►المقام الثاني | المقام الثالث | المقام الرابع ☰ |
قال النصراني: فصل في الترجيح بين المسيح ومحمد، ولنقس الآن الخصال والأحوال المتعلقة بالشريعتين، لننظر أيهما أشرف وأولى بأن تتبع. ووجه امتحان ذلك هو اعتبار كمال ذلك الشخص وتعقب أفعاله وتأمل سيرته، وأكبر علاماتك إطراح اللذات البدنية والتهاون بها. فإن هذا أول درجات أهل العلم، فناهيك الأنبياء، وبخاصة التي هي عار علينا كما ذكر أرسطو، ولا سيما قذارة النكاح. ولذلك فضح الله بها كل مدع، ليتبين الحق للمحقين، ولا يضلوا ولا يغلطوا. وإنما يشوع فهو على ما يعترف به المسلمون المسيح الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، ويسميه محمد بكلمة الله وروحه، ويقول إنه لم يكن له أب من البشر، وأما محمد فهو مولود على الطريق المعتاد به في الطبيعة. وكان يشوع ذا صلاح تام في سيرته، حتى لم يطعن في عرضه بشيء. أما محمد فهو صاحب الغزاة والقتال مغرما بالنساء كثير النكاح. وكان يشوع قد ارتفع إلى السماء. وأما محمد فهو بقي محبوسا في القبر. فمن ذا الذي لا ينظر أيهما أولى بأن يتبع. " هذا كلامه.
فنقول وبالله التوفيق:
لا ريب أن النظر في التفضيل إنما يكون بين شيئين متقاربين في الفضل مع ثبوت الفضل في كل منهما، فيكون النظر حينئذ نظر ترجيح، بحسب كثرة الفضائل والمحاسن في أحد الشقين.
ومعلوم أنه لا نسبة بوجه من الوجوه بين أنبياء الله ورسله وبين الكذبة على الله المتقولين، ولا بين الشرائع التي شرعها تعالى وفرض فرائضها وحدودها على أكمل وجوه الحكمة والمصلحة وبين مخترعات المخلوقين ومبتدعاتهم، إلا عند أهل الضلالة والجهالة، كهؤلاء النصارى الذين اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
والمقصود أن نصبه الترجيح بين محمد والمسيح -عليهما الصلاة والسلام- وشريعتيهما دليل على اعترافه بفضل محمد ﷺ وشريعته، وهذا يلزم منه أن محمدا حق ودينه حق، وإلا فأين النسبة بين الحق والباطل والصدق والكذب؟
فهذا الطريق في الترجيح إنما يتوجه مع الاعتراف بحقية كل من الشريعتين، كأن يرجح المسلمون ما هو الحق من أفضلية محمد ﷺ على من سواه من الرسل وشريعته على ما عداها من شرائع الأنبياء، مع الإيمان بأن كلا منهما من عند الله وأن الله تعالى هو الذي فضل من شاء بما شاء ورفع بعض الرسل فوق بعض درجات.
ولكنه لما كانت شريعة محمد ﷺ شريعة باهرة وفضائلها ظاهرة، لم يمكن الخصوم إلا الاعتراف بفضلها وفضل من جاء بها، لما بهرهم من أنوار النبوة وبهتهم من عظمة نواميس هذه الشريعة الكاملة التي اختارها الله لخيرته من خلقه ولأمته -خير أمة أخرجت للناس- وجعلها حجة باقية إلى قيام الساعة، لا يتطرق إليها النسخ ولا يعتريها التبديل والتغيير الذي وقع في الشرائع قبلها، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، بل لا تزال فيها طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ولهذا المعنى الذي ذكرناه، كان كل عاقل من اليهود والنصارى -كما قال شيخ الإسلام أبو العباس- يعترف بأن دين الإسلام حق وأن محمدا رسول الله، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل كثير منهم يعترفون أن دين الإسلام خير من دينهم. كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لم يطرق العالم ناموس أعظم من هذا الناموس. انتهى. [1]
إذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى اختار الأنبياء من ولد آدم وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. واختار الرسل منهم، وهم ثلاث مائة وثلاثة عشر، على ما دل عليه من عددهم حديث أبي ذر الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه. ثم اختار منهم أولي العزم الخمسة، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وذكرهم أيضا في سورة الشورى. ثم اختار منهم الخليلين: إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم. واختار منهما محمدا ﷺ. وهو سيد ولد آدم، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، وصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقا، وأولهم بعثا، فهم كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة. بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. فهذا -يعني يوم الجمعة- يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس فيه تبع، غدا لليهود وبعد غد للنصارى» وقال ﷺ: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» وقال: «آتي باب الجنة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك».
وفضائله وفضائل أمته كثيرة دل عليها خبر صاحب المعجزات الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ونطقت بها الكتب السالفة، وأخبر بها الأنبياء الأقدمون، ودل عليها استقراء سيرهم وأخبارهم.
وهذه الجملة مجمع عليها بين المسلمين، وهي أن الله فضل بعض الرسل على بعض وفضل على الجميع محمدا ﷺ، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.
وكذلك أجمعوا على محبتهم وموالاتهم والإيمان بهم كلهم، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب الذين يدعون الإيمان ببعض الرسل ويكفرون ببعض، ويعظمون بعضهم حتى يجعلوهم آلهة مع الله ويتنقصون بعضهم، كما فعل هذا النصراني فيما تقدم من كتابه. حيث لم يقتصر على الطعن في سيد المرسلين، إذ كفره سابق على ذلك. بل اعترض أيضا على موسى -كليم الرحمن- ونسبه إلى الشك فيما جاءه من الحق، وارتكاب ما يستحق عليه اللوم، مع اعترافه بأنه رسول الله.
فليعتبر الموقن بالله أي الفريقين أولى بالله وبرسله.
وقد أجمع المسلمون على أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون فيما يخبرون به عن الله وفي تبليغ رسالاته، لا خلاف بينهم في ذلك، وإن وقع خلاف فيما دونه. والذي عليه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين أنهم معصومون أيضا من الإقرار على الذنوب مطلقا، والمسألة طويلة الأذيال فلا نطيل بذكرها.
والمقصود أن الله تعالى كما اختار الأنبياء على من سواهم اصطفى لهم من الأخلاق أزكاها، واختار لهم أفضلها وأولاها، وجمع الفضائل التي فرقها فيهم لخاتمهم وسيدهم وأفضلهم محمد ﷺ، كما قال تعالى في خطابه له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم، وسمى الدين خلقا، لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة، وإرادة زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكتسب النفس بها أخلاقا هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها.
وهذه كانت أخلاقه ﷺ المقتبسة من القرآن، وهذا من أعظم آيات نبوته، وأدلة رسالته.
ولما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ قالت: «كان خلقه القرآن، أما تقرأ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}».
فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، علومه علوم القرآن، وإرادته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره. فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها: «كان خلقه القرآن». وفهم السائل عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى. فهو ﷺ في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين.
وقد خرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن رسول لله ﷺ قال: «بعثت لأتمم صالح الأخلاق».
واعلم أن خصال الفضل والكمال في البشر نوعان، كما قال بعض العلماء: أحدهما ضروري دنيوي، اقتضته الجبلة وضرورة الحياة الدنيا. والثاني مكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله ويقرب إلى الله زلفى. ثم هي على قسمين: منها ما يتخلص لأحد الوصفين. ومنها ما يتداخل ويتمازج.
فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار ولا اكتساب، ككمال الخلقة وجمال الصورة وقوة العقل وصحة الفهم وفصاحة اللسان وقوة الحواس والأعضاء واعتدال الحركات وشرف النسب وعزة العشيرة وكرم الأرض. ويلحق بذلك ما تدعو ضرورة الحياة إليه من غذائه ونومه وملبسه وسكنه ومنكحه وماله وجاهه. وقد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى ومعونة البدن على طريقها وكانت على قوانين الشريعة.
وأما الخصال المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية والآداب الشرعية من الدين والعلم والحلم والصبر والشكر والعدل والزهد والتواضع والعفو والعفة والجود والشجاعة والحياء والمروءة والصمت والتؤدة والوقار والرحمة وحسن الأدب والمعاشرة، ونحوها من الخصال التي جماعها حسن الخلق. وتكون هذه الأخلاق دنيوية إذا لم يرد بها وجه الله والدار الآخرة، ولكنها كلها محاسن وفضائل باتفاق أصحاب العقول السليمة.
وإذا نظرت في جميع هذه الخصال بنوعيها وجدت نبينا محمدا ﷺ حائزا لجميعها محيطا بشتات محاسنها من غير خلاف بين نقلة الأخبار بل قد بلغ مبلغ القطع من طرق التواتر الذي لا يمكن القدح فيه. كما نقلت أيضا معجزاته ﷺ النقل المتواتر الذي هو الطريق الذي علمت به نبوة موسى وعيسى ومعجزاتهما، وما كان من أخبارهما.
فالذي عند المسلمين من العلم بنبيهم ﷺ وشمائله ومعجزاته وسيرته قد حصل عندهم من طريق القطع، فلا يمكن المعارض أن يقدح في ذلك إلا بالقدح في جميع ما جاء عن الأنبياء عليهم السلام.
وأما ما فضله الله به من الفضائل التي لا تنال بالاكتساب ولا تحصل إلا بتخصص منزل الكتاب من فضيلة ختم الأنبياء ومن الخلة والمحبة والاصطفاء والإسراء والرؤية والقرب والدنو والوحي والشفاعة والوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود والبراق والمعراج والبعث إلى الأحمر والأسود والصلاة بالأنبياء والشهادة بين الأنبياء والأمم وسيادة ولد آدم ولواء الحمد والبشارة والنذارة والمكانة عند ذي العرش والأمانة والهداية وكونه رحمة للعالمين وإعطاء الرضى والسؤال والكوثر وسماع القول وإتمام النعمة والعفو عما تقدم وتأخر وشرح الصدر ووضع الوزر والتأييد بالملائكة وإيتاء الكتاب والحكمة والسبع المثاني والقرآن العظيم وتزكية الأمة والدعاء إلى الله وصلاة الله والملائكة والحكم بين الناس بما أراده الله ووضع الإصر والأغلال عنهم، إلى ما لا يحويه كتاب ولا يحيط به إلا مانحه ذلك ومفضله به -لا إله غيره- إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة ودرجات القدس ومراتب السعادة والحسنى والزيادة؛ فكل ذلك إنما علمناه من طريقه، حيث بلغه عن الله مخبرا ومؤديا لأمانته لا مفتخرا.
وطريق إثباته أدلة الرسالة وأعلام النبوة، إذ هو من علم الغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي على ألسنة الرسل.
ولولا خوف الإطالة لذكرنا من تفاصيل ما أجملناه من أخلاقه الزاكية ما تنشرح به صدور أهل الإيمان وترغم به أنوف عبدة الصلبان.
ولكنا قد بنينا هذا الكتاب على الاختصار وقصدنا به تحصيل المراد من غير إكثار، فمن أراد التفصيل لهذه الخصال السنية فعليه بمظانها من كتب الشمائل والسير النبوية.
ولكنا نذكر من ذلك ما يختص وما تدعو ضرورة الحياة إليه مما يقال إنه من باب اللذات البدنية، ليتبين أنه ﷺ في هذا الباب -كما هو في غيره- على وفق الكمال البشري المرضي من جميع الوجوه.
فاعلم أن الذي تدعو ضرورة الحياة إليه مما أشرنا إليه قبل ثلاثة أقسام: قسم الفضل في قلته وقسم الفضل في كثرته وقسم تختلف الأحوال فيه.
فأما ما المدح والكمال في قلته اتفاقا عادة وشريعة كالغذاء والنوم، فلم تزل العلماء والحكماء والعرب تتمادح بقلتهما وتذم بكثرتهما، لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النهم والحرص والشره وغلبة الشهوة وسبب لمضار في الدنيا والدين، وقلته دليل على القناعة وملك النفس؛ وقمع الشهوة سبب لحفظ الصحة وصفاء الخاطر وحدة الذهن. كما أن كثرة النوم دليل على الضعف وقلة الذكاء والفطنة وسبب للكسل والعجز وتضييع العمر في غير نفع وقساوة القلب وغفلته وموته.
وكان نبينا ﷺ قد أخذ من هذين الفنين بالأقل. هذا ما لا يُدفع من سيرته. وهو الذي أمر به وحض عليه، وعلى ذلك كان أصحابه رضي الله عنهم والصدر الأول من أمته.
ولهذا قال العلماء: إن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول، وقد وصف النبي ﷺ الخلف بعد القرون الفاضلة من أمته بأنه يظهر فيهم السمن.
وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان فاعلا لا محالة: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه». وقال الترمذي: "حديث حسن".
قال القرطبي: "لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة".
وروى الطبراني عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في الآخرة».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام تباعا حتى قبض». رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء، إلا أن نؤتى باللحيم» أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي رواية: «ما شبع آل محمد من خبز البر ثلاثا حتى مضى لسبيله» وفي أخرى: «ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر».
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: «ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، قال: لقد رأيت رسول الله ﷺ يظل اليوم يلتوي من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء بطنه». أخرجه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: «مشيت إلى رسول الله ﷺ بخبز شعير وإهالة سنخة. ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر ولا صاع حب، وإن عنده يومئذ لتسع نسوة» أخرجه البخاري والنسائي والترمذي.
وفي الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت: «إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقدت في أبيات رسول الله ﷺ نار. قال: فقلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء».
وقال أنس خادمه: «ما أعلم أن رسول الله ﷺ رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله ولا رأى شاة سميطا بعينه حتى لحق بالله». رواه البخاري.
وعن عائشة أم المؤمنين قالت: «توفي رسول الله ﷺ وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني» رواه البخاري ومسلم.
ولهما أيضا عنها قالت: «توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، وهي تدل دلالة واضحة على تقلله ﷺ من تناول الطعام سوى ما تدعو إليه ضرورة البشرية.
وكذلك نومه ﷺ كان قليلا، شهدت بذلك الآثار الصحيحة. وكان ﷺ ينام أول الليل ويستيقظ في أول النصف الثاني فيقوم ويتوضأ. لم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه تشريعا للأمة، ليقتدوا به ولا يكلفوا من العمل ما لا يطيقونه أو يشق عليهم مشقة تحملهم على السآمة من العمل.
وكان يحب من العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل، وعلى ذلك حثّ أمته. وكان ينهاهم عن التشديد على أنفسهم.
وفي السنن والمساند عنه ﷺ أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» وكان يقول: «يسروا ولا تعسروا» وعنه ﷺ أنه قال: «إنكم أمة أريد بكم اليسر» أخرجه الإمام أحمد. وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
وقد أنكر النبي ﷺ على من عزم على التبتل والاختصاء وقيام الليل وصيام النهار وقراءة القرآن كل ليلة، كعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون والمقداد وغيرهم. وقال: «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وأما لباسه ﷺ فهو كما قال القاضي عياض: "كان قد اقتصر منه ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه. فكان يلبس ما وجد، فيلبس في غالب أحواله الشملة والكساء والأردية والإزار، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضر. إذ المباهاة في الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، بل هي من سمات النساء. والمحمود منها نقاوة الثوب، والمتوسط في جنسه، وكون لبس مثله غير مسقط لمروءة جنسه". انتهى. [2]
وكان ﷺ ينام على الفراش تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة.
وفي الصحيحين: «أنه كان فراشه أدما حشوه ليف».
وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله ﷺ في تلك المشربة، فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء. فقال له رسول الله ﷺ: «ما يبكيك؟ » فقال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه. فقال: «أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا».
فكان ﷺ أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئا لغد.
وخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله ﷺ وقد نام على رمال حصير وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء تجعله بينك وبين الحصير يقيك منه؟ فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».
ولما بنى ﷺ مسجده ومساكن أزواجه، قالوا: ألا تسقفه؟ فقال: «عريشا كعريش موسى خشبات، تمام الأمر أعجل من ذلك».
فكان حاله ﷺ في مأكله ومشربه ولباسه ومساكنه حال مسافر يقنع في مدة سفره بمثل زاد الراكب من الدنيا ولا يلتفت إلى فضولها.
وحسبك من تقلله منها وإعراضه عن زهرتها وقد سيقت إليه بحذافيرها وترادفت عليه فتوحها أن «توفي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله» كما تقدم الحديث بذلك، وتقدم أيضا قول عائشة رضي الله عنها: «لقد توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي». وقالت أيضا: «ما ترك رسول الله ﷺ دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا».
القسم الثاني: ما اتفق على التمدح بكثرته والفخر بوفوره كالنكاح والجاه.
أما النكاح فمتفق عليه شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال وصحة الذكورية. ولم يزل التفاخر به عادة معروفة والتمادح به سيرة ماضية.
وأما في الشرع فسنة مأثورة من سنن المرسلين، معلومة من سيرتهم عند المتقدمين والمتأخرين من الموافقين والمخالفين.
وله مصالح عديدة لأجلها شرعه الله تعالى، ومقاصده الأصلية ثلاثة:
أحدها: حفظ النسل ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل المدة التي قدر الله تعالى بروزها إلى هذا العالم. وهذه مصلحة عظيمة دالة على فضيلة النكاح، والشرائع جاءت بتحصيل المصالح.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتقانه واحتباسه بجملة البدن، وهذا فيه من حفظ الصحة ما تقتضي الحكمة مشروعيته واستحسانه من أجله.
الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة.
وهذه هي الفائدة التي في الجنة؛ إذ لا تناسل هناك يستفرغه الإنزال.
لكن النصارى ينكرون النعيم الجسماني في الجنة، وما أخبرت به الأنبياء من المآكل والمشارب والملابس والمناكح. فحقيقة قولهم إنكار المعاد الذي أخبرت به الرسل، فقد كفروا بالله وبرسله وباليوم الآخر.
والمقصود التنبيه على فضيلة النكاح. وكان فضلاء الأطباء يرون أن الجماع أحد أسباب حفظ الصحة، وقد قالوا: إن المني إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة، منها الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك، وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا، فإنه إذا طال احتباسه فسد واستحال إلى كيفية رديئة توجب أمراضا رديئة، ولذلك تدفعه الطبيعة إذا كثر عندها من غير جماع.
وقال محمد بن زكريا: "من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعصابه واستدت مجاريها وتقلص ذكره"، قال: "ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف، فبردت أبدانهم وعسرت حركاتهم ووقعت عليهم كآبة بلا سبب وقلت شهواتهم وهضمهم" انتهى.
ومن منافعه غض البصر وكف النفس والقدرة على العفة عن الحرام وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في دنياه وآخرته وينفع المرأة، فمشروعيته للأنبياء ومحبتهم له يحمل المقتدي بهم على تحصيله، فيترتب عليه ما ذكرنا من المصالح وغيرها.
فقد ظهر بما قررناه أن النكاح فضيلة يرغب فيها الأفاضل، ولا يقدح في فضله إلا غبي جاهل، ولذلك كان رسول الله ﷺ يتعاهده ويحبه، ويقول: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وحث على التزويج أمته فقال: «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم».
وأنكر على النفر من أصحابه الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فقال رسول الله ﷺ: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» أخرجه البخاري ومسلم.
وقال لعثمان بن مظعون: «أرغبة عن سنتي؟ » قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، فقال النبي ﷺ: «فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر وصل ونم». أخرجه أبو داود.
فحب النساء والنكاح من كمال الإنسان، ولو كان نقيصة أو قدحا في الفضيلة لصان الله عنه أنبياءه ورسله الذين اصطفاهم على العالمين.
هذا خليل الله إبراهيم -إمام الحنفاء- كانت عنده سارة أجمل نساء العالمين، وأحب هاجر وتسرّى بها.
وهذا داود عليه السلام على زهده وأكله من عمل يده كان عنده تسع وتسعون امرأة، فأحب تلك المرأة وتزوج بها فكمل المائة.
وهذا سليمان ابنه عليه السلام كان يطوف في الليلة على تسعين امرأة.
قال ابن عباس: "كان في ظهر سليمان مائة مائة رجل، وكان له ثلاث مائة امرأة وثلاث مائة سرية".
وحكى النقاش وغيره: "سبع مائة امرأة وثلاث مائة سرية". ذكره القاضي.
ولكون النكاح بهذه المثابة من الفضيلة قال بعض العلماء: إن ثناء الله على يحيى عليه السلام بأنه حصور ليس كما قال بعضهم: إنه كان هيوبا لا ذكر معه.
قال عياض: "أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا تليق بالأنبياء. وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها، كأنه حصر عنها. وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليس له شهوة في النساء". انتهى.
وأما ما أشار إليه النصراني من ترك عيسى عليه السلام للتزويج فليس فيه دلالة على أن ذلك أفضل، لأنا قد بينا بالأدلة الواضحة شرعا وعقلا أفضلية التزويج وأن عدم القدرة على النكاح ليس فضيلة، فالفضل في كونها موجودة.
ثم يختلف حال الشخص، فمن يتسع وقته للقيام بحقوق الزوجية فقمع نفسه إما بالمجاهدة كعيسى عليه السلام أو بكفاية من الله تعالى كيحيى بن زكريا عليهما السلام فذلك فضيلة من هذا الوجه، لكون التزويج شاغلا في كثير من الأوقات حاطا إلى الدنيا أو معرضا لتضييع الحقوق الواجبة فيه.
ثم هو في حق من قدر عليه وقام بالواجب فيه ولم يشغله عن ربه درجة عليا، وهي درجة نبينا محمد ﷺ الذي لم تشغله كثرة النساء عن عبادة ربه عز وجل، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن وقيامه بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن ونقلهن للأمة محاسنه الباطنة، بل صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».
