الدرداء يقول إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو لأتقوى بذلك فيما بعد على الحق. وفي بعض الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال" شكوت إلى جبريل عليه السلام ضعفي عن الوقاع فدلني على الهريسة" "هذا إن صح لا محمل له إلا الاستعداد للاستراحة، ولا يمكن تعليله بدفع الشهوة فإنه استثارة للشهوة، ومن عدم الشهوة عدم الأكثر من هذا الأنس. وقال عليه الصلاة والسلام "حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" فهذه أيضاً فائدة لا ينكرها من جرب إتعاب نفسه في الأفكار والأذكار وصنوف الأعمال، وهي خارجة عن الفائدتين السابقتين، حتى إنه تطرد في حق الممسوح ومن لا شهوة له، إلا أن هذه الفائدة تجعل للنكاح فضيلة بالإضافة إلى هذه النية، وقل من يقصد بالنكاح ذلك. وأما قصد الولد وقصد دفع الشهوة وأمثالها فهو مما يكثر ثم رب شخص يستأنس بالنظر إلى الماء الجاري والخضرة وأمثالها ولا يحتاج إلى ترويح النفس بمحادثة النساء وملاعبتهن. فيختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص فليتنبه له.
الفائدة الرابعة: تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكفل بشغل الطبخ والكنس والفرش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة، فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده، إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق، واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش، ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "الزوجة الصالحة ليست من الدنيا فإنها تفرغك للآخرة. وإنما تفريغها بتدبير المنزل وبقضاء الشهوة جميعاً. وقال محمد بن كعب القرظي في معنى قوله تعالى: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة" قال: المرأة الصالحة. وقال عليه الصلاة والسلام: "ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على آخرته" فانظر كيف جمع بينها وبين الذكر والشكر. وفي بعض التفاسير في قوله تعالى "فلنحيينه حياة طيبة" قال: الزوجة الصالحة؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول" "ما أعطى العبد بعد الإيمان بالله خيراً من امرأة صالحة وإن منهن غنماً لا يحذى منه، ومنهن غلاً يفدى منه. وقوله: لا يحذى أي لا يعتاض عنه بعطاء. وقال عليه الصلاة والسلام: "فضلت على آدم بخصلتين:كانت زوجته عوناً له على المعصية وأزواجي أعوان لي على الطاعة، وكان شيطانه كافراً وشيطاني مسلم لا يأمر إلا بخير" فعد معاونتها على الطاعة فضيلة. فهذه أيضاً منة الفوائد التي يقصدها الصالحون إلا أنها تخص بعض الأشخاص الذين لا كافل لهم ولا مدبر، ولا تدعو إلى امرأتين بل الجمع ربما ينغص المعيشة ويضطرب به أمور المنزل ويدخل في هذه الفائدة قصد الاستكثار بعشيرتها وما يحصل من القوة بسبب تداخل العشائر، فإن ذلك مما يحتاج إليه في دفع شرور وطل السلامة ولذلك قيل: ذل من لا ناصر له، ومن وجد من يدفع عنه الشرور سلم حاله وفرغ بقلبه للعبادة، فإن الذل مشوش للقلب والعز بالكثرة دافع بالذل.
