→ فصل كيفية تعلم النفس | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل عن الجوهر ابن تيمية |
سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل ← |
فصل عن الجوهر
وأما سؤال السائل: هل هو جوهر أو عرض؟ فلفظ الجوهر فيه إجمال، ومعلوم أنه لم يرد بالسؤال الجوهر في اللغة، مع أنه قد قيل: إن لفظ الجوهر ليس من لغة العرب وأنه معرب، وإنما أراد السائل الجوهر في الاصطلاح من تقسيم الموجودات إلى جوهر وعرض.
وهؤلاء منهم من يريد بالجوهر المتحيز، فيكون الجسم المتحيز عندهم جوهرًا، وقد يريدون به الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ.
والعقلاء متنازعون في إثبات هذا، وهو أن الأجسام هل هي مركبة من الجواهر المفردة؟ أم من المادة والصورة؟ أم ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا؟ على ثلاثة أقوال:
أصحها: الثالث، أنها ليست مركبة لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، وهذا قول كثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية، وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم، بل هو قول أكثر العقلاء كما قد بسط في موضعه.
والقائلون بأن لفظ الجوهر يقال على المتحيز متنازعون: هل يمكن وجود جوهر ليس بمتحيز؟ ثم هؤلاء منهم من يقول: كل موجود، فإما جوهر وإما عرض، ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجوهر، ومن هؤلاء من يقول: كل موجود، فإما جسم أو عرض، ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجسم، وقد قال بهذا وبهذا طائفة من نظار المسلمين وغيرهم، ومن المتفلسفة والنصارى من يسميه جوهرًا ولا يسميه جسمًا، وحكى عن بعض نظار المسلمين أنه يسميه جسمًا ولا يسميه جوهرًا، إلا أن الجسم عنده هو المشار إليه أو القائم بنفسه، والجوهر عنده هو الجوهر الفرد.
ولفظ العرض في اللغة له معنى، وهو ما يعرض ويزول كما قال تعالى: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى } [1] وعند أهل الاصطلاح الكلامي، قد يراد بالعرض ما يقوم بغيره مطلقًا، وقد يراد به ما يقوم بالجسم من الصفات، ويراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى.
ومعلوم أن مذهب السلف والأئمة وعامة أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله، وأن له علمًا وقدرة وحياة وكلامًا، ويسمون هذه الصفات، ثم منهم من يقول: هي صفات وليست أعراضًا؛ لأن العرض لا يبقى زمانين وهذه باقية، ومنهم من يقول: بل تسمى أعراضًا؛ لأن العرض قد يبقى، وقول من قال: إن كل عرض لا يبقى زمانين قول ضعيف، وإذا كانت الصفات الباقية تسمى أعراضًا جاز أن تسمى هذه أعراضًا. ومنهم من يقول: أنا لا أطلق ذلك، بناء على أن الإطلاق مستنده الشرع.
والناس متنازعون: هل يسمى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع، وإن لم يرد بإطلاقه نص ولا إجماع، أم لا يطلق إلا ما أطلق نص أو إجماع؟ على قولين مشهورين.
وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع كلفظ القديم والذات ونحو ذلك، ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى بها، وبين ما يخبر به عنه للحاجة، فهو سبحانه إنما يدعى بالأسماء الحسنى كما قال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [2].
وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك، فقيل في تحقيق الإثبات بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء فهذا سائغ، وإن كان لا يدعي بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على المدح كقول القائل: يا شيء، إذ كان هذا لفظًا يعم كل موجود، وكذلك لفظ: ذات وموجود ونحو ذلك، إلا إذا سمى بالموجود الذي يجده من طلبه كقوله: { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ } [3]، فهذا أخص من الموجود الذي يعم الخالق والمخلوق.
إذا تبين هذا، فالنفس وهي الروح المدبرة لبدن الإنسان هي من باب ما يقوم بنفسه التي تسمى جوهرًا وعينًا قائمة بنفسها، ليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها.
وأما التعبير عنها بلفظ الجوهر والجسم، ففيه نزاع، بعضه اصطلاحي وبعضه معنوي. فمن عنى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر، ومن عني بالجسم ما يشار إليه وقال: إنه يشار إليها فهي عنده جسم، ومن عنى بالجسم المركب من الجواهر المفردة أو المادة والصورة فبعض هؤلاء قال: إنها جسم أيضا، ومن عنى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة فمنهم من يقول: إنها جوهر، والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها فإنه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسل منه، كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليها الشواهد العقلية.
فصل مسكن النفس من الجسد
وأما قول القائل، أين مسكنها من الجسد؟ فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسرى الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
فصل مسكن العقل من الجسد
وأما قوله: أين مسكن العقل فيه؟ فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } [4]. وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد»، وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمى القليب قليبًا ؛ لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا، فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضا؛ ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.
والتحقيق: أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب.
والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء، وكلا القولين له وجه صحيح، وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق، والله أعلم.
هامش