فدل على أن حبه للنساء والطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره، واستعماله لذلك ليس لدنياه بل لآخرته، للفوائد التي ذكرناها في التزويج وللقاء الملائكة في الطيب، ولغير ذلك. وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدة جبروت مولاه ومناجاته، ولذلك ميز بين الحبين وفصل بين الحالتين، فقال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». فقد ساوى يحيى وعيسى في كفايته فتنتهن، وزاد فضيلة في القيام بهن.
وأما الجاه فهو كما قال القاضي أبو الفضل: "محمود عند العقلاء عادة، وبقدر جاهه تكون عظمته في القلوب، لكن آفاته كثيرة، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الآخرة، فلذلك ذمه من ذمه ومدح ضده، وورد في الشرع مدح الخمول وذم العلو في الأرض. وكان ﷺ قد رزق من الحشمة والمكانة في القلوب والعظمة قبل النبوة عند أهل الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته، وأخباره في ذلك معروفة. وقد كان يبهت، ويفرق لرؤيته من لم يره، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق، فقال: «يا مسكينة، عليك السكينة». وفي حديث ابن مسعود: أن رجلا قام بين يديه فأرعد، فقال ﷺ: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد». وأما عظيم قدره بالنبوة وشريف منزلته بالرسالة وأنافة رتبته بالاصطفاء والكرامة في الدنيا، فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم". انتهى. [3]
وكان ﷺ، على ما أعطاه الله من الجاه العريض ونفوذ الكلمة وعلو المنصب ورفعة الرتبة، في غاية التواضع لربه تعالى. وكان ينهى أصحابه أن يقوموا له، ويقول: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا» وقال ﷺ: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس.
وعن عائشة والحسن وأبي سعيد وغيرهم في صفة النبي ﷺ وبعضهم يزيد على بعض: «كان في بيته في مهنة أهله: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه، ويقم البيت، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق».
وستأتي الإشارة إلى حمله واحتماله، وعفوه بعد القدرة فيما بعد إن شاء الله.
القسم الثالث: وهو ما تختلف الحال في التمدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله، ككثرة المال، فمتى كان صاحبه منفقا له في مهماته، مشتريا به المعالي والثناء الحسن والمنزلة في القلوب، كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البر وقصد به وجه الله والدار الآخرة كان فضيلة عند الكل. ومتى كان صاحبه ممسكا له عاد كثره كالعدم، وكان منقصة في صاحبه، يشبه خازن المال ولا مال له.
فانظر سيرة نبينا ﷺ في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد وأحلت له الغنائم وفتح عليه ﷺ بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجبي إليه من جزيتها وأخماسها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه وأغنى به غيره وقوى به المسلمين.
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين».
وأتته دنانير فقسمها، وبقيت منها ستة، فدفعها لبعض نسوته، فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال: «الآن استرحت».
وبالجملة، فتفاصيل أخلاقه الكريمة وأوصافه العظيمة تقصر دونها الأفهام وتكل عن تدوينها الأقلام، وإنما أثبتنا في هذا الفصل ما اقتضاه الحال على سبيل الاختصار في المقال جوابا عن قول المعترض: "وأكبر علاماتك اطراح اللذات البدنية" بما فيه مقنع لذوي الفطن والعقول الزكية.
فصل
وأما قول النصراني: "إن يشوع هو على ما يعترف به المسلمون المسيح الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، ويسميه محمد بكلمة الله وروحه، ويقول: إنه لم يكن له أب من البشر، وأما محمد فهو مولود على الطريق المعتاد في الطبيعة".
فالجواب عنه -ومن الله التأييد- أن نقول:
أما الثناء على عيسى عليه السلام وتنزيهه وتنزيه أمه -عليهما السلام- عن فرية المفترين وكذب الكاذبين فقد جاء بذلك نبينا ﷺ، وذلك تصديق نص الإنجيل الذي قدمنا ذكره في وصف الفارقليط، حيث قال: "وهو يمجدني". فلم يمجده تمجيده الحق إلا محمد ﷺ، فإنه جاء بتنزيه أخيه المسيح عن فرية المكذبين له وفرية المغالين فيه، وأتى فيه بالقول الحق والمذهب الوسط بين غلو النصارى وإطرائهم وبين تكذيب اليهود وجفائهم.
قال الله تعالى في كتابه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».
فهذا ما يعترف به المسلمون من أمر المسيح عليه السلام.
وأما كون ذلك يقتضي تفضيله على خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم فكلا ولما. ولكنه آية من آيات الله الدالة على قدرته على ما يشاء، حيث أوجده من أم بلا أب، بل خلقه بكلمة "كن" كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
فالله تعالى خلق البشر على أربعة أنواع من الخلق: فخلق آدم عليه السلام من تراب من غير أب ولا أم، وخلق حواء من أب لا أم، حيث خلقها من ضلع آدم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، وخلق سائر البشر من بين الأم والأب، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وهذا التنويع في الخلق دال على قدرة الخلاق وكمال ربوبيته، وأنه ما شاء كان، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، وألا يجعل له ند من خلقه، تعالى الله عما يشركون.
وليس في خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب ما يقتضي تفضيله على إبراهيم -إمام الحنفاء وخليل الرحمن- ولا على موسى -كليم الله ونجيه- فضلا عن أن يدل على تفضيله على خاتم الأنبياء وسيد الخلق في الدنيا والآخرة.
وكما أن تخصيص آدم من تراب لا يقتضي تفضيله على غيره، فكذلك عيسى عليه السلام.
وأيضا فخلق حواء عليها السلام من غير أم لا يقتضي تفضيلها على مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد وأمها خديجة، وعائشة وآسية امرأة فرعون، فقد جاءت الأحاديث بفضلهن على سائر النساء.
فعرفت أنه ليس في ولادة محمد ﷺ على الطريق المعتاد في الطبيعة ما يحط رتبته أو يقدح في فضيلته أو يقتضي تفضيل مخلوق عليه، فإن الكل اشتركوا في أن الله تعالى أوجدهم من العدم، وخلقهم بعد أن لم يكونوا على ما اقتضته حكمته، ثم اختص من شاء منهم بما شاء وفضل بعضهم على بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات على وفق ما قضاه في الأزل وجرى به قلم التقدير واقتضاه اختيار الرب تعالى اصطفاءه. كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.
وأيضا فعيسى عليه السلام حملت به أمه وتقلب في رحمها ووضعته على الطريق المعتاد في حمل النساء وولادتهن، فهل كان ذلك نقصا في حقه وحطا لرتبته؟ وإذا لم يكن كذلك تحقق أن ميلاد محمد ﷺ بين أبوين لا نقص فيه، إذ خصائص البشرية من خلقته من ضعف.
ثم حاجته إلى الطعام والشراب أمر لا ينفك منه بشر.
وهذا برهان قاطع على بطلان ربوبية المسيح وأمه، كما نبه تعالى على ذلك في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
فليس من تعظيم الأنبياء الغلو فيهم ومجاوزة الحد برفعهم عن منزلة العبودية إلى منزلة الألوهية والربوبية، كما هو مذهب النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، بل غلوا في أتباعه وادعوا فيهم العصمة، اتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا أو صدقا أو كذبا، ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وفسر النبي ﷺ لعدي بن حاتم عبادتهم إياهم بأنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه.
وقال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الآية.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
ومعنى الآية: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا ابن مريم حتى تبالغوا في تعظيمه، حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
وقد حذر النبي ﷺ أمته من الغلو وأن يصنعوا مثل صنيعهم. ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله». ولفظ البخاري: «فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله».
وقال الإمام أحمد: ثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس: أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسوله الله ﷺ: «يا أيها الناس، عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل».
فصل
وأما ما وصف الله به المسيح في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فمعناه: إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه قال له: كن فيكون، فكان رسولا من رسله.
ومعنى قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرئيل عليه السلام، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت الفرج، فكانت بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله عز وجل.
ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال الله بها: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبرئيل.
قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} هو قوله: "كن" فكان.
وعن بعض السلف قال: "ليست الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى".
قال ابن كثير: "وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: علمها بها، كما زعمه في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}، أي يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبرئيل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى عليه السلام " انتهى. [4]
فإن قيل: الكون بكلمة "كن" ليس مختصا بعيسى، بل هو عام في كل مخلوق، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}؛ أجيب بأنه لما كان السبب المتعارف مفقودا في حق عيسى -وهو الأب- كان اتصاف حدوثه بالكلمة أكمل وأتم، فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة. كما أن من ظهر عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة: إنه نفس الجود ومحض الكرم وصريح الإقبال، فكذا هاهنا.
وأما "من": في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} فليست للتبعيض كما تقوله النصارى، بل لابتداء الغاية، كما في قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، أي من خلقه ومن عنده، فهو مخلوق من روح مخلوق. وأضيفت الروح إلى الله عز وجل على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ}، وفي قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}. وكما في الحديث الصحيح: «وأدخل على ربي في داره»، أضافها إليه إضافة تشريف لها. وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد، قاله ابن كثير. [5]
وقال غيره: قد جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون عن نطفة الأب، وإنما تكون عن نفخة جبرئيل، لا جرم وصف بأنه روح. وقيل: وصف بأنه روح لأنه كان سببا لإحياء الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح، كما قال تعالى في صفة القرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}. وقيل: روح منه، أي رحمة منه، كما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}، أي رحمة منه، وفي الحديث عن النبي ﷺ: «إنما أنا رحمة مهداة». فلما كان عيسى عليه السلام رحمة من الله على الخلق من حيث إنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سماه روحا منه.
قال ابن كثير: والأول أظهر، يعني أنه مخلوق من روح مخلوق، وأن الإضافة للتشريف، وتقدمت شواهده.
فهذا مذهب الحق واعتقاد المسلمين في وصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه.
وأما مذهب النصارى المبدلين فقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر.
فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقال تعالى في خطاب أهل الكتاب: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}.
وقال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} في آيات معلومة في هذا المعنى.
قال شيخ الإسلام أبو العباس:
واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عن النصارى هي قول الأصناف الثلاثة: اليعقوبية -وهم شرهم- وهم السودان من الحبشة والقبط. ثم الملكية وهم أهل الشمال من الشام والروم. ثم النسطورية وهم نشؤوا في دولة الإسلام في زمن المأمون وهم قليل.
فاليعقوبية تزعم أن اللاهوت والناسوت اتحدا، وامتزجا كامتزاج الماء واللبن، فهما جوهر واحد، وأقنوم واحد، وطبيعة واحدة، فصار عين الناسوت عين اللاهوت، وأن المصلوب هو عين اللاهوت.
والملكية تزعم أنهما صارا جوهرا واحدا، له أقنومان، وقيل: أقنوم واحد، له جوهران.
والنسطورية يقولون: هما جوهران أقنومان، وإنما اتحدا في المشيئة، وهذا قول من يقول بالاتحاد.
وأما القول بالحلول فمن المتكلمين كأبي المعالي من يذكر الخلاف فيه عن فرقهم الثلاث.
وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعا يقولون بالاتحاد والحلول، لكن الاتحاد بالمسيح، والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد، له ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، وذكروا اختلافا بينهم. ثم ذكروا اليعقوبية والنسطورية والملكية.
قال الناقلون عنهم: واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه، وقالت طائفة منهم: إنما حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة. وزعمت طائفة أن اللاهوت مع الناسوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى فيه شيء إلا أثر فيه.
ثم ذكر هؤلاء عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون، فقالوا: قد اختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا:
فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وهذا قول الأكثرين منهم.
وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج.
وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد.
وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا فامتزجا كاختلاط الماء بالخمر.
وقال قوم منهم: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة.
وقالت الملكية: الاتحاد هو الاثنين صارا واحدا، وصارت الكثرة قلة.
فزعم بعض الناس أن الذين قالوا: هو المسيح ابن مريم هم الذين قالوا: اتحدا حتى صارا شيئا واحدا، والذين قالوا: هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون: هو وولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا: بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب قالوا: ثالث ثلاثة.
وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء، فإن الله أخبر أن النصارى يقولون: إنه ثالث ثلاثة، وأنهم يقولون: إنه الله، وأنهم يقولون: إنه ابن الله. وقال لهم: لا تقولوا ثلاثة. مع إخباره أن النصارى افترقوا وألقى بينهم العداوة والبغضاء بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقد ذكر هذا إخبارا بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك.
وقد أخبر سبحانه عقب قولهم: {ثالث ثلاثة} بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوا له ولدا، فقال: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}.
وقد ذكر أيضا ما يقتضي أن قولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم من الشرك، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم لا يخصونه بالمسيح، بل يثبتون أن له موجدا وهو الأب، وليس هو الكلمة التي في المسيح، فعبادتهم إياه معه إشراك، وذلك مضموم إلى قولهم: إنه ولده.
وقد نزه الله تعالى نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، كما قال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.
وأيضا فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر فإن الذين يقولون: إنهما اتحدوا وصارا شيئا واحدا يقولون أيضا: إنما اتحد به الكلمة التي هي الابن. والذين يقولون: هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون: إن المسيح إله وأنه الله، والذين يقولون: إنه حل فيه يقولون: حلت فيه الكلمة التي هي الابن وهي الله أيضا بوجه آخر كما سنذكره.
وأيضا فقولهم: ثالث ثلاثة ليس المراد به الله، واللاهوت الذي في المسيح، وجسد المسيح، فإن أحدا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين، ويفصل الناسوت عن اللاهوت، بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت.
وأيضا فقوله تعالى عن النصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}، و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} قد قيل: إن المراد به قول النصارى: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له ثلاثة أقانيم، أي ثلاث صفات وخواص.
وقولهم: إنه هو الله، وابن الله، هو الاتحاد والحلول.
فعلى هذا تكون تلك الآية على قولهم بتثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد.
فالقرآن على هذا القول رد في كل آية بعض قولهم: كما أنه على القول رد في كل آية على صنف منهم.
وقيل: إن المراد بذلك جعلهم المسيح إلها وأمه إلها مع الله كما ذكر الله ذلك في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}
فقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} عقب قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ومريم إلهين.
وهذا واضح على قول من حكى عن النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم.
وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله في أقوالهم تعم جميع طوائفهم، وتعم أيضا قولهم بتثليث الأقانيم والاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية بصنف، كما قال من يزعم ذلك. ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو سبحانه ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات، وكل صفة تستلزم الأخرى، إنهم يقولون: المسيح هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذا بالحلول.
ويبين بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة غير الأقانيم، وذلك يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاثة أقانيم. وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصا وتارة صفات وخواص، فيقولون: الوجود الذي هو الأب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم. لكن يقولون أيضا: إن الوجود الذي هو الأب جوهر، والكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس أيضا جوهر، وأن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس، وهذا مما لا نزاع بينهم فيه. [6]
قلت: وبيان هذا الاعتقاد بعبارة أخرى من كرم بعض المحققين أن النصارى اعتقدوا أن معبودهم جوهر - أي أصل للأقانيم- وذلك أن له عندهم ثلاثة أقانيم: أقنوم الوجود، ويعبرون عنه بالأب. وأقنوم العلم، ويعبرون عنه بالابن والكلمة. وأقنوم الحياة، ويعبرون عنه بالروح القدس.
ثم قالوا: مجموع الثلاثة إله واحد.
والأقنوم كلمة يونانية، والمراد بها في تلك اللغة أصل الشيء، ويعني بها النصارى: الأصل الذي كانت عليه حقيقة إلههم.
وقد طولبوا في دليل الحصر في الثلاثة، فقالوا: لأن الخلق والإبداع لا يتأتى إلا بها، فقيل لهم: والإرادة والقدرة لا يتأتى الخلق إلا بهما، فيلزم الحكم بأن الأقانيم خمسة، وهو باطل، فكذا التثليث. والله أعلم.
قال أبو العباس: ومن هاهنا قالوا كلهم: المسيح هو الله، وقالوا كلهم: هو ابن الله، لأنه من حيث إن الأب والابن وروح القدس إله واحد، وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث إن الأب جوهر والابن جوهر وروح القدس جوهر، والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي هو الكلمة كان المسيح هو ابن الله عندهم.
ولا ريب أن هذين القولين وإن كان كل منهما متضمنا لكفرهم -كما ذكره الله- فإنهما متناقضان، إذ كونه هو ينافي كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول عند كل من تصوره، فإن الأقانيم إذا كانت صفات أو خواص، وقدر أن الموصوف له بكل صفة اسم كما مثلوه بقولهم: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، لكن لا يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه يفارق بعضا، فلا يتصور مفارقة بعضها بعضا، ولا مفارقة شيء منها للموصوف، حتى يقال: المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك أيضا، بل هم متفقون على أن المتحد به جوهر قائم لنفسه: فإن لم يكن جوهرا إلا جوهر الأب كان جوهر الأب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره فهما جوهران منفصلان، وهم لا يقولون بذلك.
والموصوف أيضا لا يفارق صفاته كما لا تفارقه فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لا زمان للذات لا يتصور أن تفارقهما الذات، ولا أن يفارقها واحد منهما، ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، وهو قولهم: الواحد ثلاثة.
وأما قول بعضهم: "أحديّ الذات ثلاثي الصفات" فهم لا يكتفون بذلك كما تقدم، بل يقولون: الثلاثة جواهر، والمتحد بالمسيح واحد منها دون الآخر.
وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على وجه يعقل فقد قال الباطل كقول المتكايسين منهم: هذا كما تقول: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات. فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول بأن زيدا الطبيب فعل كذا أو اتحد بكذا، أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيد الطبيب في هذا المثال فهو الموصوف به زيد الحاسب الكاتب. [7]
قلت: ونظير هذا المثل ما قاله بعضهم: إنك إذا فرضت مثلثا متساوي الأضلاع، كانت الأضلاع ثلاثة والمثلث واحد، وكان للمثلث الواحد ثلاثة أضلاع. وهذا من نمط ما قبله في الفساد، وذلك أن كل واحد من الأضلاع على انفراده ليس هو المثلث المفروض، بل إن اعتبرت الأضلاع الثلاثة شيئا واحدا انتفى التثليث، لأن الواحد لا يكون ثلاثة، وإن اعتبر أحد الأضلاع على انفراد انتفت الوحدة، فالجمع بينهما جمع بين النقيضين. والله أعلم.
قال: والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم: إن المتحد هو الواحد، فيجعلون المسيح هو الله، لأنهم يقولون الموصوف اتحد به، ويجعلون المسيح هو ابن الله، لأنهم يقولون: إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الأب الذي هو الوجود، ودون روح القدس، وهما أيضا جوهران. فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو من أفسد شيء في بداية العقول وكل منهما كفر، كما كفرهم الله. وأما قولهم: "ثالث ثلاثة " فإنهم مع ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد بالمسيح. فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولا تاما. انتهى. [8]
فصل
وقد أقام الله تعالى أنواع الأدلة والبراهين على بطلان دعوى هؤلاء الجهلة الضلال واعتقادهم في المسيح، وبين ذلك في كتابه العزيز في مواضع كثيرة بطرق عقلية، وحجج واضحة جلية، فنذكر منها أنموذجا يدل على ما وراءه.
فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
فاشتملت هاتان الآيتان على الرد عليهم دعواهم الولد له، ونزه نفسه عنه، فقال: سُبْحَانَهُ أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك، ثم ذكر عدة حجج على استحالة اتخاذه الولد:
إحداها: كون ما في السماوات والأرض ملكا له، وهذا ينافي أن يكون فيهما ولد له، لأن الولد بعض الوالد وشريكه، فلا يكون مخلوقا له مملوكا، لأن المملوك مربوب عبد من العبيد، والابن نظير الأب، فكيف يكون عبده ومخلوقه ومملوكه بعضه ونظيره؟ فهذا من أبطل الباطل.
وأكد مضمون هذه الحجة بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، فهذا تقرير لعبوديتهم له، وأنهم مملوكين مربوبون، ليس فيهم شريك ولا نظير ولا ولد، فإثبات الولد له من أعظم الإشراك به. فإن المشرك به جعل له شريكا من مخلوقاته مع اعترافه بأنه مملوكه، كما كان المشركون من العرب يقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". فكانوا يجعلون ما أشركوا به مملوكا له عبدا مخلوقا. والنصارى جعلوا له شريكا هو نظير وجزء من أجزائه، كما جعل بعض المشركين الملائكة بناته، فقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، فإذا كان له ما في السماوات وما في الأرض وهم عبيده قانتون مملوكون استحال أن يكون له منهم شريكا. وكل من أقر بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يلزمه أن يقر بالتوحيد ولا بد.
الحجة الثانية: قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وهذه من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه، ولهذا قال في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}
أي: من أين يكون لبديع السماوات والأرض ولد؟ ووجه هذه الحجة أن من اخترع السماوات والأرض مع عظمهما وآياتهما وفطرهما وابتداعهما، فهو قادر على اختراع ما هو دونهما ولا نسبة له إليهما البتة. فكيف يخرجون هذا الشخص عن قدرته وإبداعه، ويجعلونه نظيرا وشريكا وجزءا من الله بديع العالم العلوي والسفلي فاطره ومخترعه وباريه، فكيف يعجزه أن يوجد هذا الشخص من غير أب حتى يقولوا: إنه ولده؟ فمن نسب الولد لله فما عرف الرب ولا آمن به ولا عبده. فظهر أن هذه الحجة من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه. وبهذا الوجه قرر الاستدلال بهذه الحجة غير واحد من المفسرين.