الفائدة الخامسة: مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل والصبر على أخلاقهن واحتمال الأذى منهن والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن والقيام بتربيته لأولاده، فكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم، إنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها، وإلا فقد قال عليه الصلاة والسلام" يوم من وال عادل أضل من عبادة سبعين سنة" ثم قال" ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وليس من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط، ولا من صبر على الأذى كمن رفه نفسه وأراحها، فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله ولذلك قال بشر: فضل على أحمد بن حنبل بثلاث: إحداهما أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره، وقد قال عليه الصلاة والسلام" ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة، وإن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلي في امرأته" وقال بعضهم لبعض العلماء: من كل عمل أعطاني الله نصيباً حتى ذكر الحج والجهاد وغيرهما فقال له: أين أنت من عمل الأبدان? قال: وما هو? قال كسب الحلال، والنفقة على العيال. وقال ابن مبارك وهو مع إخوانه في الغزو: تعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه? قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا أعلم، قالوا فما هو? قال رجل متعفف ذو عائلة قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه، فعمله أفضل مما نحن فيه. وقال ﷺ:"من حسنت صلاته وكثر عياله وقل ماله ولم يغتب المسلمين كان معي في الجنة كهاتين" وفي حديث آخر "إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال" وفي الحديث "إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بهم العيال ليكفرها عنه" وقال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال، وفيه أثر عن رسول الله ﷺ أنه قال: "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة" وقال ﷺ:"من كان له ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يغنيهن الله عنه أوجب الله له الجنة ألبتة ألبتة، إلا أن يعمل عملاً لا يغفر له" وكان ابن عباس إذا حدث بهذا قال: والله هو من غرائب الحديث وغرره. وروي أن بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته إلى أن ماتت. فعرض عليه التزويج فامتنع وقال: الوحدة أروح لقلبي وأجمع لهمي، ثم قال: رأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها كأن أبواب السماء فتحت وكأن رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضاً، فكلما نزل واحد نظر إلي وقال: لمن وراءه: هذا هو المشؤوم، فيقول الآخر: نعم، ويقول الثالث كذلك، ويقول الرابع نعم، فخفت أن أسألهم هيبة من ذلك إلى أن مر بي آخرهم وكان غلاماً، فقلت له: يا هذا من هذا المشئوم الذي تؤمنون إليه? فقال: أنت. فقلت: ولم ذاك? قال: كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، فمنذ جمعة أمرنا أن نضع عملك مع الخالقين، فما ندري ما أحدثت? فقال لإخوانه: زوجوني زوجوني فلم تفارقه زوجتان أو ثلاث. وفي أخبار الأنبياء عليهم السلام أن قوماً دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، فكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه وهو ساكت، فتعجبوا من ذلك فقال: لا تعجبوا فإني سألت الله تعالى وقلت: ما أنت معاقب لي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال: إن عقوبتك بنت فلان، تتزوج بها، فتزوجت بها وأنا صابر على ما ترون منها وفي الصبر على ذلك رياضة النفس وكسر الغضب وتحسين الخلق؛ فإن المنفرد بنفسه أو المشارك لمن حسن خلقه لا تترشح منه خبائث النفس الباطنة ولا تنكشف بواطن عيوبه، فحق على سالك طريق الآخرة أن يجرب نفسه بالتعرض لأمثال هذه المحركات واعتياد الصبر عليها، لتعتدل أخلاقه وترتاض نفسه ويصفوا عن الصفات الذميمة باطنه والصبر على العيال مع أنه رياضة ومجاهدة تكفل لهم وقيام بهم وعبادة في نفسها، فهذه أيضاً من الفوائد، ولكنه لا ينتفع بها إلا أحد رجلين: إما رجل قصد المجاهدة والرياضة وتهذيب الأخلاق لكونه في بداية الطريق، فلا يبعد أن يرى هذا طريقاً في المجاهدة وترتاض به النفس. وإما رجل من العابدين ليس له سير بالباطن وحركة بالفكر والقلب، وإنما عمله عمل الجوارح بصلاة أو حج أو غيره، فعمله لأهله وأولاده بكسب الحلال لهم والقيام بتربيتهم أفضل له من العبادات اللازمة لبدنه التي لا يتعدى خيرها إلى غيره، فأما الرجل مهذب الأخلاق إما بكفاية في أصل الخلقة أو بمجاهدة سابقة كان له سير في الباطن وحركة بفكر القلب في العلوم والمكاشفات، فلا ينبغي أن يتزوج لهذا الغرض، فإن الرياضة هو مكفي فيها. وأما العبادة في العمل بالكسب لهم فالعلم أفضل من ذلك، لأنه أيضاً عمل، وفائدته أكثر من ذلك، وأعم وأشمل لسائر الخلق من فائدة الكسب على العيال، فهذه فوائد النكاح في الدين التي بها يحكم له بالفضيلة.
