→ كتاب الفوائد - 2 | كتاب الفوائد المؤلف: ابن القيم |
كتاب الفوائد - 4 ← |
كتاب الفوائد |
☰ جدول المحتويات
نجائب النجاة مهيأة للمراد، وأقدام المطرود موثوقة بالقيود
هبت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان فتقلب الوجود ونجم الخير فلما ركدت الريح إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك. وسلمان على ساحل السلامة. والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم، والنجاشي في أرض الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك، وبلال ينادي: الصلاة خير من النوم، وأبو جهل في رقدة المخالفة: لما قضي في القدم بسابقة سلمان عرض به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس فأقبل يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد.
وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه، و به أجاب فرعون موسى: «لئن اتخذت إلهاً غيري» الآية: 29 من سورة الشعراء و به أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السياط، و به أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن، وها نحن على الأثر فنزل به ضيف «و لنبلونكم» فنال بإكرامه مرتبة: « سلمان منا أهل البيت» فسمع أن ركبا على نية السفر فسرق نفسه من أبيه ولا قطع فركب راحلة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة فغاص في بحر البحث ليقع بدرة الوجود، فوقف نفسه على خدمه الأدلاء وقوف الأذلاء. فلما أحس الرهبان بانقراض دولتهم سلموا إليه أعلام الإعلام على نبوة نبينا، وقالوا إن زمانه قد أظل فاحذر أن تضل، فرحل مع رفقة لم يرفقوا به « وشروه بثمن بخس دارهم معدودة» الآية: 20 من سورة يوسف فابتاعه يهودي بالمدينة، فلما رأى الحرة توقد حرا شوقه ولم يعلم رب المنزل بوجد النازل، فبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير، وسلمان في رأس نخلة وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم « إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها» الآية: 10 من سورة القصص فعجل النزول لتلقي ركب البشارة ولسان حاله يقول:
خليليَّ من نجد قفا بي على الربا * * * قد هب من تلك الديار نسيم
فصاح به سيده: ما لك، انصرف إلى شغلك فقال: كيف انصرافي ولي في داركم شغلي ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش «الأطرش الذي لا يسمع» :
خليليَّ لا والله ما أنا منكما * * * إذا علم من آل ليلى بدائيا
فلما لقي الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه، يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان.
أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال : عبد مناف. وإذا انتسب افتخر بالآباء وإذا ذكرت الأموال عد الإبل، وسلمان إذا سئل عن اسمه قال : عبد الله، وعن نسبه قال ابن الإسلام. وعن ماله قال الفقر، وعن حانوته قال المسجد. وعن نسبه قال الصبر وعن لباسه قال التقوى والتواضع. وعن وساده قال السهر، وعن فخره قال سلمان منا، وعن قصده قال يريدون وجهه، وعن سيره قال إلى الجنة. وعن دليله في الطريق قال إمام الخلق وهادي الأئمة:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا * * * وإن نحن أظللنا الطريق ولم نجد
كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا * * * دليلا كفانا نور وجهك هاديا
الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل. لو خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له. دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك. إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حرب فاستتر منها بحجاب «قل للمؤمنين» الآية: 30 من سورة النور فقد سلمت من الأثر « وكفى الله المؤمنين القتال» .الآية: 25 من سورة الأحزاب
بحر الهوى إذا مد أغرق، وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء.
ما أحد أكرم من مفرد * * * منعماً في القبر في روضه
في قبره أعماله تؤنســـه * * * ليس كعبد قبره محبســـــه
على قدر فضل المرء تأتى خطوبه * * * ويعرف عند الصبر فيما يصيبه
ومن قل فيما يتقيه اصطبــــــــــــاره * * * فقد قل مما يرتجيه نصيبـــــــــــــه
كم قطع زرع قبل التمام فما ظن الزرع المستحصد. اشتر نفسك فالسوق قائمة والثمن موجود. لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح.
نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور. اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب.