قال ابن القيم:
وإن شئت تقرير الاستدلال بوجه آخر، وهو أن يقال: إذا كان نسبة السماوات والأرض وما فيهما إليه إنما هي بالاختراع والخلق والإبداع، أنشأ ذلك وأبدعه من العدم إلى الوجود؛ فكيف يصح نسبة شيء من ذلك إليه بالبنوة، وقدرته على اختراع العالم وما فيه لم يزل، ولم يحتج فيه إلى معاون ولا صاحب ولا شريك؟
وإن شئت أن تقريرها بوجه آخر، فتقول: النسبة إليه بالبنوة مستلزمة حاجته وفقره إلى محل الولادة، وذلك ينافي غناه وإفراده بإبداع السماوات والأرض. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. فكمال قدرته وكمال غناه وكمال ربوبيته يحيل نسبة الولد إليه، ونسبته إليه يقدح في كمال ربوبيته، وكمال غناه، وكمال قدرته.
ولهذا كان نسبة الولد إليه مسبة له -تبارك وتعالى- كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ، قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا». أخرجه في الصحيحين، واللفظ للبخاري.
وقال عمر بن الخطاب في النصارى: "أذلوهم ولا تظلموهم؛ فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياه أحد من البشر".
وقال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. وأخبر تعالى أن السماوات كادت تنفطر من قولهم، وتنشق الأرض منه، وتخر الجبال هدا، وما ذاك إلا لتضمنه شتم الرب تعالى والتنقص به، ونسبة ما يمنع كمال ربوبيته وقدرته وغناه إليه.
الحجة الثالثة: قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وتفسير هذه الحجة أن من كانت قدرته كافية في الإيجاد بمجرد أمره وقوله: "كن" فأي حاجة به إلى وهو لا يتكثر به من قلة، ولا يتعزز به من ذلة، ولا يستعين به من عجز، وإنما يحتاج إلى الولد من لا يخلق، ولا إذا أراد شيئا يقول له: كن فيكون، وهو المخلوق العاجز المحتاج الذي لا يقدر على تكوين ما أراد. [9]
ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ففي هذه الآية أربع حجج تدل على استحالة نسبة الولد إليه، ومنافاتها كماله المقدس.
الحجة الأولى: ما تضمنه قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وتقدم تقريرها قريبا.
الثانية: قوله {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}، والمعنى أنه يلزم من نسبة الولد إليه نسبة الصاحبة إليه أيضا، وهو محال؛ فنسبة الولد كذلك. ووجه التلازم ظاهر؛ لأن الولد إنما يتولد من أصلين: فاعل ومحل قابل يتصلان اتصالا خاصا، فينفصل عن أحدهما جزء في الآخر يكون منه الولد. والله تعالى ليس له صاحبة، فكيف يكون له ولد؟
قال ابن القيم: ولذلك لما فهم عوام النصارى أن الابن يستلزم الصاحبة لم يستنكفوا من دعوى كون مريم إلها، وأنها والدة الإله عيسى، فيقول عوامهم: يا والدة الإله، اغفري لي، ويصرح بعضهم بأنها زوجة الرب. ولا ريب أن القول بالإيلاد يستلزم ذلك [أو] إثبات إيلاد لا يعقل ولا يتوهم، محال. فخواص النصارى في حيرة وضلال، وعوامهم لا يستنكفون أن يقولوا بالزوجة والإيلاد، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. والقوم في هذا المذهب الخبيث أضل خلق الله، فهم كما وصفهم الله بأنهم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. [10]
وقال غيره: إن النصارى يقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة، ومريم ولد منها الناسوت، فاتحد الناسوت باللاهوت، فكان المسيح.
فالمسيح عندهم إله تام وإنسان تام، فلاهوته من الله وناسوته من مريم، فهو من أصلين لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه؛ فلم لا تكون أمه زوجة أبيه؟ وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة؟ وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت فلأي شيء لا تجعل صاحبة وزوجة للاهوت! تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، وتقرير الحجة أنه قد ثبت بالبراهين القاطعة أنه تعالى خلق كل شيء، فنسبة الولد إليه تنافي عموم خلقه، فإنه لو كان له ولد لم يكن مخلوقا له، بل جزءا منه. وهذا ينافي كونه خالق كل شيء. وبهذا يعلم أن الفلاسفة الذين قالوا بتولد العقول والنفوس عنه بواسطة أو بغير واسطة شر من النصارى. وأن من زعم أن العالم قديم فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله. والنصارى لم يصل كفرهم إلى هذا الحد، قاله ابن القيم. [11]
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وتقرير الدلالة أنه تعالى لا يعلم له ولدا، فيستحيل نسبته إليه، فإنه لو كان له ولد لعلمه، لأنه بكل شيء عليم، ونظير هذا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. فهذا نفي لما ادعوه من الشفعاء ينفي علم الرب بهم المستلزم لنفي المعلوم.
ومن ذلك قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وهاتان الآيتان ذكرهما الله تعالى بعد إكفاره النصارى في قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}.
وأبطل فيهما قولهم بعدة من الأدلة:
الأول: التنبيه على أن المسيح عليه السلام رسول الله من جنس الرسل الذين خلوا من قبل، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإن الذي أبرأ الأكمة والأبرص، وأحيا الموتى على يده هو الذي هو الذي أحيا العصا، وجعلها حية تسعى، وفلق البحر على يد موسى، إلى غير ذلك من آياته، وهو الذي أخرج الناقة لصالح من صخرة صماء. والذي خلق المسيح من غير ذكر هو الذي خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكما لم يكن إتيانهم بالآيات دالا على آلهتهم فكذلك عيسى.
الثاني: أن من له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا، والمخلوق لا يكون إلها.
الثالث: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا يحتاجان إلى الطعام والشراب أشد الحاجة. والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون المسيح إلها مع حاجته.
الرابع: قال بعض العلماء إن قوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} كناية عن الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بد أن يحدث، فهذا أبلغ في إبطال إلهيته.
الخامس: أن الإله لا بد أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد، فلو كان المسيح إلها لقدر على دفع الجوع عن نفسه بغير الطعام، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين. ولما كانت هذه الحجج في غاية الجلاء ونهاية الظهور قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ}، أي نظهرها {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون وبأي شيء يتمسكون.
السادس: أن اليهود كانوا يعادون المسيح، ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، وكان أنصاره يحتاجون إلى النفع، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يجوز أن يكون إلها؟ ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}.
السابع: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه، ومزقوا أضلاعه. إلى غير ذلك من زعمهم. ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها؟
الثامن: إن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، وكل ما سواه يكون محتاجا إليه، فلو كان إلها لامتنع أن يكون مشغولا بعبادة الله، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يعبد الإله. فلما عرف بالتواتر كون عيسى مواظبا على الطاعات والعبادات، دل على أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا إلى تحصيل المنافع ودفع المضار، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، أي: فلم عدلتم عن السميع لأقوال العباد العليم بكل شيء إلى عبادة عبد من العباد لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا؟ وقد كان المسيح عليه السلام لم يسمع أقوال الذين تمالؤوا عليه، ولم يعلم بهم حتى وصلوا إليه، فكيف تجعلونه إلها مع الله - تعالى الله عما يشركون؟ -.
ومن ذلك ما تضمنه صدر سورة آل عمران فإنه كان سبب نزوله في وفد نجران النصارى حين قدموا على رسول الله ﷺ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله تعالى صدر السورة إلى آية المباهلة ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، فنذكر طرفا من قصتهم، ثم نتبعه ببعض ما تضمنه صدر السورة من الحجة إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره:
وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى نجران ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل -، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، حتى حسن عمله في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا له الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله ﷺ من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها، وإلى جنبه أخ له -يقال له كوز بن علقمة- فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد -يريد رسول الله ﷺ- فقال أبو حارثة: بل أنت تعست. قال: ولم يا أخي؟ قال: والله، إنه للنبي الذي كنا ننتظر. فقال له كوز: وما منعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا عوامنا كما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك. فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني.
قال: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب. قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي ﷺ يومئذ ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ يصلون، فقال رسول الله ﷺ: "دعوهم"، فصلوا إلى المشرق.
قال ابن إسحاق: وكان من دين النصرانية على دين الملك مع الاختلاف من أمرهم: يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية. فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى وليجعله آية للناس. ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنهم يقولون إنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد، وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله. ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة بقول الله: فعلنا وأمرنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ: أسلما، قالا: قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما. فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها، إلى أن قال: فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله عز وجل والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك. فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. ثم انصرفوا عنه، وخلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله، يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فنما كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم. فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فواعدوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا. ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضا.
قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله ﷺ: ائتوني العشية، أبعث معكم القوي الأمين. قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله ﷺ الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال: اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
وقد رويت هذه القصة بالأسانيد من وجوه أخر بأطول من هذا السياق، أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد - صاحبا نجران - إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله، إن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ، فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» فلما قام قال رسول الله ﷺ: «هذا أمين هذه الأمة».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه.
رجعنا إلى ما وعدنا من التنبيه على بعض ما في صدر سورة آل عمران من الحجة على بطلان قول النصارى وما في ضمنه من تقرير نبوة محمد ﷺ مما استنبطه العلماء من بعض أسرار هذه الآيات وما فيها من العلم، وبسط الكلام على المواضع الدالة يستدعي طولا، فلنقتصر على بعض ما في فاتحة السورة وخاتمة القصة.
قال الله تعالى: {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
ففي مطلع هذه السورة الكريمة من إقامة البرهان على وحدانية الله تعالى ونفي الولد عنه، وعلى بطلان ربوبية المسيح، وعلى تحقيق نبوة محمد ﷺ ما هو من الحجج القواطع لشبه المبطلين والأدلة المنادية بجهالة المجادلين، وذلك أن أولئك النصارى الذين جادلوا رسول الله ﷺ كأنه قيل لهم: إما أن تجادلوه في معرفة الإله أو في النبوة، فإن كان النزاع في معرفة الإله، وتقولون: إن المسيح ابن الله، وتقولون: إنه الله، وتقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فالحق معه بالدلائل القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل نسبة الولد والشريك إليه، لأن ذلك يقدح في حياته وقيوميته. وإن كان النزاع في النبوة فهذا أيضا باطل، لأن الطريق الذي عرفتم به أن الله أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى هو بعينه قائم في محمد ﷺ. وما ذاك إلا ما اقترن به من الدلائل والمعجزات، وهو حاصل هاهنا، فكيف يمكن منازعته في صحة نبوته.
والحاصل أن هذه الآيات الكريمات تضمنت إقامة الحجة في أصلين: الأول: في الإلهيات. والثاني: في النبوات. وتقرير الأول: أنه حي قيوم، وما كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد أو مشارك، لأن الحي القيوم هو واجب الوجود لذاته، وحياته وقيوميته لا ابتداء لها ولا انتهاء، فهو الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده. وأما ما عداه فإنه ممكن الوجود لذاته، حدث بتخليق الحي القيوم وإيجاده وتكوينه، وما كان محدثا مخلوقا لا يكون إلها.
وأيضا فنسبة الولد إليه تنافي كمال حياته وقيوميته، وذلك لأن الولد جزء الوالد، وفرع عنه، والولد حادث بعد أن لم يكن، لأنه -بالضرورة- لا بد أن يكون مسبوقا بالأب، فيلزم من ذلك حدوث الأب أيضا بالضرورة، للارتباط الذي بين الأب والابن من المشابهة، وهذا هو التعطيل الصرف، فثبت أن دعوى الولد لله تنافي ربوبيته للعالمين.
وأيضا لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حيا قيوما، وثبت أن عيسى لم يكن حيا قيوما، لأنه ولد، وكان يأكل، ويشرب، ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وصلب، وما قدر على الدفع عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيا قيوما، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها. فهذه الكلمة، وهي قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث.
وأما الأصل الثاني: وهو إثبات النبوة، فقد ذكر الله تعالى تقريره هاهنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك أنه قال: {أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}، وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه تعالى أتبع ذلك بأدلة تدل على صحتها.
الدليل الأول: ما دل عليه قوله: {بِالْحَقِّ}، وقد قال المفسرون فيه أقوالا، كلها مطابقة لوصف القرآن دالة على المقصود. فقيل: وصفه بقوله بالحق، لأنه يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك طريق الباطل. وقيل: لأنه قول فصل، وليس بالهزل. وقيل: لأنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية وشكر النعمة وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات، ولأنه أنزله يصدق بعضه بعضا، ولا يتناقض. كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. وهذا كله من صفات القرآن فدل على أنه من عند الله.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم السلام فيما أخبروا به عن الله تعالى، فدل على أنه من عند الله من وجهين: الأول الذي جاء به رجل أمي لم يقرأ شيئا من الكتب، ولا أخذ عن أحد من العلماء، ومع ذلك جاءت أخباره مطابقة لأخبار الأنبياء فيما تضمنه من القصص، ومن الخبر عن الله، وهذا برهان قاطع على أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله تعالى. الوجه الثاني: أن الله تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بدعوة إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. والقرآن جاء بهذه المطالب على أكمل الوجوه وأحسنها، فهو مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، فدل على أنه من عند الله.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} وتقرير الدلالة أن يقال: وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل كتابين إلهيين، وأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة والدلالات الدالة على الفرق بينهما وبين أقوال الكاذبين، فإنه لولا المعجزة لما حصل الفرق بين قول المحق وقول المبطل. ثم إن تلك المعجزات والأدلة كما حصلت في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله فذلك أيضا حاصل في كون القرآن نازلا من عند الله، وإن كان الطريق مشتركا فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل، كما هو قول البراهمة ومن ضاهاهم، أو تصديق الكل، كما هو قول المسلمين وهو الحق الواضح المبين. فأما قبول البعض ورد البعض فهو جهل وضلال. ولما قرر تعالى هذه الدلالات القاطعات في شأن الإلهيات والنبوات أتبع ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها وكفر بها فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
واعلم أن النصارى لما ادعوا الإلهية في المسيح تعلقوا في دعواهم بشبهات أربع، فلما قرر تعالى بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أتبع ذلك بإبطال شبههم.
فالشبهة الأولى تتعلق بالعلم، وهو أن المسيح عليه السلام كان يخبر بالغيوب، قالوا: فوجب أن يكون إلها.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها، لأن ذلك إنما كان بوحي من الله إليه وإطلاعه على ذلك دلالة على نبوته، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات دليل قاطع على أنه ليس بإله، لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فإن الإله هو الذي يكون خالقا، والخالق لا بد أن يكون عالما بمخلوقه، وما ذاك إلا الله وحده، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات، كيف والنصارى يزعمون أنه أظهر الجزع من الموت، فلو كان عالما بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله، وأنه يتأذى بذلك، ويتألم، وكان يفر منهم قبل وصولهم، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات. والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات، فوجب القطع بأن عيسى ما كان إلها.
الشبهة الثانية: قالوا: لما ثبت أنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا وجب أن يكون إلها.
فأجاب الله تعالى عنها بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قول عيسى في بعض الأحوال لا يدل على كونه إلها، لأنا نقول إن ذلك وقع بإذن الله تعالى معجزة دالة على نبوته، لكن عجزه عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم إلهيته. وذلك أن الإله هو الذي يكون قادرا على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب، ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادرا على خلق الإحياء والإماتة على هذا الوجه. كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين زعم النصارى أنهم أخذوه، وقتلوه، فظهر أن حصول الإحياء والإماتة في بعض الصور على وفق قوله لا يدل على كونه إلها. وأيضا فعيسى عليه السلام صُور في الأرحام وتقلب فيها كسنة الله في غيره من ذرية آدم، فعلم أنه مخلوق [12] كسائر الخليقة، فبطل أن يكون إلها.
الشبهة الثالثة: أن النصارى يقولون إنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا لله، تعالى عن قولهم علوا كبيرا.
فأجاب الله تعالى عنها أيضا بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} لأن هذا التصوير لما كان من الله تعالى: فإن شاء صوره من نطفة الأب، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب. كيف وقد خلق تعالى آدم من تراب من غير أب ولا أم، فلما كان مقتدرا على ما شاء من التصوير بطل ما تعلقوا به في ذلك.
الشبهة الرابعة: أنه ورد في بعض الروايات أن أولئك النصارى قالوا للرسول ﷺ: ألست تقول: إن عيسى كلمة الله وروحه؟ فهذا يدل على أنه ابن الله، وفي بعض الروايات أنهم احتجوا على التثليث بقول الله تعالى: قضينا، وأمرنا ونحوه. فأجاب الله تعالى بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}. والمعنى كما قال محمد بن إسحاق: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لهن تصريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام أن لا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق. يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الحق إلى الهوى {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي ما تصرف ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ليكون لهم حجة ولهم على ما قالوا شبهة {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي اللبس {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} على ما ركبوا من الضلالة في قوله: خلقن وقضينا. يقول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد من رب واحد. ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمات التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضا، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وانزاح به الباطل، ودمغ به الكفر، يقول الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. وهذا الكلام من ابن إسحاق من أحسن ما قيل في الآية وأبينه.
وحاصل الجواب عن الشبهة أن النصارى تعلقوا بظاهر لفظ من القرآن يحتمل عدة معان من الحقيقة والمجاز، فهو من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم الذي لا يحتمل غير معناه الظاهر لكل أحد، فتعلقوا بقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}، وغفلوا عن قوله في عيسى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}، وقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}، وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. فأخبر الله تعالى أن ذلك لما في قلوبهم من الزيغ. وهكذا من شابههم من هذه الأمة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة عن النبي ﷺ في هذه الآية قال: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». هذا لفظ البخاري.
وقد كان الذين أنكروا الحلول والاتحاد من النصارى الذين يصدقون بلفظ الأب والابن وروح القدس، وأن تلك العبارة مأخوذة عن إنجيل المسيح يقولون -مع ذلك-: إن المسيح عبد مرسل كسائر الرسل، فوافقوهم على اللفظ، ولم يفسروا ذلك بما يقوله منازعوهم من الحلول والاتحاد. كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية. فلما كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدقوا باللفظ أولا لأجل اعتقادهم مجيء الشرع، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسيره، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء -عليهم السلام-. وكل ما صح عنهم أنهم قالوه فهو حق، لأنهم لا يقولون إلا الحق، ولا بد له -إذا كان صحيحا عنهم- من معنى صحيح يوافق اللفظ المحكم الذي لا يحتمل غير معناه الظاهر لكل أحد.
فظهر بما قرر من قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن للإله، وأن قوله: {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر، فيجب أن يكون ابنا لله، وأن قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن من الألفاظ المحتملة لعدة من المعاني.
ومن تأمل ما ذكرناه علم أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت عليه هذه الآيات، فالحمد لله الذي أغنى عباده المؤمنين بكتابه، وما أودعه من حججه، وبيناته عن شقائق المتكلمين، وهذيانات المنهوكين، فلقد عظمت نعمة الله على عبد أغناه بفهم كتابه عن الفقر إلى غيره: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
ثم ذكر تعالى أنواعا من الحجج، وشرح قصة مريم وعيسى عليهما السلام شرحا جليا متضمنا لأنواع من الأدلة على بطلان قول النصارى بما لا يتسع هذا المختصر لشرحه إلى أن قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وفي هذه الآية إبطال شبهة النصارى في قولهم: لما لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله -تعالى -. فبين تعالى أنه خلق آدم من تراب، ولم يكن له أب ولا أم، ولم يلزم من ذلك أن يكون ابنا لله، فكذا القول في عيسى. وأيضا فلما جاز أن يخلق الله آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم المرأة أقرب من تولده من التراب اليابس. ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه في تنويع التخليق، فيعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.
وبعد أن بين تعالى أنواع الأدلة القاطعة في صدر السورة، وأجاب عن شبه النصارى على أكمل الوجوه وأحسنها، وكان من أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ الغاية القصوى لا جرم، قال تعالى بعد ذلك -: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
يعني فبعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الجواب معهم وعاملهم بها بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة، وقد فعل رسول الله ﷺ، ودعاهم إليها، فنكصوا، ورجعوا إلى الصلح، وأقروا بالصغار، وبذلوا الجزية، كما تقدم في القصة. فكان ذلك دليلا على نبوة محمد ﷺ من وجهين:
أحدهما: أنه -عليه الصلاة والسلام- خوفهم بنزول العذاب. فلو لم يكن واثقا بذلك لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه، لأنه بتقدير أن يرغبوا في المباهلة، ثم لا ينزل العذاب يكون ذلك تكذيبا له. ومعلوم أنه كان ﷺ من أعقل الناس، بل هو أعقلهم على الإطلاق، ولا يليق بالعاقل أن يعمل عملا يفضي إلى ظهور كذبه، فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم لو فعلوا.
الثاني: أن القوم تركوا المباهلة، وأعطوا الصغار من أنفسهم. فلولا أنهم علموا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته ورضوا لأنفسهم بالذل والصغار، بل قد تقدم في القصة ما يدل صريحا على معرفتهم به، وأنه النبي المبشر به في كتب الأنبياء.
فصل
ولا بأس بذكر مناظرة حكاها بعض العلماء جرت بينه وبين بعض النصارى ممن يدعي التحقيق والتعمق في مذهبه.
قال: قال لي النصراني: ما الدليل على نبوة محمد؟
فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد ﷺ، فإن رددنا التواتر أو قبلناه، لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ تبطل نبوة سائر الأنبياء، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد ﷺ وجب الاعتراف قطعا بنبوته ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول.
فقال النصراني: إني لا أقول في عيسى إنه كان نبيا، بل أقول كان إلها.
فقلت له: هذا الذي تقوله باطل، لأن الإله هو واجب الوجود لذاته، وعيسى هو هذا الشخص البشري الذي وجد بعد أن كان معدوما، قتل -على قولك- بعد أن كان حيا، فكان أولا طفلا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شابا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ. وقد تقرر في بداية العقول أن المحدث لا يكون قديما، والمحتاج لا يكون غنيا، والممكن لا يكون واجبا، والمتغير لا يكون دائما. هذا وجه.
