→ المقام الأول | مجموع فتاوى ابن تيمية المقام الثاني ابن تيمية |
فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس ← |
المقام الثاني
المقام الثاني:
وهو الحد يفيد تصور الأشياء فنقول:
المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود، وتعريف حقيقته. وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليونانيون، أتباع أرسطو، ومن سلك سبيلهم تقليدًا لهم من الإسلاميين وغيرهم. فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلي خلاف هذا، وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني. وأما سائر النظار من جميع الطوائف الأشعرية، والمعتزلة والكرّامية والشيعة وغيرهم، فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فُورَك والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفي وأبي على وأبي هاشم وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم.
ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد، لا ريب أنهم وضعوها وضعًا، وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم. وهم إذا تدبروا، وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية.
ثم إن هذه الصناعة الوضعية زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها، وكلا هذين غلط، ولما راموا ذلك، لم يكن بُدٌّ من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض؛ إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيًا، فلابد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم، وما ليس كذلك. فأدى ذلك إلى التفريق بين المتماثلات، حيث جعلوا صفة ذاتية دون أخرى، مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات ممتنع، وبين المتقاربات عسر. فالمطلوب إما متعذر أو متعسر، فإن كان متعذرًا بطل بالكلية، وإن كان متعسرًا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله، فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه على التقديرين، فليس ما وضعوه من الحد طريقًا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان قد يفيد من تمييز المحدود ما تفيده الأسماء.
وقد تفطن الفخر الرازي لما عليه أئمة الكلام وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة. وهذا هو حقيقة قولنا: إن الحد لا يفيد تصور المحدود.
وهذا مقام شريف، ينبغي أن يعرف؛ فإنه لسبب إهماله دخل الفساد في العقول أو الأديان على كثير من الناس، إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت بها الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصاري وسائر العلوم؛ الطب والنحو وغير ذلك، وصاروا يعظمون أمر الحدود، ويزعمون أنهم هم المحققون لذلك، وأن ما ذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية، لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم، ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة. وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وشغل النفوس بما لا ينفعها، بل قد يصدها عما لابد منه. وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعت أنه أصل المعرفة والتحقيق، وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه، وإن كان الذي ينهى عنه السلف خيرًا وأحسن من هذا؛ إذ هو كلام في أدلة وأحكام.
ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين، كما جد في ذلك متأخروهم، الذين ظنوا ذلك من التحقيق، وإنما هو زيغ عن سواء الطريق؛ ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها، لا تفيد الإنسان علمًا لم يكن عنده، وإنما تفيده كثرة كلام سموهم: أهل الكلام. وهذا لعمري في الحدود التي ليس فيها باطل، فأما حدود المنطقيين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق، فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين، ويفرقون بين المتماثلين.
والدليل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق من وجوه:
أحدها: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه، فقوله مثلا: حد الإنسان حيوان ناطق، قضية خبرية، ومجرد دعوى خلية عن حجة، فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول أو لا، فإن كان الأول، ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد. وإن كان الثاني عنده، فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، وكيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله، فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة المحدود.
فإن قيل: يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسؤول عنه مثلا أو غيره.
قلنا: فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه، وهو دلالة الاسم على مسماه، وهذا تحقيق ما قلناه: من أن دلالة الحد كدلالة الاسم، ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره دون ذلك بلا نزاع، فكذلك الحد.
الثاني: أنهم يقولون: الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل، وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة. فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد، امتنع أن يعرف المستمع المحدود به، إذا جوز عليه الخطأ، فإنه إذا لم يعرف صحة الحد بقوله، وقوله محتمل الصدق والكذب، امتنع أن يعرفه بقوله.
ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصل العلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل، وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي، يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب. ثم يعيبون على من يعتمد على الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني، زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وخبر الواحد وإن لم يفد العلم، لكن هذا بعينه قولهم في الحد، فإنه خبر واحد لا دليل على صدقه، بل ولا يمكن عندهم إقامة الدليل على صدقه، فلم يكن الحد مفيدًا لتصور المحدود. ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد، وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده، وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصور وهذا بَيِّن.
وتلخيصه: أن تصور المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد، وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر، فلا يعلم المحدود بالحد.
