ذكر أخبار أبي زيد | أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ المؤلف: أبو طاهر المقرئ |
ذكر أخبار أبي عبيدة |
قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: كان الأصمعي أسد الشعر والغريب والمعاني وكان أبو عبيدة كذلك وبفضل على الأصمعي بعلم النسب وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو وهو عبد الملك بن قريب ويكنى أبا سعيد واسم قريب عاصم ويكنى بأبي بكر بن عبد الملك بن أصمع بن مطهر بن رياح بن عمرو بن عبد الله الباهلي وقد هجاه أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي بهذا النسب في قصيدة أولها:
ألا هبلت كل من ينتمي غلى أصمعٍ أمه الهابله
فكيف بمن كان ذا دعوةٍ وكفة نسبته شائله
وفيها:
أبِنْ لي دعى بني أصمعٍ أقفرٌ رباعك أم آهله
ومن أنت هل أنت إلا امروءٌ إذا صح أصلك من باهله
وحدثنا أبو علي الكوكبي قال حدثني محمد بن سويد قال أخبرني محمد بن هبيرة قال: قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد ما معنى قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ودعا فلم أر مثله مخذولا
قال الكسائي: كان محرماً بالحج. قال الأصمعي فقوله:
قتلوا كسرى بليلٍ محرما فتولى لم يمتع بكفن
هل كان محرماً بالحج، فقال هارون للكسائي: يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. قوله محرماً كان في حرمة الإسلام.
قال محمد بن سويد قال ابن السكيت قال الأصمعي: ومن ثم قيل مسلم محرمٌ أي لم يحل من نفسه شيئاً يوجب القتل وقوله محرماً في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان له في أعناق أصحابه.
وحدثنا محمد بن سهل الكاتب قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد قال سمعت ابن الأعرابي قال: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحواً من مائتي بيت ما فيا بيت عرفناه.
وكان الأصمعي صدوقاً في الحديث. عنده عن ابن عون وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم. وعنده القرآن عن أبي عمرو ونافع وغيرهما ويتوقى تفسير شيء من القرآن والحديث على طريق اللغة.
حدثنا أبو علي الصفار قال حدثنا أبو عمرو الصفار قال حدثنا نصر بن علي قال: حضرت الأصمعي وقد سأله سائل عن معنى قول النبي صلى الله عليه: (جاءكم أهل اليمن وهم أبخع أنفساً) قال: يعني أقتل أنفساً ثم أقبل متندماً على نفسه كاللائم لها فقال: ومن أخذني بهذا وما علمي به. فقلت له: لا عليك فقد حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيع عن مجاهد في قوله: لعلك باخعٌ نفسك، أي قاتل نفسك فكأنه سرى عنه.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد أخبرني أبو قلابة الجرمي قال صرت إلى الأصمعي ومعي كتاب المجاز لأبي عبيدة فقال لي: هاته. فأعطيته وانصرفت فنظر فيه حتى انتهى إلى آخره. ثم رجعت إليه فقال لي: قال أبو عبيدة في أول كتابه: آلم ذلك الكتاب لا ريب فه. أي لا شك فيه فما يدريه أن الريب الشك. قال فقلت له: أنت فسرت لنا في شعر الهذليين.
فقالوا تركنا القوم قد حصروا به
فلا ريب أن قد كان ثم لحيم، قال: فأمسك ولم يقل شيئاً ورد الكتاب. قال أبو العباس محمد بن يزيد: كان الأصمعي كثيراً ما يذاكر أصحابه بمعاني الشعر، قال: فمر به رجلان كانا يتناظران في المعاني فلما رأياه قال أحدهما لصاحبه متمثلاً ببيت:
وما ينجي من الغمرات إلا براكاء القتال أو الفرار
وقال ابن أخي الأصمعي: كان عمي إذا ورد عليه شيء ينكره قال: جحفل به. ومعناه أرم به. يقال جحفلت به إذا صرعته.
