الرئيسيةبحث

مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/11



الفصل الحادي عشر. قصة الدرويش صفر والدرويشين الآخرين

عندما اجتمعنا سويةً في المرة القادمة، كل واحد يحمل غليونه في يده وسندنا ظهورنا إلى الجدار في غرفة صغيرة تطل نافذتها على باحة مربّعة صغيرة تنمو فيها الأزهار، بدأ الدرويش صفر، باعتباره رئيس حلقتنا، قصته قائلاً:

«أنا ابن "لوده باشي"، أي كبير مهرِّجي أمير شيراز، ورقّاصة شهيرة اسمها طاووس. يمكنكم أن تتصوروا تربيتي في مثل هذه الأسرة. مضت حياتي منذ نعومة أظفاري بين السعادين والدببة التي كان يملكها أبي وأصدقاؤه، وربما اكتسبت موهبتي في التشبُّه التي طالما استفدت منها في حياتي من تلك الحيل التي كان الناس يعلّمونها ومن سرعة تعلم الحيوانات لها. ولما بلغت الخامسة عشرة صرت مهرجاً محترفاً، أستطيع بلع النار ونفث الماء وأداء كل أشكال ألعاب الخفة، وكنت على الأغلب سأتقدم أكثر وأكثر في هذه المهنة لولا أن ابنة زنبوركجي باشي، أي رئيس مدفعية الإبل، وقعت في حبي بعد أن رأتني أرقص على الحبل أمام القصر في عيد رأس السنة. كان فارس شاب في مدفعية الإبل أعزّ أصدقائي، وكانت أخته تقيم في أندرون الرئيس، وهي التي أعلمته بما أثاره مظهري في قلب سيدتها. وبما أنني لم أكن أعرف الكتابة، ذهبت في الحال إلى ميرزا، أي كاتب، كان يقطن في كوخ صغير في زاوية السوق وطلبت منه أن يكتب لي رسالة حب ولا يبخل بالحبر الأحمر ويكثر ما استطاع من الاستعارات والكنايات والبلاغة، فكتب رسالة لا مثيل لها، إذ كانت تقول في مطلعها أنني ميّتٌ وسبب موتي نور عينيها الذي حرق قلبي؛ ورغم هذا الكلام قلت في خاتمتها أنني لم أر وجهها يوماً وأتمنى أن تسمح لي بمقابلتها. ومن فرحي بهذه الرسالة الرائعة أخبرت الكاتب باسم فاتنتي، وحالما أخذ الكاتب أجره مني ذهب إلى زنبوركجي باشي ليبوح له بسرّي طمعاً بأجر آخر منه. أن يجرؤ ابن لوده باشي بالنظر إلى ابنة زنبوركجي باشي جريمة لا تغتفر، وبما أن زنبوركجي باشي كان ذا نفوذ في القصر فقد استصدر أمراً بطردي من شيراز على الفور، وكان أبي يهاب غضب الأمير ويخشى أنني سأنافسه في مهنته قريباً، لذا لم يحاول أن يستبقيني.

وفي الصباح التالي، عندما كنت أودع أصدقائي السعادين والدببة وغيرهم من حيواناتنا، قال لي أبي: «يا صفر، يا ابني، إنني حزين لفراقنا. ولكن بفضل تربيتي وبفضل عيشك بجانبي وبجانب حيواناتنا، ستنجح في حياتك بالتأكيد. سأعطيك ما يضمن لك كسباً سريعاً، وهو أكبر سعاديني وأكثرها فطنةً. صادقه من أجلك واحببه كما أحببتني، وأتمنى لك أن تصل يوماً ما إلى المرتبة التي وصل إليها أبوك.» ثم وضع السعدان على كتفي، فتركت بيت والدي برفقته.

توجهت نحو إصفهان في مزاج سيء، فلم أكن أعرف أأفرح أم أحزن لهذا التغير في حياتي. حريتي والسعدان من دواعي الفرح بالتأكيد، ولكن فراقي لأصدقائي الحيوانات، وللأماكن التي كنت أحبها منذ طفولتي، وفوق كل هذا ابتعادي عن تلك الجميلة المجهولة التي صورتها في مخيلتي بجمال شيرين نفسها أثارت في قلبي ألماً لا يطاق، وعندما وصلت إلى كوخ درويش قرب وادي الله أكبر انتابني حزن شديد فجلست على صخرة ورفعت صوتي بالبكاء، والسعدان يقعد جنبي.