يا بائعاً نفسه بهوى مَنْ حُبُّه ضنى ووصله أذى، وحسنه إلى فنا، لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس كأنك لم تعرف قدر السلعة ولا خسة الثمن حتى إذا قدمت يوم التغابن لك الغبن في عقد التبايع.
لا إله إلا الله، سلعة: الله مشتريها وثمنها الجنة والدلال الرسول، ترضى ببيعها بجزء يسير مما لا يساوي كله جناح بعوضة.
إذا كان شيء لا يساوي جميعه * * * جناح بعوض عند من صرت عبده
ويملك جزء منه كلك ما الذي * * * يكون على ذا الحال قدرك عنده
وبعت به نفساً قد استامها بما * * * لديه من الحسنى وقد زال وده
« ذا هنا اسم إشارة منها هاء التنبيه وليست من الأسماء الخمسة»
يا مخنث العزم أين أنت والطريق، طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ، تزها أنت باللهو واللعب.
فيا دارها بالحزن إن مزارها * * * قريب ولكن دون ذلك أهوال
الحرب قائمة وأنت أعزل في النظارة، فإن حركت ركابك فللهزيمة. ومن لم يباشر حر الهجير في طلاب المجد لم يَقِل في ظلال الشرف.
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا * * * ولم تدر أني للمقام أطوف
قيل لبعض العباد: إلى كم تتعب نفسك فقال: راحتها أريد.
يا مكرماً بحلة الإيمان بعد حلة العافية وهو يخلقهما، في مخالفة الخالق لا تنكر السلب؛ يستحق من استعمل نعمة المنعم فيما يكره أن يسلبها.
عرائس الموجودات قد تزينت للناظرين ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي إيثاره.
وحسان الكون لما أن بدت * * * أقبلت نحوي وقالت لي: إلـــي
فتعاميت كأن لم أرهــــــــــا * * * عندما أبصرت مقصودي لدي
كواكب همم العارفين في بروج عزائمهم سيارة ليس فيها زحل.
يا من انحرف عن جادتهم كن في أواخر الركب، ونم إذا نمت على الطريق فالأمير يراعي الساقة.
قيل للحسن: سبقنا القوم على خيل دهم ونحن على حمر معقرة، فقال: إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم.
حقيقة المحب الصادق
المحب الصادق من وجد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله، ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم، ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه في أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس، فأشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.
مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» الآية: 35 من سورة النور. وحَّدَ قُسٌّ وما رأى الرسول، وكفر ابن أُبي وقد صلى معه في المسجد. مع الصب ري ولا ماء، وكم من عطشان في اللجة. سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية فسيق تابوته إلى بيتها فجاء طفل منفرد عن أم إلى امرأة خالية عن ولد! فلله كم في هذه القصة من عبرة: كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد ولسان القدر يقول: لا تربيه إلا في حجرك! كان ذو البجادين يتيماً في الصغر فكفله عمه فنازعته نفسه إلى اتباع الرسول ﷺ فهمَّ بالنهوض فإذا بقية المرض مانعة فقعد ينتظر العم، فلما تكاملت صحته نفذ الصبر فناداه ضمير الوجد:
إلى كم حبسها تشكو المضيقا * * * أثرها ربما وجدت طريقاً
فقال: يا عم طال انتظاري لإسلامك وما أرى منك نشاطاً، فقال: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك، فصاح لسان الشوق: نظرة من محمد أحب إلى من الدنيا وما فيها.
ولو قيل للمجنون ليلى ووصلها * * * تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال ترابٌ من غبار نعالها * * * ألذ إلى نفسي وأشفى لبلواها
فلما تجرد للسير إلى الرسول ﷺ جرده من الثياب فناولته الأم بجادا فقطعه لسفر الوصل نصفين : اتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، قنع أن يكون في ساقة الأحباب، والمحب لا يرى الطريق؛ لأن المقصود يعينه.