أما آفات النكاح فثلاث: الآفة الأولى: وهي أقواها العجز عن طلب الحلال فإن ذلك لا يتيسر لكل أحد، لا سيما في هذه الأوقات مع اضطراب المعايش فيكون النكاح سبباً في التوسع للطلب والإطعام من الحرام، وفيه هلاكه وهلاك أهله والمتعزب في أمن من ذلك، وأما المتزوج ففي الأكثر يدخل في مداخل السوء فيتبع هوى زوجته ويبيع آخرته بدنياه. وفي الخبر" إن العبد ليوقف عند الميزان وله من الحسنات أمثال الجبال فيسأل عن رعاية عائلته والقيام بهم، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، حتى يستغرق بتلك المطالبات كل أعماله، فلا تبقى له حسنة، فتنادي الملائكة: هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا وارتهن اليوم بأعماله" ويقال: إن أول ما يتعلق بالرجل في القيامة أهله وولده فيوقفونه بين يدي الله تعالى ويقولون: يا ربنا خذ لنا بحقنا منه فإنه ما علمنا ما نجهل وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم، فيقتص لهم منه. وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد شراً سلط عليه في الدنيا لا أنياباً تنهشه يعني العيال. وقال عليه الصلاة والسلام" لا يلقى الله أحد بذنب أعظم من جهالة أهله" فهذه آفة عامة قل من يتخلص منها إلا من له مال موروث أو مكتسب من حلال يفي به وبأهله وكان له من القناعة ما يمنعه من الزيادة، فإن ذلك يتلخص من هذه الآفة، أو من هو محترف ومقتد على كسب حلال من المباحات باحتطاب أو اصطياد، أو كان في صناعة لا تتعلق بالسلاطين ويقدر على أن يعامل به أهل الخير،ومن ظاهره السلامة وغالب ماله الحلال وقال ابن سالم رحمه الله وقد سئل عن التزويج فقال: هو أفضل في زماننا لمن أدركه شبق غالب،مثل الحمار يرى الأتان فلا ينتهي عنها بالضرب ولا يملك نفسه فتركه أولى.
الآفة الثانية: القصور عن القيام بحقهن والصبر على أخلاقهن واحتمال الأذى منهن وهذه دون الأولى في العموم فإن القدرة على هذا أيسر من القدرة على الأولى، وتحسين الخلق مع النساء والقيام بحظوظهن أهون من طلب الحلال وفي هذا أيضاً خطر لأنه راع ومسؤول عن رعيته. وقال عليه الصلاة والسلام: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول" وروي أن الهارب من عياله بمنزلة العبد الآبق لا تقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم، ومن يقصر عن القيام بحقهن وإن كان حاضراً فهو بمنزلة هارب، فقد قال تعالى: "قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" أمرنا أن نقيهم النار كما نقي أنفسنا والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه،وإذا تزوج تضاعف عليه الحق وانضافت إلى نفسه نفس أخرى والنفس أمارة بالسوء،إن كثرت عليها الحقوق كثر الأمر بالسوء غالباً، ولذلك اعتذر بعضهم من التزويج وقال: أنا مبتلي بنفسي وكيف أضيف إليها نفساً أخرى? كما قيل: لن يسع الفأرة جحرهـا علقت المكنس في دبرها وكذلك اعتذر إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى وقال:لا أغر امرأة بنفسي ولا حاجة لي فيهن: أي من القيام بحقهن وتحصينهن وإمتاعهن وأنا عاجز عنه، وكذلك اعتذر بشر وقال: يمنعني من النكاح قوله تعالى" ولهن مثل الذي عليهن" وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أصير جلادها على الجسر. ورئي سفيان بن عيينة رحمه الله على باب السلطان فقيل له: ما هذا? فقال: وهل رأيت ذا عيال أفلح? وكان سفيان يقول:
فهذه آفة عامة أيضاً وإن كانت دون عموم الأولى، لا يسلم منها إلا حكيم عاقل،حسن الأخلاق، بصير بعادات النساء، صبور على لسانهن وقاف عن اتباع شهواتهن، حريص على الوفاء بحقهن يتغافل عن زللهن، ويداري بعقله أخلاقهن،والأغلب على الناس السفه والفظاظة والحدة والطيش وسوء الخلق وعدم الإنصاف مع طلب تمام الإنصاف ومثل هذا يزداد بالنكاح فساداً من هذا الوجه لا محالة، فالوحدة أسلم له.