الثالث: أن يقال: لو كان الحد مفيدًا لتصور المحدود، لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد. فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن يعلم المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف، والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود؛ إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبر عنه من غير تقليد للخبر، وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر، والمخبر ليس هو من باب الإخبار عن الأمور الغائبة.
الرابع: أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية والعرضية، ويسمونها أجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها، ونحو ذلك من العبارات، فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع تصوره، وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد، فثبت أنه على التقديرين لا يكون قد تصوره بالحد، وهذا بين.
فإنه إذا قيل: الإنسان هو الحيوان الناطق، ولا يعلم أنه الإنسان، احتاج إلى العلم بهذه النسبة، وإن لم يكن متصورًا لمسمى الحيوان الناطق احتاج إلى شيئين: تصور ذلك، والعلم بالنسبة المذكورة، وإن عرف ذلك كان قد تصور الإنسان بدون الحد، نعم الحد قد ينبه على تصور المحدود، كما ينبه الاسم، فإن الذهن قد يكون غافلا عن الشيء، فإذا سمع اسمه وحده أقبل بذهنه إلى الشيء الذي أشير إليه بالاسم أو الحد، فيتصوره، فتكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم، وتكون الحدود للأنواع بالصفات كالحدود للأعيان بالجهات. كما إذا قيل: حد الأرض من الجانب القبلي كذا، ومن الجانب الشرقي كذا، ميزت الأرض باسمها وحدها، وحد الأرض يحتاج إليه إذا خيف من الزيادة في المسمى أو النقص منه، فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس منه كما يفيد الاسم، وكذلك حد النوع، وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة، وبالوضعية أخرى. وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط، وتمييز المحدود عن غيره، لا تصور المحدود.
وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم، والتسمية أمر لغوي وضعي، رجع في ذلك إلى قصد ذلك المسمى ولغته؛ ولهذا يقول الفقهاء: من الأسماء ما يعرف حده بالشرع، ومنها ما يعرف حده بالعرف.
ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبيين مراد المتكلم، فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه، وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره، فإنه يحتاج إلى معرفة دليل بصحته. فالأول فيه بيان تصوير كلامه أو تصوير كلامه لتصوير مسميات الأسماء بالترجمة: تارة لمن يكون قد تصور المسمى، ولم يعرف أن ذلك اسمه، وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار إلى المسمى بحسب الإمكان، إما إلى عينه، وإما إلى نظيره؛ ولهذا يقال: الحد تارة يكون للاسم، وتارة يكون للمسمى.
وأئمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند التحقيق بهذا، كما ذكره الغزالي في كتاب المعيار الذي صنفه في المنطق، وكذا يوجد في كلام ابن سينا والرازي والسهروردي وفي غيرهم: أن الحدود فائدتها من جنس فائدة الأسماء، وأن ذلك من جنس الترجمة بلفظ عن لفظ. ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما، بل تفسير القرآن وغيره من أنواع الكلام، هو في أول درجاته من هذا الباب، فإن المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء، وبذلك الكلام.
وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية، مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة، بل في قراءة جميع الكتب، بل في جميع أنواع المخاطبات. فإن من قرأ كتب النحو، أو الطب، أو غيرهما لابد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء، ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف، وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك، وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، ثم قد تكون معرفتها فرض عين، وقد تكون فرض كفاية؛ ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله: { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [1]، والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبًا بالنسبة إلى المستمع كلفظ: { ضِيزَى } [2]، و { قَسْوَرَةٍ } [3]، و { عَسْعَسَ } [4]، وأمثال ذلك. وقد يكون مشهورًا لكن لا يعلم حده، بل يعلم معناه على سبيل الإجمال؛ كاسم الصلاة، والزكاة والصيام والحج، فتبين أن تعريف الشيء إنما هو بتعريف عينه أو ما يشبهه فمن عرف عين الشيء لا يفتقر في معرفته إلى حد، ومن لم يعرفه، فإنما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه، فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف، ومن تدقق هذا وجد حقيقته، وعلم معرفة الخلق بما أخبروا به من الغيب من الملائكة، واليوم الآخر، وما في الجنة والنار من أنواع النعيم والعذاب، وبطل قولهم في الحد.