والوجه الثاني في إبطال هذه المقالة: أنكم معترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيا على الخشبة وفعلوا معه من الإهانة والأذى ما تدعونه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فلو كان إلها أو كان الإله حالا فيه أو كان جزءا من الإله حالا فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه ولم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع والاحتيال في الفرار منهم.
الوجه الثالث: وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه. والأقسام الثلاثة باطلة؛ أما الأول فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتلته اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك بغير إله. ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود، فالإله الذي يقتله اليهود إله في غاية العجز. وأما الثاني - وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم - فهو أيضا فاسد، لأن الإله إن لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم. وإن كان جسما فحينئذ يكون حلوله في الجسم عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم. وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله. وإن كان عرضا كان محتاجا إلى غيره. وذلك محال في حق الإله. وأما الثالث - وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه - فذلك أيضا محال، لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلها، وإن لم يكن معتبرا في تحقيق الإلهية لم يكن جزءا من الإله. فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلا.
الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى. فلو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه. فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم. انتهى. [13]
وبالجملة فالأمر كما قال أبو عبد الله ابن القيم: إن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله محمدا ﷺ، بل قبله بنحو من ثلاثمائة سنة، مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم، فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية فليس بنصراني على الحقيقة. أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد. فيا عجبا كيف يرضى العاقل أن يكون هذا مبلغ علمه ومنتهى عقله؟ أترى لم يكن في هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه، فلا يذكرون مثالا ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وامتزاجه به باتحاد النار والحديد، وتمثيل بعضهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن، إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما حتى صارتا حقيقة أخرى، تعالى الله عن كذبهم وإفكهم. ولم يقنعهم هذا القول في رب السماوات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلا مقهورا، وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها، وأن اليهود يبصقون في وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه، وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهوتيته من قبره. هذا قول جميعهم ليس فيهم من ينكر منه شيئا فيا للعقول! كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة؟ ومن كان يدبر السماوات والأرض؟ ومن الذي خلف الرب سبحانه في هذه المدة، ومن كان الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض وهو مدفون في قبره. ويا عجبا هل دفنت الكلمة معه بعد أن قتلت وصلبت أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له كما خذله أبوه وقومه، فإن كانت فارقته وتجرد منها فليس هو حينئذ المسيح، وإنما هو كغيره من آحاد الناس، وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به، ومازجت لحمه ودمه؟ وأين ذهب الاتحاد والامتزاج، وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت ودفنت معه فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله وصلبه ودفنه. ويا عجبا أي قبر يسع إله السماوات والأرض. هذا وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون.
أعباد المسيح لنا سؤال ** نريد جوابه ممن وعاه
إذا مات الإله بفعل قوم ** أماتوه، فما هذا الإله؟
وهل أرضاه ما نالوه منه ** فبشراهم إذا نالوا رضاه
وإن سخط الذي فعلوه فيه ** فقوتهم إذًا أوهت قواه
وهل بقي الوجود بلا إله ** سميع يستجيب لمن دعاه؟
وهل خلت الطباق السبع لما ** ثوى تحت التراب وقد علاه
وهل خلت العوالم من إله ** يدبرها وقد شدت يداه؟
وكيف تخلت الأملاك عنه ** بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟
وكيف أطاقت الأخشاب حمل ** إله الحق مشدودا قفاه؟
وكيف دنا الحديد إليه حتى ** يخالطه ويلحقه أذاه؟
وكيف تمكنت أيدي عُداه ** وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟
وهل عاد المسيح إلى حياة ** أم المحيي له رب سواه؟
ويا عجبا لقبر ضم ربا ** وأعجب منه بطن قد حواه!
أقام هناك تسعا من شهور ** لدى الظلمات من حيض غذاه
وشق الفرج مولودا صغيرا ** ضعيفا فاتحا للثدي فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي ** بلازم ذاك، هل هذا إله؟
تعالى الله عن إفك النصارى ** سيسأل كلهم عما افتراه
فيا عبد المسيح أفق فهذي ** بدايته وهذا منتهاه [14]
فصل
وأما قول النصراني: "وكان يشوع ذا صلاح تام في سيرته حتى لم يطعن في عرضه بشيء. أما محمد فهو صاحب الغزاة والقتال، مغرما بالنساء، وكثير النكاح".
فالجواب وبالله التوفيق:
أما عيسى عليه السلام فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو أحد الخمسة أولي العزم من الرسل، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلى الله عليهم وسلم تسليما. وحاشا رسل الله وأنبيائه أن يطعن عليهم في أعراضهم بشيء، كيف وهم الذين اصطفاهم الله لرسالاته وجعلهم سفراء بينه وبين عباده. فاعتقاد المسلمين في المسيح كغيره من الرسل هو ما جاء به نبيهم ﷺ، وهو إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، فلا يغلون غلو النصارى، ولا يجفون جفاء اليهود. فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وأما فضائل نبينا محمد ﷺ، وصلاح سيرته وعظم أخلاقه وزهادته في الدنيا وإعراضه عن زهرتها فقد قدمنا إشارة يسيرة إلى ذلك، وهو غيض من فيض، ونقطة من بحر، لأنا قد بنينا كتابنا هذا على الاختصار، والتنبيه على مقاصده بأدنى إشارة، فلو تتبعت فضائله، وفصلت شمائله، وشرحت أخلاقه لكان ذلك في مجلدات كثيرة -فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه دائما إلى يوم الدين وأبد الآبدين.
وقوله: "فهو صاحب الغزاة" إلى آخره؛ جوابه: أما النكاح ومحبة النساء فقد قدمنا فيها ما يكفي، وبينا أن ذلك من الفضائل لا من الرذائل، ومن المناقب لا من المثالب، وأنه من سنن الأنبياء والمرسلين، ومن طريق عباد الله الصالحين. فلا يتأتى الطعن بالنكاح وملابسة النساء إلا بتنقص الأنبياء والمرسلين كنوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وكفى بذلك عماية قلب وسخافة عقل وسمة ضلالة وقبيح جهالة.
وأما اعتراضه بالغزو والقتال فهو اعتراض باطل من وجوه:
الأول: أن الغزو والقتال للأعداء فضيلة متنافس فيها على الجملة، دالة على شرف النفس وعلو الهمة، ولم يزل التمادح به مشهورا في القديم والحديث. وإنما يذم ما كان منه ظلما وعدوانا، وليس كذلك قتال نبينا ﷺ لما نبينه في
الوجه الثاني: وهو أن قتاله ﷺ إنما هو عن أمر الله تعالى وشرعه لإقامة دين لله وإبطال عبادة من سواه من الأنداد والأصنام. وهذا من أعظم الفضائل وأكبر المناقب وأرفع الرتب، وهو قتال الأنبياء وأتباعهم. ولنبينا ﷺ وأتباعه من هذه الفضيلة أوفر حظ وأكمل نصيب.
الوجه الثالث: أن قتاله ﷺ من أعلام نبوته، وأدلة رسالته، لأنه مطابق لما جاء من نعته في كتب الأنبياء عليهم السلام كما قدمنا من نص الزبور في قوله: (تقلد أيها الجبار بالسيف، فإن شريعتك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة) وفي النص الآخر في صفته ﷺ، وصفة أمته: (بأيديهم سيوف ذات شفرتين). إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أنه يبعث بالسيف والقتال. وتقدم في قصة ابن الهيبان الحبر في وصيته لليهود باتباعهم محمدا ﷺ قوله: (لا تسبقن عليه يا معشر اليهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه).
الوجه الرابع: أن القتال ليس مختصا بشريعته ﷺ. فقد قاتل كثير من الأنبياء عليه السلام بإذن الله لهم في ذلك وأمره، وقد أمر الله بني إسرائيل بقتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة مع موسى عليه السلام. فلما عصوا أمر الله عاقبهم بالتيه أربعين سنة، وبعد خروجهم منه توجهوا لقتال الجبارين مع يوشع بن نون عليه السلام، ففتح الله عليهم. ولم يزل الجهاد والقتال مشهورا في بني إسرائيل ومعهم الأنبياء، كما قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. وأما كون القتال غير مشروع لعيسى عليه السلام فذلك لا يدل على أن تركه أفضل مطلقا، بل هذا من اختلاف الشرائع، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
الوجه الخامس: أن في الجهاد من المصالح العظيمة والحكم الباهرة فيما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة ما لا يحصى. فمنها ما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله وإقامة دينه وعزة أنصاره وإنفاذ أحكامه وقد حصل به من ذلك على يد محمد ﷺ وأصحابه وأتباعه ما شتت شمل الكفر وفرق كلمة الإشراك وأرغم أنف الشيطان اللعين. ومنها إنقاذ الهالكين في الكفر والضلالة وعبادة الأصنام والأنداد، وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن طريق النار إلى سبيل الجنان، ومن رق الشيطان إلى عبادة الرحمن. وقد أنقذ بهذه الأمة وجهادها من شاء الله من الأمم الهالكين. وفي هذا المعنى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام. ومنها ابتلاء الله تعالى عباده واختبارهم بتكليفهم القتال، وبذلهم في طاعته النفوس والأموال، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}. ومنها ما يترتب على ذلك من عظيم المثوبات ورفعة الدرجات بما بذلوا من مهجهم وأموالهم في طاعة الله ونصرة دينه، فالمجاهدون أرفع الناس درجة في الدنيا والآخرة.
الوجه السادس: أنه إذا كان قتاله ﷺ عن أمر الله لثبوت رسالته، فالاعتراض عليه في شيء من أمره اعتراض على الله، لأنه الذي شرع وأمر. وهذا نظير اعتراض من يعترض من المكذبين للرسل على ذبح الحيوان للأكل بأن هذا تعذيب للحيوان لا يأذن الله فيه. وإذا كانت شرائع الأنبياء جاءت بذبح بعض الحيوانات للأكل وقتل بعضها دفعا للأذى مع أنه لا تكليف عليها ولا ذنب لها، فكيف يكون الأمر في قتال أعداء الله الكافرين به المكذبين رسله العابدين معه آلهة أخرى؟. لا جرم أن قتالهم وغزوهم وجهادهم حتى يؤمنوا بالله، ويتابعوا رسوله لفي غاية الصلاح ونهاية السداد وتمام الحكمة.
وبالجملة، ففضائل الجهاد في سبيل الله أكثر من أن يأتي عليها الوصف، وما كان هذا شأنه فلا شك أن المتصف به قد حاز فضلا عظيما، واقتنى خيرا كثيرا، وأن مشروعيته في هذه الملة من محاسنها ومحاسن من جاء بها، وفضائل أتباعه الذين هم خير أمة أخرجت للناس.
فصل
وأما قول النصراني: "وكان يشوع قد ارتفع إلى السماء، وأما محمد فهو بقي محبوسا في القبر".
فجوابه أن الله تعالى خص من شاء من رسله بما شاء من الخصائص، وخص نبينا محمدا ﷺ بخصائص كثيرة لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء، وشارك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في خصائص كثيرة. بل قال بعض العلماء: "إنه ما خص نبي بشيء إلا كان لنبينا ﷺ مثله زيادة ما اختص به عن جميعهم". وقد بسط العلماء ذلك بما يبين للمتأمل صحته، ولسنا بصدد تفصيل ذلك خوف الإطالة، فمن ذلك ما ذكر من رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فإن نبينا ﷺ قد أعطي ذلك ليلة المعراج إلى السماوات، وزاد في الترقي لمزيد الدرجات وحظي بسماع المناجات ومشاهدة الكبرى من الآيات والوصول إلى ذلك المقام الذي سمع فيه صريف الأقلام وفرضت عليه هناك الصلوات وخلعت عليه خلع الكرامات. وهذه فضيلة لم تجئ لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأيضا فلو لم تجئ هذه الفضيلة لنبينا ﷺ لم يكن عدمها دالا على تفضيل عيسى عليه السلام عليه، لأن لنبينا ﷺ من الفضائل والخصائص ما هو مقتضى سيادته لولد آدم، فتخصيص المفضول بخصيصة ليست للفاضل أمر معلوم، كما خص داود عليه السلام بإلانة الحديد، وتأويب الجبال والطير معه، وسليمان بتسخير الجن والشياطين، وتسخير الريح، غدوها شهر ورواحها شهر، والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، وكرفع إدريس عليه السلام إلى السماء. وأمثال ذلك، وكل هذا لا يدل على تفضيل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام على الخمسة أولي العزم الذين هم أفضل الرسل، وإن لم تكن لهم تلك الخصائص، فإن الذي أوتوه من الفضائل والخصائص من وجوه أخر أعظم وأفضل.
وقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «وأعطيت خمسا لم يعطهن أحد من قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» أخرجه البخاري وغيره. وفي رواية: «وبعثت إلى الناس كافة». وليس المراد حصر خصائصه ﷺ في هذه الخمس المذكورة، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون». فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر، وزاد خصلتين، وهما: «أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون». وله ﷺ من مشاهير الخصائص غير هذا كتخصيص أمته بوضع الآصار وحط الأثقال التي كانت على من قبلهم ورفع تحميلهم ما لا يطاق ورفع الخطأ والنسيان عنهم، وتسميته ﷺ أحمد، وإعطائه مفاتيح خزائن الأرض، وجعل أمته خير الأمم، وغفران ذنبه ما تقدم وما تأخر، وبقاء معجزة القرآن الذي أنزل عليه إلى يوم القيامة، وإعطائه الكوثر، وإعطائه لواء الحمد يوم القيامة، وأن آدم ومن دونه تحت لوائه. وبعض العلماء عد خصائصه ستين خصلة، وليس غرضنا استقصاء ذلك؛ فاكتفينا بالتنبيه عليه ردا لكلام المبطل، ونقضا لاعتراضه، وطريق إثبات هذه الخصائص هو طريق إثبات المعجزات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل
وأما قول النصراني: "فمن ذا الذي لا ينظر أيهما أولى أن يتبع".
فالجواب:
أن من نظر لنفسه، ونصحها، ونظر بعين البصيرة والعقل الصحيح -في دلائل نبوة محمد ﷺ وكثرة فضائله وظهور معجزاته وشواهد نبوته وشهادة الله له بالصدق بما أيده به من عظيم الآيات- لا يعتريه شك ولا يخالجه ريب ولا يقف أدنى وقفة في وجوب اتباعه ﷺ والدخول في دينه والسلوك على منهاجه. وذلك هو حقيقة اتباع المسيح عليه السلام والإيمان به، لأنه بشر به وعهد إلى أتباعه بالإيمان به ونصرته، كما أخذ الميثاق بذلك على النبيين، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن العباس: "ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق: لئن بعث محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه".
وأيضا فالنظر في أيهما أولى أن يتبع فاسد بعد ظهور دلائل نبوة محمد ﷺ ظهورا أظهر من شمس الظهيرة.
وقد دعا الناس جميعا إلى اتباعه، وأخبر أنه رسول الله إليهم جميعا، وأن شرائع الأنبياء منسوخة بشرعه، وأن من سمع به من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن به فهو من أهل النار.
وقد قال الله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} فأجيبوا عن هذه الدعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا الجواب مع اختصاره قد تضمن المنع والمعارضة. أما المنع فما تضمنه حرف "بل" من الإضراب، أي ليس الأمر كما قالوا. وأما المعارضة ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، أي نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا. وفي ضمن هذه المعارضة إقامة الحجة على أنها أولى بالصواب مما دعوتم إليه من اليهودية أو النصرانية، لأن وصف صاحب الملة بأنه حنيف غير مشرك، ومن كانت ملته الحنيفية والتوحيد فهو أولى بأن يتبع ممن ملته اليهودية أو النصرانية، فإن الحنيفية والتوحيد دين جميع الرسل الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وهو الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فمن كان عليها فهو المهتدي لا من كان يهوديا أو نصرانيا، فإن الحنيفية تتضمن الإقبال على الله بالعبادة، والإجلال، والتعظيم، والمحبة، والذل. والتوحيد يتضمن إفراده بهذا الإقبال دون غيره، فيعبد وحده، ويحب وحده، ويطاع وحده، ولا يجعل معه إله آخر، فمن أولى بالهداية؟ صاحب هذه الملة أو ملة اليهودية والنصرانية؟ ولم يبق بعد هذا للخصوم إلا أن يقولوا: فنحن على ملته أيضا لم نخرج عنها، وإبراهيم وبنوه كانوا هودا أو نصارى. فأجيبوا عن هذا السؤال بأنهم كاذبون فيه، وأن الله تعالى قد علم أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، فقال: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. وقرر تعالى هذا الجواب في سورة آل عمران في قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}. أو أن يقولوا: نحن وإن انتحلنا هذا الاسم فنحن على ملته، فأجيبوا عن هذا بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، فهذه للمؤمنين. ثم قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: فإن أتوا من الإيمان بمثل ما أتيتم به فهم على ملة إبراهيم، وهم مهتدون، وإن لم يأتوا بإيمان مثل إيمانكم فليسوا من إبراهيم وملته في شيء، وإنما هم في شقاق وعداوة، لأن ملة إبراهيم الإيمان بالله وكتبه ورسله، وألا يفرق بين أحد منهم، فيؤمن ببعضهم، ويكفر ببعضهم، فإذا لم يأت بهذا الإيمان فهم بريئون من ملة إبراهيم مشاقون لمن هو على ملته. ثم قال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فهذا من أعلام نبوته ﷺ، فإنه أخبر بكفاية الله له شقاق اليهود والنصارى وعداوتهم، فوقع كما أخبر، ومكنه الله من ديارهم وأموالهم حتى صاروا أذلاء تحت أمره وأمر أتباعه، فلله الحمد كما هو أهله.
فصل
قال النصراني: "ولنقيس أيضا أفعال كل منهما، فإن يشوع قد أبرأ الأكمه والأبرص وأنهض المقعدين وأحيا الموتى، وأما محمد فهو لم يأت بالمعجزات بل بالسيف، ولكن نقلت عنه المعجزات أيضا ولكنها أي معجزات، وإنما كانت إما مما أمكن فعله بحيلة مما تقوم به القوة البشرية أو مما لم يكن عليه شهود أو من المحال، يستفظعه العقل، مثل ما حكي عن انشقاق القمر، وهي كلها على حالة لا يعتمد عليها. وإذ قد أشكل الأمر فالواجب أن يفزع إلى الشريعة التي شهاداتها المدلة على أنها مرضاة لله أقوى في باب اليقين".
الجواب، وبالله نستعين:
ليس الأمر مشكلا، بل هو بحمد الله واضح جلي، ودلائل نبوة محمد ﷺ ومعجزاته وشواهد رسالته أظهر من كل دلالة وأوضح من كل معجزة وأكثر من كل شاهد اقترن برسالة غيره من المرسلين.
فقول النصراني: "إنه لم يأت بالمعجزات" جحد عناد اقتضاه الكفر واتباع الهوى، وإلا فقد علموا أنه ﷺ أتى بالمعجزات والأدلة القاطعات التي لا عذر لأحد في الإعراض بعدها. هذا مع ما يجدونه مكتوبا عندهم من صفته في التوراة، والإنجيل {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
ثم هذا النصراني حين أنكر الحق والرسالة بقي في الحيرة والضلالة، وزعم أن الأمر مشكل، فصار منتهى قصده ونهاية رشده أن وقف حيران في ظلمة الإشكال، وسقط في هوة الجهالة والضلال، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. وأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغي إلا من أشرق عليه نور النبوة، كما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلهذا أقول جف القلم على علم الله». ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها، وهي ظلمة الطبع، وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها؛ فهذه كلها ظلمات خلق فيها العبد، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس البتة إلا به. فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
واعلم أن الله تعالى أيد الأنبياء بالمعجزات دلالة على صدقهم في دعوى الرسالة، فيجب تصديقهم في جميع ما جاؤوا به، لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائمٌ مقام قول الله تعالى صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه، وشاهدٌ على صدقه فيما يقوله. ولما كان كلامنا مع من يثبت معجزات الأنبياء وأنها تدل على صدقهم اكتفينا بهذه الإشارة في هذا المقام. وليست أدلة الرسالة منحصرة في المعجزة، بل لها أدلة كثيرة، يعرف بها صدق الرسول غير المعجزات، كما سيأتي إيضاحه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أن المعجزة على قسمين:
قسم هو من نوع قدرة البشر، فعجزوا عنه، فتعجيزهم عنه فعل الله دال على صدق نبيه، كصرفهم عن تمني الموت، وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على قول من قال بالصرفة، وهو قول مرجوح، كما سيأتي أن القرآن في نفسه معجز لا يستطيعه البشر. وقسم هو خارج عن قدرتهم، فلم يقدروا على الإتيان بمثله، كإحياء الموتى وقلب العصا حية وإخراج ناقة من صخرة وكلام شجرة ونبع الماء من بين الأصابع، وانشقاق القمر، مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا الله تعالى.
وكانت معجزات نبينا ﷺ ودلائل نبوته وبراهين صدقه من هذين النوعين معا، سوى ما اقترن بهما من أدلة أخر.
وبالجملة، فمعجزاته وأدلة رسالته لا يحيط بها ضبط. فإن القرآن، وهو معجزة من معجزاته، قد احتوى من الإعجاز على ما لا يحصى كثرة، حتى بلغها العلماء إلى ألوف كثيرة. قالوا: وأقصر السور: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة، ثم فيها نفسها معجزات، وقد فصلوا ذلك وبينوه.
فصل
ومعجزة القرآن هي المعجزة العظيمة والآية الباقية ما بقيت الدنيا. ولا يشك الموافق والمخالف في مجيء محمد ﷺ به وظهوره من قبله، وإن أنكر هذا معاند جاحد فهو كإنكار وجود محمد ﷺ في الدنيا. وإنما جاء اعتراض الجاحدين في إعجازه وظهور الحجة به.
