→ الباب الثاني | إحياء علوم الدين كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة - الباب الثالث المؤلف: أبو حامد الغزالي |
كتاب آداب العزلة ← |
الباب الثالث
في حق المسلم والرحم والجوار والملك
وكيفية المعاشرة مع من يدلي بهذه الأسباب
اعلم أن الإنسان إما أن يكون وحده أو مع غيره، وإذا تعذر عيش الإنسان إلا بمخالطة من هو من جنسه لم يكن له بد من تعلم آداب المخالطة. وكل مخالط ففي مخالطته أدب والأدب على قدر حقه وحقه على قدر رابطته التي وقعت المخالطة. والرابطة إما القرابة وهي أخصها أو أخوة الإسلام وهي أعمها، وينطوي في معنى الأخوة الصداقة والصحبة، وإما الجوار، وإما صحبة السفر والمكتب والدرس، وإما الصداقة أو الأخوة.
ولكل واحد من هذه الروابط درجات. فالقرابة لها حق ولكن حق الرحم المحرم آكد، وللمحرم حق ولكن حق الوالدين آكد. وكذلك حق الجار ولكن يختلف بحسب قربه من الدار وبعده، ويظهر التفاوت عند النسبة حتى أن البلدي في بلاد الغربة يجري مجرى القريب في الوطن لاختصاصه بحق الجوار في البلد. وكذلك حق المسلم يتأكد بتأكد المعرفة. وللمعارف درجات فليس حق الذي عرف بالمشاهدة كحق الذي عرف بالسماع بل آكد منه والمعرفة بعد وقوعها تتأكد بالاختلاط. وكذلك الصحبة تتفاوت درجاتها فحق الصحبة في الدرس والمكتب آكد من حق صحبة السفر. وكذلك الصداقة تتفاوت فإنها إذا قويت صارت أخوة فإن ازدادت صارت محبة فإن ازدادت صارت خلة، والخليل أقرب من الحبيب؛ فالمحبة، ما تتمكن من حبة القلب والخلة ما تتخلل سر القلب؛ فكل خليل حبيب وليس كل حبيب خليلاً، وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة، فأما كون الخلة فوق الأخوة فمعناه أن لفظ الخلة عبارة عن حالة هي أتم من الأخوة وتعرفه من قوله ﷺ: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله"، إذ الخليل هو الذي يتخلل الحب جميع أجزاء قلبه ظاهراً وباطناً ويستوعبه ولم يستوعب قلبه عليه السلام سوى حب الله، وقد منعه الخلة عن الاشتراك فيه مع أنه اتخذ علياً رضي الله عنه أخاً فقال: "علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة"، فعدل بعلي عن النبوة كما عدل بأبي بكر عن الخلة، فشارك أبو بكر علياً رضي الله عنهما في الأخوة وزاد عليه بمقاربة الخلة وأهليته لها لو كان للشركة في الخلة مجال، فإنه نبه عليه بقوله: "لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وكان ﷺ حبيب الله وخليله، وقد روي أنه صعد المنبر يوماً مستبشراً فرحاً فقال: "إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فأنا حبيب الله وأنا خليل الله تعالى"، فإذن ليس قبل المعرفة رابطة ولا بعد الخلة درجة، وما سواهما من الدرجات بينهما، وقد ذكرنا حق الصحبة والأخوة ويدخل فيهما ما وراءهما من المحبة والخلة، وإنما تتفاوت الرتب في تلك الحقوق كما سبق بحسب تفاوت المحبة والأخوة، حتى ينتهي أقصاها إلى أن يوجب الإيثار بالنفس والمال، كما آثر أبو بكر رضي الله عنه نبينا ﷺ، وكما آثره طلحة ببدنه إذ جعل نفسه وقاية لشخصه العزيز ﷺ، فنحن الآن نريد أن نذكر حق أخوة الإسلام وحق الرحم وحق الوالدين، وحق الجوار، وحق الملك. أعني ملك اليمين. فإن النكاح قد ذكرنا حقوقه في كتاب آداب النكاح.
حقوق المسلم
هي: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك ورد جميع ذلك في أخبار وآثار. وقد روي أنس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: "أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لمدبرهم، وأن تحب تائبهم"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى: "رحماء بينهم" قال:يدعو صالحهم لطالحهم وطالحهم لصالحهم، فإذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد ﷺ قال: اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير وثبته عليه وانفعنا به، وإذا نظر الصالح إلى الطالح قال: اللهم اهده واغفر له عثرته.
ومنها أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه قال النعمان بن البشير: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "مثل المؤمنين في توادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر"، وروى أبو موسى عنه ﷺ قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
ومنها أن لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول، قال ﷺ: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال صلى الله عله وسلم في حديث طويل يأمر فيه بالفضائل: "فإن لم تقدر فدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدقت بها على نفسك"، وقال أيضاً: "أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال ﷺ: "أتدرون من المسلم?" فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، قالوا: فمن المؤمن? قال: "من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم"، قالوا: فمن المهاجر? قال: "من هجر السوء واجتنبه"، وقال رجل: يا رسول الله: ما الإسلام? قال: "أن يسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك" وقال مجاهد: يسلط على أهل النار الجرب فيحتكون حتى يبدو عظم أحدهم من جلده، فينادي: يا فلان: هل يؤذيك هذا? فيقول: نعم، فيقول: هذا بما كنت تؤذي المؤمنين. وقال ﷺ: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها عن ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله، علمني شيئاً أنتفع به. قال: "اعزل الأذى عن طريق المسلمين" وقال ﷺ: "من زحزح عن طريق المسلمين شيئاً يؤذيهم كتب الله له به حسنة، ومن كتب الله له حسنة أوجب له بها الجنة"، وقال ﷺ: "لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه"، وقال: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً"، وقال ﷺ: "إن الله يكره أذى المؤمنين"، وقال الربيع بن خيثم: الناس رجلان، مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله.
ومنهما أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه، فإن الله لا يحب كل مختال فخور. قال رسول الله ﷺ: "إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد"، ثم إن تفاخر عليه غيره فليحتمل، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وعن ابن أبي أوفى: "كان رسول الله ﷺ يتواضع لكل مسلم ولا يأنف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي حاجته".
ومنها: أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض، قال ﷺ: "لا يدخل الجنة قتات"،وقال الخليل بن أحمد: من نم لك نم عليك ومن أخبرك بخبر غيرك أخبر غيرك بخبرك.
ومنها أن لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام مهما غضب عليه. قال أبو أيوب الأنصاري: قال ﷺ: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، وقد قال ﷺ: "من أقال مسلماً عثرته أقاله الله يوم القيامة"، قال عكرمة: قال الله تعالى ليوسف بن يعقوب: بعفوك عن إخواتك رفعت ذكرك في الدارين. قالت عائشة رضي الله عنها: "ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً. وقال ﷺ: "ما نقص مال من صدقة وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً وما من أحد تواضع لله إلا رفعه الله".
ومنهما: أن يحسن إلى كل من قدر عليه منهم ما استطاع لا يميز بين الأهل وغير الأهل. وروى علي بن الحسين عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله ﷺ: "اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله"، وعنه بإسناده قال: قال رسول الله ﷺ : "رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع المعروف إلى كل بر وفاجر"، وفال أبو هريرة: "كان رسول الله ﷺ لا يأخذ أحد بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها ولم تكن ركبته خارجة عن ركبة جليسه ولم يكن أحد يكلمه إلا أقبل عليه بوجهه ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه" ومنها: أن لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه بل يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له انصرف. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "الاستئذان ثلاث، فالأولى: يستنصتون، والثانية: يستصلحون، والثالثة: يأذنون أو يردون".