الآفة الثالثة: وهي دون الأولى والثانية: أن يكون الأهل والولد شاغلاً له عن الله تعالى وجاذباً له إلى طلب الدنيا وحسن تدبير المعيشة للأولاد بكثرة جمع المال وادخاره لهم وطلب التفاخر والتكاثر بهم وكل ما شغل عن الله من أهل ومال وولد فهو مشؤوم على صاحبه، ولست أعني بهذا أن يدعو إلى محظور، فإن ذلك مما اندرج تحت الآفة الأولى والثانية،بل أن يدعو إلى التنعم بالمباح بل إلى الإغراق في ملاعبة النساء ومؤانستهن والإمعان في التمتع بهن، ويثور من النكاح أنواع من الشواغل من هذا الجنس تستغرق القلب، فينقضي الليل والنهار ولا يتفرغ المرء فيهما للتفكر في الآخرة والاستعداد لها، ولذلك قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: من تعود أفخاذ النساء لم يجيء منه شيء وقال أبو سلمان رحمه الله: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا. أي يدعو ذلك إلى الركون إلى الدنيا، فهذه مجامع الآفات والفوائد،فالحكم على شخص واحد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطاقاً قصور عن الإحاطة بمجامع هذه الأمور بل تتخذ هذه الفوائد والآفات معتبراً ومحكماً ويعرض المريد عليه نفسه، فإن انتفت في حقه الآفات واجتمعت الفوائد بأن كان له مال حلال وخلق حسن وجد في الدين تام لا يشغله النكاح عن الله،وهو مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل والتحصن بالعشيرة، فلا يماري في أن النكاح أفضل له مع ما فيه من السعي في تحصيل الولد، فإن انتفت الفوائد واجتمعت الآفات فالعزوبة أفضل له، وإن تقابل الأمران وهو الغالب فينبغي أن يوزن بالميزان القسط حظ تلك الفائدة في الزيادة من دينه وحظ تلك الآفات في النقصان منه، فإذا غلب على الظن رجحان أحدهما حكم به، وأظهر الفوائد الولد وتسكين الشهوة، وأظهر الآفات الحاجة إلى كسب الحرام والاشتغال عن الله، فلنفرض تقابل هذه الأمور فنقول: من لم يكن في أذية من الشهوة وكانت فائدة نكاحه في السعي لتحصيل الولد وكانت الآفة الحاجة إلى كسب الحرام والاشتغال عن الله فالعزوبة له أولى، فلا خير فيما يشغل عن الله، ولا خير في كسب الحرام، ولا يفي بنقصان هذين الأمرين أمر الولد، فإن النكاح للولد سعي في طلب حياة للولد موهومة، وهذا نقصان في الدين ناجز، فحفظه لحياة نفسه وصونها عن الهلاك أهم من السعي في الولد وذلك ربح والدين رأسمال. وفي فساد الدين بطلان الحياة الأخروية وذهاب رأس المال، ولا تقاوم هذه الفائدة إحدى هاتين الآفتين، وأما إذا انضاف إلى أمر الولد حاجة كسر الشهوة لتوقان النفس إلى النكاح نظر: فإن لم يقي لجام التقوى في رأسه وخاف على نفسه الزنا فالنكاح له أولى، لأنه متردد بين أن يقتحم الزنا أو يأكل الحرام، والكسب الحرام أهون الشرين، وإن كان يثق بنفسه أنه لا يزني ولكن لا يقدر مع ذلك على غض البصر عن الحرام فترك النكاح أولى،لأن النظر حرام والكسب من غير وجهه حرام، والكسب يقع دائماً وفيه عصيانه وعصيان أهله، والنظر يقع أحياناً وهو يخصه وينصرم على قرب والنظر زنا العين ولكن إذا لم يصدقه الفرج فهو إلى العفو أقرب من أكل الحرام، إلا أن يخاف إفضاء النظر إلى معصية الفرج فيرجع ذلك إلى خوف العنت؛ وإذا ثبت هذا فالحالة الثالثة: وهو أن يقوى على غض البصر ولكن لا يقوى على دفع الأفكار الشاغلة للقلب فذلك أولى بترك النكاح، لأن عمل القلب إلى العفو أقرب، إنما يراد فراغ القلب للعبادة ولا تتم عبادة مع كسب الحرام وأكله وإطعامه،فهكذا ينبغي أن توزن هذه الآفات بالفوائد ويحكم بحسبها،ومن أحاط بهذا لم يشكل عليه شيء مما نقلنا عن السلف من ترغيب في النكاح مرة ورغبة عنه أخرى، إذ ذلك بحسب الأحوال صحيح.