سمع الدرويش بكائي وظهر أمامي فجأة، فارتعبت ظناً مني أنه غول، ولكنه خاطبني بكلام لطيف وسألني عن سبب حزني ثم أخذني إلى خيمته التي كانت بين صخرتين، وفيها رأيت درويشاً آخر شكله مرعب أكثر من الأول. كان لباسه مثل لباسي الآن (في الواقع، القبعة التي أرتديها كانت له)، ولكن نظراته كانت موحشة ومرعبة إلى درجة لم أستطع إتقانها حتى الآن.

عندما رأى الدرويش رفيقي بدا وكأن فكرة ما خطرت على باله، فتكلم سراً إلى الدرويش الآخر، ثم اقترح علي مرافقتهما إلى إصفهان، ووعدني أن يكون لطيفاً معي، وإذا سلكت معه سلوكاً حسناً سيعلمني مهنة تساعدني على كسب الرزق. وافقت بكل سرور، وبعد أن أعطانا الدرويش في الكوخ غليوناً لندخنه غادرنا المكان دونما تأخر، ومشينا صامتين بعض الوقت.

في الطريق بدأ الدرويش بيدين[1] يسألني بدقة عن حياتي الماضية وبدا مسروراً بإنجازاتي؛ ثم شرع يصف لي ميزات عيش الدراويش وأثبت لي أنها أفضل من حرفة المهرج الدنئية، وفي النهاية أقنعني بامتهان حرفته، قائلاً أنني، لو اتخذته معلماً، سيعلمني ما يعرف، وأكد لي أن ذلك ليس بالقليل بما أنه يُعتبَر أكثر دراويش بلاد فارس كمالاً. بدأ يحدثني عن السحر والتنجيم وأعطاني عدداً من الوصفات لصناعة التعاويذ والحجب لكل الأحوال والمناسبات، والتي يكفيني بيعها لكسب الرزق. ذنب الأرنب، إذا ما وُضع تحت وسادة طفل، يجعله ينام، ودمه، إذا ما أعطي لحصان، يجعله سريعاً لا يتعب؛ عين الذئب وعظام أصابعه إذا ثبّتّها على ولد تعطيه الشجاعة، وشحمه، إذا دهنت امرأة جسمها به، تحول حب زوجها لها إلى لامبالاة، وصفراؤه إذا ما استخدمت بالطريقة المماثلة تجلب لها الخصوبة. ولكن أغلى السلع ثمناً في الأندرونات هو كوس كفتار، أي جلد أنثى الضبع المجفَّف، والذي، إذا لبسته حول جسمك، يستميل عواطف الجميع نحوك. تحدث الدرويش مطوّلاً عن هذه المواضيع حتى أثار فضولاً وشوقاً إليها في قلبي بإمكانات الكسب الباهرة، ثم طرح اقتراحاً يمكن أن يخمن القارئ أنه كان مرفوضاً تماماً، إذ قال:

الدرويش يذبح السعدان.

«يا صفر، أنت لا تعرف الكنز الذي بحوزتك على شكل سعدان، ولا أعني ثمنه وهو حي، إنما وهو ميت. لو كان ميتاً لاستطعت أن أستخرج منه مكونات هامة للتعاويذ التي تساوي وزنها ذهباً في حريم الشاه. اعلم أن كبد السعدان من هذا النوع تحديداً يسترجع لحاملته حبّ من تريد، وجلد أنفه، إذا لبسته حول عنقك، يحميك بالتأكيد من السموم، ورماده بعد حرقه على نار بطيئة يضفي على من يبتلعه كل خصائص السعدان، أي الدهاء والمهارة والقدرة على التشبُّه.» ثم اقترح أن نقتل السعدان.

أزعجني هذا الاقتراح كثيراً، فقد تربيت مع هذا السعدان، وتقاسمت معه أفراح الحياة وأتراحها، ولم أكن أتحمل أن أفقده بهذه الطريقة الفظيعة. كنت سأرد على الدرويش بيدين بالرفض الصريح، ولكني لاحظت كيف أن تعابير وجهه تغيرت من البشاشة إلى الغيظ، فخشيت أنه سيأخذ عنوةً ما لا طاقة لي بحمايته، فاضطررت رغم أنفي أن أوافق على تنفيذ خطته. فابتعدنا عن الطريق واختبأنا في وادٍ صغير وجمعنا حطباً وأشعلناه بالصوان الذي كان الدرويش يحمله معه. أمسك الدرويش سعداني المسكين بيديه وذبحه فوراً، ثم شرّحه، وبعد أن أخذ كبده وسلخ الجلد عن أنفه حرقه، وبعد أن احترق، جمّع رماده بكل عناية ولفه في منديله، ثم تابعنا طريقنا.