ومنها: أن يخالق الجميع بخلق حسن ويعاملهم بحسب طريقته فإنه إن أراد لقاء الجاهل بالعلم والأمي بالفقه والعي بالبيان آذى وتأذى.
ومنها: أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان. قال جابر رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا"، وقال ﷺ: "من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم"، ومن تمام توقير المشايخ أن لا يتكلم بين أيديهم إلا بالإذن، وقال جابر: قدم وفد جهينة على النبي ﷺ فقام غلام ليتكلم، فقال ﷺ: "مه فأين الكبير?"، وفي الخبر: "ما وقر شاب شيخاً إلا قيض الله له في سنه من يوقره"، وهذه بشارة بدوام الحياة فليتنبه لها فلا يوفق لتوقير المشايخ إلا من قضى الله له بطول العمر، وقال ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى يكون المطر غيظاً والمطر قيظاً وتفيض اللئام فيضاً وتغيض الكرام غيضاً ويجترئ الصغير على الكبير واللئيم على الكريم"، "والتلطف بالصبيان من عادة رسول الله ﷺ". "كان ﷺ يقدم من السفر فيتلقاه الصبيان فيقف عليهم ثم يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم"، فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله ﷺ بين يديه وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم: أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم، "وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة وليسميه فيأخذه فيضعه في حجره فربما بال الصبي فيصيح به بعض من يراه فيقول: لا تزرموا الصبي بوله فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ من دعائه له وتسميته ويبلغ سرور أهله فيه لئلا يروا أنه تأذى ببوله فإذا انصروا غسل ثوبه".
ومنها: أن يكون مع كافة الخلق مستبشراً طلق الوجه رفيقاً قال ﷺ:" أتدرون على من حرمت النار?" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:" على اللين الهين السهل القريب"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "إن الله يحب السهل والطلق الوجه"، وقال بعضهم: "يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام"، وقال عبد الله بن عمر: إن البر شيء هين؛ وجه طليق وكلام لين، وقال ﷺ: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وقال ﷺ: "إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها"؛ فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله? قال: "لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام"، وقال معاذ بن جبل: قال لي رسول الله ﷺ: "أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وخفض الجناح"،وقال أنس رضي الله عنه: "عرضت لنبي الله ﷺ امرأة وقالت: لي معك حاجة؛ وكان معه ناس من أصحابه، فقال: اجلسي في أي نواحي السكك شئت أجلس إليك، ففعلت فجلس إليها حتى قضت حاجتها"، وقال وهب بن منبه: إن رجلاً من بني إسرائيل صام سبعين سنة يفطر ي كل سبعة أيام، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس? فلما طال عليه ذلك ولم يجب قال: لو اطلعت على خطيئتي وذنبي بيني وبين ربي لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي طلبته، فأرسل الله إليه ملكاً فقال له: إن الله أرسلني إليك وهو يقول لك: إن كلامك هذا الذي تكلمت به أحب إلي مما مضى من عبادتك، وقد فتح الله بصرك فانظر، فنظر فإذا جنود إبليس قد أحاطت بالأرض وإذا ليس أحد من الناس إلا والشياطين حوله كالذئاب فقال: أي رب من ينجو من هذا? قال: الورع اللين.
ومنها: أن لا يعد مسلماً بوعد إلا ويفي به. قال ﷺ: "العدة عطية"، وقال: "العدة دين"، وقال: "ثلاث في المنافق: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ائتمن خان"، وقال:" ثلاث من كن فيه منافق وإن صام وصلى"، وذكر ذلك
ومنها: أن ينصف الناس من نفسه ولا يأتي إليهم إلا بما يحب أن يؤتى إليه، قال ﷺ:" لا يستكمل العبد الإيمان. حتى يكون فيه ثلاث خصال: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسه، وبذل السلام"، وقال عليه السلام:" من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه"، وقال ﷺ: "يا أبا الدرداء أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً"، قال الحسن: أوحى الله تعالى إلى آدم ﷺ بأربع خصال وقال: فيهن جماع الأمر لك ولولدك، واحدة لي وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين الخلق، فأما التي لي: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك: فعملك أجزيك به أفقر ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك: فعليك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فتصحبهم بالذي تحب أن يصحبوك به. وسأل موسى عليه السلام الله تعالى فقال: أي رب أي عبادك أعدل? قال: من أنصف من نفسه.
ومنها: أن يريد في توقير من تدل هيئته وثيابه على علو منزلته فينزل الناس منازلهم. روي أن عائشة رضي الله عنها كانت في سفر فنزلت منزلاً فوضعت طعامها، فجاء سائل فقالت عائشة: ناولوا هذا المسكين قرصاً، ثم مر رجل على دابة فقالت: ادعوه إلى الطعام. فقيل لها: تعطين المسكين وتدعين هذا الغني? فقالت: إن الله تعالى أنزل الناس منازل لابد لنا من أن ننزلهم تلك النازل، هذا المسكين يرضى بقرص، وقبيح بنا أن نعطي هذا الغني على هذه الهيئة قرصاً. وروي أنه ﷺ دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس وامتلأ؛ فجاء جرير بن عبد الله البجلي فلم يجد مكاناً فقعد على الباب فلف رسول الله ﷺ رداءه فألقاه إليه وقال: "اجلس على هذا" فأخذه جرير ووضعه على وجهه وجعل يقبله ويبكي، ثم لفه ورمى به إلى النبي ﷺ وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك؛ أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي ﷺ يميناً وشمالاً ثم قال: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه"، وكذلك كل من له عليه حق قديم فليكرمه. روي أن ظئر رسول الله ﷺ التي أرضعته جاءت إليه فبسط لها رداءه، ثم قال لها: "اشفعي تشفعي وسلي تعطي" فقالت: قومي. فقال: "أما حقي وحق بني هاشم فهو لك"؛ فقام الناس من كل ناحية وقالوا: وحقنا يا رسول الله. ثم وصلها بعد وأخدمها ووهب لها سهمانه بحنين فبيع ذلك من عثمان رضي الله عنه بمائة ألف درهم، ولربما أتاه من يأتيه وهو على وسادة جالس ولا يكون فيها سعة يجلس معه فينزعها ويضعها تحت الذي يجلس إليه فإن ابي عزم عليه حتى يفعل.
ومنها: أن يصلح ذات البين بين المسلمين مهما وجد إليه سبيلاً. قال ﷺ: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة?" قالوا: بلى، قال: "إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة"، وقال ﷺ "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين"، وعن النبي ﷺ فيما رواه أنس رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله ﷺ جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحكك? قال "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من هذا، فقال الله تعالى: رد على أخيك مظلمته. فقال: يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء، فقال الله تعالى للطالب: كيف تصنع بأخيك ولم يبق له من حسناته شيء? فقال: يا رب فليحمل عني من أوزاري". ثم فاضت عينا رسول الله ﷺ بالبكاء فقال: "إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم قال : فيقول الله تعالى. - أي للمتظلم - ارفع بصرك فانظر في الجنان فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق أو شهيد? قال الله تعالى: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك? قال: أنت تملكه، قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب قد عفوت عنه، فيقول الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال ﷺ: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة"، وقد قال ﷺ: "ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً"، وهذا يدل على وجوب الإصلاح بين الناس لأن ترك الكذب واجب ولا يسقط الواجب إلا بواجب آكد منه، وقال ﷺ: "كل الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب، فإن الحرب خدعة، أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما، أو يكذب لامرأته ليرضيها".