قال أبو العباس محمد بن يزيد: كان الأصمعي إذا أنشد هذه الأبيات يومئ كأنه يقوم على أرع. والأبيات له:
يا أمة الله ألم تسمعي ما قال عبد الملك الأصمعي
واحدة أثقلتني حملها فكيف لو قمت على أربع
وذكر أبو العباس قال: دخل الأصمعي يوماً على الرشيد بعد غيبة كانت منه فقال ل: يا أصمعي كيف كنت بعدي؟ فقال: ما لاقتني بعدك أرضٌ، فتبسم الرشيد فلما خرج الناس قال له: ما معنى قولك ما لاقتني أرض. قال: ما استقرت بي أرض كما يقال فلان لا يليق شيئاً أي لا يستقر معه شيء. فقال له: هذا حسن ولكن لا ينبغي أن تلكمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه فإذا خلوت فعلمني فإنه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالماً إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذا لم أجب وإما أن أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت. قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته.
قال أبو العباس نمى إلي أن الرشيد مازح أم جعفر فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر؟ فاغتمت لذلك ولم تدر ما معناه فوجهت إلى الأصمعي تسأله عن ذلك فقال لها: الجعفر النهر الصغير وإنما ذهب إلى هذا. فطابت نفسها.
قال أبو العباس كان رجل يألف حلقة الأصمعي فإذا صار إلى منعته أهدى مما يحمل منها. فترك حلقة الأصمعي فألف حلقة أبي زيد وكان أبو زيد لا يقبل شيئاً، فمر الرجل يوماً بالأصمعي فأنشده الأصمعي للفرزدق.
ولح بك الهجران حتى كأنما ترى الموت في البيت الذي كنت تألف
وكان يقول اليسير من الشعر فمن ذلك ما يروى عنه أنه قال: كنت أجالس أمير المؤمنين وأسامره فوجه إلي ليلة في ساعة يرتاب فيها البريء فتناولت أهبة الدخول عليه فمنعت من ذلك وأعجلت فدخلني من ذلك رعب شديد وخوف وجعلت أتذكر ذنباً فلا أجده وجعلت نفسي تظن الظنون. فلما دخلت عليه سلمت ومثلت بين يديه قائماً وهو مطرق فرفع رأسه إلي فأمرني بالجلوس فجلست فقال: يا عبد الملك قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال:
لو أن جعفر خاف أسباب الردى لنجا بمهجته طمر ملجم
ولكان من حذر المنون بحيث لا يرجو اللحاق به العقاب القشعم
لكنه لما تقارب يومه لم يدفع الحدثان عنه منجم
قال وكان بين يديه طست مغطى بمنديل فأمر بكشفه فكشف فإذا رأس جعفر بن يحيى ثم قال: الحق بأهلك يا ابن قريب. فنهضت ولم أحر جواباً للرعب. فلما أفرخَ روعي فكرت في ذلك فوجدته أحب يعلمني مكره ونكره ودهاءه ليتحدث به عنه. قال الأصمعي فخرجت وأنا أقول:
أيها المغرور هل لك عبرةٌ في آل برمك
غرهم عن قدر الله حساب الهشتمرك
وهي أبيات كثيرة آخرها
عبرةً لم ترد أنت ولا قبل أبٌ لك
وأكثر سماعه من الأعراب وأهل البادية.
حدثنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس المبرد قال قال الأصمعي: رآني أعرابي وأنا أكتب كل ما يقول فقال: ما تدع شيئاً إلا نمصته. أي نتفته. وقال له بعض الأعراب وقد رآه يكتب: كل شيء ما أنت إلا الحفظة تكتب لفظ اللفظة. وقال له آخر: أنت حتف الكلمة الشرود.
قال أبو العيناء: توفي الأصمعي بالبصرة وأنا حاضر في سنة ثلاث عشرة ومائتين وصلى عليه الفضل بن إسحاق. وسمعت عبد الرحمن ابن أخيه في جنازته يقول: إنا لله وإنا إليه من الراجعين. فقلت: ما عليه لو استرجع كما علمه الله.
ويقال مات الأصمعي في سنة سبع عشرة ومائتين أو سنة ست عشرة والله أعلم وأحكم.