ومن المعلوم بالضرورة أنه ﷺ تحدى العرب بما فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته، وأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن معارضته، وأحجموا عن مساجلته، وهم - كما قال بعض العلماء في وصفهم - كانوا أرباب هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خصوا من البلاغة والحكم ما لا يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، يأتون من ذلك على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بدهيا في المقامات، وشدة الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون ويتوسلون ويتوصلون ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل سمط اللآل، فيخدعون الألباب ويذللون الصعاب، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها. فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياته وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا وأشهر في الخطابة رجالا، صارخا بهم في كل حين ومقرعا لهم بضعة وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
فلم يزل ﷺ يقرعهم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلاهم ويشتت نظامهم ويذم آلهتهم وآباءهم ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، مخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب والاغتراء بالافتراء، وقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} و {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} و {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} و {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} والمباهتة، والرضا بالدنية كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} و {فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} و {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، والادعاء مع العجز بقولهم {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وقد قال الله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فما فعلوا وما قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ولا جنس بلاغتهم. انتهى ملخصا. [15]
وقد جاء في الأخبار من اعتراف عقلائهم وفصحائهم بالعجز عن معارضته عند سماعه جمل كثيرة. ففي قصة عتبة بن ربيعة حين قرأ عليه النبي ﷺ: حم. فصلت، ورجع عتبة إلى قريش، وقال لهم: "إني والله قد سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، أجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، إنه قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، فأمسكت وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب». رواه البيهقي وغيره في خبر طويل.
وفي حديث إسلام أبي ذر ووصف أخاه أنيسا، فقال: "والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية، أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر بخبر النبي ﷺ. قال: قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم، ولا يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون". رواه مسلم والبيهقي.
وعن عكرمة في قصة الوليد بن المغيرة - وكان زعيم قريش في الفصاحة - أنه قال للنبي ﷺ: اقرأ علي. فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. قال: أعد. فأعاد ﷺ فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. ثم قال لقومه: والله، ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى.
وفي خبره الآخر حين جمع قريشا عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا. فقالوا: نقول: كاهن. فقال: والله ما هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: والله ما هو بمجنون، ولا بخنقه ولا بوسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم قائلون من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل... إلى آخر القصة. رواه ابن إسحاق والبيهقي.
وما أحسن ما قيل: إن هذا القرآن لو وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك، لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله وأن البشر لا قدرة لهم على تاليف ذلك. فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأتقاهم، وقال: إنه كلام الله، وتحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك؟
واعلم أن وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة، وبينها بعض العلماء بما حاصله أنه ينحصر مقصود إعجازه في أمور أربعة، وعدها بعضهم أكثر من ذلك، وهو يرجع إلى ما قلناه.
الأول: ما فيه من الإيجاز والبلاغة وحسن التركيب، بحيث وصل في كل منها إلى الرتبة العليا لفظا ومعنى، ولهذا اعترف عقلاؤهم وفصحاؤهم أنه لا يقوله بشر. وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فسجد، وقال: سجدت لفصاحته. وسمع آخر رجلا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}، فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. والأخبار عنهم بمثل هذا كثيرة. ولما سمع نصراني قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. قال: جمعت هذه الآية ما أنزل على عيسى من أمر الدنيا والآخرة.
ولقد رام بعض سخفاء العقول محاكاة بعض قصار المفصل، فأتى من الهذيان بالعجب العجاب، كقول مسيلمة الكذاب اللعين: "يا ضفدع كم تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين". فلما سمع أبو بكر الصديق هذا الكلام قال: "إنه كلام لم يخرج من إل". قيل: "الإل" بالكسر هو الله تعالى وقيل: الإل بالأصل الجيد. أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن.
ولما سمع مسيلمة {والنازعات} قال: "والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، لقد فضلتم علي أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر".
وقال معارضا لسورة الكوثر: "إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر".
وكقول الآخر: "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين شراسيف وحشا".
وقال آخر: "الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل".
وهذا كلام فيه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم، فضلا عمن يعلم.
ثم جاء جماعة من المتأخرين ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة، فتعرضوا لمعارضته، كابن المقفع والمعري والمتنبي، ونظراء لهم، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنبو عنه الطباع، ونادى عليهم بالخزي والانقطاع، وصيرهم مثلة وسخرية وضحكة إلى أن تاب أكثرهم وأظهر ندمه ونسكه.
والثاني: أنه مع كونه من جنس كلام العرب قد جاء في نظمه وأسلوبه مخالفا لسائر فنونه من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع؛ فحير عقولهم حتى لم يهتدوا إلى مثل شيء منه؛ إذ لا مثال له يحتذى عليه ولا إمام يرجع عند الاشتباه إليه. وقد حكي عن غير واحد ممن تصدى لمعارضته أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك. كما حكي عن يحيى بن حكم الغزال - وكان بليغ الأندلس في زمانه - أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته منه خشية حملته على التوبة والإنابة. وحكي أيضا أن ابن المقفع - وكان أفصح أهل زمانه - طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر.
الثالث: تأثيره في النفوس والقلوب، بحيث تجد من اللذة والحلاوة عند سماعه ما لا تجد عند سماع غيره، ولذلك كان قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة.
قال القاضي عياض: وأما غيره من الكلام - ولو بلغ من الحسن والبلاغة ما بلغ - يمل مع الترديد ويعادى إذا عيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك حتى أحدث لها أصحابها لحونا وطرقا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها. ولهذا وصف النبي ﷺ القرآن: بأنه «لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عبره ولا تفنى عجائبه، هو الفصل وليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء»". [16]
الرابع: ما فيه من الإحاطة بعلوم الأولين والآخرين، والإخبار بالغيوب الماضية والآتية، وجمعه لعلوم كثيرة لم تتعاط العرب الكلام فيها. ففيه من الإخبار بالغيوب الآتية شيء كثير، فوقع على ما أخبر كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وقوله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} والآيات في هذا كثيرة. وفيه أيضا من أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية مما لم يكن يعلم القصة الواحدة منه إلا الفرد من أحبار أهل الكتاب، فيأتي به على وجهه، ويعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان، وأشباه ذلك من الأنبياء.
قال القاضي عياض: "ولم يحك عن واحد من اليهود والنصارى -على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم، وكثرة سؤالهم له عليه الصلاة والسلام وتعنتهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم، مثل: سؤالهم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وما حرم إسرائيل على نفسه، وغير ذلك من أمورهم التي نزل القرآن، فأجابهم بما أوحي إليه من ذلك- أنه أنكر ذلك أو كذبه، بل أكثرهم صرح بصدق نبوته وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسدهم إياه كأهل نجران وابن صوريا وابني أخطب وغيرهم". انتهى.
ولا يرد على هذا ما قدمناه من خبر عيسى، وما في القرآن من مخالفة ما عند النصارى، وفي أنه ما قتل وما صلب؛ لأن الذي عندهم من خبر قتله وصلبه لا يدعون أنه من أخبار الأنبياء، وإنما يعزونه إلى تلاميذ عيسى، وأنهم نقلوا ذلك عمن شاهده، وهم ليسوا بأنبياء ولا معصومين عن الخطأ. هذا لو صح أن هذه الكتب محفوظة عنهم، وأنى يعلم ذلك؟ بل فيها من الكذب والتغيير ما أقمنا برهانه فيما تقدم، ولله الحمد.
وأما ما في القرآن من العلوم والمعارف - سوى ما تقدم - مما لم تعهده العرب عامة، ولا سيدنا محمد ﷺ خاصة قبل نبوته، فشيء هو مبلغ النهاية، كما قال الله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال عز من قائل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عن الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن. ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر، فضلا عن أن تحتاج إلى المحدثين المهلمين أو إلى أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر»، فعلق ذلك تعليقا في أمته، مع جزمه به فيمن تقدم؛ لأن الأمم قبلنا كانوا محتاجين إلى المحدث، كما كانوا محتاجين إلى نبي بعد نبي، وأما أمة محمد ﷺ فأغناهم الله برسولهم وكتابهم عن كل ما سواه، حتى إن المحدَّث منهم كعمر إنما يؤخذ عنه ما وافق الكتاب والسنة، وإذا حدث شيء في قلبه لم يكن له أن يقبله حتى يعرضه على الكتاب والسنة، فلا يقبله إلا إذا وافقهما. [17]
وهذا باب واسع في فضائل القرآن الذي جاء به محمد ﷺ على ما سواه. هذا وهو ﷺ رجل أمي لا يخط كتابا، ولا يقرؤه، ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم في بلد ليس به عالم يعرف أخبار الماضين، ولا خرج في سفر ضاربا إلى عالم، فيعكف عنده، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل وعلم الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين. وهذا أدل دليل على أنه أمر جاءه من عند الله؛ ولهذا احتج عليهم بذلك في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}. وقال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. وهذا من أبلغ الحجج وأظهرها؛ أي: هذا الكلام ليس من قبلي، ولا من عندي، ولا أقدر أن أفتريه على الله، ولو كان ذلك مقدورا لي لكان مقدورا لمن هو من أهل العلم والكتابة ومخالطة العلماء والتعلم منهم. ولكن الله بعثني به، ولو شاء سبحانه لم ينزله علي، ولم ييسره بلساني، ولا لسان غيري، ولكنه أوحاه إلي، وأذن لي في تلاوته عليكم، ولا أدراكم به بعد أن لم تكونوا دارين به، فلو كان كذبا وافتراء - كما تقولون - لأمكن غيري أن يتلوه عليكم، وتدرون به من جهته؛ لأن الكذب لا يعجز عنه البشر. وأنتم لم تدروا بهذا، ولم تسمعوه إلا مني، ولم تسمعوه من بشر غيري.
ثم أجاب عن سؤال مقدر، وهو أنه تعلمه من غيره وافتراه من تلقاء نفسه، فقال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أي تعلمون حالي، ولا تخفى عليكم سيرتي ومدخلي ومخرجي وصدقي وأمانتي، وتعلمون أني ما طالعت كتابا ولا تتلمذت لأستاذ ولا تعلمت من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة من عمري جئتكم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة في الأصول والأحكام ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين، وقد عجز عن معارضته الفصحاء والبلغاء والعلماء. فكل ذي عقل سليم يعرف أن هذا لا يحصل إلا بالوحي من الله تعالى. ولما كان علم ذلك ضروريا، وكان إنكار المعلوم بالضرورة يقدح في صحة العقل قال تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتأمل صحة هذا الدليل، وحسن تأليفه، وظهور دلالته.
قال القاضي أبو الفضل: "كون القرآن من قبل النبي ﷺ وأنه أتى به، معلوم ضرورة، وكونه متحديا به معلوم ضرورة، وعجز العرب عن الإتيان بمثله معلوم ضرورة، وكونه في فصاحته خارقا للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة ووجوة البلاغةP وسبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عن معارضته، واعتراف المقرين بإعجاز بلاغته". انتهى.
فعجز العرب عن معارضته حجة قاطعة ومحجة ساطعة، ومحال أن يلبثوا ثلاثا وعشرين سنة على السكوت عن معارضة آية منه، تستلزم تلك المعارضة نقض أمره وتفريق أتباعه وزوال شوكته وحيازة مرتبته، مع قدرتهم عليها وطلبها منهم وقتل أكابرهم وسبي ذراريهم، وهو لا يزداد إلا تقريعا لهم بعجزهم عن المعارضة، ويقول لهم: إن زعمتم أني افتريته لعلمي بأخبار الأمم فأتوا بمفترى مثله. فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا تكلفه مصقع، وإلا لظهر ووجد من يستجيده ويحامي عليه، ويزعم بمجرد الدعوى أنه عارض وناقض، فلما لم يوجد ذلك -مع أن كثيرا منهم هجاه وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته- قطع بعجزهم وتحيرهم وانقطاعهم.
قال أبو سليمان الخطابي: "وقد كان ﷺ أعقل خلق الله، وقد قطع القول بأن ما أتى به من عند ربه، وأنهم لا يأتون بمثل أقصر سورة منه. فلولا أنه على بينة واضحة من ربه - علام الغيوب - وأنه لا يقع فيما أخبر به خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يمكن أن يكون". انتهى.
قال بعض العلماء: إن الذي أورده ﷺ على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب البيان والتقدم في اللسن بكلام مفهم المعنى عندهم، فكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص، ولا يتعاطون علمه. وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة، فدل أن العجز عنه إنما كان ليكون علما على رسالته وصحة نبوته. [18]
واعلم أن جمهور العلماء وأهل السنة على أن القرآن معجز بذاته، لا يصح أن يكون مقدورا للبشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن اقتدار الخلق عليها كإحياء الموتى، وقلب العصا، وتسبيح الحصى. ومن قال: إنه مما تمكن مماثلته، وأنه لا يمتنع أن تأتي به القوة البشرية فهو يقول إن الله تعالى صرف الناس عن معارضته، فالإعجاز في هذا ظاهر أيضا لأن الله تعالى لما دعا أهل الخطابة والفصاحة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن فعجزوا عن الإتيان بمثله لم يخف على أولي الألباب أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك. وعلى الطرفين فعجز العرب عنه ثابت، فالإعجاز به حاصل. ولكن الصحيح هو الأول. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.
فصل
ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية ما بقيت الدنيا، محفوظا من التغيير والتبديل الواقعين في الكتب قبله، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}. وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، ولم يبق إلا خبرها. والقرآن العزيز، الباهرة آياته، الظاهرة معجزاته، الذي هو أعظم من كل معجزة، وأبهر من كل آية باق على ما كان، غضا طريا لم يتغير منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وجميع وجوه إعجازه التي ذكرناها ثابتة إلى يوم القيامة، بينة الحجة لكل أمة تأتي. لا يخفى وجه ذلك على من نظر إليه، وتأمل وجوه إعجازه. وما أخبر به من الغيوب يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به، حتى كأنه يشاهد عيانا، فيتجدد الإيمان، ويتظاهر البرهان، وليس الخبر كالعيان. والنفس أشد طمأنينة إلى عين اليقين منها إلى علم اليقين، وإن كان كل عندها حقا. وإلى هذا المعنى - كما قال القاضي عياض - أشار النبي ﷺ فيما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "«ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيه أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»". وهذا لفظ مسلم.
ومما يلحق بإعجازه إخباره بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا، ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. والإعجاز في هذا من وجهين: من جهة إخباره بأنه لا يكون أبدا، فلم يكن. وهذا أدخل في باب الإخبار بالغيب. ومن جهة صرف دواعيهم. وهذا من أعجب الخوارق، أنهم مع حرصهم على تكذيبه لم تنبعث دواعيهم لإظهار تكذيبه بالتمني، بل صرفهم الله عن تمنيه، ليظهر صدق رسوله، وصحة ما أوحي إليه.
قال أبو محمد الأصيلي:
من أعجب أمرهم أنه لا توجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله بذلك نبيه عليه السلام يقدم عليه ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم. وكذلك آية المباهلة التي نزلت في قصة وفد نجران، حيث نكلوا عن المباهلة ورجعوا إلى الصلح وبذلوا الجزية. وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فما فعلوا ولا قدروا ولا يفعلون أبدا. [19]
واعلم أن آية التمني -على ما قرره الحافظ ابن كثير- هي من باب المباهلة، على معنى أنها تضمنت الدعاء بالموت على أي الفريقين أكذب: من اليهود ومن المسلمين، فقال: قال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس يقول لله لنبيه ﷺ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، أي: اعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله ﷺ. {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، أي لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات.
قال ابن كثير: وهذا في الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب. ونقله ابن جرير عن قتادة، وأبي العالية، والربيع بن أنس، رحمهم الله تعالى.
والمعنى: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء وأحباؤه من دون الناس، وأنكم أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك، وادعو على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة لتستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقنوا ذلك، وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة، لما يعلمون من كذبهم، وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول ﷺ ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم. فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنيا، لأن كل محق يتمنى لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره. انتهى. [20]
واعلم أن النصراني -فيما تقدم من كلامه- قسم معجزات نبينا ﷺ إلى ثلاثة أقسام: قسم زعم أنه مما أمكن فعله بحيلة مما تقوم به القوة البشرية، وأراد أن القرآن من ذلك. وقسم زعم أنه من المحال كانشقاق القمر. وقسم زعم أنه ليس عليه شهود. وقد عرفت بما قدمناه الجواب عن القسم الأول، وأن البراهين القوية، والأدلة الصحيحة العقلية شاهدة أن القرآن غير مقدور للبشر، وأنه مما لا يمكن الإتيان به إلا بالوحي من الله عز وجل. وعلى التنزل إلى أنه مما يمكن البشر الإتيان به فقد ثبت عجزهم عنه وظهر انقطاعهم، ويكون ذلك على هذا القول بصرف الله إياهم عن معارضته، كما صرف اليهود عن تمني الموت تصديقا لنبيه ﷺ في إخباره أنهم لن يتمنوه أبدا. وكما صرف النصارى عن المباهلة، فقامت الحجة، وانقطعت المعذرة، وجاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
فصل
وأما معجزة انشقاق القمر فهي -كما قال الخطابي- آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السموات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى.
وهذه المعجزة دل عليها القرآن، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} والمراد وقوع انشقاقه. ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}، فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: (انشق) وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، فدل على أن المراد بالآية وقوع انشقاقه في الدنيا، كما دل عليه صريح الأحاديث الآتية. وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجل نبينا ﷺ فإن كفار قريش لما كذبوه، ولم يصدقوه أعطاه الله تعالى هذه الآية العظيمة المتضمنة لثلاث حكم: الأولى دلالتها على وحدانية الله تعالى وأنه المتفرد بالربوبية والإلهية، وأن هذه الآلهة التي يعبدونها من دونه باطلة، لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده. وهذا على طريق القرآن من الاستدلال بتفرده تعالى بالخلق والتدبير على أنه هو المعبود وحده. الثانية: دلالتها على نبوة محمد ﷺ وصحة رسالته حيث أراهم هذه الآية جوابا لاقتراحهم. الثالثة: أنها دلت على ما أخبرت به الأنبياء من انشقاق السموات يوم القيامة. قال بعض الأئمة: وجعل الآية فيه دون الشمس والنجوم، لأنه أقرب إلى الأرض، وكان فيه دون سائر أجزاء الفلك، إذ هو الجسم المستدير الذي فيه الانشقاق، فقبول محله أولى.
وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم: أنس بن مالك وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب وحذيفة بن اليمان وجبير بن مطعم وعبد الله بن عمر، وغيرهم.
ففي الصحيحين من حديث أنس: "أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما".
وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله ﷺ: «اشهدوا».
وروى الإمام أحمد من حديث جبير بن مطعم، قال: "انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقالوا: إن سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس".
وعند أبي داود الطيالسي عن ابن مسعود في حديثه قال: "فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفار، فأخبروهم بذلك".
وبالجملة، فالروايات بهذه الواقعة متعددة وطرقها متعددة، وعلى وقوعها أجمع علماء الأمة وحفاظها وتلقاه الخلف عن السلف.
قال ابن عبد البر: قد روي هذا الحديث - يعني حديث الانشقاق - عن جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، وتأيد بالآية الكريمة. [21]
وقال غيره: إن لهذا الحديث طرقا شتى بحيث لا يمترى في تواتره.
وأما قول النصراني: "إنه من المحال يستفظعه العقل" فجوابه أن العقل الصحيح المؤيد بنور الإيمان بالله ورسوله، وأن الله على كل شيء قدير، لا يحيل ذلك ولا يستبعده، فإن الله تعالى هو الذي خلق القمر وجميع المخلوقات، وهي في قبضته وتحت تصرفه، أوجدها من العدم وسيعيدها إليه، فلا يستبعد أن يخرق العادة فيها معجزة لرسوله ودلالة على صدقه، كما جعل العصا حية، وأخرج الناقة من صخرة.
واعلم أن شبهة القائلين باستحالة الانشقاق دعواهم أن الأجرام العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام. وكذا قالوه في إنكارهم فتح أبواب السماء لنبينا ﷺ ليلة المعراج. وما ذكرناه من عموم قدرة الله تعالى على جميع الممكنات دليل على عدم الإحالة. وبمثل هذا أجاب العلماء، كقول أبي إسحاق الزجاج، وهو من متقدمي العلماء: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله، يفعل فيه ما يشاء، كما يكون يوم القيامة ويفنيه. انتهى.
ويكفي في الحجة على النصارى في ذلك رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فإنهم يعترفون أنه رفع بجسمه، فقد حصل برفعه الانخراق والالتئام الذي أنكروه، فبطل قولهم في إحالة الانشقاق، وبقي ثبوته من جهة النقل.
وقد قدمنا أنه بلغ مبلغ التواتر الذي لا يشك فيه، وإن أنكره أهل الكفر والعناد.
وأما قول بعض الملاحدة: "لو وقع هذا لنقل متواترا، واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة، لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوافرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد. ولو كان لذلك أصل لخلد في كتب السير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه، وإغفاله، مع جلالة شأنه ووضوح أمره". فأجاب عنه الخطابي وغيره بأن هذه القصة خرجت عن الأمور التي ذكروها، لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلا، لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نياما ومستكنين في الأبنية، والبارز منهم بالصحراء - إن كان يقظانا - يحتمل أنه اتفق أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره. ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فيجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي يظهر لبعض الآفاق دون بعض. كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم كما يجد الكسوف أهل بلد دون أهل بلد آخر. وكثيرا ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار ونجوم طوالع عظام، تظهر في الأحيان بالليل في السماء، ولا علم عند أحد منها.
فصل
وأما ما عدا ما تقدم من معجزاته ﷺ ودلائل نبوته فكثيرة جدا، وبسطها يحتمل مجلدات، ولكننا نذكر من عيونها ومشهورها ما هو اللائق بما قصدناه من الاختصار.