الخامس: أن التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة، فيمتنع أن يعلم بالحد؛ لأن الذهن إن كان شاعرًا بها امتنع الطلب؛ لأن تحصيل الحاصل ممتنع، وإن لم يكن شاعرًا بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به، فإن الطلب والقصد مسبوق بالشعور.
فإن قيل: فالإنسان يطلب تصور الملك والجن والروح وأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها. قيل: قد سمع هذه الأسماء، فهو يطلب تصور مسماها، كما يطلب من سمع ألفاظًا لا يفهم معانيها تصور معانيها، وهو إذا تصور مسمى هذه الأسماء فلابد أن يعلم أنها مسماة بهذا الاسم؛ إذ لو تصور حقيقة، ولم يكن ذلك الاسم فيها، لم يكن تصور مطلوبه، فهنا المتصور ذات وأنها مسماة بكذا، وهذا ليس تصورًا بالمعنى فقط، بل للمعنى ولاسمه، وهذا لا ريب أنه يكون مطلوبًا، ولكن لا يوجب أن يكون المعنى المفرد مطلوبًا.
وأيضا، فإن المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد، بل لابد من تعريف المحدود بالإشارة إليه أو غير ذلك، مما لا يكتفى فيه بمجرد اللفظ، وإذا ثبت امتناع الطلب للتصورات المفردة، فإما أن تكون حاصلة للإنسان، فلا تحصل بالحد، فلا يفيد الحد التصور، وإما ألا تكون حاصلة، فمجرد الحد لا يوجب تصور المسميات لمن لا يعرفها، ومتى كان له شعور بها لم يحتج إلى الحد في ذلك الشعور إلا من جنس ما يحتاج إلى الاسم، والمقصود هو التسوية بين فائدة الحد وفائدة الاسم.
السادس: أن يقال: المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد العام المؤلف من الذاتيات، دون العرضيات. ومبنى هذا الكلام على الفرق بين الذاتي والعرضي، وهم يقولون: الذاتي ما كان داخل الماهية، والعرضي ما كان خارجًا عنها، وقسموه إلى لازم للماهية، ولازم لوجودها.
وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على أصلين فاسدين: الفرق بين الماهية ووجودها، ثم الفرق بين الذاتي لها واللازم لها.
فالأصل الأول: قولهم: إن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها، وهذا شبيه بقول من يقول: المعدوم شيء، وهو من أفسد ما يكون. وأصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد، ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك، فقالوا: لو لم يكن ثابتًا لما كان كذلك. كما أنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فتخيل الغالط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج.
والتحقيق: أن ذلك كله أمر ثابت في الذهن. والمقدر في الأذهان أوسع من الموجود في الأعيان، وهو موجود وثابت في الذهن، وليس هو في نفس الأمر لا موجودًا ولا ثابتًا، فالتفريق بين الوجود والثبوت وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم.
وهؤلاء ظنوا أن الحقائق النوعية كحقيقة الإنسان والفرس وأمثال ذلك ثابتة في الخارج غير الأعيان الموجودة في الخارج، وأنها أزلية لا تقبل الاستحالة وهذه التي تسمى: المثل الأفلاطونية. ولم يقتصروا على ذلك؛ بل أثبتوا أيضا ذلك في المادة والماهية والمكان، فأثبتوا مادة مجردة عن الصور، ثابتة في الخارج: وهي الهيولي الأولية التي بنوا عليها قدم العالم، وغلطهم فيها جمهور العقلاء. والكلام على من فرق بين الوجود والماهية مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبية على أن ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الماهية ووجودها في الخارج هو مبني على هذا الأصل الفاسد. وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء، والوجود ما يكون في الخارج منه، وهذا فرق صحيح؛ فإن الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه. وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهو باطل.
والأصل الثاني: وهو الفرق بين اللازم للماهية والذاتي لا حقيقة له، فإنه إن جعلت الماهية التي في الخارج مجردة عن الصفات اللازمة، وأمكن أن يجعل الوجود الذي في الخارج مجردًا عن هذه الصفات اللازمة وإن جعل هذا هو نفس الماهية بلوازمها، كان هذا بمنزلة أن يقال: هذا الوجود بلوازمه وهما باطلان، فإن الزوجية والفردية للعدد مثلا، مثل الحيوانية والنطق للإنسان، وكلاهما إذا خطر بالبال منه الموصوف مع الصفة لم يمكن تقدير الموصوف دون الصفة، وما ذكروه من أن ما جعلوه هو الذاتي يتقدم بصورة في الذهن، فباطل من وجهين: أحدهما: أن هذا خبر عن وضعهم؛ إذ هم يقدمون هذا في أذهانهم ويؤخرون هذا، وهذا حكم محض. وكل من قدم هذا دون ذا، فإنما قلدهم في ذلك.