ومنها: أن يستر عورات المسلمين كلهم. قال ﷺ: "من ستر على مسلم ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة"، وقال: "لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة"،وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال ﷺ: "لا يرى المؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا دخل الجنة"، وقال ﷺ لماعز لما أخبره: "لو سترته بثوبك كان خيراً لك"، فإذن على المسلم أن يستر عورة نفسه فحق إسلامه واجب عليه كحق إسلام غيره. قال أبو بكر رضي الله عنه: لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله. وروي أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة فلما أصبح قال للناس: أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين? قالوا: إنما أنت إمام، فقال علي رضي الله عنه: ليس ذلك لك، إذاً يقام عليك الحد إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود، ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم ثم سألهم، فقال القوم مقالتهم الأولى، فقال علي رضي الله عنه: مثل مقالته الأولى. وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله? فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاَ?ً بإخباره، ومال رأي علي إلى أنه ليس له ذلك. وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش فإن أفحشها الزنى، وقد نيط بأربعة من العدول. يشاهدون ذلك منه في ذلك منها كالمردود في المكحلة. وهذا قط لا يتفق. وإن علمه القاضي تحقيقاً لم يكن له أن يكشف عنه. فانظر إلى الحكمة في حسم باب الفاحشة بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات. ثم انظر إلى كثيف ستر الله كيف أسبله على العصاة من خلقه بتضييق الطريق في كشفه? فنرجو أن لا نحرم هذا الكرم يوم تبلى السرائر: ففي الحديث: "إن الله ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة وإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها مرة أخرى"، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خرجت مع عمر رضي الله عنه ليلة في المدينة فبينما نحن نمشي إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نؤمه فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري من هذا? قلت: لا، فقال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى? قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه. قال الله تعالى: "ولا تجسسوا" فرجع عمر رضي الله عنه وتركهم، وهذا يدل على وجوب الستر وترك التتبع، وقد قال رسول الله ﷺ لمعاوية: "إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم"، وقال ﷺ: " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته"، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو رأيت أحداً على حد من حدود الله تعالى ما أخذته ولا دعوت له أحداً حتى يكون معي غيري. وقال بعضهم: كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ جاءه رجل بآخر، فقال: هذا نشوان، فقال عبد الله بن مسعود: استنكهوه فاستنكهوه فوجده نشواناً فحبسه حتى ذهب سكره، ثم دعا بسوط فكسر ثمره ثم قال للجلاد: اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه فجلده وعليه قباء أو مرط: فلما فرغ قال للذي جاء به: ما أنت منه? قال: عمه، قال عبد الله: ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الحرمة! إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه وإن الله عفو يحب العفو ثم قرأ: "وليعفوا وليصفحوا" ثم قال: "إني لأذكر أول رجل قطعه النبي ﷺ أتي بسارق فقطعه فكأنما أسف وجهه، فقالوا يا رسول الله كأنك كرهت قطعه فقال: "وما يمنعني? لا تكونوا عوناً للشياطين على أخيكم?" فقالوا: ألا عفوت عنه? فقال: "إنه ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد أن يقيمه إن الله عفو يحب العفو" وقرأ: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" وفي رواية فكأنما سفي في وجه رسول الله ﷺ رماد لشدة تغيره. وروى أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور
عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر، فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته? فقال: وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل، فإن كنت قد عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاثة، قال الله تعالى: "ولا تجسسوا" وقد تجسست، وقال الله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وقد تسورت علي، وقد قال الله تعالى: " لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم" - الآية- ، وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام، فقال عمر رضي الله عنه: هل عندك من خير إن عفوت عنك? قال: نعم والله يا أمير المؤمنين لئن عفوت عني لا أعود إلى مثلها أبداً فعفا عنه وخرج وتركه. وقال رجل لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن كيف سمعت رسول الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة? قال: سمعته يقول: "إن الله ليدني منه المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا? فيقول: نعم يا رب، حتى إذا قرره بذنوبه فرأى في نفسه أنه قد هلك قال له: يا عبدي لم أسترها عليك في الدنيا إلا وأنا أريد أن أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون: "ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" وقال ﷺ: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين"، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل السوء سراً ثم يخبر به، وقال ﷺ: "من استمع خبر قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة".
ومنها: أن يتقي مواضع التهم صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم عن العيبة، فإنهم إذا عصوا الله بذكره وكان هو السبب فيه كان شريكاً، قال الله تعالى: "ولا يسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" وقال ﷺ: "كيف ترون من يسب أبويه?فقالوا: وهل من أحد يسب أبويه? فقال: نعم يسب أبوي غيره فيسبون أبويه"، وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله ﷺ كلم إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه رسول الله ﷺ وقال: "يا فلان هذه زوجتي صفية"، فقال: يا رسول الله من كنت أظن فيه فإني لم أكن أظن فيك، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، وزاد في رواية: "إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً" وكانا رجلين فقال: "على رسلكما إنها صفية" - الحديث - وكانت قد زارته في العشر الأواخر من رمضان: وقال عمر رضي الله عنه: من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من أساء به الظن. ومر برجل يكلم امرأة على ظهر الطريق فعلاه بالدرة فقال: يا أمير المؤمنين، إنها امرأتي فقال: هلا حيث لا يراك أحد من الناس?.
ومنهما: أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة ويسعى في قضاء حاجته بما قدر عليه، قال ﷺ: "إني أوتى وأسأل وتطلب إلي الحاجة وأنتم عندي فاشفعوا لتؤجروا ويقضى الله على يدي نبيه ما أحب"، وقال معاوية: قال رسول الله ﷺ: "اشفعوا إلي لتؤجروا إني أريد الأمر وأؤخره كي تشفعوا إلي فتؤجروا"، وقال ﷺ: "ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان" قيل: وكيف ذلك? قال: "الشفاعة يحقن بها الدم وتجر بها المنفعة إلى آخر ويدفع بها المكروه عن آخره"، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث كأني أنظر إليه خلفها وهو يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال ﷺ للعباس: "ألا تعجب من شدة حب مغيث لبريرة وشدة بغضها له? فقال النبي ﷺ: لو راجعته فإنه أبو ولدك، فقالت: يا رسول الله أتأمرني فأفعل? فقال: لا إنما أنا شافع".
ومنها: أن يبدأ كل مسلم منهم بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام. قال ﷺ: "من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه حتى يبدأ بالسلام"، وقال بعضهم: دخلت على رسول الله ﷺ ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي ﷺ: "ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل?". وروى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته"، وقال أنس رضي الله عنه خدمت النبي ﷺ ثمان حجج فقال لي: "يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك وسلم على من لقيته من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت منزلك فسلم على أهل بيتك يكثر خيرك بيتك"، وقال أنس: قال رسول الله ﷺ: "إذا التقى المؤمنان فتصافحا قسمت بينهما سبعون مغفرة تسع وستون لأحسنهما بشراً"، وقال تعالى: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" وقال عليه السلام: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم?" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أفشوا السلام بينكم"، وقال أيضاً: "إذا سلم المسلم فرد عليه صلت عليه الملائكة سبعين مرة" وقال ﷺ: "إن الملائكة تعجب من المسلم يمر على المسلم ولا يسلم عليه"، وقال عليه السلام: "يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم" وقال قتادة: كانت تحية من كان قبلكم السجود فأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام وهي تحية أهل الجنة. وكان أبو مسلم الخولاني يمر على قوم فلا يسلم عليهم ويقول: ما يمنعني إلا أني أخشى أن لا يردوا فتلعنهم الملائكة. والمصافحة أيضاً سنة مع السلام، "وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: السلام عليكم، فقال عليه السلام: عشر حسنات، فجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون حسنة، فجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون"، وكان أنس رضي الله عنه يمر على الصبيان فيسلم عليهم، ويروى عن رسول الله ﷺ أنه فعل ذلك. وروى عبد الحميد بن بهرام: أنه ﷺ مر في المسجد يوماً وعصبة من الناس قعود فأومأ بيده بالسلام، وأشار عبد الحميد بيده إلى الحكاية. فقال عليه السلام: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدكم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تصافحوا أهل الذمة ولا تبدؤوهم بالسلام فإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطرق".