فمن ذلك ما أخبر به من المغيبات المستقبلة في القرآن، من ذلك شيء كثير كقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الآية. وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الآية. وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} الآية. وقال للمسيح: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ}. وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقال في اليهود: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} الآية. وقال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} الآية. وقال: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} الآية. وتقدمت القصة.
وقال في الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}. وقال عن أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}. فماتا كافرين.
وقال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، وهذا كله وقع، وحصلت الغنائم الكثيرة، ودخلوا المسجد آمنين ودعيت الأعراب إلى قتال الروم وفارس.
وقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} وكان ذلك إخبارا من الله لرسوله باقتراب أجله حينئذ، وكذلك وقع، فما مات ﷺ حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يبق في بلاد العرب موضع لم يدخله الإسلام.
وقال عن المنافقين في أمرهم مع اليهود فيما وعدهم به من أنفسهم: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} الآية. وكذلك كان.
وضرب الله لهم المثل بالشيطان: {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} وقصتهم مشهورة في التفاسير والسير.
وفي الأحاديث الصحيحة مما أخبر بوقوعه فكان ما لا يحصى كثرة.
كما في صحيح البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "بينما أنا عند رسول الله ﷺ إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها. فقال: «إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله -قلت في نفسي: فأين ذعار طي الذين سعروا البلاد- ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى. قلت: كنوز كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه ذهبا أو فضة يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدا يقبله منه» قال عدي: "فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم ﷺ: يخرج الرجل ملء كفه ذهبا أو فضة فلا يجد من يقبله منه".
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «وستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها، فإن لهم ذمة ورحما».
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "«إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وأن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أني لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا».
وهذا أخبر به ﷺ في أول الأمر وأصحابه في غاية القلة قبل فتح مكة، فكان كما أخبر، فإن ملكهم انتشر في المشرق والمغرب ما بين أرض الهند - أقصى المشرق - إلى بحر طنجة في المغرب، حيث لا عمارة وراءه. وذلك ما لم تملكه أمة من الأمم، ولم ينتشر في الجنوب والشمال كانتشاره في المشرق والمغرب.
قال بعض العلماء: لما كانت أمته أعدل الأمم انتشرت دعوته في الأقاليم التي هي وسط المعمور من الأرض.
وفي حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لينفقن كنوزهما في سبيل الله». أخرجاه في الصحيحين.
وملك كسرى وقيصر أعز ملك في الأرض، فلم يبق للفرس ملك، وهلك قيصر الذي بالشام وغيرها، فلم يبق من وقت الفتوح العمرية من هو ملك على الشام ولا مصر ولا الجزيرة من النصارى، وهو الذي يدعى قيصر.
وقال في قيصر: «ثبت الله ملكه»، فثبت ببلاد الروم، وفي كسرى: «مزق الله ملكه»، فلم يبق له ملك. وهذا كله يصدق بعضه بعضا.
وفي الصحيحين عنه ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» الحديث. وهذا أخبر به حين كانت أمته أقل الأمم، ثم انتشرت في المشارق والمغارب، وكان كما أخبر، فإنه - ولله الحمد - لم تزل فينا طائفة ظاهرة بالعلم والدين والسيف، فلم يصب هذه الأمة ما أصاب من قبلها من بني إسرائيل وغيرها، حيث كانوا مقهورين مع الأعداء، بل إن غلبت في قطر كان في قطر آخر طائفة ظاهرة لم يسلط على مجموعها عدو من غيرهم، ولكن وقع بينهم اختلاف وفتن.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى»، فظهرت نار عظيمة على نحو مرحلة من المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، ودامت نحو أربعة وأربعين يوما، وكانت تحرق الحجر، ولا تنضج اللحم، ورؤيت منها أعناق الإبل ببصرى. وقد أطال المؤرخون في أخبارها بما لا يتسع له هذا الموضع.
وصح عنه ﷺ أنه أخبر بموت النجاشي يوم موته بالحبشة، وصلى عليه بأصحابه.
وأنه وأبا بكر وعمر وعثمان صعدوا أحدا فتحرك الجبل، فضربه برجله وقال له: «اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد»، فاستشهدوا.
وأنه قال لسراقة بن جعشم: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى». فألبسهما عمر له لما زال ملك كسرى في زمنه.
وأخبر بأن ابنته فاطمة رضي الله عنها أول أهله لحوقا به، فكان كذلك.
وأخبر بأن أشقى الأولين عاقر الناقة، والآخرين قاتل علي يضربه في يافوخه فتبتل من دمها لحيته. فضربه الشقي ابن ملجم ضربة كذلك، فمات منها، رضي الله عنه.
وبأن عثمان يقتل ظلما، وبأن المدينة ستغزى، فكانت وقعة الحرة المشهورة على أهل المدينة من جيش يزيد بن معاوية.
وأخبر بوقعة الجمل وصفين وقتال عائشة والزبير لعلي - رضي الله عنهم - ولذلك قال علي للزبير لما برز له يومئذ: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنك تقاتله وأنت له ظالم» فانصرف الزبير، وقال: "بلى، ولكني نسيت".
وصح عنه ﷺ أنه قال في الحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فكان كذلك يوم التقى مع معاوية.
وأخبر بقتل الحسين رضي الله عنه وأخبر ابن عمر أنه سيعمى لما رأى جبرائيل معه في صورة رجل. وأخبر بالخوارج الذين خرجوا على علي وأن فيهم رجلا إحدى يديه مثل ثدي المرأة، فقاتلهم علي رضي الله عنه وأخرج ذلك الرجل من بين القتلى حتى رآه الناس بالوصف الذي وصفه ﷺ.
وأخبر بالرافضة وبالقدرية، وبأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وبأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهم الذين على ما كان عليه هو وأصحابه ﷺ. [22]
وأخبر أنه ستكون لهم أنماط، ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى، ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة، ثم قال في آخر الحديث: «وأنتم اليوم خير منكم يومئذ».
وقال: «يكون في ثقيف كذاب ومبير». فرأوهما: المختار بن أبي عبيد الذي ادعى أنه يوحى إليه، والحجاج بن يوسف.
وأنذر بالردة التي وقعت بعد موته. وبأن الخلافة بعده ثلاثون سنة ثم تكون ملكا. فكانت كذلك بمدة الحسن بن علي.
وقال: «إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة ثم يكون عضوضا، ثم تكون عتوا وجبروتا وفسادا في الأمة».
وأخبر بشأن أويس القرني، وأنه في أمداد أهل اليمن، وأن له أما هو بار بها، وأخبر عمر بصفته، وقال له: «إن استطعت أن يستغفر لك فافعل»، وأخبر بأنه مجاب الدعوة.
وأخبر بأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، وبأنه سيكون في أمته ثلاثون كذابا يدعون النبوة.
وعنه ﷺ: «لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس».
وأنه أخبر بالموتان الذي يكون بعد فتح بيت المقدس، وما وعد من سكنى البصرة، وأن أمته يغزون في البحر كالملوك على الأسرة.
وقال لسعد: «لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون».
وأخبر أبا ذر بتطريده، فكان كما كان، وبموته وحده وأنه يشهد جنازته طائفة من المسلمين.
وقال لعمر في سهيل بن عمرو: «عسى أن يقوم مقاما يسرك يا عمر». فكان كذلك، قام بمكة مقام أبي بكر يوم بلغه موت النبي ﷺ وخطب بنحو خطبته، وثبتهم، وقوى بصائرهم.
وأخبر ﷺ بأشياء كثيرة وقعت في زمانه، كقوله في الرجل الذي أبلى مع المسلمين في الجهاد: «إنه من أهل النار». فقتل نفسه.
وقال في حنظلة الغسيل: «سلوا زوجته عنه، فإني رأيت الملائكة تغسله» فسألوها فقالت: إنه خرج جنبا وأعجله الحال عن الغسل.
وأخبر بالذي غل خرزا من خرز اليهود، فوجدت في رحله. وبالذي غل الشملة. وبشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة، وبقضية عمير مع صفوان حين ساره، وشارطه على قتل النبي ﷺ فلما جاء عمير إلى النبي ﷺ قاصدا لقتله وأطلعه رسول الله ﷺ على السر أسلم.
وأخبر بالمال الذي تركه العباس عند أم الفضل بعد أن كتمه، فقال: ما علمه غيري وغيرها. فأسلم.
وأخبر بأنه سيقتل أبي بن خلف، فقتله. وفي عتبة بن أبي لهب أنه يأكله كلب الله. وعن مصارع أهل بدر. فكان كما قال.
وأخبر بقتل أهل مؤتة يوم قتلوا، وبينهم مسيرة شهر فأكثر.
وقال لخالد لما وجهه لأكيدر: إنك تجده يصيد البقر.
وأخبر بكثير من أسرار المنافقين وكفرهم وقولهم فيه وفي المؤمنين، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت، فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء.
وأعلم بصفة السحر الذي سحره لبيد بن الأعصم، وكونه في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر، وأنه ألقي في بئر ذروان. فكان كما قال ﷺ.
ووصف لكفار قريش بيت المقدس حين كذبوه في خبر الإسراء، ونعته لهم نعت من عرفه وأعلمهم بعيرهم التي مر عليها في طريقه وأخبرهم بوقت وصولها. فكان ذلك كله كما قال.
وأما ما أخبر به ﷺ مما لم يقع إلى الآن فكثير جدا، وبحسب هذا النوع من معجزاته ﷺ أن يكون المروي فيه ديوانا مفردا يشتمل على عدة أجزاء.
وفيما أشرنا إليه من نكت الأحاديث التي ذكرناها كفاية، وأكثرها في الصحيحين والسنن والمسانيد المشهورة.
وقد روى البخاري ومسلم وأبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول ﷺ مقاما، فما ترك شيئا يكون من مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، وقد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم رآه".
وأخرج مسلم عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله ﷺ يوما الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل، وصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، فنزل، وصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة، فأعلمنا أحفظنا".
ومن آياته كلام الشجر له، وسلامها عليه وطواعيتها له وشهادتها له بالرسالة.
أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «لما أوحى الله إلي جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله».
وعن علي رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي ﷺ بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله". رواه الترمذي، وقال: "حسن غريب".
وأخرج الحاكم في مستدركه بإسناد جيد عن ابن عمر، قال: "كنا مع النبي ﷺ في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله ﷺ: «أين تريد؟ » قال: إلى أهلي. قال: «هل لك إلى خير؟ » قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال رسول الله ﷺ: «هذه الشجرة. فدعاها رسول الله ﷺ وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها" الحديث. رواه الدارمي أيضا بنحوه.
وفي حديث جابر بن عبد الله قال: "سرنا مع رسول الله ﷺ حتى نزلنا بواد أفيح، فذهب رسول الله ﷺ يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله ﷺ فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان في شاطئ الوادي، فانطلق رسول الله ﷺ إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: «انقادي علي بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده. ثم فعل بالأخرى كذلك. حتى إذا كان بالمنصف بينهما قال: «التئما علي بإذن الله تعالى» فالتأمتا". الحديث رواه مسلم.
ومن آياته وعجائب معجزاته حنين الجذع شوقا إليه ﷺ. وقد روي عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوعه.
فأخرج البخاري من طرق عن جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله ﷺ كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: ألا نجعل لك منبرا. قال: «إن شئتم» فجعلوا له منبرا. فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة فنزل رسول الله ﷺ وضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: «كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها».
قال القاضي: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر خرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وسهل بن سعد وأبو سعيد الخدري وبريدة وأم سلمة والمطلب بن أبي وداعة.
وقال البيهقي: "قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف".
وقال الشافعي فيما نقله عنه ابن أبي حاتم في مناقبه: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى نبينا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام. فقيل له: أعطي عيسى إحياء الموتى، قال: أعطي محمد حنين الجذع حتى سمع صوته فهو أكبر من ذلك".
ومن آياته كلام الحيوانات وطاعتها له ﷺ فمن ذلك سجود الجمل، وشكواه إليه.
أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم ومنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «قوموا» فقاموا، فدخل الحائط والجمل في ناحية، فمشى رسول الله ﷺ نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك صولته. فقال رسول الله ﷺ: «ليس علي منه بأس» فلما نظر الجمل إلى رسول الله ﷺ أقبل نحوه، حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله ﷺ بناصيته أذل ما كان قط، حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك. فقال رسول الله ﷺ: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها».
وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث من طرق تدل على تعدد القصة.
ومن ذلك قصة الذئب.
أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "عدا الذئب على شاة، فأخذها، فطلبه الراعي فأخذها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله، تنزع مني رزقا ساقه الله إلي. فقال الراعي: يا عجبا، ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه، حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله ﷺ فأخبره" الحديث.
واعلم أن قصة كلام الذئب جاءت من عدة طرق أيضا من حديث أبي هريرة وأنس وابن عمر. وجاءت أحاديث أيضا في كلام الحمار وكلام الضب وكلام الغزالة، ولكن لا تخلو أسانيدها عن مقال.
ومن آياته نبع الماء من بين أصابعه ﷺ.
قال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا ﷺ.
وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: "نبع الماء من بين أصابعه ﷺ أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم". انتهى.
وقد روي حديث نبع الماء عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس وجابر وابن مسعود.
ففي الصحيحين عن أنس قال: "رأيت رسول الله ﷺ وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء، فلم يجدوه، فأتي رسول الله ﷺ بوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم". وفي البخاري أنهم ثمانين رجلا. وفي اللفظ: "فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم. قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة.
وفي الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: "عطش الناس يوم الحديبية فأتوا رسول الله ﷺ وبين يديه ركوة، فقالوا: ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك. فوضع ﷺ يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فتوضأنا وشربنا. قيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة».
وفي صحيح مسلم عن جابر قصة نبع الماء في غزوة بواط أيضا وفيه قال: "فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا" الحديث.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: "بينما نحن مع رسول الله ﷺ في سفر وليس معنا معنا ماء، فقال لنا رسول الله ﷺ: «اطلبوا من معه فضل ماء» فأتي بماء، فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ﷺ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل". أخرجه البخاري والترمذي والنسائي.
ومما يشبه ذلك تفجير الماء ببركته وانبعاثه بمسه ودعوته.
وروى مسلم في صحيحه عن معاذ رضي الله عنه قصة عين تبوك أنهم جاؤوها وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك. قال: "ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس". وعن ابن اسحاق: "فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق".
وفي صحيح البخاري في غزوة الحديبية من حديث المسور بن مخرمة، ومروان: "أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش بالري، حتى صدروا عنه".
وفي رواية: "أنه ﷺ توضأ، ومج في بئر الحديبية من فمه، فجاشت بالماء كذلك". وفي بعض الطرق عند غير البخاري: "أنه توضأ في الدلو ومضمض فاه، ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من كنانته، فألقاه في البئر، ودعا الله، ففارت بالماء، حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها". فجمع بين الأمرين.
وفي حديث البراء وسلمة بن الأكوع، مما رواه البخاري في قصة الحديبية، وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروي خمسين شاة، فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله ﷺ على جباها. قال البراء: وأتي بدلو منها، فبصق، ودعا - وقال سلمة: فإما دعا، وإما بصق فيها - فجاشت، فأرووا أنفسهم وركابهم.
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: "كنا مع النبي ﷺ في سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل ودعا فلانا، ودعا عليا، وقال: «اذهبا فاسقيا الماء» فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء، فجاءا بها إلى رسول الله ﷺ فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي ﷺ بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكى أفواههما وأطلق العزالى، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء. وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بها، وايم الله، لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها" الحديث، وفيه: "أنها لما أتت إلى قومها قالت: والله، إنه لأسحر الناس كلهم، أو إنه رسول الله، وقالت لهم: فهل لكم في الإسلام" الحديث.
وعن أنس قال: "أصاب الناس سنة على عهد رسول ﷺ فبينما النبي ﷺ يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي، فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع لنا. فرفع يديده وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة في مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدث بالجود". رواه البخاري ومسلم.
ومن آياته ﷺ تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه.
في الصحيحين عن جابر في حديثه في غزوة الخندق قال: "فانكفأت إلى أمرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت النبي ﷺ خمصا شديدا، فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي ﷺ فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنا صاعا من شعير، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي ﷺ: «يا أهل الخندق إن جابرا صنع سؤرا فحي هلا بكم» وقال ﷺ: «لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى آتي» فأخرجت له عجينا. فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها» وهم ألف. فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو".
وفي الصحيحين أيضا قصة إطعام النبي ﷺ القوم الذين كانوا سبعين أو ثمانين رجلا من أقراص شعير أرسلت بها أم سليم تحت يد أنس، وأنهم كلوا حتى شبعوا. وجاءت روايات عدة عن أنس في هذا المعنى تدل على تعدد القصة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: "لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله، ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم بالبركة، فقال: «نعم» فدعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع من ذلك يسير، فدعا رسول الله ﷺ بالبركة، ثم قال: «خذوا في أوعيتكم» فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله ﷺ: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة».
وفي الصحيحين عن أنس قصة إطعام النبي ﷺ أصحابه، وكانوا زهاء ثلاثمائة رجل، من حيس أرسلت به أم سليم مع أنس، وأنهم أكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. قال أنس: "فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟ ".
وعن سمرة بن جندب، قال: "كنا مع النبي ﷺ نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة، ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء يعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا. وأشار بيده إلى السماء". رواه الترمذي والدارمي.
وعنه قال: "أتي النبي ﷺ بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم، ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا من ههنا. وأشار إلى السماء". رواه الدارمي وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي، وصححوه، وأبو نعيم.
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: "كنا مع النبي ﷺ ثلاثين ومائة، وذكر الحديث، وأنه عُجن صاع، وصنعت شاة فشوي سواد بطنها، قال: فما من الثلاثين ومائة إلا وقد حز له من سواد بطنها. ثم جعل منها قصعتين، فأكلنا أجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير". رواه البخاري.
والأحاديث في مثل هذه كثيرة.
ومن آياته إجابة دعائه ﷺ، وهذا باب واسع جدا، وإجابة دعوة النبي ﷺ لجماعة بما دعا لهم متواتر على الجملة معلوم ضرورة.
وقد جاء في حديث حذيفة: "كان رسول الله ﷺ إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده".
وأخرج البخاري عن أنس قال: "قالت أمي: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له. قال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما آتيته» وفي رواية: قال أنس: "فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم على نحو المائة". وفي رواية: "وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدي هاتين مئة من ولدي، لا أقول: سقط، ولا ولد ولد".
قال القاضي أبو الفضل: ومن هذا دعاؤه لمعاوية بالتمكين في البلاد، فنال الخلافة. ولسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته، فما دعا على أحد إلا استجيب له، ودعا بعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل، فاستجيب له في عمر. قال ابن مسعود: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". وأصاب الناس في بعض مغازيه عطش، فسأله عمر الدعاء، فجاءت سحابة، فسقتهم حاجتهم، ثم أقلعت. ودعا في الاستسقاء، فسقوا؛ ثم شكوا إليه ضرر المطر، فدعا، فصحوا. وقال للنابغة: «لا يفضض الله فاك» فما سقطت له سن. وفي رواية: فكان أحسن الناس ثغرا، إذا سقطت له سن نبتت له أخرى. وعاش عشرين ومائة. وقيل أكثر من هذا. ودعا لابن عباس: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» فسمي بعد الحبر وترجمان القرآن. ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه، فما اشترى شيئا إلا ربح فيه. ودعا للمقداد بالبركة، فكان عنده غرائر من المال. ودعا بمثله لعروة بن أبي الجعد فقال: "لقد كنت أقوم بالكناسة، فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا". وقال البخاري في حديثه: "فكان لو اشترى التراب ربح فيه". ودعا لأم أبي هريرة، فأسلمت. ودعا لعلي رضي الله عنه أن يُكفى الحر والقر، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حر ولا برد. وسأله الطفيل بن عمرو آيه لقومه لما ذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فقال: «اللهم، نور له» فسطع له نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مثلة. فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة المظلمة، فسمي ذا النور. ودعا على مضر، فأقحطوا حتى استعطفته قريش، فدعا لهم فسقوا. ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه، فلم تبق له باقية.
قال القاضي: "ولم يبق لفارس رياسة في أقطار الدنيا".
ودعا على صبي قطع عليه الصلاة أن يقطع الله أثره، فأقعد. وقال لعتبة بن أبي لهب: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فأكله الأسد. وحديثه المشهور في الصحيحين من رواية ابن مسعود في دعائه على قريش حين وضعوا السلى على رقبته وهو ساجد، وسماهم، قال: "فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر".
ومنها إبراء ذوي العاهات.
أخرج الإمام عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن ابني به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا. فمسح رسول الله ﷺ صدره فتع تعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى". [23]
وفي حديث أبي سعيد في غزوة خيبر أنه قال: "قال رسول الله ﷺ: «أين علي بن أبي طالب؟ » فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسل إليه، فأتي به، فبصق رسول الله ﷺ في عينيه، ودعا له فبرئ، حتى كأن لم يكن به وجع". أخرجه البخاري.
وفي رواية مسلم عن طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: "فأرسلني رسول الله ﷺ إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه فبرئ".
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها رسول الله ﷺ فقال: "يا رسول الله إن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني، فأخذها رسول الله ﷺ بيده، وردها إلى موضعها، وقال: «اللهم اكسه جمالا» فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى".
وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته، فسأله عمر: من أنت؟ فقال:
أبونا الذي سالت على الخد عينه ** فردت بكف المصطفى أيما رد
عادت كما كانت لأول أمرها ** فيا حسن ما عين وياحسن ما خد
فوصله عمر، وأحسن جائزته.
