الرئيسيةبحث

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/28

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل الثامن والعشرون. أعراف استضافة الشاه والهدية المقدمة له والحديث الذي تبع ذلك
المؤلف: جيمس موريير
المترجم: (م)


الفصل الثامن والعشرون. أعراف استضافة الشاه والهدية المقدمة له والحديث الذي تبع ذلك

في صباح اليوم الذي حدده الشاه لزيارة الحكيم بعد استشارة المنجمين وإجماعهم على يوم السعد انتشرت ضجة التحضيرات في كل أرجاء بيت الميرزا أحمق. استولى خيامو الشاه وفرّاشوه على صالة الجلوس فنشروا فيها سجاجيد جديدة وحضروا المسند الملكي[1] وغطوه بشال فخم، ورشوا الباحة بالماء ونصبوا النوافير وستروا الجدار الخارجي للبيت بستائر جديدة. كما جاء بساتنة الشاه وغطوا الحرم بالأزهار، وعلى سطح الحوض الذي يواجه مجلس جلالته ذروا بتلات الورد راسمين بها نقوشاً بديعة وصفوا حوله صفوفاً من أشجار البرتقال فتحولت باحة بيت الحكيم الجرداء إلى حديقة نضرة.

ثم وصل حشد من الطباخين، وكانت أكبر الجماعات وأكثرها سطوةً، وأحضروا معهم أعداداً هائلة من الأقدار والمقالي والطاسات والمجامر حتى تسائل الطبيب وقد فرغ صبره عن معنى هذا: فهل عليه إطعام سكان المدينة كلهم فضلاً عن الملك؟

فكان الجواب: «ليس كلهم، ولكنك ربما تتذكر قول سعدي:[2]

إذا اقتطف السلطان في الروض زهرة لبعض الرعايا أهلك الحرثَ تابعُه
وإن يستبح في نفسه غصب بيضةٍ فكل دجاج الكون فاجأ مصرعه»

فاستولوا على المطبخ الذي لم يتسع حتى لربع الأواني والناس، فأنشؤوا مواقد في الباحة المجاورة حيث وضعت المجامر وطُبِخ الرز الذي يوزع في مثل هذه المناسبات إلى جميع الحضور. وعدا الطباخين جاءت جماعة من طهاة الحلوى وأخذوا إحدى الغرف وشرعوا بتحضير كل أنواع الحلويات والمثلجات والمشروبات والفواكه، وطلبوا موادّ متنوعة بكميات هائلة حتى كاد الطبيب يلقى حتفه حين قدموا القائمة له. وفضلاً عن كل هؤلاء، وصلت فرقة المطربين والموسيقيين مع كبير المهرجين (لودي باشي) ومعه عشرون مهرجاً كل واحد يحمل طبلاً معلقاً على كتفه.

وتعيّن وقت الزيارة بعد صلاة المغرب. وفي تلك الساعة، حين خفّ الحرّ قليلاً واستعد سكان طهران للاستمتاع ببرودة المساء، خرج الشاه من قصره وتوجه في موكب مهيب إلى بيت حكيم باشي. وكانت كل الشوارع قد كنست ورشت بالماء، ومع تقدم الموكب الملكي نشرت الأزهار في طريقه، وذهب الميرزا أحمق بنفسه إلى القصر ليعلن أن كل شيء جاهز وسار (بل هرول) مع الموكب جنب ركاب الشاه.