وصلنا بعد فترة إلى إصفهان، وفيها بدّلت ملابس المهرج بملابس درويش، ثم توجهنا إلى طهران. وفي طهران أحدث ظهور معلّمي ضجة كبيرة؛ فحالما انتشر خبر وصوله حتى تزاحم الناس ليطلبوا مشورته. كانت الأمهات يطلبن حمايةً لأطفالهن ضد إصابتهم بالعين، والزوجات تعاويذ ضد غيرة أزواجهن؛ والمقاتلون حجباً تحميهم من رصاص الأعداء وسيوفهم، ولكن أهم زبائنه كانت النساء من حريم الشاه، وأهم طلباتهن كانت وسيلة سحرية لاستجلاب عناية الشاه. جمّع الدرويش بيدين مجموعة متنوعة من المواد المناسبة لهذا الغرض، من شعر الوشق وفقرات البوم ودهن الدببة، يحضِّر منها خلطات متنوعة. باع لإحدى السيدات، التي كانت لحوحة أكثر من غيرها بسبب تقدمها في السن، كبد سعداني، وأكد لها أنها حالما تظهر أمام جلالته وهي تلبسه على جسمها، سيميزها عن كل منافساتها فوراً؛ وأعطى لامرأة أخرى التي شكت أن الشاه لم يلاحظها يوماً رغم كل محاولاتها للفت انتباهه أعطاها مغليّاً من رماد السعدان؛ ولثالثة، كانت تطلب دواءً ضد التجاعيد، أعطاها مرهماً يجعل وجهها أملس بشرط دهنه بالطريقة الموصوفة والامتناع عن الضحك وتحريك الوجه.

بدأ الدرويش بيدين يلقنني مبادئ هذه الأسرار وكان دوري في أحيان كثيرة يتعلق بإعانته على الاحتيال؛ كلما احتاج معلمي إلى صنع شيء خارق لدعم سمعته في حال فشلت تعاويذه. ولكن كل الأرباح، سواء من هذه الخدمات أم من بقايا سعداني، كانت تذهب إلى جيبه فقط، ولا أحصل منها على شيء.

رافقت الدرويش بيدين في رحلاته إلى بلاد كثيرة مارسنا فيها فنوننا، وفي بعضها كانوا يبجلوننا تبجيل الأولياء الأتقياء وفي بعضها الآخر يرجموننا بالحجارة. وبما أننا كنا نتنقل راجلين، كانت تلك فرصة لي كي أتعرف بالتفصيل على كل مكان. رحلنا من طهران إلى إسطنبول، ومنها إلى القاهرة، مروراً بحلب ودمشق؛ وبعد القاهرة ذهبنا إلى مكة والمدينة، ثم ركبنا سفينة في جدة ونزلنا في سورات في غوجارات، ومنها مشينا إلى لاهور وكشمير.

وفي كشمير حاول الدرويش بيدين كعادته الاحتيال على سكانها، ولكن تبين أنهم مثقفون أكثر من اللازم فاضطررنا إلى الهروب خلسةً منها. وأخيراً وصلنا إلى هرات، فعوّضنا الله على فشلنا في كشمير بسذاجة الأفغان الذين كانوا يصدقون كل ما نقوله لهم. كان الدرويش بيدين يخطط ليظهر بصفة نبي، وعندما أشرفنا على الانتهاء من التحضير لصناعة المعجزات حدث أن الدرويش بيدين الذي كان يعد الآلاف بدوام الحياة والشباب مات فجأة. منذ وصولنا اعتزل الدوريش في كوخ صغير على رأس جبل قرب هرات، وقلنا للناس أنه لا يأكل إلا مما يأتيه به الجن والغول، ولكنه في الواقع مات من التخمة بعد أن أكل أكثر مما يستوعبه كرشه من اللحم والدهن. لهذا أخبرت الناس أن الجن غاروا من جنس البشر على صحبة مثل هذا الرجل فأتخموه بأطعمة السماء حتى لم يبق في جسمه مكان للروح، فغادرته، وحملتها إلى السماء الخامسة ريح شمالية شرقية قوية أرسلها الله. هذه الريح تهب دوماً مئة وعشرين يوماً في أيام الصيف، ولولاها لما تحمل السكان الحر الفظيع؛ ولكنني استطعت إقناعهم أنها معجزة صنعها الدرويش بيدين لهم ولأحفادهم حتى الأزل كي يعتبروا. ومع أن بعض الشيوخ شككوا في هذه القصة قائلين أنهم يتذكرون هذه الريح منذ ولدوا، لم يكن لشهادتهم أي وزن أمام النفوذ الذي اكتسبناه عند الشعب. كان تشييع الدرويش في موكب مهيب، وحمل نعشه إشاق ميرزا[2] أمير هرات، وبنى أكثر الأفغان ورعاً مزاراً فوق قبره صار منذ حينها مكاناً يقصده الناس من كل أنحاء البلاد.