فال السهيلي: وفي رواية: "أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي ﷺ فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما، فعادتا تبرقان". قال الدارقطني: هذا حديث غريب، وتفرد به عمار بن نصر عن مالك، وهو ثقة. ويجمع بين الروايتين بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة. وبعضهم - إن صحت الرواية عنه - علم أنها ثنتان. ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة.
وأصيب سلمة يوم خيبر بضربة في ساقه، فنفث فيها رسول الله ﷺ ثلاث نفثات، فما اشتكاها قط. رواه البخاري.
والأخبار في هذا المعنى أكثر مما ذكرناه.
ومن آياته ﷺ عصمته من الناس وكفاية أذاهم، على شدة العداوة ومع وحدته وقلة عضده وناصره، وكان ﷺ يدعو إلى الإيمان بالله وحده، وينادي عليهم في أنديتهم بتسفيه أحلامهم وسب آلهتهم ورميها بكل عيب وسوء، فيبالغون - حتى أقرب أقاربه كعمه أبي لهب - في إيذائه والتجري عليه، لكثرتهم ووحدته ﷺ وهو مع ذلك محروس بحراسة الله تعالى مكلوء بكلاءته محفوظ بحفظه، متماد على ما هو عليه، غير ملتفت إلى أذاهم، إلى أن مكنه الله من نواصي أعدائه، فأذاق من بقي منهم على كفره الهوان.
فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب. ثم إنه أتى النبي ﷺ وهو يصلي؛ ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيده، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال النبي ﷺ: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا».
وعن جابر قال: "غزونا مع رسول الله ﷺ قبل نجد، فأدركنا رسول الله ﷺ في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله ﷺ تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس بالوادي يستظلون بالشجر، فقال رسول الله ﷺ: «إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي والسيف في يده صلتا، فقال: ما يمنعك مني؟ قلت: الله. فشام السيف، وها هو ذا جالس» ثم لم يعرض له رسول الله ﷺ وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه، وقال: والله لا أكون في قوم هم حرب لك". أخرجه البخاري ومسلم.
ومن هذا الباب العبرة المشهورة والكفاية التامة عندما أجمعت قريش على قتله وبيتوه لما أراد الهجرة، فخرج عليهم من بيته، فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم وذرى التراب على رؤوسهم وخلص منهم.
ثم حمايته إذ هو وأبو بكر في الغار وقد وقف الكفار على بابه، بما هيأ الله من الآيات ومن العنكبوت الذي نسج عليه، حتى قال أمية بن خلف حين قالوا ندخل الغار: ما إربكم فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل يولد محمد. ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش: لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام.
ثم قصة سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعه على فرسه؛ ليأسره لقريش حيث جعلوا عليه الجعائل، فلما قرب منه دعا عليه النبي ﷺ فساخت قوائم فرسه، ثم دعاه وأبا بكر بالأمان، وقال: ما أصبت إلا من جهتكم، ووقع في نفسه ظهور النبي ﷺ فطلب منه أن يكتب له أمانا. فأمر أبا بكر فكتب له، فانصرف يقول للناس: كفيتم ما هنا.
ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس حين وفدا على النبي ﷺ وكان عامر قال له: أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت، فلم يره فعل شيئا. فلما كلمه في ذلك قال له: والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني وبينه، أفأضربك؟.
وعن فضالة بن عمرو قال: أردت قتل النبي ﷺ عام الفتح وهو يطوف بالبيت، فلما دنوت منه قال: «فضالة؟ » قلت: نعم. قال: «ما كنت تحدث به نفسك؟ » قلت: لا شيء، فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري فسكن قلبي، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله أحب إلي منه.
والأحاديث والأخبار في معجزات نبينا ﷺ كثيرة جدا، قد أفردت بالمصنفات الكبارعند المتقدمين والمتأخرين، وإنما ذكرنا من صحيحها ومشهورها ما هو كالأنموذج الدال على ما وراءه. وبالله التوفيق.
فصل
في بيان أن هذه الأخبار تفيد العلم؛ ليعرف بطلان قول النصراني: "إن هذه المعجزات مما لم يكن عليه شهود".
فنقول: هذه المعجزات منها ما هو في القرآن. وقد علم بالضرورة عند الموافق والمخالف إتيانه من قبل محمد ﷺ كما قدمنا الإشارة إلى ذلك.
ومنها ما هو متواتر، كنبع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع وتكثير الطعام. فما من طبقة من طبقات الأمة إلا وهذه المعجزات منقولة عنده، وتواترها أعظم من تواتر كثير من الأحكام. فهو أعظم من تواتر سجود السهو؛ فإن سجود السهو متواتر مقطوع به، مع أنه إنما كان مرات قليلة ولا يحضره إلا المصلون خلفه لتلك الصلاة. وكذلك حكمه ﷺ بالشفعة فيما لم يقسم. وكذلك نقلهم لنصب الزكاة، فإنه مع كونه متواترا مقطوعا به فلم يسمعه منه إلا طائفة قليلة. وأمثال ذلك كثيرة، إنما سمعها طائفة من الأمة هم أقل بكثير ممن شاهد آياته.
قال بعض الأئمة: ومن المعلوم بالضرورة أنه قد جرى على يديه عليه الصلاة والسلام آيات وخوارق عادات، إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغه جميعها، فلا مرية في جريان معانيها على يديه. ولا يختلف مؤمن ولا كافر أنه جرت على يديه عجائب، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله. وقد قدمنا إيضاح الدلالة على كونها من قبل الله، وأن ذلك بمثابة قوله: صدق عبدي؛ فأطيعوه. [24]
فهذا أحد الوجوه في إثبات هذه المعجزات وهو التواتر العام.
الوجه الثاني: التواتر الخاص. وذلك في كثير من أفراد هذه المعجزات. فإن الأخبار قد تستفيض وتتواتر عند قوم دون قوم بحسب طلبهم لها، وعلمهم بمن أخبر بها، وما دل من الدلائل على صدقهم. وأهل العلم بحديث النبي ﷺ لهم من العلم بهذا ما ليس عند غيرهم. كما أن أصحاب مالك والشافعي وغيرهما، عند كل كل طائفة من أقوال متبوعيهم وأخباره ما يقطعون به، وإن كان غيرهم لا يعرفه. والأطباء عندهم من كلام بقراط وأمثاله كذلك. وأهل العلم بأيام الإسلام يعلمون من سيرة الخلفاء ومغازيهم ما يقطعون به، وإن كان غيرهم لا يعرفه. بل أهل العلم بالرجال يعلمون من حال آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما لا يعلمه غيرهم. والنحاة يعلمون من حال سيبويه وأمثاله ما لا يعلمه غيرهم. فكيف بمن هو عند أتباعه أعلى قدرا من كل عالم، وأرفع منزلة من كل ملك، وهم أرغب الخلق في معرفة أحواله، وأعظم الناس تحريا للصدق فيها، ولرد الكذب منها، حتى صنفوا الكتب الكثيرة في أخبار جميع من روى شيئا من أخباره، وذكروا من الجرح والتعديل، ووقعوا في ذلك، وبالغوا مبالغة لا يوجد مثلها لأحد من الأمم، ولا لأحد من هذه الأمة إلا لأهل الحديث، وميزوا في المنقولات بين الصدق والكذب، فيردون الكذب وإن كان فيه من فضائل نبيهم وأعلام نبوته ما هو أعظم مما يقبلون، ويقبلون الصدق وإن كان فيه شبهة يحتج بها المنازع. قال عبد الرحمن بن مهدي: "أهل العلم يثبتون ما لهم وعليهم، وأهل البدع لا يثبتون إلا ما لهم". فإذا كان أولئك فيما ينقلونه عن متبوعهم جازمين به لا يكون إلا صدقا. فهؤلاء مع جزمهم بالصدق واتفاقهم على التصديق أولى.
قال شيخ الإسلام أبو العباس: "وعامة أخبار الصحيحين مما اتفق أهل الحديث على التصديق بها وجزموا بذلك".
الوجه الثالث في تصحيح هذه المعجزات: التواتر المعنوي.
وهذا مما اتفق عليه عامة الطوائف، فإن الناس يسمعون أخبارا متفرقة تتضمن شجاعة علي، وعمر، وأمثالهما، وسخاء حاتم ومعن وأمثالهما، وحلم الأحنف ومعاوية وأمثالهما، فيحصل علم ضروري بأن الشخص موصوف بهذا وإن كان كل خبر لو تجرد لم يفد العلم. فهذه الأحاديث وأضعاف أضعافها هي أضعاف أضعاف ما نقل عن الواحد من هؤلاء، ونقلتها أجل وأكبر، وعلم المسلمين بها أعظم من علم أهل الكتب بآيات موسى وعيسى، فما يذكرون من حجة في صحة نقلها إلا وحجة المسلمين فيما ينقلونه عن نبيهم وأصحابه أظهر وأقوى.
الوجه الرابع: أنها تكون بمحضر من الخلق الكثير، كتكثير الطعام يوم الخندق، ونبع الماء من بين أصابعه يوم الحديبية، وفيضان البئر بها، وكلهم صالحون لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة. وكان بعضهم ينقلها قدام آخرين ممن حضرها، فيذهب أولئك، فيخبرون بها أولئك، فيصدق بعضهم بعضا، ويحكي هذا مثل ما حكى هذا، من غير تواطؤ. وأدنى أحواله أن يقرره، ولا ينكره. ونعلم بموجب العادة الفطرية، وبما كان عليه السلف من تحري الصدق، وشدة توقيهم الكذب على نبيهم ﷺ وروايتهم عنه التحذير من الكذب عليه وتعظيم الوعيد على ذلك، كما في الحديث المتواتر عنه: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه، بل نعلم أنه لو كان ما سمعوه منكرا عندهم وغير معروف لديهم لأنكروه. كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها في السنن والسير وغير ذلك. وخطأ بعضهم بعضا ووهمه في ذلك في قضايا معلومة. ومن تعقل ما ذكرناه علم قطعا أنهم متفقون على نقل تلك المعجزات. كما اتفقوا على نقل القرآن. ومما يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم على الآخر، وإن كانوا متأخرين عن الصحابة أوجب التنازع في حكم ذلك كتنازعهم: هل كان يجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية؟ أو يداوم على القنوت في الفجر. وهو من أهون الأمور؛ إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من فعل أو ترك. ولكن لما تنازعوا في فعله تنازعوا في الحكم، فعلم أن ما كان مشهورا في الأمة عن النبي ﷺ ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله. وكذلك حجه؛ فإنهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة، وأنه عاش بعدها نحو ثلاثة أشهر.
قال أبو العباس: واتفقوا على أنه لما حج أمر أصحابه إلا من ساق الهدي إذا طاف وسعى أن يحل، وأنه لم يعتمر هو وأصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا عائشة، وأنه لم يحل، ولا من ساق الهدي معه. وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه، أو بعض الأمور التي تخفى على كثير من الناس. وكان الصحابة ينقلون تمتعه، ومرادهم أنه قرن بين العمرة والحج، وبعضهم قال: أفرد الحج، فظن بعض الناس أنه اعتمر بعد الحج. وقال بعضهم: قرن، فظن بعض الناس أنه طاف طوافين، وسعى سعيين. ومن أسباب الغلط أن الصحابة يستعملون تلك الألفاظ في غير المعاني التي استعملها من بعدهم.
قال: "ومن تدبر هذا أفاده علما يقينا بصحة هذه المعجزات عنه".
الوجه الخامس: إن كل طائفة من العلماء ممن صنف في علوم الأثر قد تواتر عندهم من هذه الآيات ما فيه كفاية، فكتب التفسير متواتر فيها. وكذلك كتب الحديث، وكذلك كتب السير، وإن لم يكن هذا مقصودا منها. وإنما المقصود ما أصوله تلك الكتب من الأحكام وغيرها، فنقل كل طائفة يفيد العلم اليقيني، فكيف بنقل الكل. وهذه الأوجه التي ذكرناها يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام. وهذا أقل ما يكون، وعلى تواتر جنس جنس، منها كتكثير الطعام والطهور، وعلى نوع نوع، كنبع الماء من بين أصابعه، وعلى تواتر شخص شخص، كحنين الجذع. وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر واعتبره بأمثاله وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد به علما ويقينا، وتبين له أن العلم بذلك أظهر من جميع ما يطلبه بالأخبار المتواترة. فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك. وما من حال أحد من الأنبياء والملوك والعلماء وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد ﷺ أظهر. وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن، كالعلم بالبلاد البعيدة، إلا والعلم بحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وما هم عليه من الدين، وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائع دينه أظهر؛ تحقيقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان، إنما هو بما يظهره من آياته، وذلك إنما يتم بما ينقل عن محمد ﷺ من آياته التي هي الأدلة، وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة. فهذا قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين. كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين، والحمد لله رب العالمين.
وكل واحد من هذه الأوجه الخمسة التي ذكرناها يفيد العلم بصحة هذه المعجزات، فكيف وهي كلها متظاهرة متضافرة. وهذه غير البراهين المستفادة من القرآن، فإن تلك قد تجرد لها طوائف ذكروا من أنواعها وصفاتها كثيرا، حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات الألوف.
وقد أشرنا فيما تقدم إلى مجامع ذلك وأصوله التي يرجع إليها. وهذان غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به مما قدمنا بعضه. وهذه الثلاثة غير ما في شريعته، وغير صفات أمته، وغير ما يدل على نبوته من المعرفة بسيرته وأخلاقه. وهذا كله غير نصر الله له وإكرامه لمن آمن به وعقوبته لمن كفر به.
فإن تعداد أعيان دلائل النبوة لا يمكن بشرا الإحاطة به، وذلك أنه لما كان الإيمان به واجبا على كل أحد بين الله لكل قوم - بل لكل شخص - ما لا يبين لآخرين. كما أن دلائل الربوبية أعظم وأكبر من كل مدلول، ولكل قوم بل لكل إنسان من الدلائل التي يريد الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} والضمير عائد على القرآن عند المفسرين، كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ثم قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فأخبر تعالى أنه سيري الناس في أنفسهم وفي الآفاق من الآيات العيانية ما يبين لهم أن الآيات المسموعة حق، فيتطابق العقل والسمع ويتفق العيان والقرآن، وتصدق المعاينة الخبر. قاله شيخ الإسلام أبو العباس. [25]
وإذ عرف ما قررناه تبين بطلان قول النصراني: "إن هذه المعجزات مما لم يكن عليه شهود"، وقامت الحجة، وانقطعت المعذرة.
واعلم أنه لم يبق للمخالف ما يتعلل به سوى العناد المحض والكفر الصراح.
وما أحسن ما قال الإمام أبو عبد الله ابن القيم:
إنه لا يمكن البتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى إن لم يؤمن بنبوة محمد عليهما الصلاة والسلام، ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد عليهما الصلاة والسلام. وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين: أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما، فكيف يسع عاقلا أن يكذب نبيا ذا دعوة شائعة وكلمة قائمة وآيات باهرة، ويصدق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك؛ لأنه لم ير أحد النبيين ولا شاهد معجزاته، فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما، وإن صدق أحدهما لزمه التصديق بنبوتهما. فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا. فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصدقه؟
فله جوابان: أحدهما: أن يقول: أبي عرفني ذلك وأخبرني به. الثاني: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندي، كما حقق خبرهم وشهادتهم وجود البلاد النائية والبحار والأنهار البعيدة، وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبي وإخباره إياي بنبوة موسى كان سبب تصديقي نبوته. فيقال له: فلم كان أبوك عندك صادقا، وكلامه معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك؟ فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال؛ فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبي أصدق من آبائهم وأعرف، وأفضل، عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرف حال أبي، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك وأفضل وأعرف؟
وبكل حال فإن كان تقليده لأبيه حجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا كان تقليده لأبيه باطلا.
فإن رجع عن هذا الجواب، واختار الجواب الثاني، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن، فإنهم أخبروا بظهوره ومعجزاته وآياته وبراهين نبوته، التي تضطر إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب؛ لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة المسيح ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
فإن قال: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد.
قيل: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية، فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام أضعاف أضعافكم بكثير، والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وأنت لا تقبل خبر التواتر في ذلك، وترده، فيلزمك ألا تقبله في أمر موسى.
ومن المعلوم بالضروة أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض. وإذا اشتهر النبي في عصره وصحت نبوته في ذلك بالآيات التي ظهرت معه لأهل عصره ووصل خبره إلى أهل عصر آخر وجب عليهم تصديقه والإيمان به، وموسى والمسيح ومحمد في هذا سواء. ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادة بنبوة عيسى، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله كل ممزق، وقطعها في الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها. بخلاف أمة عيسى عليه السلام فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك ولهم الممالك. وأما الحنفاء فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وملؤوا الدنيا سهلا وجبلا، فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الجاهلية القليلة الذليلة صدقا؟
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض يصدق بنبوة موسى إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد ﷺ ولا يمكن نصرانيا البتة الإيمان بالمسيح إلا بعد الإيمان بمحمد ﷺ. ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم إنما آمنوا بهما على يد محمد ﷺ. فكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما. ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم، فلولا القرآن ومحمد ﷺ ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين؛ فمحمد ﷺ وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود والنصارى. بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا به، وبشرا بظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما، وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}. أي: مجيؤه تصديق لهم من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه. ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به ومطابقة ما جاء به لما جاءوا به.
فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا المكان ولا تلقى عنه، بمثل ما جاء به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر. وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه، فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء، فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني. فالمعنى أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبة على الناس بمن تقدمهم من الملوك. بل جاء مصدقا لهم شاهدا بنبوتهم. ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده شيئا مما جاء به لم يصدق من قبله، بل كان يزري بهم، ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء". انتهى. [26]
فصل
واعلم أن آيات النبوة ومعجزاتها لا تختص بحال التحدي أو حال دعوى النبوة، كما ظنه بعض أهل الكلام، بل تكون في حياة الرسول وقبل مولده وبعد وفاته. لكن لا بد من آيات في حياته تقوم بها الحجة كما قال ﷺ: "«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر»". وكما قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات، وقال تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}، فأخبر سبحانه أنه ضرب الأمثال لجميعهم وأهلكهم بعد إقامة الحجة عليهم. والآيات في هذا كثيرة.
وكانت آيات نبينا ﷺ غير مختصة بما بعد البعثة، بل ظهرت آياته قبل مولده وعند مولده وحال نشأته، ثم ظهرت الآيات الكبار بعد بعثته.
منها ما وقع مقارنا للتحدي، ومنها غير ذلك.
ثم استمرت آياته ومعجزاته بعد وفاته، وعلى مر السنين وتعاقب الدهور من وقوع ما أخبر به من الغيوب ومن ظهور دينه على الدين كله، واقتران العز والظهور بطاعته واتباع شريعته، والذل والصغار بإضاعة أمره ومخالفته، مما يبين ذلك للمتوسمين في عموم الناس، وفي خاصة أنفسهم.
وأكبر ذلك وأعظمه معجزة القرآن المستمرة على مر السنين، وبقاؤه محفوظا كما أنزل غضا طريا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
قال بعض أئمتنا:
ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا أرسل نبيا، وأتى بآية دالة على صدقه، قامت بها الحجة وظهرت بها المحجة، فمن طالب بآية ثانية لم تجب إجابته، بل وقد لا تنبغي، لأنه إذا جاء بثانية طولب بثالثة، فإذا جاء بها طولب برابعة، وطلب المتعنتين لا أمد له. ومعلوم أن من قامت عليه الحجة في مسألة أو في حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها، لو قال: أنا لا أقبل حتى تقوم علي حجة ثانية وثالثة، كان ظالما، ولم تجب إجابته، ولا يمكن الحكام الخصوم من ذلك، فحق الله الذي أوجب على عباده من توحيده والإيمان به وبرسله أولى. ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة، فتتابع، كآيات محمد ﷺ لعموم دعوته، فإن الأدلة كلما كثرت كان أظهر، فقد يعرف دلالة أحد الأدلة من لا يعرف دلالة الآخر، وقد يبلغ هذا ما لا يبلغ هذا، وقد يرسل الأنبياء بآيات متتابعة، ويقسي قلوب الكفار عن الإيمان، لينتشر ذلك ويظهر، ويبلغ ذلك قوما آخرين، فيصير سببا لإيمانهم. كما في التوراة: "أنه يقسي قلب فرعون، ليظهر عجائبه وآياته". وكما صد المكذبين بمحمد ﷺ حتى يسعوا في معارضته، والقدح في آياته، فيظهر بذلك عجزهم عن معارضة القرآن وغيره من آياته. بخلاف ما لو اتبع ابتداء بدون ذلك، فإنه قد كان يظن أنهم قادرون على معارضته. وكذلك أيضا يكون في ذلك من صبره وجهاده ويقينه وصبر أصحابه وأتباعه وجهادهم ما ينالون به عظيم الدرجات في الدنيا والآخرة. وقد تقتضي الحكمة ألا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال، كما ذكره في كتابه العزيز، وكان الكفار يقترحون. فتارة يجيبهم لما فيه من الحكمة، وتارة لا يجيبهم لما فيه من المضرة. وربما طلب الرسول تلك الآيات رغبة في إيمانهم، فيجاب بأنها لا تسلتزم الهدى، بل تستلزم إقامة الحجة، وتوجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها. وقد بين الله تعالى أنه لا يظهرها لانتفاء المصلحة أو لوجود المفسدة. قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث وغيرها. كما ذكروا عن ابن عباس قال: سأله أهل مكة أن يحول لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال حتى يزرعوا، فقيل: إن شئت تستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: بل أستأني بهم. فأنزل الله هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: رحمة لكم أيتها الأمة، إنا لو أرسلنا الآيات، فكذبتم بها أصابكم ما أصاب من قبلكم، وقد كانت الآيات تأتيه ﷺ آية بعد آية فلا يؤمنون بها.
قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
أخبر سبحانه أن الآيات تأتيهم فيكذبون بالحق، وأنهم سوف يرون صدق ما جاء به الرسول، كما أهلك من كان قبلهم بذنوبهم التي هي تكذيب الرسول، فإن الله يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.
وأخبر بشدة كفرهم بأنه لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين.
ويبين سبحانه أنه لو جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل، إذ كانوا لا يطيقون أن يروا الملائكة في صورهم، وحينئذ فكان اللبس يقع لظنهم أنه بشر لا ملك.
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}.
وهذه الآيات التي اقترحوا لو أجيبوا بها ثم لم يؤمنوا، أتاهم عذاب الاستئصال. وأيضا هي مما لا يصلح، فإن تفجير الينبوع بمكة يصيرها واديا ذا زرع، والله تعالى من حكمته جعل بيته بذلك الوادي، لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا، فيكون حجه للدنيا لا لله.
وإذا كان للنبي ﷺ جنة كذلك كان فيه من التوسع في الدنيا ما ينقص درجته. وكذلك إذا كان له بيت من زخرف - وهو الذهب - وإسقاط السماء لا يكون إلا يوم القيامة، وهو لم يخبرهم أنه لا يكون إلا يوم القيامة.
فقولهم -كما زعمت- كذب منهم، إلا أن يريدوا التمثيل فيكون القياس فاسدا.
وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا، فلما سأل قوم موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة.
وأما إنزال الكتاب فقد قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} الآيات.
بين سبحانه أن المشركين سألوه إنزال الكتاب، وأن أهل الكتاب سألوه ذلك، وبين أن الطائفتين لم يؤمنوا إذ جاءهم ذلك، وإنما سألوه تعنتا. فقال عن المشركين: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. وذكر عن أهل الكتاب أنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وأنهم مع ذلك نقضوا الميثاق، وكفرو بآيات الله، وقتلوا النبيين، إلى أمثال ذلك، وأنه بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله حرم عليهم طيبات.
ففيه من الاعتبار لهذه الأمة أن الأمة المكذبة إذا جاءتهم الآيات المقترحة لم يكن فيها منفعة لهم، بل توجب عقوبة الاستئصال، فكان ألا تنزل أعظم رحمة وحكمة.
وقد عرض الله تعالى على محمد ﷺ أن يهلك قومه لما كذبوه، فقال: «بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا». كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوه عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، وسلم علي، وقال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك، لتأمرني بأمرك فيما شئت، فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا». أخرجه البخاري ومسلم. والأخشبان: جبلا مكة المحيطان بها.
ولما طلبت من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا لم يعذبه أحدا. فكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال.
وأظهر تعالى آيات كثيرة لما أرسل موسى، ليبقى ذكرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يعذب أحدا بعذاب الاستئصال. بل قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} فكان بنو إسرائيل لما كانوا يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقي بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر.
ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية على الحق. قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} وقال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} الآيتين.
وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمدا ﷺ ألا يهلك قومه بعذاب الاستئصال، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب، كالذين قال فيهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}. والذي دعا عليه أن يسلط عليه كلبا، وأمثال ذلك.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} فأخبر أنه معذبهم تارة بأيدي المؤمنين، وتارة بعذاب غير ذلك. فكان ذلك مما يوجب إيمان أكثرهم، كما جرى لقريش وغيرهم، فإنه لو أهلكهم كالذين قبلهم لبادوا، وانقطعت المنفعة عنهم، ولم يبق لهم ذرية تؤمن، بخلاف الأول، فإن فيه من إذلالهم وقهرهم ما يوجب عجزهم. والنفوس إذا قدرت لا تكاد تنصرف عن مرادها، بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها، فإنه يدعوها إلى التوبة، كما قيل: من العصمة ألا تقدر. ولهذا آمن عامتهم، ولم يقتل منهم إلا القليل، وهم صناديد الكفر الذين كان أحدهم في هذه الأمة كفرعون في تلك الأمة.
كما روي عن النبي ﷺ أنه قال عن أبي جهل: «هذا فرعون هذه الأمة».
وفي التوراة: (أني أقسي قلب فرعون، لتظهر آياتي وعجائبي). بين أن فيه من الحكمة انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض، إذ كان موسى قد أخبر بتكليم الله له وبكتابة التوراة له. فأظهر الله له من الآيات ما يبقي ذكرها في الأرض. وكان في ضمن ذلك من تقسية قلب فرعون ما أوجب أن أهلكه وقومه أجمعين. وفرعون كان منكرا لله جاحدا لربوبيته لا يقر به، فلذلك أوتي من الآيات ما يناسب حاله.
وأما بنو إسرائيل مع المسيح فهم مقرون بالكتاب الأول، فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى عليه السلام.
ومحمد ﷺ لم يكن محتاجا إلى تقرير جنس النبوة، إذ كانت الرسل قبله جاءت بما يثبت ذلك. وقومه كانوا مقرين بالله، وإنما الحاجة إلى تثبيت نبوته. ومع هذا فأظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم.
ومع هذا فلم يأت بآيات الاستئصال التي يستحق مكذبها العذاب العام العاجل. فلهذا بين الله تعالى أنها إذا جاءت لا تنفعهم، إذ كانوا لا يؤمنون بها، ولكن تضرهم، ومع وجود المانع وعدم المقتضي لا يصلح الفعل. قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية. فهو يعلم أن قلوب هؤلاء كقلوب أولئك، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} وقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} ذكره في السورة التي ذكر فيها انشقاق القمر وإعراضهم عن الآيات، وقولهم: سحر مستمر، وتكذبيهم واتباعهم أهواهم، وفيها: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}، أي: من أنباء الغيب ما يزجر عن الكفر، إذ كان في تلك الآيات بيان صدق الرسول، والإنذار لمن كذبه بالعذاب، كما عذب المتقدمين. ولهذا يقول عقيب القصة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}، أي: كيف كان عذابي لمن كذب رسلي، وكيف كان إنذاري بذلك قبل مجيئه. وفيها: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} في قصة آل فرعون، لأنهم كذبوا بجميع آيات موسى وجميع آيات الأنبياء قبله، وكذبوا بجميع الآيات الدالة على وجود الرب تعالى وقدرته ومشيئته. ثم قال: {أَكُفَّارُكُمْ} أي أيتها الأمة {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} الذين كذبوا نوحا، ومن بعده {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}. وذلك كونكم لا تعذبون مثلهم، إما لكونكم خيرا منهم لا تستحقون ما استحقوا، أو يكون الله أخبر أنه لا يعذبكم، فإن ما يفعله الله تارة يعلم بخبره، وتارة يعلم بمشيئته، وحكمته وعدله، فإما أن تكونوا علمتم هذا من هذا الوجه، أو من هذا الوجه. هذا إن نظر إلى فعل الله الذي لا طاقة للبشر به. وإن نظر إلى قوة الرسول، فيقولون: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}، فإنهم أكثر وأقوى، فقال تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وهذا أخبر به وهو بمكة في قلة الأتباع، ولا يظن أحد بالعادة المعروفة أن أمره يعلو قبل أن يهاجر ويقاتل، فكان كما أخبر، فإنهم يوم بدر وغيرها هزموا، وتلك سنة الله في المؤمنين والكافرين. وحيث ظهر الكفار فلذنوب المسلمين التي نقصت إيمانهم. ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، كما قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة ألا يهلكهم هلاك الاستئصال كالذين قبلهم كان ألا يأتي بموجب ذلك، مع إتيانه سبحانه بما يقيم الحجة، ويوضح المحجة أكمل في الحكمة والرحمة. إذ كان ما أتى به من الآيات حصل به كمال الخير والمصلحة والهدى، والبيان والحجة على من كفر. وما امتنع منه دفع به من العذاب العام ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يهتدوا. وكان في إرسال محمد ﷺ لما كان خاتم الرسل من المنن السابغة ما لم يكن في رسالة رسول غيره صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. [27]
فصل
قال شيخ الإسلام أبو العباس:
الكلام في النبوة من جنس الكلام في الخبر، فقول القائل: (إني رسول الله إليكم) خبر من الأخبار، والخبر تارة يكون مطابقا لمخبره كالصدق المعلوم أنه صدق، وتارة لا يكون كالكذب المعلوم أنه كذب. فإن لم يقم دليل صدقه أو كذبه بقي ما لا نصدقه ولا نكذبه، ولهذا قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}. فأمر بذلك، لأنه قد يصدق، فدل على أنه لا يجوز تصديقه بمجرد إخباره، ولا يجوز أيضا تكذيبه قبل أن يعرف أنه كذب.
وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون». وهذا مأثور عن غيره من الأنبياء، كما جاء عن المسيح – عليه السلام - أنه قال: "الأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه". وعامة عقلاء بني آدم على هذا، وهو مما يجب معرفته. فإن كثيرا من الناس لا يميز بين ما ينفيه لقيام الدليل على نفيه، وبين ما لم يثبته لعدم دليل إثباته، فينفي ما ليس له به علم. {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}.
وكثير من الناس يعلم بالاستدلال والنظر صدق شخص معين. كما أن كثيرا منهم يعلم بالأخبار والنقل والاستدلال بذلك أمورا كثيرة، ومن لم يشاركهم فيما سمعوه، وفيما عرفوه من أحوال المخبرين، وأحوال المخبر به لا يعلم ما علموه. فلهذا كان لأهل النظر العقلي طرق لا يعرفها أهل الأخبار.
ولأهل الأخبار السمعية طرق لا تعرف بمجرد العقول.
ولهذا كان لهؤلاء من الطرق الدالة على صدق الرسول ونبوته والاستدلال على ذلك أمور كثيرة لا يعرفها أهل الأخبار.
وعند أهل الأخبار من الأحاديث المتواترة عندهم والآيات المستبينة ما يعرفون به صدق الرسول، وإن كان أولئك لا يعرفونها.
والناس قد يعلمون أن الخبر الواحد قد يقوم الدليل على كذبه، فيعلم أنه كذب وإن أخبر به ألوف إذا كان خبرهم عن غير علم أو عن تواطؤ. مثل أخبار أهل الاعتقادات الباطلة بها. وأما إذا أخبروا عن علم منهم فهم صادقون في نفس الأمر.
ويعلم صدقهم تارة بتواتر أخبارهم من غير مواطأة، ولو كانا اثنين. فإن الاثنين إذا أخبرا بخبر طويل أسنداه إلى علم، وقد علم أنهما لم يتواطآ عليه، ولا هو مما يتفق في العادة تماثلها فيه في الكذب أو الغلط، علم أنه صدق.
وقد يعلم صدق الخبر الواحد بأنواع من الدلائل وبقرائن تقترن به تكون صفات في المخبر من علمه ودينه وتحريه الصدق، أو تكون صفات في المخبر به مختصة بذلك الخبر أو بنوعه، كحاجب الأمير إذا قال بحضرته لعسكره: إن الأمير قد أذن لكم في الانصراف، وأمركم أن تركبوا غدا، أو أمر عليكم فلانا، ونحو ذلك. فإن العادة كما قد تمنع التواطؤ على الكذب، فإنها قد تمنع التواطؤ على الكتمان وإقرار الكذب، فما توفرت الهمم والدواعي على ذكره يمتنع أن يتواطأ أهل المكان على كتمانه. كما يمتنع في العادة أن تحدث حادثة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على نقلها في الحج أو المجامع أو العسكر. وإذا امتنع السكوت عن إظهارها، فالسكوت عن تكذيب الكاذب فيها أشد امتناعا.
وقد تكون الدلائل صفات في المخبر تقترن بخبره. فإن الإنسان قد ترى حمرة وجهه، فيميز بين حمرته من الخجل والحياء وبين حمرته من الحمى وزيادة الدم، وبين حمرته من الحمام وبين حمرته من الغضب. وكذلك يميز بين صفرته من الفزع وصفرته من الحزن وصفرته من المرض. حتى إن الأطباء الحذاق يعلمون حال المريض بمجرد رؤيته لا يحتاجون مع ذلك إلى نبض وقارورة. وكذلك تعرف أحواله النفسانية هل هو فرح أو محزون، وهل هو محب مريد للخير أو مبغض مريد للشر. كما قيل:
تحدثني العينان ما القلب كاتم ** من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
وكما قيل:
والعين تنظر من عيني محدثها ** هل كان من حزبها أو من أعاديها
ثم إذا تكلم مع ذلك دل كلامه على أبلغ مما تدل عليه سيما وجهه.
وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه". وقال عمر بن الخطاب للعابث في صلاته: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
والرجل الصادق البر يظهر على وجهه من نور صدقه وبهجة وجهه سيما يعرف بها، وكذلك الكاذب الفاجر. وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا فيه، حتى إن الرجل في صغره يكون جميل الوجه، فيظهر في آخر عمره من قبح وجهه ما أثرّه باطنه وبالعكس.
وروي عن ابن عباس أنه قال: "إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، ووهنا في البدن، وبغضة في قلوب الخلق".
وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب، لكن يعتقد اعتقادات باطلة في الله ورسله ودينه وعباده الصالحين، ويكون له زهادة وعبادة واجتهاد مع ذلك، فيؤثر ذلك الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه، ويظهر ذلك على وجهه، فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله. كما قال بعض السلف: " لو ادهن صاحب البدعة كل يوم بدهان فإن سواد البدعة لفي وجهه". وهذه تظهر يوم القيامة ظهورا تاما، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} الآيتين. وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآيتين.
والمقصود أن ما في القلب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه، حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية، وكذلك العكس. وإذا كان كذلك؛ فمن نبأه الله واصطفاه لرسالته كان قلبه من أفضل القلوب صدقا وبرا. ومن افترى على الله الكذب كان قلبه من أشر القلوب كذبا وفجورا. كما قال ابن مسعود: " إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاتخذهم الله لصحبة نبيه. فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيء".
وإذا كان من أعظم زمانه صدقا وبرا فلا بد أن يظهر على لسانه وعلى صفحات وجهه ما يناسب ذلك. كما أن الكاذب الكافر لابد أن يظهر عليه ما يناسبه. وهذا يكون تارة حين إخباره، وتارة في غير تلك الحال.
فإن الرجل إذا جاء، وقال: إن الأمير أرسلني إليكم بكذا، فقد يقترن بإخباره من كيفيته وحاله ما يعلم به أنه صادق أو كاذب. وإن كان معروفا قبل ذلك بالصدق أو الكذب، كان ذلك دلالة أخرى. وقد يكون ممن يكذب، ولكن يعرف أنه صادق في ذلك الخبر. دع من يستمر على عادة واحدة بضعا وعشرين سنة مع أصناف الناس واختلاف أحوالهم.
والمقصود أن العلم بصدق الصادق، وكذب الكاذب كغيرهما من المعلومات، قد يكون ضروريا، وقد يكون نظريا. وهو ليس من الضروريات الكلية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين. بل من العلم بالأمور الغيبية، كالعلم بحمرة الخجل، وصفرة الوجل، وعدل العادل، وظلم الظالم، مما يعرفه الخبير به علما ضروريا، وإن كان استدلاليا.
وإذا كان القائل: إني رسول الله، إما أن يكون من خيار الناس وأصدقهم وأبرهم وأفضلهم، وإما أن يكون من شرار الناس وأكذبهم وأفجرهم، فالفرق بين هذين يكون من وجوه كثيرة لا تكاد تنضبط.
وقد تحصل المعرفة عند سماع خبر هذا ورؤية وجهه وسماع كلامه، وما يلزم ذلك، ويقترن به من بهجة الصدق ونوره، ومن ظلمة الكذب وسواده وقبحه.
فتبين بذلك أن كثيرا من الناس إذا رأوا الكاذب وسمعوا كلامه، تبين لهم كذبه، تارة بعلم ضروري، وتارة باستدلالي، وتارة بظن قوي. وكذلك النبي الصادق إذا رأوه وسمعوا كلامه، تبين لهم صدقه بعلم ضروري أو نظري قبل أن يروا خارقا. وقد يكون أولا بظن قوي، ثم يقوى حتى يصير يقينا، كما في المعلوم بالأخبار المتواترة والتجارب.
قال أبو العباس:
وهذه الطريقة سلكها طوائف، منهم القاضي عياض، فقال: "إذا تأمل المنصف أحوال نبينا ﷺ من جميل أثره وحميد سيرته وبراعة علمه ورجاحة عقله وحلمه وكماله، وشاهد حاله وصواب مقاله لم يمتر في صحة نبوته وصدق دعوته". قال: وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به، فروينا عن الترمذي وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم أن عبد الله بن سلام قال: "لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جئت لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت أنه ليس وجه كذاب". رواه غير واحد عن عوف الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام. وعن أبي رمثة قال: "أتيت النبي ﷺ ومعي ابن لي، فلما رأيته قلت: هذا نبي الله".
وفي صحيح مسلم أن ضمادا لما قدم مكة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع أن محمدا مجنون قال: "فأتيته، فقلت: إني أرقى من هذه الريح، وإن الله شفى على يدي من شفى، فهل لك؟ فقال: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت بقول الكهنة والسحرة والشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك؛ أبايعك على الإسلام، فبايعه، فقال: «وعلى قومك؟ » قال: وعلى قومي".
وعن جامع بن شداد قال: "كان رجل منا أخبر أنه رأى النبي ﷺ بالمدينة. فقال: هل معكم شيء تبيعونه؟ قلنا: هذا البعير. قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا وسقا من تمر، فأخذ بخطامه، وسار إلى المدينة. فقلنا: بعنا من رجل لا ندري من هو. ومعنا ظعينة، فقالت: أنا ضامنة لثمن البعير، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر؛ لا يخيس بكم، فأصبحنا، فجاء رجل بتمر، فقال: أنا رسول رسول الله إليكم؛ يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر، وتكتالوا حتى تستوفوا، ففعلنا".
وفي خبر الجلندي ملك عمان لما بلغه أن رسول الله ﷺ يدعوه إلى الإسلام. قال الجلندي: "والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي".
وقال نفطويه في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}: "هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه ﷺ يقول: يكاد منظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنا، كما قال ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** لكان منظره ينبيك بالخبر
انتهى. [28]
وقد كان إيمان خديجة وأبي بكر وغيرهما من السابقين الأولين قبل انشقاق القمر وإخباره بالغيوب وتحديه بالقرآن. لكن كان بعد سماعهم القرآن الذي هو نفسه آية، ونفس إخباره أنه رسول الله، لما يعرف من أحواله المستلزمة لصدقه، إلى غير ذلك من آيات الصدق.
كما قالت خديجة رضي الله عنها لما قال لها رسول الله ﷺ: «لقد خشيت على نفسي» وذلك أول ما جاءه الملك: "أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".
فاستدلت بما فيه من الأخلاق والصفات الفاضلة والشيم الكريمة على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا. فعلمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والشيم الشريفة تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه، لا تناسب الخزي والخذلان، وإنما يناسبه أضدادها، فلذلك بادرت إلى الإيمان والتصديق.
وأبو بكر كان من أعقل الناس وأخبرهم، فلما تبين له حاله علم علما ضروريا أنه نبي صادق. وكان أتم أهل الأرض يقينا، علما وحالا.
وكذلك هرقل لما سأل أبا سفيان عن تلك المسائل في أمر النبي ﷺ فأجابه أبو سفيان، استدل بذلك على نبوته.
والحديث في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني أبو سفيان بن حرب، قال: "انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله ﷺ إلى الشام، فبينما أنا بها إذ جيء بكتاب من النبي ﷺ إلى هرقل، جاء به دحية الكلبي، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى عظيم الروم هرقل.
فقال هرقل: هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقالوا: نعم، فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا عليه، فأجلسنا بين يديه.
فقال: أيكم أقرب نسبا منه؟ فقلت: أنا. فأجلسني بين يديه وأصحابي خلفي، ثم دعا ترجمانه.
فقال: قل لهؤلاء: إني سائل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: وايم الله، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبته.
ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو حسب.
فقال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: كيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، يصيب منا ونصيب منه.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها.
قال أبو سفيان: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه.
قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا.
فقال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا. فقلت: لو كان في آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا. فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أن لا. فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا؛ ينال منكم وتنالون منه. وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة. وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. ثم قال: بم يأمركم؟ قلنا: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. فقال: إن يك ما تقول حقا فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ فقرأه، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} »
فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، فأمر بنا، فأخرجنا. فقلت لأصحابي: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله ﷺ أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام".
هامش
- ↑ الرد على اليهود والنصارى
- ↑ الشفا بتعريف حقوق المصطفى
- ↑ الشفا بتعريف حقوق المصطفى
- ↑ تفسير ابن كثير/سورة النساء
- ↑ تفسير ابن كثير، سورة النساء
- ↑ الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة
- ↑ السابق
- ↑ السابق
- ↑ بدائع الفوائد ج4
- ↑ بدائع الفوائد ج4
- ↑ بدائع الفوائد ج4
- ↑ في المطبوع: معلوم
- ↑ إظهار الحق/الفصل الثالث: في إبطال ألوهية المسيح عليه السلام
- ↑ إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر
- ↑ الشفا بتعريف حقوق المصطفى
- ↑ الشفا بتعريف حقوق المصطفى
- ↑ مجموع الفتاوى ج17
- ↑ الاعتقاد للبيهقي
- ↑ الشفا بتعريف حقوق المصطفى
- ↑ تفسير ابن كثير/سورة البقرة
- ↑ نظم المتناثر من الحديث المتواتر
- ↑ صحيح الترمذي 2641
- ↑ سنن الدارمي ح19
- ↑ الشفا
- ↑ الجواب الصحيح ج6
- ↑ إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر
- ↑ الجواب الصحيح ج6
- ↑ الجواب الصحيح ج6