وجاء في مقدمة الموكب المنادون يحمل كل واحد منهم العصا التي ترمز إلى منصبه ورؤوسهم مزينة، يعلنون قدوم الشاه ويقودون الموكب ويفتحون الطريق له. وكانت جدران البيوت تعلوها حشود من النساء بحجاباتهن البيضاء، وفي البيوت الميسورة كانت النسوة تفتحن ثقوباً في الستائر المحيطة بالشرف والأساطيح. وبعدهم جاءت قافلة من الخيامين والفرّاشين يحملون عصياً طويلة ورفيعة في أيديهم لفتح الطريق من المارة. وبعدهم حشد من العاملين في الاصطبلات ألبستهم فاخرة يحملون زينة السروج المطرزة على أكتافهم، ثم الخدم في سترات زاهية في أيديهم أراكيل من ذهب، وحامل أحذية الشاه وأمين الأباريق والأحواض وحامل السترات وأمين علبة الأفيون وعدد من التابعين الآخرين. ولما كان الموكب يعدّ موكباً خاصاً لم يسبق الشاه خيول عسكرية تشكل عادةً مظهراً مهيباً لاستعراضاته الرسمية. وبعدهم جاءت قافلة من المراسلين الراجلين الراكضين مثنى مثنى ملابسهم بديعة بعضها مزركش بعملات ذهبية فوق ستراتهم المخملية السوداء، وغيرهم يرتدون قماش الذهب وآخرون يلبسون الحرير، وموقع هؤلاء أمام الشاه مباشرة يتبعهم بمرافقة رئيسهم، وهو رجل ذو حظوة عظيمة علامته سوط ذو مقبض مرصع بالصدف في نطاقه. وكان الشاه يمتطي حصاناً هادئاً ذا زينة غنية يسير الهوينى، أما لباس الملك نفسه فكان عادياً لا يتميز إلا بجودة الأقمشة وجمالها. وبعده، على مبعدة خمسين خطوة، جاء أبناؤه الثلاثة، ثم أمير الأمراء ورئيس المراسم والقائم على الاصطبل وملك الشعراء والكثيرون غيرهم، مع كل واحد حاشيته؛ وعندما اجتمع هؤلاء كلهم معاً لحضور حفل العشاء في بيت الميرزا أحمق وصل عددهم إلى خمسمئة شخص على أقل تقدير.

ترجل الشاه عند باب الدار إذ كان ضيقاً لا يسمح بالركوب عبره، ومشى في الدرب الأوسط في الباحة إلى المجلس المجهز له في القاعة الكبيرة. وبقي الجميع، عدا أبنائه، في الباحة، وتولى صاحب البيت دور الخادم.

وبعد أن جلس صاحب الجلالة بضع دقائق ظهر رئيس المراسم برفقة رب البيت حافياً قرب الحوض، يحمل الأخير على مستوى صدره طبقاً فضياً فيه مئة تومان من الصكة الجديدة. وهتف رئيس المراسم بصوت عال: «يعرض أحقر عبيد صاحب الجلالة بكل تواضع إلى ملك الملوك وظل الله في الأرض بأن الميرزا أحمق، كبير أطباء الشاه، يتجرأ بطلب تقبيل التراب المقدس عند قدمي جلالتك ويقدم لك مئة تومان هدية!»

فأجاب الشاه: «أهلا بك يا ميرزا أحمق. أنت – والحمد لله – خادم طيب. أحسن الشاه إليك، وابيضّ وجهك وازدادت حظوتك عنده، فاذهب واحمد الله أن الملك زار بيتك وقبل هديتك!» – فسجد الطبيب وقبّل الأرض.

التفت صاحب الجلالة إلى أمير الأمراء قائلاً: «قسماً برأسي، الميرزا أحمق رجل طيب لا مثيل له في بلاد فارس، فهو أكثر حكمة من لقمان وأكثر علماً من جالينوس.»

فأجاب أمير الأمراء: «نعم، نعم! لقمان: من هو هذا الكلب هو وجالينوس ليضاهي من خصهم الشاه بنعمته؟ إن هذا يعود على نجم السعد لملك الملوك، إذ لم تشهد فارس ملكاً مثل جلالتك سابقاً، وطبيب كهذا جدير بملك كهذا! قد يمدح الرجال أطباء أوروبا والهند، ولكن أين تجد العلم إن لم تجده في فارس؟ ومن يجرؤ على التباهي ما دامت أرض فارس ينيرها ملك الملوك وأعظم العظماء؟»

فقال الشاه: «كل هذا صحيح، فبلاد فارس هي البلد المشهور منذ نشأة الدنيا وحتى اليوم بنبوغ سكانها وحكمة ملوكها وعظمتهم. فمن أيام كيومرث أول ملوك الدنيا وحتى أيامي وأنا شاه إيران اليوم أين تجد قائمةً أكثر كمالاً؟ الهند فيها حكامها والعرب لها خلفاؤها وتركيا فيها سفاحوها والتتر لها خاناتها والصين إمبراطوراتها. أما الفرنجة الذين أتوا إلى أراضينا من مكان لا يعلمه إلا الله ليبيعوا ويشتروا ويتقدموا إلي بهدايا الإجلال فلديهم – هؤلاء الكافرين المساكين! – حشد من ملوك لم تصل أسماء البلاد التي يحكمونها إلى مسامعنا.»