قالت عائشة رضي الله عنها: إن رهطاً من اليهود دخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: السام عليك، فقال النبي ﷺ: "عليكم" قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت بل عليكم السام واللعنة فقال عليه السلام: "يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل شيء" قالت عائشة: ألم تسمع ما قالوا? قال "فقد قلت عليكم" وقال عليه السلام: "يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير"، وقال عليه السلام: "لا تشبهوا باليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالإشارة بالأصابع وتسليم النصارى بالإشارة بالأكف"، قال أبو عيسى: إسناده ضعيف.
وقال عليه السلام: "إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الأخيرة"، وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "إذا التقى المؤمنان فتصافحا قسمت بينهما سبعون مغفرة تسعة وستون لأحسنهما بشراً"، وقال عمر رضي الله عنه: سمعت النبي ﷺ يقول: "إذا التقى المسلمان وسلم كل واحد منهما على صاحبه وتصافحا نزلت بينهما مائة رحمة للبادئ تسعون وللمصافح عشرة"، وقال الحسن: المصافحة تزيد في الود. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "تمام تحياتكم المصافحة"، وقال عليه السلام: "قبلة المسلم أخاه المصافحة"،ولا بأس بقبلة يد المعظم في الدين تبركاً به وتوقيراً له. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: قبلنا يد النبي ﷺ، وعن كعب بن مالك قال: لما نزلت توبتي أتيت النبي ﷺ فقبلت يده، وروي أن أعرابياً قال: يا رسول الله ائذن لي فأقبل رأسك ويدك قال: فأذن له ففعل، ولقي أبو عبيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فصافحه وقبل يده وتنحيا يبكيان. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: أنه سلم على رسول الله ﷺ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه ومد يده إليه فصافحه فقال: يا رسول الله ما كنت أرى هذا إلا من أخلاق الأعاجم? فقال رسول الله ﷺ: "إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما"، وعن النبي ﷺ قال: "إذا مر الرجل بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم السلام وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب. أو قال: وأفضل"، والانحناء عند السلام منهي عنه. قال أنس رضي الله عنه: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض? قال: "لا" قال: فيقبل بعضنا بعضاً? قال: "لا" قال: فيصافح بعضنا بعضاً? قال: "نعم"، والالتزام والتقبيل قد ورد به الخبر عند القدوم من السفر، وقال أبو ذر رضي الله عنه: ما لقيته ﷺ إلا صافحني، وطلبني يوماً فلم أكن في البيت فلما أخبرت جئت وهو على سرير فالتزمني فكانت أجود وأجود.
والأخذ بالركاب في توقير العلماء ورد به الأثر فعل ابن عباس ذلك بركاب زيد بن ثابت، وأخذ عمر يغرز زيد حتى رفعه وقال: هكذا فافعلوا بزيد وأصحاب زيد.
والقيام مكروه على سبيل الإعظام لا على سبيل الإكرام، قال أنس: ما كان شخص أحب إلينا من رسول الله ﷺ? وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك، وروي أنه عليه السلام قال مرة: "إذا رأيتموني فلا تقوموا كما تصنع الأعاجم"، وقال عليه السلام: "من سره أن يمثل له الرجال قياماً ليتبوأ مقعده من النار"، وقال عليه السلام: "لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا"، وكانوا يحترزون عن ذلك لهذا النهي. وقال ﷺ: "إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا أحد أخاه فأوسع له فليأته فإنما هي كرامة أكرمه بها أخوه فإن لم يوسع له فلينظر إلى أوسع مكان يجده فيجلس فيه" وروي أنه سلم رجل على رسول الله ﷺ وهو يبول فلم يجب، فيكره السلام على من يقضي حاجته، ويكره أن يقول ابتداء: عليك السلام، فإنه قاله رجل لرسول الله ﷺ فقال عليه السلام: "إن عليك السلام تحية الموتى" قالها ثلاثاً،ثم قال: " إذا لقي أحدكم أخاه فليقل: السلام عليكم ورحمة الله" ويستحب للداخل إذا سلم ولم يجد مجلساً إن لا ينصرف بل يقعد وراء الصف. وكان رسول الله ﷺ جالساً في المسجد إذا أقبل ثلاثة نفر فأقبل إلى رسول الله ﷺ فأما أحدهما فوجد فرجة فجلس فيها، وأما الثاني فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة. أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه"، وقال ﷺ: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا" وسلمت أم هانىء على النبي ﷺ فقال: "من هذه" فقيل له: أم هانىء، فقال عليه السلام: "مرحباً بأم هانىء".
ومنها: أن يصون عرض أخيه المسلم ونفسه وماله عن ظلم غيره مهما قدر ويرد عنه ويناضل دونه وينصره، فإن ذلك يجب عليه بمقتضى أخوة الإسلام. وروى أبو الدرداء: أن رجلاً نال من رجل عند رسول الله ﷺ فرد عنه رجل فقال النبي ﷺ: "ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة"، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "من ذكر عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فلم ينصره أذله الله بهما في الدنيا والآخرة، ومن ذكر عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله تعالى في الدنيا والآخرة" وقال عليه السلام: من حمى عن عرض أخيه المسلم في الدنيا بعث الله تعالى له ملكاً يحميه يوم القيامة من النار"، وقال أبو جابر وأبو طلحة: سمعنا رسول الله ﷺ يقول "ما من امرىء مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حرمته نصره الله في موطن يجب فيه نصره، وما من امرىء خذل مسلماً في موطن ينتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته".
ومنها: تشميت العاطس. قال عليه الصلاة والسلام في العاطس: "يقول : الحمد لله على كل حال، ويقول الذي يشمته: يرحمكم الله، ويرد عليه العاطس فيقول: يهدكم الله ويصلح بالكم"، وعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يعلمنا ويقول: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، فإذا قال ذلك فليقل من عنده: يرحمك الله فإذا قالوا ذلك فليقل: يغفر الله لي ولكم"، وشمت رسول الله ﷺ عاطساً ولم يشمت آخر فسأله عن ذلك فقال: "إنه حمد الله وأنت سكت"، وقال ﷺ: "يشمت العاطس المسلم إذا عطس ثلاثاً فإن زاد فهو زكام"، وروي أنه شمت عاطساً ثلاثاً فعطس أخرى فقال إنه مزكوم"، وقال أبو هريرة: كان رسول الله ﷺ إذا عطس غض صوته واستتر بثوبه أو يده. وروي خمر وجهه. وقال أبو موسى الأشعري: كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله ﷺ رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول: "يهديكم الله"، وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه: أن رجلاً عطس خلف النبي ﷺ في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يرضى ربنا ويرضى والحمد لله على كل حال، فلما سلم النبي ﷺ قال: "من صاحب الكلمات?" فقال: أنا يا رسول الله ما أردت بهن إلا خيراً، فقال: "لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها"، وقال ﷺ: "من عطس عنده فسبق إلى الحمد لم يشتك خاصرته"، وقال عليه السلام: "العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فمه، فإذا قال:ها ها، فإن الشيطان يضحك من جوفه"، وقال إبراهيم النخعي: إذا عطس في قضاء الحاجة فلا بأس بأن يذكر الله. وقال الحسن: يحمد الله في نفسه. وقال كعب: قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك إم بعيد فأناديك? فقال: أنا جليس من ذكرني فقال: فإنا نكون على حال نجلك أن نذكرك عليها كالجنابة والغائط، فقال اذكرني على كل حال.
