►المقام الرابع | المقام الخامس | ☰ |
قال النصراني: " فصل: في الترجيح بين الشريعتين من جهة الوصايا".
ونقول قبل إيراد كلامه في هذا الفصل: إنا قد بينا فيما تقدم أن النظر في الترجيح بين الشريعتين ساقط بعد ثبوت نبوة محمد ﷺ وعموم رسالته، وأنه لا يبقى لطالب النجاة والسعادة إلا الإيمان به واتباعه مع الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله، وألا يفرق بين أحد منهم. ثم إذا نظرنا إلى كمال الشرائع وحكمتها وعظمة وصاياها، وجدنا شريعة محمد ﷺ خير الشرائع وأفضلها من كل طريق من طرق التفضيل. كما أن الذي جاء بها أفضل المرسلين وسيدهم في الدنيا والآخرة. وكما أن ما جاء به من المعجزات أعظم مما جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام فالذي جاء به من الدين والشريعة كذلك، فما جاء به من النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، وقد جمع الله له محاسن ما في التوراه والإنجيل. ولهذا يقال: "إن موسى عليه السلام بعث بشريعة الجلال، والمسيح عليه السلام بعث بشريعة الجمال، ومحمد ﷺ بعث بشريعة الكمال الجامعة بين الشريعتين والآخذة بمجامع الملتين، وذلك أن شريعة موسى عليه السلام كما قال الإمام ابن القيم: قد كانت شريعته شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجل لهم من العقوبات ما عجل وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم، وكان موسى من أعظم خلق الله هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا لله وبطشا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه. وعيسى عليه السلام كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال وهم به عصاة لشرعه، فإنه أمر في الإنجيل أن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين؛ ونحو هذا، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال، وإنما النصارى ابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم. وأما نبينا ﷺ فكان في مظهر الكمال الجامع بين القوة والعدل والشدة في الله وبين اللين والرأفة والرحمة، فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتي شريعته بالعدل إيجابا له وفرضا، وبالفضل ندبا إليه واستحبابا، وبالشدة في موضع الشدة وباللين في موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه. فيذكر الظلم فيحرمه، والعدل فيأمر به، والفضل فيندب إليه في بعض آيه، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فهذا عدل، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فهذا فضل، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فهذا تحريم الظلم. وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فهذا ندب إلى الفضل. وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة كان صيانة وحماية لهم، حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى غيرهم لم يخل من عقوبة. وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله. وكذلك في شريعته، فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم:... {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وجعلهم شهداء على الناس وقال تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم. انتهى. [1]
ولا ريب أن حنس أهل الكتاب أكمل في العلوم النافعة والأعمال الصالحة ممن لا كتاب لهم؛ وأن هذه الأمة أكمل من أهل الكتابين وأعدل. فليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد ﷺ أكمل منهم فيها. كما قال شيخ الإسلام أبو العباس: من نظر بعقله حتى في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع والعمل الصالح، وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق. فإن الذي عند المسلمين من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته وملائكته وأنبيائه ورسله ومعرفة اليوم الآخر وصفة الجنة والنار والثواب والعقاب والوعد والوعيد، أعظم وأجل مما عند اليهود والنصارى. وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل الصلوات الخمس وغيرها من الصلاة والأذكار والدعوات أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب. وما عندهم من الشريعة في المعاملات والمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب. فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع وعمل صالح. وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعي. والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير حصل لهم فإنما حصل بنبيهم ﷺ. انتهى. [2]
فأما العلوم فالمسلمون أحذق من جميع الأمم، حتى العلوم التي ليست بدينية كعلم الحساب والطب ونحو ذلك هم فيها أحذق ومصنفاتهم فيها أكمل، وهم أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم. وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين مرمي بنفاق، ولا قدر له عندهم، لكن حصل له بما تعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لها.
وأما العلوم الإلهية فكل من نظر في كلام المسلمين وأهل الكتاب وجد كلام المسلمين فيها أكمل وأتم، ومعلوم أن أهل الكتاب فيها أتم من غيرهم.
وأما العبادات فالناس مختلفون في صفاتها:
فمنهم من يظن أن الأشق هو الأفضل. وهذا مذهب كثير من مشركي الهند وغيرهم وكثير من مبتدعة المسلمين.
ومنهم من يقول: الأفضل ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية.
ومنهم من يقول: الأفضل لا علة له، بل يرجع إلى محض المشيئة.
والرابع، وهو الصواب: أن أفضلها ما كان لله أطوع، وللعبد أنفع.
وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل.
أما الأولون فيقال لهم: الجهاد أعظم مشقة من الجوع والسهر وغير ذلك.
وأما على القول الثاني فلا ريب أن عبادات المسلمين أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية من عبادات غيرهم، فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل.
وأما على قول النفاة فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله تعالى خير ممن عباداته قد ابتدعها أكابرهم.
وأما على القول الرابع فما علم أن الله أمر به يتضمن طاعته دون ما ابتدع، وأما انتفاع العباد بها فهذا يعرف بثمراتها، ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب، فليتدبر العاقل عقول المسلمين وأخلاقهم وعدلهم، يظهر له الفرق. فالصلاة فيها من الكمال والاعتدال كالطهارة والاصطفاف، والركوع والسجود، واستقبال بيت إبراهيم والإمساك عن الكلام، وما فيها من الخشوع وتلاوة القرآن واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره لكل متدبر منصف. إلى أمثال ذلك مما يظهر به فضل عبادات المسلمين.
وأما حكمهم في الحدود والحقوق فلا تخفى على عاقل، حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون من يقضي بينهم بشرع المسلمين، وهذه جمل يطول تفصيلها.
وبما ذكرناه يعلم الجواب عن كلام النصراني في هذا الفصل على وجه الإجمال، ويتبين به أفضلية شريعة محمد ﷺ على غيرها من شرائع الأنبياء عليهم السلام، كما أنه خيرهم وسيدهم في الدنيا والآخرة.
فصل
وأما شريعة الضُّلال التي بدل بها النصارى دين المسيح عليه السلام فتلك ضلالة استخفهم بها الشيطان فأطاعوه، ودعاهم إليها فأجابوه، وتلاعب بهم فيها كل التلاعب حتى خرجوا عن مقتضى العقول والشرائع في أصول دينهم وفروعه. كما أشرنا إلى بعض ذلك فيما سبق، فتلاعب بهم الشيطان في شأن الملك المعبود - سبحانه وتعالى - وتلاعب بهم في أمر المسيح، وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته، وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس. فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو من صورة مريم والمسيح وجرجيس وبطرس وغيرهم من القديسين والشهداء. وأكثرهم يسجد للصور ويدعونها من دون الله. حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه بالسجود للصور، وأن الله أمر موسى أن يصور صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل.