بقيت في هرات بعد موت صاحبي لأستفيد من ميزات صحبتي وتتلمذي على يد هذا الرجل، ولم أندم على ذلك، فقد بعت تعاويذي بأسعار باهظة ثم جمعت مبلغاً من المال ببيع أشعار لحية صديقي المرحوم وقصاصات أظافره التي زعمت أنني جمعتها خلال اعتصامه على رأس الجبل، مع أنها كانت في مجملها مني أنا. وبعد أن بعت منها ما يصنع عدداً من لحى محترمة ومئات الأظافر الطويلة رأيت أن أترك المكان قبل أن يكتشف أحد الغش رغم سذاجة الأفغان العجيبة.

تنقلت بعدها في أنحاء بلاد فارس، وأخيراً نزلت بين هزارة، وهي قبيلة كبيرة تسكن الخيام وتعيش في البوادي بين كابل وقندهار. لقيت بينهم نجاحاً فاق كل توقعاتي، إذ فعلت ما لم يفعله الدرويش بيدين في هيرات فأصبحت نبياً.»

وضع الدرويش صفر يده على كتف الدرويش بجواره وتابع: «كان صديقي شريكي في هذه المغامرة، وهو يتذكر براعتنا في إقناع الهزارة بأن لدينا قدراً مليئاً بالرز المطبوخ لا يفرغ أبداً، وقد اضطر أكثرهم تشكيكاً في تصديق هذه المعجزة بعد أن أكلوا منه بنفسهم. باختصار، أنا حضرة إحسان الذي سمعتم الكثير عنه في خراسان مؤخراً. صحيح أن جيوش الشاه هزمت أتباعي، ولكن خلال زمان عملي نبياً جمعت من تعصُّب أتباعي وسذاجتهم ما يكفيني لأعيش باقي عمري في رخاء. بقينا في مشهد مدة من الزمن دون أن نلفت الأنظار، ولكن منذ أسبوع صنعنا معجزة، إذ وهبنا البصر لفتاة عمياء، فأصبح لنا عند الشعب مهابة واحترام.»

ختم الدرويش صفر قصته وطلب إلى جاره الذي شاركه في هزارة أن يحكي عن نفسه، فبدأ قصته قائلاً:

«كان والدي من أشهر علماء قم وفقهائها، وعرف بدقته في صلواته وصومه أكثر من أي رجل آخر فيها. كان زبدة الشيعة ومثالاً للمسلمين. أنجب من الأبناء الكثير وربانا تربية صارمة فيما يتعلق بشعائر ديننا، ولكن فقرنا دفعنا إلى تحصيل المال بالمكر والتظاهر والخديعة حتى استقرت هذه الصفات في طبعنا، وعندما انكشف أمرنا لصقت بنا سمعة أكبر منافقين وحرامية في بلدنا، وسمعتي صارت أسوأ من الآخرين فاضطررت أن أصبح درويشاً؛ أما سمعة الدرويش فقد اكتسبتها نتيجة حادثة حصلت معي وكانت من حسن حظي.