ومنها: أنه إذا بلي بذي شر فينبغي أن يتحمله ويتقيه قال بعضهم: خالص المؤمن مخالصة وخالق الفاجر مخالقة، فإن الفاجر يرضى بالخلق الحسن في الظاهر. وقال أبو الدرداء: إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وهذا معنى المداراة وهي مع من يخاف سره، قال الله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن السيئة" قال ابن عباس في معنى قوله: "ويدرؤون بالحسنة السيئة" أي الفحش والأذى بالسلام والمداراة. وقال في قوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض"، قال بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة. وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال: ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو"، فلما دخل ألان له القول حتى حتى ظننت أن له عنده منزلة فلما خرج قلت له: لما دخل قلت الذي قلت، ثم ألنت القول فقال: "يا عائشة إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه"، وفي الخبر: "ما وقى الرجل به عرضه فهو له صدقة".
وفي الأثر: خالطوا الناس بأعمالكم وزايلوهم بالقلوب. وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله له منه فرجاً.
ومنها: أن يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام، كان النبي ﷺ يقول: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين"، وقال كعب الأحبار: كان سليمان عليه السلام في مكة إذا دخل المسجد فرأى مسكيناً جلس إليه وقال: مسكين جالس مسكيناً. وقيل: ما كان من كلمة تقال لعيسى عليه السلام أحب إليه من أن يقال له يا مسكين. وقال كعب الأحبار: ما في القرآن من: "يا أيها الذين آمنوا" فهو في التوراة "يا أيها المساكين" وقال عبادة بن الصامت: إن للنار سبعة أبواب ثلاثة للأغنياء وثلاثة للنساء وواحد للفقراء والمساكين؛ وقال الفضيل: بلغني أن نبياً من الأنبياء قال: يا رب كيف لي أن أعلم رضاك عني? فقال: انظر كيف رضا المساكين عنك. وقال عليه الصلاة والسلام: "وإياكم ومجالسة الموتى"، قيل: ومن الموتى يا رسول الله? قال: "الأغنياء" وقال موسى: إلهي أين أبغيك? قال عند المكسرة قلوبهم. وقال ﷺ: "لا يغبطن فاجراً بنعمة فإنك لا تدري إلى ما يصير بعد الموت فإن من ورائه طالباً حثيثاً"، وأما اليتيم؛ فقال ﷺ: "من ضم يتيماً من أبوين مسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة البتة"، وقال عليه السلام: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وهو يشير بإصبعيه"، وقال ﷺ "من وضع يده على رأس يتيم ترحماً كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة"، وقال ﷺ: "خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه".
ومنها: النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور على قلبه، قال ﷺ: "المؤمن يحب للمؤمن كما يحب لنفسه"، وقال ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال ﷺ: "إن أحدكم مرآة أخيه فإذا رأى فيه شيئاً فليمطه عنه"، وقال ﷺ: " من قضى حاجة لأخيه فكأنما خدم الله عمره"، وقال ﷺ: "من أقر عين مؤمن أقر الله عينه يوم القيامة" وقال ﷺ: "من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار قضاها أو لم يقضها كان خيراً له من اعتكاف شهرين"، وقال عليه السلام: "من فرج عن مؤمن مغموم أو أعان مظلوماً غفر الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة"؛وقال ﷺ: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فقيل كيف ينصره ظالماً? قال: "يمنعه من الظلم"، وقال عليه السلام: "إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن أو أن يفرج عنه غماً أو يقضي عنه ديناً أو يطعمه من جوع"، وقال ﷺ: "من حمى مؤمناً من منافق يغنته بعث الله إليه ملكاً يوم القيامة يحمي لحمه من نار جهنم"، وقال ﷺ: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: الشرك بالله والضر لعباد الله. وخصلتان ليس فوقهما شيء من البر: الإيمان بالله والنفع لعباد الله"، وقال ﷺ: " من لم يهتم للمسلمين فليس منهم"، وقال معروف الكوخي: من كل يوم: اللهم ارحم أمة محمد كتبه الله من الأبدال. وفي رواية أخرى. اللهم أصلح أمة محمد اللهم فرج عن أمة محمد. كل ثلاث مرات. كتبه الله من الأبدال، وبكى علي بن الفضيل يوماً فقيل له ما يبكيك? قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى وسئل عن ظلمه ولم تكن له حجة.
ومنها: أن يعود مرضاهم فالمعرفة والإسلام كافيان في إثبات هذا الحق ونيل فضله. وأدب العائد خفة الجلسة وقلة السؤال وإظهار الرقة والدعاء بالعافية وغض البصر عن عورات الموضع. وعند الإستئذان لا يقابل الباب ويدق برفق ولا يقول: أنا إذا قيل له: من، ولا يقول: يا غلام، ولكن يحمد ويسبح، وقال ﷺ: "تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو على يده ويسأله كيف هو وتمام تحياتكم المصافحة"، وقال ﷺ: "من عاد مريضاً قعد في مخارف الجنة حتى إذا قام وكل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى الليل" وقال رسول الله ﷺ: "إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة فإذا قعد عنده قرت فيه"، وقال ﷺ: "إذا عاد المسلم أخاه أو زاره قال الله تعالى: طبت وطاب ممشاك وتبؤات منزلاً في الجنة"، وقال عليه السلام: "إذا مرض العبد بعث الله تبارك وتعالى إليه ملكين فقال: انظر ماذا يقول لعواده? فإن هو إذا جاؤوا حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم فيقول: لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدل له لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفر عنه سيئاته"، وقال رسول الله ﷺ: "من يرد الله به خيراً يصب منه"، وقال عثمان رضي الله عنه: مرضت فعادني رسول الله ﷺ فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد من شر ما تجد" قالها مراراً، ودخل عل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مريض فقال له: "قل اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك أو صبراً على بليتك أو خروجاً من الدنيا إلى رحمتك فإنك ستعطي إحداهن"، ويستحب للعليل أيضاً أن يقول: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. وقال علي بين أبي طالب رضي الله عنه: إذا شكا أحدكم بطنه فليسأل امرأته شيئاً من صداقها ويشتري به عسلاً ويشربه بماء السماء فيجتمع له الهنيء والمريء والشفاء والمبارك. وقال ﷺ: "يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر هو حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه بجاه الله من النار"، قلت: بلى يا رسول الله قال: "يقول: لا إله إلا الله يحيي ويميت وهو حي لا يموت سبحان رب العباد والبلاد والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على كل حال. الله أكبر كبيراً إن كبرياء ربنا وجلاله وقدرته بكل مكان. اللهم إن أنت أمرضتني لتقبض روحي في مرضي هذا فاجعل روحي في أرواح من سبقت لهم الحسنى وباعدني من النار كما أولياءك الذين سبقت لهم منك الحسنى"، وروي أنه قال عليه السلام: "عيادة المريض بعد ثلاث فواق ناقة"، وقال طاوس: أفضل العيادة أخفها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عيادة المريض مرة سنة فما ازدادت فنافلة، وقال بعضهم: عيادة المريض بعد ثلاث. وقال عليه السلام: "أغبوا في العيادة وأربعوا فيها"، وجملة أدب المريض حسن الصبر وقلة الشكوى والضجر والفزع إلى الدعاء والتوكل بعد الدواء على خالق الدواء.