قال في كتابه: "وإنما مثال هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا، فيأخذه العامل ويقبله، ويضعه بين عينيه، ويقوم لا تعظيما للقرطاس والمداد، بل تعظيما للملك. كذلك السجود للصور تعظيما لاسم هذا المصور لا للأصباغ والألوان".
قال ابن القيم: وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام. وما ذكر هذا المشرك عن موسى وسليمان لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور، وغايته أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود: أنه نقش خطيئته في كفه، لئلا ينساها. فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون من التذلل والخضوع والسجود بين تلك الصور. وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل، فوثب من مجلسه، وسجد له وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك. فكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله، إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي أن يختص به الملك دون عبيده من الإكرام والخضوع والتذلل. ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرامه له، ورفع منزلته. كذلك حال من سجد لمخلوق ولصورة مخلوق، لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوسل به العبد إلى رضا ربه، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوى بين الله وبين عبده في ذلك، وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع والذل الذي يعامل به الملك، فكيف بحال من فعل ذلك بأعداء الملك؟ فإن الشيطان عدو الله، والمشرك إنما يشرك به لا يوالي الله ورسوله، بل الله ورسوله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، معادون لهم، وهم أشد الناس مقتا لهم في نفس الأمر، إنما أشركوا بأعداء الله، وسووا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم والسجود والذل. ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما في الفطرة السليمة والعقل الصحيح، والعلم بقبحه أظهر من العلم بسائر القبائح. والمقصود ذكر تلاعب الشيطان بالأمة الضالة في أصول دينهم وفروعه، وأنهم ليسوا على شيء من دين المسيح البتة.
فمن ذلك تلاعبه بهم في صلاتهم، وذلك من وجوه:
أحدها: أن طوائف منهم كثيرين يصلون بالنجاسة والجنابة، ويقوم أحدهم فيتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة، ويحدث من يليه بأنواع الحديث، كذبا كان أو فجورا، أو غيبة، أو سبا أو شتما، ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير وما شاكل ذلك، ولا يضر ذلك الصلاة، ولا يبطلها، وإن دعته الحاجة إلى البول في الصلاة بال وهو يصلي، ولا يضر ذلك صلاته. والمسيح عليه السلام بريء من هذه الصلاة، وسبحان الله، أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة! فقدره أعلى وشأنه أجل من ذلك.
ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا، بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بثلاثمائة سنة. وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس، وهي قبلة الأنبياء قبله، وإليها كان يصلي نبينا ﷺ مدة مقامه بمكة، وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا، ثم نقله الله إلى قبلة أبيه إبراهيم. ومنها تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة، والمسيح بريء من ذلك. فصلاة مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك؛ كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع البتة. ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساققة أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، زينوه بالحيل والصور في الحيطان بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر.
ومن ذلك: تلاعبه بهم في صيامهم، فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع، فمن ذلك أنهم زادوا جمعة في بدء صومهم يصومونها لهرقل ملك بيت المقدس. وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلا وفتكا في النصارى من الفرس. فلما سار هرقل إليها استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدا. ففعل، فلما دخل بيت المقدس شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم. فقال لهم هرقل: وما تريدون مني؟ قالوا: تقتلهم. قال: كيف أقتلهم وقد كتبت لهم عهدا بالأمان، وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد؟ قال: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وهدم الكنائس، ونحن نحتمل عنك هذا الذنب، ونكفره، ونسأل المسيح ألا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم ما دامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لما سألناك. فأجابهم، وقتل اليهود لما لا يحصى كثرة، فصيروا أول جمعة من الصوم الذي تترك فيه الملكية أكل اللحم يصومونها لهرقل الملك غفرانا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق.
وكذلك لما أرادوا نقل ذلك الصوم إلى فصل الربيع المعتدل وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام عوضا وكفارة لنقلهم له.
ومن ذلك ما أحدثوه من الأعياد الباطلة المخترعة، فإن أعيادهم كلها مختلقة محدثة بآرائهم واستحسانهم، فمن ذلك عيد ميكائيل، وسببه أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما، ويذبحون له الذبائح، فولي بتركة الإسكندرية واحد منهم، فأراد أن يكسره، ويبطل الذبائح، فامتنعوا عليه، فاحتال عليهم، فقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر، فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله، وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله، وكان خيرا لكم من هذا الصنم، فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم وصيره صلبانا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل. ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيروا العيد والذبائح لميكائيل، فنقلهم من كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك، فكانوا في ذلك كمجوسي أسلم فصار رافضيا، فدخل عليه الناس يهنئونه، ودخل عليه رجل، وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى.
ومن ذلك عيد الصليب، وهو مما اختلقوه وابتدعوه، فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير، وكان الذين أظهروه زورا وكذبا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صلب عليه إلههم وربهم. فانظروا إلى هذا السند وهذا الخبر. فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدا، وسموه عيد الصليب. ولو أنهم فعلوا ما فعل أشباههم من الرافضة حيث اتخذوا وقت مقتل الحسين مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول.
قال ابن القيم: وكان من حديث الصليب أنه لما صلب المسيح - على زعمهم الكاذب - وقتل ودفن، ورفع من القبر إلى السماء، كان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر وإلى موضع الصليب، ويصلون. فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ، وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مزبلة عظيمة. فلما كان في أيام قسطنطين الملك جاءت زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب، فجمعت من اليهود الساكنين ببيت المقدس والخليل مائة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة: اسم أحدهم يهودا، فسألتهم أن يدلوها على الموضع، فامتنعوا، وقالوا: لا علم لنا بالموضع، فطرحتهم في الحبس في جب لا ماء فيه، فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون ولا يسقون. فقال يهودا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب. فصاح الاثنان، فأخرجوهما، فأخبراها بما قال يهودا، فأمرت بضربه بالسياط، فأقر، وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة، وكان مزبلة عظيمة، فصلى، وقال: اللهم، أسألك إن كان في هذا الموضع أن يتزلزل، ويخرج منه دخان، فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان. فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فخرجت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان، فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟ وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه، فوضع الصليب الأول عليه، ثم الثاني، ثم الثالث، فأفاق عند الثالث واستراح من علته، فعلمت أنه صليب المسيح، فجعلته في غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين. وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب ثلاثمائة وثلاثا وعشرين سنة. هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في تاريخه.
والمقصود أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة.