ألا بلغ الله الحمى من يريده * * * وبلغ أكناف الحمى من يريدها
فلما قضى نحبه نزل الرسول ﷺ يمهد له لحده وجعل يقول: « اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه» . فصاح ابن مسعود: «يا ليتني كنت صاحب القبر» .
فيا مخنث العزم أقل ما في الرقعة البيذق فلما نهض تفرزن.
رأى بعض الحكماء برذوناً يسقى عليه فقال لو هملج هذا لركب.
إقدام العزم بالسلوك اندفع من بين أيديها سد القواطع.
القواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك توصلك إلى المقصود.
مثل الدنيا
الدنيا كامرأة بغيّ لا تثبت مع زوج إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها، فلا ترضى بالدياثة.
ميزت بين جمالها وفعالهــــا * * * فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
حلفت لنا ألا تخون عهودنا * * * فكأنها حلفت لنا ألا تفـــــي
السير في طلبها سير في أرض مسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير سباحة في غدير التمساح، المفروح به هو عين المخزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها وأحزانها من أفراحها:
مأرب كانت في الشباب لأهلها * * * عذاباً فصارت في المشيب عذاباً
طائر الطبع يرى الحبة وعين العقل ترى الشرك، غير أن عين الهوى عمياء:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * * * كما أن عين السخط تبدي المساويا
تزخرفت الشهوات لأعين الطباع فغض عنه الذين يؤمنون بالغيب ووقع تابعوها في بيداء الحسرات فـ «أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون» الآية: 5 من سورة البقرة، وهؤلاء يقال لهم: «كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون» الآية: 46 من سورة المرسلات.
لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى طلباً لحياة الأبد لما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة فلما طالت عليهم الطريق تلمحوا المقصد فقرب عليهم البعيد، وكلما أمرت لهم الحياة حلا لهم تذكر: «هذا يومكم الذي كنتم توعدون» الآية: 103 من سورة الأنبياء.
وركب سروا والليل ملق رواقه * * * على كل مغْبرّ المطالع قائم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها * * * فصار سراهم في ظهور العزائم
تريهم نجوم الليل ما يتبعونه * * * على عاتق الشعرى وهام النعائم
إذا اطردت في معرك الجد قصفوا * * * رماح العطايا في صدور المكارم
«رواق الليل: الرواق من الليل: مقدمه، وجانبه» « الشعرى: كوكب يطلع بعد الجوزاء »
من أعجب الأشياء
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه بنعيم الإقبال عليه والإنابة إليه. وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب.
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين
« إحداهما:» سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً، و «الثانية:» أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره وهواه عقله، فالأول من ضعف علمه والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده. قلت: إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه.
فصل
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان وقيادة النفوس رأوا الدولة للنفس الأمارة لجئوا إلى حصن التضرع والالتجاء كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده. شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهَى فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خيط الفخ فطاروا بأجنحة الحذر وصوبوا إلى الرحيل الثاني «يا ليت قومي يعلمون» الآية: 26 من سورة يس تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل فالناس مشتغلون بالفضلات وهو في قطع الفلوات وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح. وقع ثعلبان في شبكة، فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة. تالله ما كانت الأيام إلا مناماً فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلاماً وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما. كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه وولد لا يعذره وجار لا يأمنه وصاحب لا ينصحه وشريك لا ينصفه وعدو لا ينام عن معاداته ونفس أمارة بالسوء ودنيا متزينة وهوى مرد وشهوة غالبة له وغضب قاهر وشيطان مزين وضعف مستول عليه، فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجائتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم. فإذا رأت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس. اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهُزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» الآية: 227 من سورة الشعراء. اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة. وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير. ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * * * أبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثلـــــــه * * * وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه. إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها فما أسرع ما تقف به:
ومشتت العزمات ينفق عمره * * * حيران لا ظفر ولا إخفاق
هل السائق العجلان يملك أمره * * * فما كل سير اليعملات و خيذ
رويداً بأخفاف المطي فإنما * * * تداس جباه تحتها وخدود
« اليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة النجيبة، المعتملة المطبوعة على العمل. و خيذ: خذ البعير: أسرع الخطى.»