ومنها: أن يشيع جنائزهم قال ﷺ: "من شيع جنازة فله قيراط من الأجر فإن وقف حتى تدفن فله قيراطان"، وفي الخبر "القيراط مثل أحد"، ولما روى أبو هريرة هذا الحديث وسمعه ابن عمر قال: لقد فرطنا إلى الآن في قراريط كثيرة. والقصد من التشييع قضاء حق المسلمين والاعتبار. وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل لها. وخرج مالك بن دينار خلف جنازة أخيه وهو يبكي ويقول: والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ما صرت ولا والله لا أعلم ما دمت حياً. وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز فلا ندري لمن نعزي لحزن القوم كلهم. ونظر إبراهيم الزيات إلى قوم يترحمون على ميت فقال: لو ترحمون أنفسكم لكان أولى. إنه نجا من أهوال ثلاث: وجه ملك الموت قد رأى، ومرارة الموت قد ذاق، وخوف الخاتمة قد أمن. وقال ﷺ: "يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله".
ومنها: أن يزور قبورهم، والمقصود من ذلك الدعاء والاعتبار وترقيق القلب، قال ﷺ: "ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه"، وقال عمر رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله ﷺ فأتى المقابر فجلس إلى قبر وكنت أدنى القوم منه. فبكى وبكينا، فقال: "وما يبكيكم?" قلنا: بكينا لبكائك. قال: "هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فأبى علي فأدركني ما يدرك الولد من الرقة"، وكان عمر رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته ويقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعده أشد"، وقال مجاهد: أول ما يكلم لبن آدم حفرته فتقول: أنا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الظلمة. وهذا ما أعددت لك فما أعددت لي? وقال أبو ذر: ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري. كان أبو الدرداء يقعد إلى القبور فقيل له في ذلك فقال: أجلس إلى قوم يذكرونني معادي وإن قمت عنهم لم يغتابوني. وقال حاتم الأصم: من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدعوا لهم فقد خان نفسه وخانهم. وقال ﷺ: "ما من ليلة إلا وينادي مناد: يا أهل القبور من تغبطون? قالوا: نغبط أهل المساجد لأنهم يصومون ولا نصوم ويصلون ولا نصلي ويذكرون ولا نذكره"، وقال سفيان: من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار. وكان الربيع بن خيثم قد حفر في داره فبراً فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال: "رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت" ثم يقول: يا ربيع قد أرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع. وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز فلما نظر إلى القبور بكى، وقال: يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات وأصاب الهوام من أبدانهم? ثم بكى وقال: ولالله مل أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله?.
وآداب المعزي: خفض الجناح، وإظهار الحزن، وقلة الحديث، وترك التبسم.
وآداب تشييع الجنازة: لزوم الخشوع، وترك الحديث، وملاحظة الميت، والتفكر في الموت، والاستعداد له، وأن يمشي أمام الجنازة بقربها والإسراع بالجنازة سنة فهذه جمل آداب تنبه على آداب المعاشرة مع عموم الخلق.
والجملة الجامعة فيه أن لا تستصغر منهم أحداً حياً كان أو ميتاً فتهلك لأنك لا تدري لعله خير منك? فإنه وإن كان فاسقاً فلعله يختم لك بمثل حاله ويختم له بالصلاح? ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فإن الدنيا صغيرة عند الله صغير ما فيها. ومهما عظم أهل الدنيا في نفسك فقد عظمت الدنيا فتسقط من عين الله. ولا تبذل لهم دينك لتنال من دنياهم فتصغر في أعينهم ثم تحرم دنياهم فإن لم تحرم كنت قد استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير. ولا تعادهم بحيث تظهر العداوة فيطول الأمر عليك في المعاداة ويذهب دينك ودنياك فيهم ويذهب دينهم فيك، إلا إذا رأيت منكراً في الدين فتعادي أفعالهم القبيحة وتنظر إليهم بعين الرحمة لهم لتعرضهم بمقت الله وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جهنم يصلونها، فما لك تحقد عليهم ولا تستكن إليهم في مودتهم لك وثنائهم عليك في وجهك وحسن بشرهم لك فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة إلا واحداً وربما لا تجده. ولا تشكو إليهم أحوالك فيكلك الله إليهم ولا تطمع أن يكونوا لك في الغيب والسر كما في العلانية فذلك طمع كاذب وأنى تظفر به? ولا تطمع فيما في أيديهم فتستعجل الذل ولا تنال الغرض. ولا تعلو عليهم تكبراً لاستغنائك عنهم فإن الله يلجئك إليهم عقوبة على التكبر بإظهار الاستغناء. وإذا سألت أخاً منهم حاجة فهو أخ مستفاد وإن لم يقض فلا تعاتبه فيصير عدواً تطول عليك مقاساته. ولا تشتغل بوعظ من ترى فيه مخايل القبول فلا يسمع منك ويعاديك، وليكن وعظك عرضاً واسترسالاً من غير تنصيص على الشخص. ومهما رأيت منهم كرامة وخيراً فاشكر الله الذي سخرهم لك واستعذ بالله أن يكلك إليهم. وإذا بلغك عنهم غيبة أو رأيت منهم شراً أو أصابك منهم ما يسوءك فكل أمرهم إلى الله واستعذ بالله من شرهم. ولا تشغل نفسك بالمكافأة فيزيد الضرر ويضيع العمر بشغله. ولا تقل لهم لم تعرفوا موضعي.
وأعتقد أنك لو استحقيت ذلك لجعل الله لك موضعاً في قلوبهم فالله المحبب والمبغض إلى القلوب، وكن فيهم سميعاً لحقهم أصم عن باطنهم نطوقاً بحقهم صموتاً عن باطنهم. واحذر صحبة أكثر الناس فإنهم لا يقيلون عثرة ولا يغفرون زلة ولا يسترون عورة ويحاسبون على النقير والقطمير ويحسدون على القليل والكثير، ينتصفون ولا ينصفون ويؤاخذون على الخطأ والنسيان ولا يعفون، يغرون الإخوان على الإخوان بالنميمة والبهتان، فصحبة أكثرهم خسران وقطيعتهم رجحان، إن رضوا فظاهرهم الملق وإن سخطوا فباطنهم الحنق لا يؤمنون في حنقهم ولا يرجون في ملقهم، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب، يقطعون بالظنون، ويتغامزون وراءك بالعيون ويتربصون بصديقهم من الحسد ريب المنون، يحصون عليك العثرات في صحبتهم يواجهوك بها في غضبهم ووحشتهم. ولا تعول على مودة من لم تخبره حق الخبرة، بأن تصحبه مدة في دار أو موضع واحد فتجربه في عزله وولايته وغناه وفقره أو تسافر معه أو تعامله في الدينار والدرهم أو تقع في شدة فتحتاج إليه، فإن رضيته في الأحوال فاتخذه أباً لك إن كان كبيراً أو ابناً لك إن كان صغيراً أو أخاك إن كان مثلك فهذه جملة آداب المعاشرة مع أصناف الخلق.