ومعلوم أن الحقائق الخارجية المستغنية عنا لا تكون تابعة لتصوراتنا، فليس إذا فرضنا هذا مقدما، وهذا مؤخرًا، يكون هذا في الخارج كذلك. وسائر بني آدم الذين يقلدونهم في هذا الموضع لا يستحضرون هذا التقديم والتأخير، ولو كان هذا فطريًا كانت الفطرة تدركه بدون التقليد، كما تدرك سائر الأمور الفطرية. والذي في الفطرة أن هذه اللوازم كلها لوازم للموصوف وقد يخطر بالبال، وقد لا يخطر. أما أن يكون هذا خارجًا عن الذات، وهذا داخلا في الذات، فهذا تحكم محض ليس له شاهد لا في الخارج ولا في الفطرة.
والثاني: أن كون الوصف ذاتيًا للموصوف، هو أمر تابع لحقيقته التي هو بها سواء تصورته أذهاننا، أو لم تتصوره، فلابد إذا كان أحد الوصفين ذاتيًا دون الآخر أن يكون الفرق بينهما أمرًا يعود إلى حقيقتهما الخارجة الثابتة بدون الذهن، وإما أن يكون بين الحقائق الخارجية ما لا حقيقة له إلا مجرد التقدم والتأخر في الذهن، فهذا لا يكون إلا أن تكون الحقيقة والماهية هي ما يقدر في الذهن لا ما يوجد في الخارج. وذلك أمر يتبع تقدير صاحب الذهن، وحينئذ فيعود حاصل هذا الكلام إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج وهي التخيلات والتوهمات الباطلة، وهذا كثير في أصولهم.
السابع: أن يقال: هل يشترطون في الحد التام وكونه يفيد تصور الحقيقة أن تتصور جميع صفاته الذاتية المشتركة بينه وبين غيره أم لا؟. فإن شرطوا، لزم استيعاب جميع الصفات. وإن لم يشترطوا واكتفوا بالجنس القريب دون غيره فهو تحكم محض، وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع الأجناس، أو يحذف جميع الأجناس، لم يكن لهم جواب، إلا أن هذا وضعهم واصطلاحهم. ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع، فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع والاصطلاح الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف، وهذا عين الضلال والإضلال كمن يجىء إلى شخصين متماثلين فيجعل هذا مؤمنًا وهذا كافرًا، وهذا عالمًا وهذا جاهلا، وهذا سعيدًا وهذا شقيًا، من غير افتراق بين ذاتيهما بل بمجرد وضعه واصطلاحه. فهم مع دعواهم القياس العقلي يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات.
الثامن: أن اشتراطهم ذكر الفصول المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضي غير ممكن؛ إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن الآخر أن يجعله عرضىًا لازمًا للماهية.
التاسع: أن فيما قالوه دورًا فلا يصح؛ وذلك أنهم يقولون: إن المحدود لا يتصور إلا بذكر صفاته الذاتية. ثم يقولون: الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره، فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية، ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود، ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية ويميز بينها وبين غيرها، فتتوقف معرفة الذات على معرفة الذاتيات ويتوقف معرفة الذاتيات على معرفة الذات، فلا يعرف هو ولا تعرف الذاتيات. وهذا كلام متين يجتاح أصل كلامهم، ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه لم يبنوه على أصل علمي تابع للحقائق، لكن قالوا: هذا ذاتي، وهذا غير ذاتي بمجرد التحكم، ولم يعتمدوا على أمر يمكن الفرق به بين الذاتي وغيره، فإذا لم يعرف المحدود إلا بالحد، والحد غير ممكن لم يعرف، وذلك باطل.
العاشر: أنه يحصل بينهم في هذا الباب نزاع لا يمكن فصله على هذا الأصل، وما استلزم تكافؤ الأدلة فهو باطل.
هامش