من تلمح حلاوة العافية هان عليه مرارة الصبر. الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العقل، منتهى في منازل الوصول. ألفت عجز العادة فلو علت بك همتك ربى المعالي لاحت لك أنوار العزائم. إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور. تزول همة الكساح دلاه في جب العذرة. بينك وبين الفائزين جبل الهوى نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل ما تنزل تلحق بالقوم. الدنيا مضمار سباق وقد انعقد وخفي السباق، والناس في المضمار بين فارس وراجل، وأصحاب حمر معقرة.
سوف ترى إذا انجلى الغبار * * * أفرس تحتك أم حمار
في الطبع شره والحمية أوفق. لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى. حبة المشتهى تحت فخ التلف فتفكر الذبح وقد هان الصبر.
قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب وشدة الحذر من فوت المأمول.
البخيل فقير لا يؤجر على فقره.
الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شرعة من....
تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
لا تسأل سوى مولاك فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
غرس الخلوة يثمر الأنس.
استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك.
عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها و سقاؤها.
إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة واستحضر الكفر جرت بينهم مناجاة.
أتاك حديث لا يمل سماعـــــــه * * * شهي إلي نثره ونظامـــــــــــــــــــه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها * * * وزال عن القلب المعنى ظلامه
إذا خرجت من عدوك لفظة سفه فلا تلحقها بمثلها تلقحها ونسل الخصام نسل مذموم.
حميتك لنفسك أثر الجهل بها فلو عرفتها أعنت الخصم عليها.
إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح.
أوثق غضبك بسلسة الحلم فإنه كلب إن أفلت أتلف.
من سبقت له سابقة السعادة دل على الدليل قبل المطلب.
إذا أراد القدر شخصاً بذر في أرض قلبه بذر التوفيق ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة ثم أقام عليه بأطوار المراقبة واستخدم له حارس العلم، فإذا الزرع قائم على سوقه.
إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها.
إذا جن الليل تغالب النور السهر، فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة، والكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وردت الغنيمة لأهلها.
سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة. النجائب في الأول وحاملات الزاد في الأخير.
لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رددت، فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط كف: «وتصدق علينا» الآية: 88 من سورة يوسف.
يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد التقوى كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق.
لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد المعاصي سد في باب الكسب وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
تالله ما جئتكم زائــــــــــراً * * * إلا وجدت الأرض تطوى لي
لا انثنى عزمي عن بابكم * * * إلا عثرت بأذيـــــــــــــــــــــــــالي
الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق. من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله.
كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم.
الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها.
الدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف.
الدنيا مجاز والآخرة وطن و الأوطار إنما تطلب في الأوطان.
أقسام الاجتماع بالإخوان
«أحدهما:» اجتماع على مؤانسة الطمع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه يفسد القلب ويضيع الوقت. «ثانيهما:» الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق، والصبر. فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها. ولكن فيه ثلاث آفات: «الأولى:» تزين بعضهم لبعض. «الثانية:» الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. «الثالثة:» أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان. وقد جعل الله سبحانه برحمته الطيبات للطيبين، والطيبين للطيبات، وعكس ذلك.
الأسباب المشهودة والأسباب الغائبة
ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعليان، وفى الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فإنه موقوف على أسباب أخر من وجود محل قابل، وأسباب أخر تنضم إلى ذلك السبب. وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل.
وكذلك جميع الأسباب مع مسبباتها، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثره على غيره إلا الله الواحد القهار، فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، هذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل.
فإنه لو فرض من أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة، بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب على أكثرهم علماً وحالاً. فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة.
التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه
فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها «فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون» الآية: 65 من سورة العنكبوت. وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة. لما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده. فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها و غياثها، وبالله التوفيق.