حقوق الجوار
اعلم أن الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام. فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة إذ قال النبي ﷺ: "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق. فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم، وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك"، فانظر كيف أثبت للمشرك حقاً بمجرد الجوار، وقد قال ﷺ: "أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً"، وقال النبي ﷺ: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، وقال ﷺ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"، وقال ﷺ: "لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه"، وقال ﷺ: "أول خصمين يوم القيامة جاران"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أنت رميت كلب جارك فقد آذيته"، ويروى أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي، فقال: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه. وقيل لرسول الله ﷺ: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها فقال ﷺ: "هي في النار"، وجاء رجل إليه عليه السلام يشكو جاره فقال له النبي ﷺ: "اصبر" ثم قال له في الثالثة أو الرابعة: "اطرح متاعك في الطريق" قال:فجعل الناس يمرون به ويقولون ما لك? فيقال آذاه جاره قال فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال له رد متاعك فوالله لا أعود وروى الزهري: أن رجلاً أتى النبي عليه السلام فجعل يشكو جاره، فأمره النبي ﷺ أن ينادي على باب المسجد: "ألا إن أربعين داراً جار"، قال الزهري: أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأومأ إلى أربع جهات. وقال عليه السلام : "اليمن والشؤم في المرأة والمسكن والفرس، فيمن المرأة خفة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها، وشؤمها غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها. ويمن المسكن سعته وحسن جوار أهله. وشؤمه ضيقه وسوء جوار أهله، ويمن الفرس ذله وحسن خلقه وشؤمه صعوبته وسوء خلقه".
واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط بل احتمال الأذى، فإن الجار أيضاً قد كف أذاه فليس في ذلك قضاء حق، ولا يكفي احتمال الذى بل لا بد من الرفق وإسداء الخير والمعروف، إذ يقال إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة فيقول: يا رب سل هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني?.
وبلغ ابن المقفع أن جاراً له يبيع داره في دين ركبه وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدماً فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره فقيل له: لو اقتنيت هراً? فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.
وجملة حق الجار: أن يبدأه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا يضيق طرقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يسمع عليه كلاماً، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف بولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه. هذا إلى جملة التي ذكرناها لعامة المسلمين، وقد قال ﷺ: "أتدرون ما حق الجار? إن استعان أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستعلي عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها"، ثم قال: "أتدرون ما حق الجار? والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحمه الله"، هكذا رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ، قال مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمر وغلام له يسلخ شاة، فقال: يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مراراً فقال له: لم تقول هذا? فقال: إن رسول الله ﷺ لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه وقال هشام: كان الحسن لا يرى بأساً أن تطعم الجار اليهودي والنصراني من أضحيتك، وقال أبو ذر رضي الله عنه: أوصاني خليلي ﷺ وقال: "إذا طبخت قدراً فأكثر ماءها، ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها"، وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله إن لي جارين أحدهما مقبل على بابه والآخر نائم ببابه عني، وربما كان الذي عندي لا يسعهما فأيهما أعظم حقاً? فقال: "المقبل عليك ببابه" ورأى الصديق ولده عبد الرحمن وهو يناصي جاراً له، فقال: لا تناص جارك، فإن هذا يبقى والناس يذهبون. وقال الحسن بن عيسى النيسابوري: سألت عبد الله بن المبارك فقلت: الرجل المجاور يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً والغلام ينكره، فأكره أن أضربه ولعله بريء وأكره أن أدعه فيجد علي جاري، فكيف أصنع? قال: إن غلامك لعله أن يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب فاحفظه عليه، فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين.
وقالت عائشة رضي الله عنها: خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله تعالى لمن أحب: صدق الحديث، وصدق الناس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "يا معشر المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة"، قال ﷺ: "إن من سعادة المرء المسلم: المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهني"، وقال عبد الله: قال رجل: يا رسول الله، كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت، قال: "إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت"، وقال جابر رضي الله عنه قال النبي ﷺ: "من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه" وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "قضى رسول الله ﷺ أن الجار يضع جذعه في حائط جاره شاء أم أبى". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله ﷺ: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره" وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول:ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينها بين أكنافهم. وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب ذلك. وقال ﷺ: "من أراد الله به خيراً عسله" قيل: وما عسله? قال: "يحببه إلى جيرانه".
حقوق الأقارب الرحم:
قال رسول الله ﷺ: "يقول الله تعالى: أنا الرحمن وهذه الرحم لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته"، وقال ﷺ: "من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه"، وفي رواية أخرى: "من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" وقيل لرسول الله ﷺ: أي الناس أفضل? قال: "أتقاهم لله وأوصلهم لرحمه، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر"، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "أوصاني خليلي عليه السلام بصلة الرحم وإن أدبرت وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً"، وقال ﷺ: "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا انقطعت رحمه وصلها"، وقال عليه السلام: "إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنموا أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم". وقال زيد بن أسلم: لما خرج رسول الله ﷺ إلى مكة عرض له رجل فقال: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج، فقال عليه السلام: "إن الله قد منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم"، وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: قدمت علي أمي، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة أفأصلها? قال: "نعم". وفي رواية: أفأعطيها? قال: "نعم صليها". وقال عليه السلام: "الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان"، ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط كان له يعجبه عملاً بقوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قال: يا رسول الله، هو في سبيل الله، وللفقراء والمساكين فقال عليه السلام: "وجب أجرك على الله قسمه في أقاربك"، وقال عليه السلام: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"، وهو في معنى قوله: "أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن ظلمك" وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله: مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا، وإنما قال ذلك لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم.
حقوق الوالدين والولد
لا يخفى أنه إذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام وأمسها الولادة، فيتضاعف تأكد الحق فيها. وقد قال ﷺ: "لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه"، وقد قال ﷺ: "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله"، وقد قال ﷺ: من أصبح مريضاً لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، ومن أمسى فمثل ذلك، وإن كان واحداً فواحداً، وإن ظلماً وإن ظلماً وإن ظلماً. ومن أصبح مسخطاً لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى النار، ومن أمسى مثل ذلك، وإن كان واحداً فواحداً، وإن ظلماً وإن ظلماً وإن ظلماً"، وقال ﷺ: "إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم"، وقال ﷺ: "بر أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك".
ويروى أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: يا موسى، إنه من بر والديه وعقني كتبته باراً، ومن برني وعق والديه كتبته عاقاً.
وقيل: لما دخل يعقوب على يوسف عليهما السلام لم يقم له: فأوحى الله إليه: أتتعاظم أن تقوم لأبيك، وعزتي وجلالي لا أخرجت من صلبك نبياً.
وقال ﷺ: "ما على أحد إذا أراد أن يتصدق بصدقة أن يجعلها لوالديه إذا كانا مسلمين فيكون لوالديه أجرها ويكون له مثل أجورهما من غير أن ينقص من أجورهما شيء"، وقال مالك بن ربيعة: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما بعد وفاتهما? قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما"، وقال ﷺ: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب"، وقال ﷺ: "بر الوالدة على الولد ضعفان"، وقال ﷺ: "دعوة الوالدة أسرع إجابة. قيل: يا رسول الله،ولم ذاك? قال: هي أرحم من الأب ودعوة الرحم لا تسقط".
وسأله رجل فقال: يا رسول الله من أبر? فقال: "بر والديك"، فقال: ليس لي والدان، فقال: "بر ولدك، كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق"، وقال ﷺ: "رحم الله والداً أعان ولده على بره"، أي لم يحمله على العقوق بسوء عمله. وقال ﷺ: "ساووا بين أولادكم في العطية" وقد قيل: " ولدك ريحانتك تشمها سبعاً وخادمك سبعاً، ثم هو عدوك أو شريكك" وقال أنس رضي الله عنه: قال النبي ﷺ: "الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويماط عنه الأذى؛ فإذا بلغ ست سنين أدب، فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة، فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه؛ ثم أخذ بيده وقال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة"، وقال ﷺ: "من حق الوالد على الولد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه".
وقال عليه الصلاة والسلام: "كل غلام رهين أو رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه"، وقال قتادة: إذا ذبحت العقيقة أخذت صوفة منها فاستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل عنه مثل الخيط ثم يغسل رأسه ويحلق بعد.