فردّ أمير الأمراء: «نعم، نعم! أنا فداك. فما عدا شعبي الإنكليز والفرنسيين، الذين لهم شأن في هذا العالم بكل حال، كل من سواهم ليسوا خير من لا شيء إلا قليلاً. أما الموسكوفيون فليسوا أوروبيين، بل هم أقل من كلاب أوروبا.»

فأجاب الشاه ضاحكاً: «ها ها ها! قولك حق. تحكمهم «خورشيد كلاه»[3] كما يسمونها، وصحيح أنها امرأة بديعة، وكلنا يعلم أنه متى تدخلت امرأة في أمر فالعياذ بالله. ثم جاء بعدها بولص وكان مجنوناً تماماً، فبلغ به جنونه أنه أراد إرسال جيوشه إلى الهند وكأن القزلباش[4] يمكن أن يسمحوا لهم بذلك. الروسي يرتدي قبعة وسترة ضيقة وسروالاً ضيقاً ويحلق ذقنه ثم يسمي نفسه أوروبياً، وهذا كأن تربط جناحي وزة بظهرك فتسمي نفسك ملاكاً.»

هتف أمير الأمراء: «عظيم، عظيم! الشاهنشاه يتكلم كالملاك. أرنا ملكاً في أوروبا يضاهي ملكنا في فصاحة اللسان!»

فصاح كل الموجودين بصوت واحد: «نعم! نعم!»

وقال أحدهم: «أطال الله عمره ألف سنة!»

وصدح آخر: «أدام الله ظله!»

فتابع الشاه: «ولكن أغرب الأخبار نسمعها عن نسائهم. فأولاً ليس لديهم أندرون[5] في بيوتهم، فالرجال والنساء يعيشون سوية، كما أن النساء لا يرتدين الحجاب ويظهرن وجوههن للناظرين مثل قبائل الرحل عندنا. أخبرني يا ميرزا أحمق بما أنك طبيب وفيلسوف كيف شاءت الأقدار أن نكون نحن المسلمين الوحيدين في هذه الدنيا نستطيع أن نثق بنسائنا ونبقيهن مطيعات لنا؟» ثم أضاف وهو يبتسم: «فأنت، كما سمعنا، أنعم الله عليك فوق العالمين بزوجة بارّة صالحة مطيعة.»

فأجاب الطبيب: «نعم لطف ملك الملوك ورعايته. لقد بوركت في كل ما يضفي السعادة على الحياة، وأنا وزوجتي وأسرتي عبيدك الوضيعون، وكل مالنا ملك لجلالتك. وإذا كان في عبدك حسنة فلا فضل له بها إذ أنها تنبعث من ملجأ الدنيا ملك الملوك، وحتى عيوبي تصبح فضائل متى أمرني الشاه. «والسراج أمام الشمس لا يضيء له ذبال، والمنارة العالية في سفح جبل ألوند تظهر كالخلال».[6] وفيما تفضلت به يا صاحب الجلالة عن النساء، فيرى أدنى عبيدك أن هناك شبهاً عظيماً بين الحيوانات والفرنجة، وهذا يشير إلى أنهم دون المسلمين. فذكور الحيوانات وإناثها ترعى جنباً إلى جنب، والفرنجة مثلهم؛ والحيوانات لا تغتسل ولا تصلي الصلوات الخمس، وكذلك الفرنجة؛ الدواب تصاحب الخنازير، والفرنجة أيضاً، فبدل إبادة هذا الكائن النجس كما نفعل نحن يعتنون بتربيته، وسمعت أن كل بيت في أوروبا فيه حجرة مخصصة للخنزير. أما نساؤهم! هل تجد كلباً رأى أنثاه في الشارع لا يتقدم منها ويداعبها؟ ولا شك أن الفرنجة مثله. الزوجة في تلك البلاد النجسة كلمة بلا دلالة لأن زوجة الرجل ملك له.»