ما أن وصلت إلى طهران وأقمت في غرفة مقابل دكان عطار حتى جاءت إلي امرأة عجوز مسرعةً وقالت لي أن سيدها – أي العطار – مرض بعد أن أكل أكثر من المعتاد، وأن الدواء الذي تناوله لم ينفعه وأن ذويه يريدون أن يجربوا حجاباً عسى أن يشفيه، فطلبت مني أن أكتب لها حجاباً مناسباً. لم يكن عندي ورق ولا حبر ولا قلم، فطلبتُ أن أذهب إلى أندرونه، أي بيت الحريم، وأكتب الحجاب هناك، فوافقتْ. دخلت إلى باحة مربعة صغيرة ثم إلى غرفة وجدت فيها المريض طريح الفراش يحيط به من النساء ما تتسع له الغرفة، تصحن معاً: «واه، واه، إنه يموت، يموت!» كانت تتناثر حوله أدوات طبية تشير إلى أن الأقربين قد فعلوا كل شيء كي ينقذوه أو يميتوه: فكان هناك على الرف كوب كبير فيه الدواء الموصوف وفي الزاوية أنبوب من زجاج، وكان الطبيب جالساً يدخن، فبعد أن وجد أن الوسائل البشرية لم تنفع نصح باللجوء إلى الوسائل الغيبية فأوصى بكتابة حجاب كملاذ أخير، وصدف أن هذا الواجب كان من نصيبي. أثار الدرويش الجديد آمالاً جديدة لأن دخولي ترافق بحركة وضجة. طلبت ورقاً وأنا أظهر الرزانة والثقة بقواي (مع أنني لم أكتب حجاباً في حياتي)، فأعطوني قطعة ورق كبيرة تبدو وكأنها استخدمت لتغليف الدواء. وبكل ثقة غطيت الورقة بكلمات غريبة أدس بينها آيات من القرآن وأسماء الله ومحمد وعلي والحسن والحسين، وأكتب من حين إلى آخر أرقاماً بدل الحروف. ثم ناولتها للطبيب الذي طلب ماءً وغسل الحبر عن الورق في الكوب الذي فيه بقايا دوائه، بينما يدعو الحاضرون لشفاء المريض، ثم قال: «ليشربها المريض باسم الله، وإن قُدِّر له أن يعيش تعيده الأسماء المقدسة التي يشربها إلى الحياة؛ وإن كتب الله له غير ذلك فلن ينفع علمي ولا علم أي آدمي آخر.»

أعطي المريض الشراب وعيون الجميع تراقب وجهه. بقي الرجل لفترة ما لا يتحرك ولا تبدو عليه علامات الحياة؛ ثم أدهش الجميع، بما فيهم أنا والحكيم، إذ أصدر أنيناً ورفع رأسه وطلب الطشت وتقيّأ قيئاً غزيراً وطاب.

نسبت هذا التغير في قلبي إلى الدواء الذي كان ملفوفاً في الورقة، فأعطى المفعول الموصوف؛ ولكن جهراً أعلنت للجميع أن الشفاء كان نتيجة الحجاب الذي كتبته بيدي التقية، ولولا تدخلي لمات المريض.

وحاول الحكيم من جهته أن ينسب النجاح كله لنفسه، فحالما فتح المريض عينيه بدأ الطبيب يصيح: «أترون؟ ألم أقل لكم؟ انظروا ما أحسن وصفتي! لولاها ما كان الرجل نجا!»

لم أتركه يكمل حديثه فقاطعته قائلاً: «ما دمت حكيماً لماذا لم تشفه بل دعوتني إلى هنا؟ اشتغل بفصاداتك ولصاقاتك ولا تتدخل فيما لا يعنيك!»

فردّ علي: «يا درويش، لا أشك في أنك تجيد كتابة الحجب ويمكنك أن تحصل مقابلها على ثمن كبير، ولكن الكل يعرف من هم الدراويش، وإن كانت حجبهم تفيد، فذلك ليس بفضل تقواهم.»

صحت في وجهه غاضباً: «من أنت يا كلب حتى توجه إليّ مثل هذا الكلام؟ أنا عبد الله وخادم رسوله، أما أنتم الأطباء فجهلكم يضرب به المثل، تخفونه بالكلام عن القضاء والقدر: فإن طاب المريض تنسبون الفضل كله لأنفسكم، وإن مات تقولون هذا ما كتب الله له، وما كتبه الخالق لا يرده مخلوق. اذهب، اذهب من هنا، وعندما توصل مريضاً آخر إلى شفا الموت اطلبني مرة أخرى وسأغطي على جهلك السافر وأتدارك أمر المريض كما فعلت اليوم.»

«قسماً برأسي وبموتك! لن أسمح لأحد أن يسمعني مثل هذا الكلام، ولا سيما لدرويش كلب!» ثم هجم عليّ وهو يتفوه بكل الشتائم التي يعرفها.