وبعد، فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني مع انقطاعها وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة. ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها أن ذلك الصليب الذي شفى العليل كان أولى ألا يميت الإله الرب المحيي المميت. ومنها: أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلاثمائة وثمان وعشرين سنة فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة. فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء؛ قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به؟ فلعلهم يقولون: لما مست صليبه مسهما البقاء والثبات. وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك. والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل وساخ في الأرض، ولم يثبت لتجليه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال؟ فلقد صدق القائل: إن هذه الأمة عار على بني آدم أن يكونوا منهم. فإن كانت هذه الحكاية صحيحة فما أقربها من حيل اليهود التي تخلصوا بها من الحبس والهلاك. وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير، ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها.
ومنها: أن عباد الصليب يقولون: إن المسيح لما قتل غار دمه، ولو وقع قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت. فيا عجبا، كيف يحيي الميت ويبرئ العليل بالخشبة التي صلب عليها وسمر. هذا كله من بركتها وفرحها به، وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث؟ ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه، وتخسف الأرض بالحاضرين عند صلبه والمتمالئين عليه، بل تفطر السموات والأرض وتخر الجبال هدا.
ثم يقال لعباد الصليب: لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده أو مع اللاهوت. فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده فقد فارقته الكلمة، وبطل اتحادها به، وكان المصلوب جسدا من الأجساد ليس بإله ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة.
وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا، فقد أقررتم بصلب إلإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه. وهذا أبطل الباطل وأمحل المحال، فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا.
ومن العجب أنهم يقرؤون في التوراة: "ملعون من تعلق بالصليب". [3] وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه. ولو كان لهم أدنى مسكة من عقل لكان الأولى أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه، ويكسروه، ويلطخوه بالنجاسة، فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه وفضح. فيا للعجب! بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم لولا أن القوم أضل من الأنعام، فلو عقلوا لكان ينبغي ألا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكروه بألسنتهم، وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم من ذكره. ولقد صدق القائل: "عدو عاقل خير من صديق أحمق"، لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح، فاجتهدوا في ذمه، وتنقصه، والازدراء به والطعن عليه. وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم وإغراقهم بهم، فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير. وقد قال بعض عقلائهم: "إن تعظمينا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح إذ هو عليه، ثم لما دفن صار قبره في الأرض". وليس وراء هذا الحمق والجهل حمق، فإن السجود إلى قبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك. وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء اليهود والنصارى، حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأصل الشرك وعبادة الأصنام من العكوف على القبور واتخاذها.
ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه.
فإن قلت الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذي صلب عليه إلهنا. قيل: وكذلك الحفر تذكر بحفرته، فعظموا كل حفرة، واسجدوا لها، لأنها كحفرته أيضا بل أولى، لأن خشبة الصليب لم يستقر عليها استقراره في الحفرة.
ثم يقال: اليد التي مسته أولى أن تعظم من الصليب، فعظموا أيدي اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له، ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي. فإن قلتم: منع من ذلك مانع العداوة. قلنا: فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختاره، ولو لم يرض به لم يصلوا إليه. فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا موجب رضاه واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس. فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم وعلى سائر النبيين من لدن آدم إلى زمن المسيح.
والمقصود أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه وتنقص نبيهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء كان عليه المسيح، لا في صلاتهم ولا صيامهم ولا أعيادهم. بل هم في ذلك أتباع كل ناعق، مستجيبون لكل ممخرق ومبطل، إذ أدخلوا في الشريعة ما ليس فيها، وتركوا ما أتت به. وإذ شئت أن ترى العبر في دينهم فانظر ما أشرنا إليه من صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام للحواريين وصيام لمارمريم، وصيام لمارجرجس، وصيام الميلاد. وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فهم يعلمون أن المسيح كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه في صوم ولا فطر. وأصل ذلك أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياما للميلاد والحواريين ومارمريم، وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني، فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية، فصارت سنة متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية.
قال ابن القيم: ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم قد نصبوا حبائل الحيل، ليقتنصوا بها عقول العوالم، ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم لهم واستدرار أموالهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر.
فمن ذلك ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور - ومحله ببيت المقدس - فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم، ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق، لا نار فيه، فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم، ويبتهلون في الدعاء. فبينما هم كذلك، وإذا نار قد نزلت من سقف البيت، فتقع على ذبالة القنديل، فيشرق، ويضيء ويشعل، فيصيحون صيحة واحدة، ويصلبون على وجوههم، ويأخذون في البكاء والشهيق.
قال أبو بكر الطرطوشي: كنت ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان، فلما انتهى إليه خبر هذا العيد أنفذ إلى بتاركهم، وقال: أنا نازل إليكم في هذا اليوم، لأكشف عن حقيقة ما تقولون فإن كان حقا ولم يتضح لي وجه الحيلة أقررتكم عليه وعظمته معكم، وإن كان مخرفة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهون. فصعب ذلك عليهم جدا وسألوه ألا يفعل، فأبى وألح في ذلك، فحملوا له مالا عظيما فأعرض عنهم.
قال الطرطوشي: ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية، فحدثني أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس -وهو الشريط- ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل، ويدهنونه بدهن البلسان، والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس. وقد عظموا ذلك البيت، فلا يمكنون أحدا من دخوله. وفي رأس القبة رجل، فإذا قسسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط، فتجري النار مع دهن البلسان إلى آخر الخيط النحاس، فيلقى الفتيلة فيتعلق بها. فلو نصح أحد منهم نفسه، وفتش على نجاته لتتبع ذلك وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة، ليرى الرجل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبِّس. وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق، ولم يكن ظهوره من الفتيلة.
ومن حيلهم أيضا أنه كان بأرض الروم في زمن المتوكل كنيسة، إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرج منه اللبن، فكان يجتمع للسادن في ذلك اليوم مال عظيم. فبحث الملك عنها، فانكشف له أمرها، فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدي الصنم، وجعل فيه أنبوبة من نحاس وأصلحها باللجين، ليخفى أمرها. فإذا كان يوم العيد فتحها، وصب فيها اللبن، فيجري إلى الثدي، فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم، وأنه علامة من الله لقبول قربانهم وتعظيمهم له. فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن ومحو الصور من الكنائس، وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام، فمن سجد للصور فهو كمن سجد للأصنام.
ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله، لما فيه الإعانة على الكفر وتعظيم شعائره، فالمساعد على ذلك والمعين عليه شريك للفاعل. ولكن لما هان دين الإسلام، وكان السحت الذي يأخذونه أحب إليهم من الله ورسوله أقروهم على ذلك ومكنوهم منه.