فصاح الشاه: «أحسنت القول يا حكيم! واضح أن الجميع دواب ما عدانا نحن، وهذا ما قاله لنا النبي ﷺ، فالكافرون مصيرهم جهنم خالدون فيها أبداً، والمؤمن الحق مثواه الجنة يمكث في السماء السابعة مع حور العين! ولكننا سمعنا يا حكيم أن نعيمك في الأرض، وأنك أسكنته بالحوريات، أليس كذلك؟»

فانحنى الميرزا أحمق حتى الأرض وقال: «ما ينعم الملك على عبده به من مال يبقى للملك. الساعة ستكون ساعة سعد ورأس الميرزا أحمق تصل إلى قبة السماء لحظة تخطو القدم المباركة لملك الملوك فوق عتبة أندرونه الوضيع!»

ردّ الشاه: «سنرى ذلك بعينينا، ونظرة الشاه تجلب السعد. اذهب ونبه حريمك أن الشاه قادم لزيارتهن، وإن كان بينهن مريضة أو مكروبة أو فتاة مشتاقة إلى عشيقها أو امرأة تحب أن تتخلص من زوجها فلتتقدم وتنظر إلى الشاه فتتحقق رغبتها.»

وهنا تقدم الشاعر الذي بقي صامتاً طوال الوقت غارقاً في أفكاره وهتف: «ما يطلبه الشاه ليس إلا علامة لطفه وإحسانه!» ثم أنشد:

السماء شمسها واحدة، وإيران شاهها واحد
الحياة والنور والفرح يرافقانهما أينما ظهرا
يفخر الطبيب بدوائه، لكن لا دواء كنظرة الشاه
فما الناردين والمومياي والبازهر أمام رمشة عين الملك؟
يا ميرزا أحمق يا أسعد الناس المبارك بين الأطباء
حلّ في بيتك دواء لكل داء وترياق لكل شر
أغلق جالينوس واحرق أبقراط وضع ابن سينا بعيداً إذ زارك بشخصه أبوهم جميعاً
فمن يشرب السنا والعين تشفيه ومن يدهن مرهماً والنظرة تعافيه؟
يا ميرزا أحمق يا أسعد الناس المبارك بين الأطباء

بقي الصمت مخيماً على الجمع بعد إنشاد القصيدة حتى قطعه الشاه هاتفاً: «أحسنت! أنت شاعر عظيم يا عسكر خان، جدير بحكمنا، أنت بلبل والله! من هو الفردوسي أمامك، وما إنشاده أمام شعرك إلا نهيق الحمير! ومحمود الغزنوي ليس أكثر من غبار!» ثم التفت إلى أمير الأمراء وقال له: «اذهب وقبّله على فمه واملأه بالسكاكر لكي يحلو أحلى فم تصدر منه أعذب الأصوات.»

فدنا أمير الأمراء، وهو رجل ذو لحية كثة، من الشاعر وقبله على فمه المحمي بشاربين ولحية، ثم تناول من طبق الحلوى حفنة من السكاكر وحشرها في فم الشاعر حتى امتلأ.

تضايق الشاعر من فمه المحشو، إلا أنه سعى إلى إظهار قمة السعادة والابتسام على مضض حتى فاض الدمع من عينيه واللعاب الحلو من بين شفتيه.

وعندها صرف الشاه نبلاءه وحاشيته وبدأ التحضير لتقديم العشاء الملكي.


الهوامش

  1. المسند في بلاد الشرق يعني العرش عموماً، ولكن في المناسبات كالموصوفة هنا المسند عبارة عن سجادة مثنية بشكل لا يدع مجالاً لجلوس إلا شخص واحد عليها.
  2. مصدر الترجمة: «ترجمة الجلستان الفارسي العباره المشير إلى محاسن الآداب بألطف إشاره» تعريب جبرائيل المخلع، طنطا، 1921.
  3. هذا هو لقب كاترين الثانية عند الفرس، ويعني «المكللة بالشمس».
  4. قزلباش، أي الرأس الأحمر، هو لقب الفرس من قديم الزمان.
  5. الأندرون هو البيت الداخلي، أي بيت الحريم.
  6. من «روضة الورد» لسعدي الشيرازي. ترجمة محمد الفراتي. (ملاحظة المترجم)