رددت على شتائمه بشتائم خير منها، فبدأنا المشاجرة، فأمسكني من شعري وأمسكته من لحيته ونتفنا شعر بعضنا، وتضاربنا وتباصقنا وتقاتلنا بشراسة لا نأبه بالمريض ولا بصراخ النساء، وربما كنا سنسبب أذى لبعضنا لولا أن إحدى النساء هرعت إلينا تخبرنا بأن دورية الشرطة تدق على الباب وتسأل ما سبب كل هذه البلبلة.

تركنا بعضنا، فلاحظت أن الموجودين كانوا إلى جانبي، إذ أبدوا ازدراءهم بعلم الحكيم الذي لا يعرف إلا الحصول على الأجر دون أن يخدم مرضاه، واعتبروني رجلاً تقياً له القدرة على برء الأمراض بخط يده.

انسحب الطبيب محاولاً الحفاظ على ماء وجهه قدر المستطاع، وقبل أن يغادر الغرفة انحنى وجمع من الأرض شعر لحيته مضيفاً إليه بعضاً من شعري، وقال: «سنرى من يضحك أخيراً عندما تحضر أمام القاضي غداً؛ ففي طهران غرامة كل شعرة من اللحية تومان، ولن تستطيع شراء هذه الشعرات رغم كل تعويذاتك وحجبك!»

لكنني كنت واثقاً أنه لن ينفذ تهديده خوفاً على سمعته، ولم أخش الاستدعاء إلى القاضي، وقررت الاستفادة من الظرف المؤاتي. ذاع خبر العطار في كل أرجاء طهران وصرت موضع اهتمام الجميع. كنت أكتب الحجب من الصباح إلى المساء وآخذ مقابلها أجوراً تتناسب مع وضع زبائني، وخلال فترة وجيزة تجمع لدي مبلغ جيد من المال. لكني لم أكن أشفي عطاراً غنياً كل مرة، وبقيت أعيش من سمعتي المتضائلة تدريجياً؛ وأخيراً قررت مضطراً إلى الترحال في أرجاء بلاد فارس فتركت طهران. دبّرت أموري ببراعة وكانت سمعتي تسبقني إلى كل مدينة أتجه إليها. أخذت من العطار شهادة ممهورة بختمه أنه أعيد إلى الحياة بحجاب من يدي وكنت أبرزها لتأكيد صدق الأخبار عني، وأعيش حتى الآن على هذه السمعة الطيبة، وهي تدعمني جيداً في الحاضر، وحالما أجد أنها تتضاءل أترك المكان وأذهب إلى مكان آخر.»

وعندما جاء دور الدرويش الثالث، قال:

«روايتي قصيرة، مع أنني أعمل راوياً. أنا ابن معلم مدرسة، وقد لاحظ أبي قوة ذاكرتي فجعلني أقرأ القصص الكثيرة الموجودة بلغتنا وأرويها له؛ وعندما وجد أن مخزون القصص في رأسي صار كافياً أرسلني في زي درويش كي أقص الحكايات على الناس وأكسب رزقي.

كانت محاولاتي الأولى فاشلة، إذ كان الناس يسمعون الحكاية ثم يذهبون دون أن يكافئوني على أتعابي؛ وشيئاً فشيئاً اكتسبت الخبرة اللازمة، فصرت بدل أن أروي القصة من أولها إلى آخرها أتوقف في موضع شيّق منها وأخاطب السامعين أطلب منهم أن يكرموني فأجمع حفنة من العملة النحاسية. مثلاً، في قصة ملك الصين وأميرة سمرقند عندما يمسك الوحش هزرمان الملك يريد أن يأكله، والملك بين فكيه، وسط العاصفة ورعب حرسه، والأميرة ترتجف وتتوسل إلى الوحش أن يرحمه، أتوجه للحضور قائلاً: «والآن أيها الجمهور الكرام، افتحوا أكياسكم وتبرعوا بما تسخى به أنفسكم للراوي كي يحكي لكم كيف استطاع ملك الصين بأعجوبة أن يقطع رأس الوحش!» وبهذه الطريقة أكسب رزقي من فضول عباد الله؛ وعندما أستنفد قصصي في مكان أتوجه إلى مكان آخر وأبدأ عملي من جديد.»


هوامش

  1. بيدين (فارسية): بلا دين، كافر. (ملاحظة المترجم)
  2. إشاق: حمار. (ملاحظة المترجم)