→ كتاب الفوائد | كتاب الفوائد المؤلف: ابن القيم |
كتاب الفوائد - 2 ← |
كتاب الفوائد |
☰ جدول المحتويات
الانتفاع بالقرآن وشروطه
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه وإليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله ، قال تعالى: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» الآية: 37 من سورة ق. وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.
فقوله تعالى: «إن في ذلك لذكرى» إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، وهذا هو المؤثر، وقوله تعالى: « لمن كان له قلب» فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: «إن هو إلا ذكر وقرآن مبين. لينذر من كان حيًّا» الآيتان: 69. 70 من سورة يس. أي حي القلب. وقوله: «أو ألقى السمع» أي وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله تعالى «وهو شهيد» أي شاهد القلب حاضر غير غائب.
قال ابن قتيبة : استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
فإن قيل: إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه، فما وجه دخول أداة «أو» في قوله تعالى: «أو ألقى السمع» والموضع موضع واو الجمع « يقصد واو العطف التي تجمع بين شيئين فحينما تقول: جاء محمد وعلي، فقد اجتمع مجيء كل منهما» لا موضع «أو» التي هي لأحد الشيئين.
قيل: هذا سؤال جيد، والجواب عنه أن يقال: خرج الكلام بـ «أو» باعتبار حال المخاطب المدعو، فإن من الناس من يكون حي القلب و اعيه، تامّ الفطرة، فإذا فكَّر بقلبه وجال بفكره، دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة. وهذا وصف الذين قيل فيهم: «ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق» الآية: 6 من سورة سبأ. وقال في حقهم: « الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء» فهذا نور الفطرة على نور الوحي. وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي. قال ابن القيم: وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب «اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة و الجهمية » فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت فيه، فهو يقرأها عن ظَهْر قَلْب.
ومن الناس من لا يكون تامَّ الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره و زكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام وقلبه لتأمله والتفكر فيه وتعقل معاينه، فيعلم حينئذ أنه الحق. فالأول حال من رأى بعينه ما دعي عليه وأخبر به. والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال: « يكفيني خبره» فهو في مقام الإيمان، والأول في مقام الإحسان.
هذا وقد وصل إلى علم اليقين، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين، وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام. فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا ونوع في الآخرة، فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار، وفى الدنيا بالبصائر، « البصائر: من البصيرة وهي التعقل والفطنة والانتباه.» فهو عين يقين في المرتبتين.
سورة ق جامعة لأصول الإيمان
وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي، ويغني عن كلام أهل المعقول، فإنها تضمنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والإيمان بالملائكة، وانقسام الناس إلى هالك شقي وفائز سعيد، وأوصاف هؤلاء وهؤلاء. وتضمنت إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب وذكر فيها القيامتين: الصغرى والكبرى، والعالمين: الأكبر وهو عالم الآخرة، والأصغر وهو عالم الدنيا، وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته، وحاله عند وفاته ويوم معاده، وإحاطته سبحانه به من كل وجه حتى علمه بوساوس نفسه وإقامة الحفظة عليه يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها، وأنه يوافيه يوم القيامة ومعه سائق يسوقه إليه، وشاهد يشهد عليه، فإذا أحضره السائق قال: «هذا ما لدي عتيد» الآية: 23 من سورة ق. أي هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته. فيقال عند إحضاره: « ألقيا في جهنم كل كفار عنيد» الآية: 24 من سورة ق. كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان، فيقول: هذا فلان قد أحضرته فيقول: اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقه.
وتأمل كيف دلت السورة صريحاً على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ويعذب التي كفرت بعينها، لا أنه سبحانه يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها، كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل، حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحاً غير هذه الروح وبدنا غير هذا البدن.
وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، وذلك الذي عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى، وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد، وموافقة لقول من أنكره من المكذبين، فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها. كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئاً بعد شيء، فكل وقت يخلق سبحانه أجساماً وأرواحاً غير الأجسام التي فنيت، فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عياناً، وإنما تعجبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزقهم البلى وصاروا عظاماً و رفاتاً، فتعجبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء، ولهذا قالوا: «أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون» الآية: 16 من سورة الصافات. وقالوا: «ذلك رجع بعيد» . الآية: 3 من سورة ق. ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا بل يكون ابتداء ، ولم يكن لقوله «قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» كبير معنى، فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدر، وهو أنه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميز، فأخبر سبحانه أنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً. وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته، فإن شُبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع: «أحدها:» اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص. «الثاني:» أن القدرة لا تتعلق بذلك. «الثالث:» أن ذلك أمر لا فائدة فيه، وإنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء، هكذا أبدا كلما مات جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك.