والمقصود أن رهبان النصارى وأساقفتهم لما علموا أن دينهم مما تنفر منه العقول أعظم نفرة، وضعوا لهم من الحيل والمخارق ما روجوا به على السفهاء وضعفاء البصائر واستمالوا به الجهلة إلى التمسك بالنصرانية. وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة والغلظة والمكر والكذب والبهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش والفجور والبدع والغلو في المخلوق، حتى يتخذ إلها من دون الله، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم. فتركبَّ من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم عليه من رؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور والشرك والفواحش. ولو أنهم تمسكوا بسنة محمد ﷺ واقتفوا آثاره وتركوا البدع والمحدثات واقتدوا بالسلف الصالح من هذه الأمة، لكان ذلك من أعظم الدواعي إلى الدخول في الإسلام. ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا، وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.
قال ابن القيم: ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، فساء ظنهم بالشرع وبما جاء به، فالله طليب قطاع الطريق وحسيبهم.
فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بالأمة الصليبية تدل على ما بعدها. [4]
ويعتبر بها العاقل من وجوه:
منها ظهور شرف دين الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ فيعلم ذو العقل السليم أنه الحق من ربنا، لا ما ابتدعه الضلال، واخترعوه من الباطل والمحال إذ من عرف الباطل وما اشتمل عليه من القبائح ظهرت له فضيلة الحق، وما فيه من المحاسن (فبضدها تتبين الأشياء).
ومنها أن يعلم الموقن بالله وربوبيته لهذا العالم أنه لا يدع الخلق في هذه الضلالات، وارتكابهم لأقبح الجهالات من غير إقامة الحجة ببعثة الرسول، وبلوغ الإنذار. فكان هذا من أعظم الأدلة على صحة رسالة محمد ﷺ حيث جاء بالدين القويم والصراط المستقيم. كما قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}.
وإذا عرف ما قدمناه فنذكر الجواب على أفراد المسائل التي ذكرها النصراني.
فصل
قال النصراني: "إنما المسيحيون قد أمروا بالصبر والإحسان حتى للمبغضين لهم. أما المسلمون أمروا بالقصاص وأخذ الثأر".
الجواب، وبالله التوفيق:
إن الذي شرعه الله للمسلمين في هذا الباب أكمل وأجل مما عند غيرهم، فإنه تعالى أذن لهم في القصاص من المعتدي، وجعله حقا واجبا للمظلوم، وشرع التمكين له من أخذ حقه. ولم يوجب ذلك عليه، بل ندبه إلى الفضل والصبر. فقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. فشرع تعالى العدل، وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، ووعد عليه الأجر.
ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، أي لا يضيع ذلك عنده. وقال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «ما زاد الله عبدا بعفوا إلا عزا»" في أحاديث كثيرة في الترغيب في العفو والحث عليه. وكان ﷺ أول متصف بهذا الوصف الجميل.
ولا خفاء عند نقلة أخباره بما يؤثر من حلمه واحتماله وعفوه. كما عفا ﷺ عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل ليقتلوه، فلما قدر عليهم عفا عنهم مع قدرته على الانتقام. وكذلك عفوه عن غورث بن الحارث، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ ﷺ وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله». فسقط السيف من يده، فأخذه النبي ﷺ فقال: «ومن يمنعك مني؟ » فقال: كن خير آخذ. فتركه وعفا عنه، فأتى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس.
وعفا أيضا عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره، ولم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه.
وكذلك عفوه عن المرأة اليهودية، وهي زينب أخت مرحب اليهودي التي سمت الذراع يوم خبير، فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك. ولكن لما مات بشر بن البراء من أكله تلك الشاة المسمومة قتلها به.
والأخبار بحلمه واحتماله وعفوه كثيرة جدا.
فصل
قال النصراني: " وأمر المسيحيون بإثبات عقدة التزويج واحتمال الزوجين أخلاق بعضهما بعضا. أما المسلمون أجيز لهم نقضها بالطلاق".
ونقول: لا ريب أن الذي شرع الله للمسلمين من ذلك أكمل وأليق بالحكمة، فإن تحريم الطلاق يفضي كثيرا إلى ضرر الزوجين، فإنه قد لا يلائم خلقها خلقه، فتقع النفرة بينهما، والبغض من كل منهما للآخر، ويحصل الشقاق، فيبقيان عمرهما في نكد العيش.
ففي إباحة الطلاق الخلاص من هذا الضرر، وأيضا فإنه وإن لم يحصل شقاق فقد يحتاج إلى فراقها لمصلحة الاستبدال بأوفق منها، أو لكونها عاقرا لا تلد، فيستبدل بها ولودا، ويعرض لها ما يمنع مقصود الاستمتاع، بحيث لو منع الاستبدال بغيرها فات مقصود النكاح ومصالحه، إلى غير ذلك من الأسباب المقتضية لفراق الزوجة. فأباح الله تعالى للزوج طلاقها تحصيلا للمصلحة الراجحة له، وتبقى هي مباحة للأزواج، فتتم المصلحة لكل منهما. وهذا هو اللائق برحمة الله بخلقه، وحكمته في شرعه وأمره، وقد قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}. فإن لم يكن حاجة إلى الطلاق فهو مكروه، لما فيه من تفويت المصالح المترتبة على النكاح من غير سبب يدعو إليه.
وجاء الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق». رواه الدارقطني. [5]
فصل
قال النصراني: "والمسيحيون، فعندهم يجب على الرجل أن يفعل لامرأته ما يريد أن تفعل له، ويصير لها أسوة في الاقتصار على حبه وحده. وأما المسلمون أحل لهم تكثير النساء الذي يزداد فيه الشره في النكاح".
الجواب، وبالله التوفيق، أن نقول: ما شرعه الله تعالى للمسلمين في عدد الزوجات مطابق للحكمة، فإنه جاء وسطا بين الإكثار منهن المفضي إلى تفويت الحقوق الواجبة لهن وتحمل الرجل ما لا طاقة له به من أعباء حقوق الزوجية، وبين الإقلال الذي قد تفوت معه مصلحة كمال الاستمتاع وكثرة الأولاد والتمتع بنعمة الله التي امتن بها على عباده. فأباح تعالى للرجل أن ينكح أربعا إن قدر على القيام بحقوقهن والعدل فيهن، وأمره بالاقتصار على واحدة إن خاف ألا يعدل، فقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}.
والمقصود أن في إباحة العدد من الزوجات حكما عظيمة ومصالح جمة.