فإن قلت: فمن أمن الآفات فما الأفضل له: التخلي لعبادة الله، أو النكاح? فأقول: يجمع بينهما، لأن النكاح ليس مانعاً من التخلي لعبادة الله من حيث إنه عقد،ولكن من حيث الحاجة إلى الكسب، فإن قدر على الكسب الحلال فالنكاح أيضاً أفضل، لأن الليل وسائر أوقات النهار يمكن التخلي فيه للعبادة، والمواظبة على العبادة من غير استراحة غير ممكن، فإن كونه مستغرقاً بالكسب حتى لا يبقى له وقت سوى أوقات المكتوبة والنوم والأكل وقضاء الحاجة، فإن كان الرجل ممن لا يسلك سبيل الآخرة إلا بالصلاة النافلة أو الحج وما يجري مجراه من الأعمال البدنية فالنكاح أفضل، لأن في كسب الحلال والقيام بالأهل والسعي في تحصيل الولد والصبر على أخلاق النساء أنواعاً من العبادات لا يقصر فضلها عن نوافل العبادات وإن كان عبادته بالعلم والفكر وسير الباطن، والكسب يشوش عليه ذلك، فترك النكاح أفضل.
فإن قلت: فلم ترك عيسى عليه السلام النكاح مع فضله? وإن كان أفضل التخلي لعبادة الله فلم استكثر رسولنا ﷺ من الأزواج? فاعلم أن الأفضل الجمع بينهما في حق من قدر ومن قويت منته وعلت همته فلا يشغله عن الله شاغل، ورسولنا عليه السلام أخذ بالقوة، وجمع بين فضل العبادة والنكاح، ولقد كان مع تسعة من النسوة متخلياً لعبادة الله، وكان قضاء الوطر بالنكاح في حقه غير مانع، كما لا يكون قضاء الحاجة في حق المشغولين بتدبيرات الدنيا مانعاً لهم عن التدبير، حتى يشتغلون في الظاهر بقضاء الحاجة وقلوبهم مشغوفة بهممهم غير غافلة عن مهماتهم، وكان رسول الله ﷺ لعلو درجته لا يمنعه أمر هذا العالم عن حضور القلب مع الله تعالى، فكان ينزل عليه الوحي وهو في فراش امرأته،ومتى سلم مثل هذا المنصب لغيره فلا يبعد أن يغير السواقي ما لا يغير البحر الخضم، فلا ينبغي أن يقاس عليه غيره. وأما عيسى صلى الله عيه وسلم فإنه أخذ بالحزم لا بالقوة، واحتاط لنفسه، ولعل حالته كانت حالة يؤثر فيها الاشتغال بالأهل، أو يتعذر معها طلب الحلال، أو لا يتيسر فيها الجمع بين النكاح والتخلي للعبادة فآثر التخلي للعبادة، وهم أعلم بأسرار أحوالهم وأحكام أعصارهم في طيب المكاسب وأخلاق النساء، وما على الناكح من غوائل النكاح وما له فيه، ومهما كانت الأحوال منقسمة حتى يكون النكاح في بعضها أفضل وتركه في بعضها أفضل، فحقنا أن ننزل أفعال الأنبياء على الأفضل في كل حال والله أعلم.