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوت عليه? قال: نعم. قال: أنت أفسدته.
ويستحب الرفق بالولد: رأى الأقرع بن حابس النبي ﷺ وهو يقبل وله الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم! فقال عليه الصلاة والسلام: "إن من لا يرحم لا يرحم"، وقالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله ﷺ: "اغسلي وجه أسامة"، فجعلت أغسله وأنا أنفة، فضرب يدي ثم أخذه فغسل وجهه ثم قبله ثم قال: "قد أحسن بنا إذ لم يكن جارية"، وتعثر الحسن. والنبي ﷺ على منبره. فنزل فحمله وقرأ قوله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" وقال عبد الله بن شداد: بينما رسول الله ﷺ يصلي بالناس، إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمراً! فقال: "إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته"، وفي ذلك فوائد: إحداها القرب من الله تعالى فإن العبد أقرب ما يكون من الله تعالى إذا كان ساجداً، وفيه الرفق بالولد والبر، وتعليم لأمته. وقال ﷺ: "ريح الولد من ريح الجنة".
وقال يزيد بن معاوية: أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس، فلما وصل إليه قال له: يا أبا بحر، ما تقول في الولد? قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة؛ فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك؛ فقال له معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد دخلت علي وأنا مملوء غضباً وغيظاً على يزيد. فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب؛ فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب فقاسمه إياها على الشطر.
فهذه هي الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين وكيفية القيام بحقهما تعرف مما ذكرنا في حق الأخوة، فإن هذه الرابطة آكد من الأخوة بل يزيد ههنا أمران.
أحدهما: أن أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما، لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم. وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما، والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل، لأنه على التأخير، والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك، وذلك كمن يسلم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين.
قال أبو سعيد الخدري: هاجر رجل إلى رسول الله ﷺ من اليمن وأراد الجهاد، فقال عليه السلام: "هل باليمن أبواك" قال: نعم، قال: "هل أذنا لك?" قال: لا، فقال عليه السلام: " فارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن فعلا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير ما تلقى الله به بعد التوحيد"، وجاء آخر إليه ﷺ ليستشيره في الغزو فقال: "ألك والدة?" قال: نعم. قال: "فألزمها فإن الجنة عند رجليها". وجاء آخر يطلب البيعة على الهجرة وقال: ما جئتك حتى أبكيت والدي، فقال: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما".
وقال ﷺ: "حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده".
وقال عليه السلام: "إذا استصعبت على أحدكم دابته أو ساء خلق زوجته أو أحد من أهل بيته فليؤذن في أذنه".
حقوق المملوك
اعلم أن ملك النكاح قد سبقت حقوقه في آداب النكاح، فأما ملك اليمين فهو أيضاً يقتضي حقوقاً في المعاشرة لا بد من مراعاتها، فقد كان من آخر ما وصى به رسول الله ﷺ أن قال: "اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا، ولا تعذبوا خلق الله فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم" وقال ﷺ: "للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، وقال عليه السلام: "لا يدخل الجنة خب ولا متكبر ولا خائن ولا سيئ الملكة"، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم? فصمت عنه رسول الله ﷺ ثم قال: "اعف عنه في كل يوم سبعين مرة"، وكان عمر رضي الله عنه يذهب إلى العوالي في كل يوم سبت، فإذا وجد عبداً في عمل لا يطقه وضع عنه منه. ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً على دابته وغلامه يسعى خلفه فقال له:يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك روحه مثل روحك فحمله ثم قال: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً مل مشى خلفه. وقالت جارية لأبي الدرداء: إني سممتك منذ سنة فما عمل فيك شيئاً فقال: لم فعلت ذلك?فقالت: أردت الراحة منك، فقال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. وقال الزهري: متى قلت للملوك أخزاك الله فهو حر. وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم? قال: من قيس بن عاصم، قيل: فما بلغ من حلمه? قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته خادمة له بسفود عليه شواء فسقط السفود من يدها على ابن فعقره فمات، فدهشت الجارية، فقال: ليس يسكن روع هذه الجارية إلا العتق فقال لها: أنت حرة لا بأس عليك. وكان عون بن عبد الله إذا عصاه غلامه قال: ما أشبهك بمولاك?مولاك يعصي مولاه وأنت تعصي مولاك، فأغضبه يوماً فقال: إنما تريد أن أضربك اذهب فأنت حر. وكان عند ميمون بن مهران ضيف فاستعجل على جاريته بالعشاء فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة، فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون؛ فقال: يا جارية أحرقتني، قالت: يا معلم الخير ومؤدب الناس ارجع إلى ما قال الله تعالى قال: وما قال الله تعالى? قلت: قال: "والكاظمين الغيظ" قال: قد كظمت غيظي، قالت: "والعافين عن الناس" قال: قد عفوت عنك، قالت: زد فإن الله تعالى يقول: "والله يحب المحسنين" قال: أنت حرة لوجه الله تعالى. وقال ابن المنكدر: إن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ ضرب عبداً له فجعل العبد يقول: أسألك بالله أسألك بوجه الله، فلم يعفه فسمع رسول الله ﷺ صياح العبد فانطلق إليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه سلم: أمسك يده فقال رسول الله: "سألك بوجه الله فلم تعفه فلما رأيتني أمسكت يدك" قال: فإنه حر لوجه الله يا رسول الله، فقال: "لو لم تفعل لسفعت وجهك النار"، وقال: ﷺ: "العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين"، ولما أعتق أبو رافع بكى وقال: كان لي أجران فذهب أحدهما. وقال ﷺ: "عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأول ثلاثة يدخلون النار: أمير متسلط؛ وذو ثروة لا يعطي حق الله، وفقير فجور"، وعن مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاماً إذ سمعت صوتاً من خلفي "اعلم يا أبا مسعود" مرتين فالتفت فإذا رسول الله ﷺ فألقيت السوط من يدي فقال: والله لله أقدر عليك منك على هذا"، وقال ﷺ "إذا ابتاع أحدكم الخادم فليكن أول شيء يطعمه الحلو فإنه أطيب لنفسه"، رواه معاز. وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه وليأكل معه فإن لم يفعل فليناوله لقمة"، وفي رواية: "إذا كفى أحدكم مملوكه صنعة طعامه؛ فكفاه حره ومؤنته وقربه إليه فليجلسه وليأكل معه، فإن لم يفعل فليناوله أو ليأخذ أكلة فليروغها. - وأشار بيده.- وليضعها في يده وليقل: كل هذه". ودخل على سلمان رجل وهو يعجن فقال: يا أبا عبد الله ما هذا? فقال: بعثنا الخادمة في شغل فكرهنا
أن نجمع عليه عملين. وقال ﷺ: "من كانت عنده جارية فصانها وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها فذلك له أجران"، وقد قال ﷺ:"كل راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
فجملة حق المملوك أن يشركه في طعمته وكسوته، ولا يكلفه فوق طاقته، ولا ينظر إليه بعين الكبر والازدراء وأن يعفو عن زلته ويتفكر عند غضبه عليه بهفوته أو بجنايته في معاصيه وجنايته على حق الله تعالى وتقصيره في طاعته مع أن قدرة الله عليه فوق قدرته. وروى فضالة بن عبيد أن النبي ﷺ قال: "ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، ورجل عصى إمامه فمات عاصياً فلا يسأل عنهما، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده فلا يسأل عنها. وثلاثة لا يسأل عنهم: رجل ينازع الله رداءه ورداؤه الكبرياء وإزاره العز، ورجل في شك من الله، وقنوط من رحمة الله".