فمنها: أن الرجل قد لا تكفيه الواحدة، لفضل ما أعطي من القوة على النكاح، أو لما يترتب له على التعدد من المصالح المطلوبة، فأبيح له العدد المذكور من الزوجات، وما شاء من السراري، إتماما لنعمة الله عليه، وتحصينا لفرجه.
ومنها: أنه قد يعرض للمرأة ما يمنع استمتاعه بها من حيض أونفاس أو مرض أو غيبتها عنه لعذر أو سفره عنها، فأبيح له التعدد، لتحصيل المصلحة، وإتمام الإحصان.
ومنها أن المرأة قد تكون عاقرا لا تحبل، أو يعرض لها ما يقطع الحبل من كبر أو مرض، وهو يؤثر إمساكها، وألا يفارقها، فلو اقتصر عليها فاته الولد، وهم من النعم العظيمة، وفيه تكثير الأمة. وقد قال النبي ﷺ «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم». [6]
ومنها أن في إباحة العدد مصلحة تعود على جنس النساء، فإنهن غالبا أكثر من الرجال، ففي إباحة التعدد من مصلحة إحصانهن والقيام عليهن ما يفوت كثير منه لو منع التعدد. وأما ما يحصل للمرأة من مشقة الغيرة بتزويج غيرها فذلك لا يوازي تلك المصالح ولا يقارب.
وأيضا فإن للرجال مزيد فضل على النساء بتفضيل الله لهم، وبما أوجب عليهم في أموالهم من الإنفاق على النساء والقيام بهن، فناسب ذلك، وإن قصرت عليه أن يوسع له في قضاء وطره بغيرها إذا أحب ذلك ولم يقصر عليها. وأما كون كثرة النساء يزداد فيه الشره في النكاح فقد قدمنا الكلام على فضيلة النكاح بما أغنى عن إعادته. وما ترتب عليه الزيادة في الفضيلة فهو فضيلة، ولهذا استكثر النبي ﷺ منهن، وأبيح له من العدد ما لم يبح للأمة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "خير هذه الأمة أكثرها نساء".
وبالجملة، إذا اعتبرت ما شرعه الله تعالى لهذه الأمة في هذا الباب وجدته على أحسن وجوه الحكمة وأكمل طرائق المصلحة، كما هو كذلك في كل باب، فلله الحمد.
فصل
قال النصراني: " وعند المسيحيين أصل الدين موضوع في القلب، أن يصلح، ويثمر بما ينتفع به أبناء الجنس كلهم. وأما عند المسلمين فمعظمه في الختانة والوضوء وغيرهما من الأشياء التي من ذواتها لا تنفع ولا تضر". هذا كلامه.
ونقول: لعمر الله، إنه كلام في غاية السخافة والجهالة والكذب، فإن مبنى دين الإسلام على ما فيه غاية صلاح القلب وفلاحه وحياته، وهو إخلاص العبودية لله وصدق المحبة له وتحقيق التوكل عليه والخوف منه والرجاء له والاستعانة به والرضا عنه والصبر والتفويض، وغير ذلك من منازل العبودية.
وكذلك الإيمان بالأصول التي جاءت بها الرسل، واتفقت عليها ملل الأنبياء، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. وغير ذلك من أصول الإيمان الثابتة في القلب، والأعمال الباطنة التي لا تنفع الأعمال الظاهرة بدونها.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
إلى غير ذلك من نصوص القرآن في الوصية بهذه الأصول والحث عليها ومدح من اتصف بها، إلى ما يتبع أعمال القلب من الأعمال الظاهرة التي مقصودها صلاح القلب ورعاية حياته وإيقاعها على وجهها من ثمرات صلاحه.
فافترض تعالى الصلوات الخمس المشتملة على توحيد الله تعالى والتأله إليه والخضوع له رهبة منه والابتهال إليه رغبة فيه. ولهذا جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا قام أحدكم إلى صلاته فإنما يناجي ربه، فلينظر أحدكم بم يناجيه». وجعل من شروطها رفع الحدث وإزالة النجاسة، لتتم النظافة للقاء ربه والطهارة لأداء فرضه. ثم ضمنها تلاوة كتابة المنزل، ليتدبر ما فيه من أوامره ونواهيه، ويعتبر إعجاز ألفاظه ومعانيه. ثم علقها بأوقات راتبة، وأزمان مترادفة، ليكون ترادف زمانها وتتابع أوقاتها سببا لاستدامة الخضوع والابتهال إليه، وألا تنقطع الرهبة منه ولا الرغبة فيه. وبهذا تنفتح أبواب المعارف في القلب، ويحصل له غاية الصلاح ونهاية الفلاح.
وكذلك فريضة الزكاة والنفقات من الأموال، ففيه من تمرين النفس على السماحة المحمودة ومجانبة الشح المذموم ومواساة الفقراء ومعونة ذوي الحاجات وظهور إيثار المنفق رضا مولاه ببذل ما يحبه من المال.
وكذلك الصيام الذي فيه رياضة النفس وصفاء القلب، وهو سر بين العبد وبين ربه، وفيه حث على رحمة الفقراء، وإطعامهم، وسد جوعتهم، لما قد عاناه الصائم من شدة المجاعة في صومه، وفيه من قهر النفس وإذلالها وكسر الشهوة المستولية عليها وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى الطعام والشراب ما هو من أعظم صلاح القلب ومعرفته بربه وفاطره، الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. ولهذا احتج الله تعالى على من اتخذ عيسى وأمه إلهين من دونه بقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} فجعل حاجتهما إلى الطعام نقصا فيهما عن أن يكون إلهين.
وكذلك الحج، وما فيه من تحمل المشاق امتثالا للأمر في قضاء المناسك في تلك المواطن الفاضلة. وفيه تذكير بيوم الحشر في مفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل بين يدي الله، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه والرغبة إليه، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه. كما قال بعض العلماء: "قل من حج إلا أحدث توبة من ذنب وإقلاعا عن معصية". ولذلك قيل: "من علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها بعدها خيرا من قبلها". ثم نبه بما يعانيه من مشاق السفر المؤدي إليه على مواضع النعمة برفاهة الإقامة، ونسيه الأوطان، ليحنو بما سلف من هذه النعمة على أبناء السبيل. ثم علم بمشاهدة حرم الله الذي أنشأ منه دينه، وبعث منه رسوله، ثم بمشاهدة دار الهجرة، التي أعز الله بها أهل طاعته، وأذل بنصرة نبيه بها أهل معصيته، حتى خضع له عظماء المتكبرين، وتذلل له زعماء المتجبرين، أنه لم ينتشر عن ذلك المكان المنقطع، ولا قوي بعد الضعف البين حتى طبق الأرض شرقا وغربا إلا بمعجزة ظاهرة ونصر عزيز، يدل على عناية الله بهذه الشريعة وأنها من عنده.
وكذلك الجهاد، وما فيه من بذل النفس وإنفاق النفيس طاعة لله وامتثالا لأمره.
وكذلك أنواع العدل والإحسان والبر والصلة.
وكذلك الأقوال الطيبة من تلاوة كتاب الله، وإكثار ذكره واستغفاره، وتحصيل التوبة التي هي أحب شيء إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة التي مقصودها صلاح القلب وصفاؤه، ونماء الإيمان والمعرفة فيه، فإن أصل الدين في الحقيقة هي الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، فلا تنفع الأعمال الظاهرة بدونها. كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب». [7]
ولهذا قال ﷺ في الحديث المتفق عليه: «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا خبث الملك خبثت جنوده".
وإذا كان الأمر ما ذكرنا بعض وصفه، فكيف يقال إن معظم دين الإسلام في الختانة والوضوء ونحوهما؟ وما هذه الوقاحة والجرأة بالكذب البحت والجهل الصرف؟ وليس هذا بكثير على من فسد عقله وانتكست فطرته حتى سب خالقه وفاطره أعظم مسبة وتنقصه أسوأ تنقص بالشرك به ودعوى الولد له وكفر برسله وأنبيائه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}.
وأما الختان والوضوء وتطهير النجاسات ورفع الأحداث فهو من محاسن الشريعة، فإن بالتوحيد وتوابعه طهارة الباطن، وبالوضوء ونحوه طهارة الظاهر. فيجمع العبد في عبادة ربه بين الطهارتين، ويقوم بين يديه على أحسن الهيئات وأكمل الأحوال. وكان ما جاءت به الشريعة المحمدية من ذلك وسطا بين جفاء النصارى وغلو اليهود، كما تقدمت الإشارة إليه.
وقد أخرج الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء».
فهذا فيه الإتيان بالشهادتين المتضمنتين طهارة القلب بعد الوضوء الذي هو طهارة الظاهر، لتتم له الطهارتان الظاهرة والباطنة. وهذا غاية الكمال.
وفي الختان من الطهارة والنظافة ما هو اللائق بحكمة الله في شرعه، فإن الأقلف يحمل النجاسة، ولا يمكنه الاستبراء من البول، فشرع الختان تحصيلا للطهارة وتكميلا للعبادة وتعظيما للمعبود. وهو من الحنفية ملة إبراهيم، وجاءت التوراة بتقريره والأمر به، ولم تنسخه شريعة الإنجيل، وإنما إبطاله من تغيير الأمة الضالة لدين المسيح في زمن قسطنطين، كما قدمنا ذكره.
وقد اعترف هذا النصراني أن المسيح عليه السلام اختتن على سنة التوراة.
وليس معهم في إبطال الختان حجة البتة، بل قد ذكر هو نص التوراة من الفصل السابع عشر من السفر الأول منها: أن الله قد قال لإبراهيم: "أعطي لك ولنسلك بعدك بلدة سكناك وهي جميع أرض كنعان حوزا مؤبدا، وأكون لكم إلها، وأنت عهدي، تحفظ أنت ونسلك بعدك لأجيالهم، هذا عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك أن يختتن كل ذكر منكم".
فما معنى هذا النص؟ أليس صريحا في أن شرع الختان ثابت على ذرية إبراهيم وأتباعه؟ فكيف يجعلون من شريعة المسيح إبطال الختان، وقد حتم عليهم وأبد حكمه؟ وإنما حملهم على ذلك متابعة دين قسطنطين وأضرابه من المبدلين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
فصل
قال النصراني: "والمسيحيون أحل لهم استعمال المأكل وشرب الخمر على وجه الاعتدال. أما المسلمون قد حرم عليهم أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، مع أنه نعمة عظيمة من الله ينتفع بها النفس والجسم لمن يستعمله بالاعتدال".
الجواب، وبالله التوفيق:
قد تقدم أن ما حرم الله على المسلمين فمصدره من رحمة الله بهم وحمايته لهم، فإنه تعالى أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث. كما قال تعالى في صفة رسوله ﷺ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}. والطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان، ليس المراد به مجرد التذاذ الأكل وعدمه، أو التذاذ طائفة من الأمم لا من العرب ولا غيرهم على القول الصحيح. فالخبث القائم بالعين هو علة التحريم، فحرم الله تعالى أكل الخبائث صيانة لعباده عن ملابسة الخبيث والاغتذاء به. قال أهل العلم: "لأن الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي، ولا بد وأن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء".
كما حرم الله تعالى الدم المسفوح، لأنه مجمع قوى النفس الشهوانية الغضبية، فيكتسب به المغتذي به كيفية توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن. كما قال النبي ﷺ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
وكما حرم النبي ﷺ كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، لأنها عادية باغية، فإذا أكلها الناس صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم، وهو البغي والعدوان، وهكذا سائر المحرمات. ومن ذلك الخنزير، فإنه مطبوع على أخلاق ذميمة وصفات قبيحة، فحرم أكله على الإنسان صيانة له وحماية له عن أن يتكيف بتلك الكيفية. واستحلال النصارى لها من إحداثهم في دين المسيح وتبديلهم له.
وقد قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن حدثنا نعيم بن حماد ثنا ابن الفضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل، قال: "نزل آدم بتحريم أربع: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به. وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، فلما بعث الله عيسى ابن مريم جاء الأمر الذي نزل به آدم عليه السلام وأحل لهم ما سوى ذلك، فكذبوه وعصوه". قال الحافظ ابن كثير: "وهذا أثر غريب". [8]
وأما الخمر فهي أم الخبائث ومنبع الرذائل، مفسدة للدين والعقل، فتحريمها من محاسن الشريعة. وليس يوازي ما فيها من المنافع ما اشتملت عليه من المفاسد، لأن المنافع التي فيها تعود إلى البدن، والمفاسد تعود إلى الدين والعقل، وهما أعظم نعم الله على عباده، فلهذا قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.
فهذه الشريعة الزاكية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فإذا تعارضت المصلحة والمفسدة روعي أكبرهما، فعطلت المفسدة الكبرى، ولو بإهمال مصلحة لا توازي تلك المفسدة. وهذا من حكمة الله في شرعه وأمره، وهو الحكيم العليم.
وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
فذكر تعالى نوعين من المفسدة في الخمر: الأول: يتعلق بالدنيا، وضرره أيضا عائد على الدين، وهو العداوة والبغضاء، وذلك أن الغالب على من يشرب الخمر أن يشربها مع جماعة ويكون من غرضه في ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه، ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم. فكان من غرضه في ذلك الاجتماع تأكيد المحبة والألفة، ولكنه ينقلب في الأغلب إلى الضد، لأن الخمر تزيل العقل، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب، وربما آلت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث العداوة والبغضاء. والشيطان سول لهم أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد المحبة والألفة، فينقلب الأمر إلى نهاية العداوة والبغضاء المفضيين غالبا إلى الهرج والمرج والفتنة، وكل ذلك مضاد لصلاح العالم. النوع الثاني: المفاسد المتعلقة بالدين، وذلك في قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} وكون الخمر مانعة عن ذكر الله وعن الصلاة ظاهر، لأن شرب الخمر يورث السكر واللذة والطرب في الجسم، فيمنعه ذلك من أداء العبادة، ويحول بينه وبين أسباب السعادة. وأيضا فالنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله، ومالت إلى العاجلة.
ومن الدليل على قبح الخمر وخساستها أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو للعقل ومفسد له، وذلك أن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل القبيح كان عقله مانعا له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها. ولهذا امتنع من شربها جماعة في الجاهلية صيانة لعقولهم. قيل للعباس بن مرداس في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر، فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما كنت لآخذ الجهل بيدي، فأدخله جوفي. ولا أرضى أن أصبح سيد قومي فأمسي سفيههم.
وأيضا فإن من خواص الخمر - كما قال بعض العلماء - أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة الإقدام عليها أوفر. بخلاف سائر المعاصي كالزنا مثلا، فإنه إذا واقعه مرة واحدة قلت رغبته فيه، وكلما كثر فعله لذلك العمل كان فتوره عنه أكثر. بخلاف الشرب فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليه أكثر ورغبته فيه أتم. فإذا واظب الإنسان عليه صار غريقا في اللذات البدنية معرضا عن تذكر الآخرة والمعاد، حتى يكون من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
وبالجملة، فالخمر يزيل العقل، فإذا زال العقل حصلت الخبائث بأسرها. فظهر بما قررناه أن تحريم الخمر والخنزير من محاسن الشريعة، ومن أدلة أنها من عند الله، وأنها أكمل الشرائع وأزكاها، فلله الحمد والمنة.
فصل
قال النصراني: "وأما قبل أن وضعت الشريعة التي هي في غاية الكمال كما هي حال شريعة المسيح، فلا عجب أن تقدم ما يشبه الأصول التي تصلح لتعليم الصبيان، بل بعد إظهار الشريعة التي هي على تلك الحال فالرجوع بعد إلى الرموز والإشارات فهو أمر غير مستقيم، ولا يمكن أن يؤتى بمعنى يدل على أنه يليق - بعد إظهار شريعة المسيح التي هي في غاية الصلاح - أن يؤتى بغيرها".
هذا كلامه، وهو يتضمن أمرين:
الأول: دعواه أن شريعة المسيح أكمل من شريعة محمد عليهما الصلاة والسلام.
والثاني: ما اقتضاه كلامه من أن المسيح خاتم الرسل، كما صرح به هو - أعني هذا النصراني - في أول كتابه.
والجواب عن الأول من وجوه:
الأول أن نقول: لا ريب أن إثبات الكمال كغيره من المعلومات ليس بمجرد الدعوى، وإنما يعرف بالدلائل والبينات.
فالدعاوى ما لم يقيموا عليها ** بينات أبناؤها أدعياء
وقد دللنا فيما تقدم على أن شريعة محمد ﷺ في نهاية الكمال وتمام المصلحة ومقتضى الحكمة، بما فيه مقنع لذوي الإنصاف، وإن كانت الأدلة على ذلك تفوت الإحصاء، ولا يبلغها الحصر، فإن الحكم والمصالح في شرع الله وأمره لا يحيط بها إلا هو، فما ظهر لنا من ذلك قلنا به، وما لم يظهر لنا وكلناه إلى عالمه.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه شرع لعباده الشرائع على وفق الحكمة والمصلحة، وخص كل أمة بشريعة اقتضتها حكمته، ولكنه سبحانه فضل الشرائع بعضها على بعض، كما فضل الرسل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. فالكمال حاصل في كل شرع شرعه الله، ولكن حصول الكامل لا يمنع وجود ما هو أكمل منه. فكمال شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ليس مانعا من ظهور شرع أكمل منهما. كما أن فضل السابق في الزمان من الأنبياء والرسل لا يمنع وجود أفضل منه، إذ الكمال في أمر الله وشرعه غير متناه. وإذا اعتبر ذو البصيرة ما جاء به محمد ﷺ من الهدى ودين الحق، علم أنه جاء بالكمال الذي لم يتقدم نظيره في الشرائع السالفة. ولا عجب، فإنه الذي جاء به أفضل الخلق وسيد المرسلين وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
الوجه الثالث: أن دعواه أن شريعة المسيح لا يمكن نسخها دعوى مجردة عن الدليل، وكذب محض على شريعة من جاء بالإنجيل، شبيهة بدعوى اليهود عدم جواز النسخ في الشرائع. وهذا النصراني قد رد على اليهود في إنكارهم النسخ، فما باله رجع يدعي كدعواهم بغير برهان عقلي ولا دليل شرعي. فقد حجر على الله في شرعه بمجرد هوى النفس {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. ثم يقال: أي فرق بين طروّ النسخ على شريعة موسى وما قبلها من الشرائع، وبين طروه على شريعة المسيح؟ فإنه لا يمكن أن يؤتى بفرق صحيح عقلي، فقد خالفوا العقل والشرع في هذه الدعوى الباطلة. فلا حجر على الله في شرعه وأمره، كما لا اعتراض عليه في خلقه. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
واعلم أن الشرائع نوعان:
منها: ما يعرف بضرورة العقل والفطرة نفعه معاشا ومعادا. فهذا يمتنع طرو النسخ عليه، لعبادة الله وحده لا شريك له وطاعته أبدا. ومجامع هذه الشرائع أمران: التعظيم لله، والشفقة على خلق الله. وهذه لا تختلف فيها شرائع الأنبياء.
ومنها: ما لا يعرف إلا بالسمع مما يكون تابعا للمصلحة، وذلك يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال. فهذا يمكن طرو النسخ عليه وتبديله، فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة، وفي وقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وفي حال دون حال.
وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان على إبراهيم ونوح وسائر النبيين.
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها، لو كان حراما لعينه وذاته لكان حراما على كل نبي وفي كل شريعة.
والأدلة على هذا كثيرة جدا، وهي تبطل شبهة أمة الغضب في دعوى عدم النسخ. ليس هذا موضع بسطها، لأن ذلك ليس من غرضنا في هذا الكتاب، إذ الكلام فيه مع الأمة الضالة، وهم يوافقوننا على جواز وقوع النسخ في الشرائع.
فإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما شاء، ويحكم ولا يحكم عليه، وينسخ من أمره ما يشاء ويثبت، لا معقب لحكمه، فما الذي يحيل عليه أن ينزل شريعة بعد شريعة المسيح تكون أكمل منها وأفضل؟ وهل هذا إلا ما ادعته اليهود؟ فإن كان ذلك صحيحا وأنه يمتنع أن يؤتى بشريعة بعد شريعة المسيح لزم منه صحة دعوى اليهود، إذ لا فرق، فعاد الطعن في نبوة المسيح. وإذا كانت دعوى اليهود واضحة البطلاان فدعوى هذا الضال أبطل وأبطل.
قال بعض العلماء: "وحكمة النسخ فيما يجوز نسخه وتبديله أن الأعمال البدنية إذا واظب عليها الخلف عن السلف صارت كالعادة، وظن أنها مطلوبة لذاتها، فيمتنع الوصول بها إلى ما هو المقصود من معرفة الله وتمجيده، بخلاف ما إذا تغيرت تلك الطرائق". وقال غيره: "حكمته أن الخلق طبعوا على الملالة من الشيء، فوضع لهم في عصر كل رسول شريعة جديدة، لينشطوا في أدائها".
ومن الحكمة إظهار شرف نبينا ﷺ فإنه نسخ بشريعته شرائعهم، وشريعته لا ناسخ لها.
ومن حكم النسخ أيضا ما فيه من حفظ مصالح العباد، كطبيب يأمر بدواء في يوم، وبآخر في يوم ثان، وهكذا بحسب المصلحة، وإن كان الثاني أفضل. انتهى.
والجواب عن الأمر الثاني - وهو دعواه أن المسيح خاتم الرسل - من وجوه تعلم مما تقدم:
الأول: أنها دعوى مجردة عن البرهان وعارية عن الدليل؛ والدعاوى التي لا دليل عليها مطروحة، وهم لا يستندون في ذلك إلى دليل البتة. وليس في الأناجيل التي بأيديهم ما يدل على ما زعمه، بل قد تقدم فيما أوردناه من نصوص الإنجيل الدلالة على نبوة محمد ﷺ ما يبطل هذا الزعم.
الوجه الثاني: أن أدلة الرساله المحمدية ومعجزاتها وبراهينها التي هي أظهر من شمس الظهيرة لا يحتاج بعدها إلى تنويع الرد في إبطال هذه الدعوى الكاذبة الخاطئة.
الوجه الثالث: أن هذا القول من مخترعاتهم المحدثة من بعض متأخريهم، إما من هذا المصنف أو أمثاله من الضالين. وهذا كما رام بعض إخوانهم في الكفر من أنصار اليهودية أن يدعي أن موسى خاتم الرسل وأنه عهد إليهم أن لا نبي بعده. فدعوى هذا الضال أن المسيح خاتم الرسل، وأن شريعته خاتمة الشرائع لا نعلم به قائلا قبله من النصارى.
بل قد قال الإمام العلامة أبو عبد الله ابن القيم - وهو الإمام المحيط بأقاويل الناس-: "أهل الكتاب مجمعون على أن نبيا يخرج في آخر الزمان، ولا يشك علماؤهم أنه محمد بن عبد الله، وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رياستهم على قومهم وخضوعهم لهم، وما ينالون منهم من المال والجاه". انتهى. [9]
وقول النصراني: "ولا يمكن أن يؤتي بمعنى يدل على أنه يليق - بعد إظهار شريعة المسيح التي هي في غاية الصلاح - أن يؤتى بغيرها" يعلم جوابه مما تقدم من بيان أفضلية شريعة محمد ﷺ التي اقتضت حكمة الرب تعالى أن جعلها خاتمة الشرائع، ففضلها على غيرها، كما فضل من جاء بها على سائر الأنبياء، وفضل أمته على جميع الأمم. وأيضا فالأصل الذي اتفقت عليه شرائع الأنبياء، ودعا إليه جميع الرسل هو: إخلاص العبودية لله تعالى وخلع الأنداد التي تعبد من دونه. ولا ريب أن الذي جاءت به شريعة محمد ﷺ في تشييد هذا المقام وحماية هذا الباب أعظم مما جاء به غيره، فإنه قد جاء من تحقيق التوحيد، وسد طرق الشرك، والتحذير من دقيقه وجليله، وظاهره وخفيه، ما فضلت به شريعته على سائر الشرائع. كما جاء في الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وتقرير نبوة الأنبياء، وتصديق ما تضمنته التوراة والإنجيل مع زيادة البيان والتفصيل مما تضمنه القرآن وحكمة الرسول ما حصل به للمؤمنين من العلوم النافعة ما فاقوا به على جميع الأمم. فأي معنى يليق ببعثة الرسول أعظم من هذا؟
وأيضا فقد قدمنا في المقام الأول بيان اعتراف النصراني بخفاء الحق وظهور الضلال قبل مبعث محمد ﷺ بما يكفي في إبطال كلامه ههنا، ويعلم به أن الخلق محتاجون إلى بعثته ﷺ أعظم من كل حاجة، ومضطرون إليه غاية الضرورة. كما قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ: «إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب».
وأيضا فإن النصارى عليهم لعائن الله قد أشركوا بالله أعظم الشرك، وافتروا عليه أعظم الفرية، فقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وادعوا له ولدا، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
فلو لم يكن في بعثة الرسول من الحكمة سوى النهي عن هذا الكفر الشنيع والشرك الفظيع من أمة يدعون اتباع رسول الله، والإيمان بكتابه، وهم إذ ذاك أقرب الناس عهدا بالكتب والرسل، لكان ذلك كافيا في الحكمة، ولائقا بالمعنى الذي مضت به سنة الله في خلقه من بعثة الرسول عند الحاجة إليه. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}.
هذا ما يسره الله تعالى من كتاب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هامش
- ↑ مدارج السالكين
- ↑ مجموع الفتاوى ج4
- ↑ التثنية 21: 23 غلاطية 3: 13
- ↑ إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر
- ↑ قال ابن حجر في التلخيص الحبير ح1725: "رواه أبو داود والبيهقي مرسلا ليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني في العلل والبيهقي المرسل".
- ↑ صحيح أبي داود 2050
- ↑ ضعيف الجامع 2280
- ↑ تفسير ابن كثير/سورة المائدة
- ↑ زاد المعاد ج3