براهين المعاد في القرآن مبنية على أصول ثلاثة
فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول: «أحدها:» تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال: «من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم» الآيتان: 78، 79 من سورة يس. وقال: « وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل. إن ربك هو الخلاق العليم» الآيتان:85،86 من سورة الحجر. وقال: « قد علمنا ما تنقص الأرض منهم» .الآية: 4 من سورة ق. «الثاني:» تقرير كمال قدرته، كقوله تعالى: « أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم» الآية: 18 من سورة يس. وقوله تعالى: « بلى قادرين على أن نسوي بنانه» الآية: 4 من سورة القيامة. وقوله : « ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير» . الآية: 6 من سورة الحج. ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله تعالى: « أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم. بلى وهو الخلاق العليم» الآية: 81 من سورة يس. «الثالث:» كمال حكمته، كقوله تعالى «ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين» الآية: 38 من سورة الدخان. وقوله: «وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً» وقوله: « أيحسب الإنسان أن يترك سدى» الآية: 36 من سورة القيامة وقوله: «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون . فتعالى الله الملك الحق» الآية: 115،116 من سورة المؤمنون. وقوله: « أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم» . ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص.
ثم أخبر أن المنكرين لذلك لما كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم: «فهم في أمر مريج» الآية: 5 من سورة ق: مختلط لا يحصلون منه على شيء. ثم دعاهم إلى النظر في العالم العلوي وبنائه، وارتفاعه واستوائه، وحسنه والتئامه. ثم إلى العالم السفلي ؛وهو الأرض، وكيف بسطها وهيأها بالبسط لما يراد منها، وثبتها بالجبال، وأودع فيها المنافع، وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه، وأن ذلك تبصرة إذا تأملها العبد المنيب وتبصر بها، تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد، فالناظر فيها يتبصر أولا، ثم يتذكر ثانيا، وإن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب الله بقلبه وجوارحه.
ثم دعاهم إلى التفكر في مادة أرزاقهم وأقوالهم، وملابسهم ومراكبهم وجناتهم، وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه، حتى أثبت به جنات مختلفة الثمار والفواكه، ما بين أبيض وأسود، وأحمر وأصفر، وحلو وحامض، وبين الثمار اختلاف منابعها وتنوع أجناسها، وأنبت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها، وأشكالها ومقاديرها. ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل: «فأحيا به الأرض بعد موتها» الآية: 164 من سورة البقرة. ثم قال: «كذلك الخروج» الآية: 11من سورة ق. أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب: خروجكم من الأرض بعدما غيبتم فيها، وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا المعالم وبينا بعض ما فيها من الأسرار والعبر. ثم انتقل سبحانه وتعالى إلى تقرير النبوة بأحسن تقرير وأوجز لفظ وأبعده عن كل شبهة وشك، فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون _ رسلا؛ فكذبوهم، فأهلكهم بأنواع الهلاك، وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله إن لم يؤمنوا، وهذا تقرير لنبوة من أخبر بذلك عنهم من غير أن يتعلم ذلك من معلم ولا قرأه في كتاب، بل أخبر به إخبارا مفصلا مطابقا لما عند أهل الكتاب.
ولا يرد على هذا سؤال البهت ، قال تعالى: «وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما» . والمكابرة على جحد الضروريات بأنه لم يكن شيء من ذلك، أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم. وصاحب هذا السؤال يعلم من نفسه أنه باهت مباهت «أي كاذب» ، جاحد لما شهد به العيان وتناقله القرون قرنا بعد قرن، فإنكاره بمنزلة إنكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية. ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: «أفعيينا بالخلق الأول» . الآية: 15 من سورة ق. يقال لكل من عجز عن شيء: عيي به، وعيي فلان بهذا الأمر. قال الشاعر:
عيوا بأمرهم كما * * * عييت ببيضتها الحمامة
ومنه قوله تعالى: «ولم يعي بخلقهن» . الآية: 33من سورة الأحقاف. قال ابن عباس « هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، حبر الأمة، الصحابي الجليل، ولد بمكة سنة 03ق- 619 ونشأ في بدء عصر النبوة، روى عن النبي ، شهد مع علي الجمل وصفين، له في الصحيحين وغيرهما ما يزيد عن الألف حديث.» يريد: أفعجزنا، وكذلك قال مقاتل.
قلت: هذا تفسير يلازم اللفظة، وحقيقتها أعم من ذلك، فإن العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا، وعييت به: إذا لم تهتد لوجهه ، ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول: «أعياني دواؤك» إذا لم تهتد له ولم تقف عليه. ولازم هذا المعنى العجز عنه. والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى، فإن الحمامة لم تعجز عن بيضتها، ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض: أين ترمي بالبيضة؟ فهي تدور وتجول حتى ترمي بها، فإذا باضت أعياها أن تحفظها وتودعها حتى لا تُنال، فهي تنقلها من مكان إلى مكان، وتحار أين تجعل مقرها؟ كما هو حال من عيي بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه؟ وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب كما يظنه من لم يعرف تفسير القرآن، بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: « وما مسنا من لغوب» الآية: 38 من سورة ق.
ثم أخبر سبحانه أنهم « في لبس من خلق جديد» الآية: 15 من سورة ق أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق جديداً، ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد، وهو خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد. وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها، وما فيها من اللحم والعظم، والعروق والأعصاب، و الرباطات والمنافذ، والآلات والعلوم، والإرادات والصناعات، كل ذلك من نطفة ماء، فلو أنصف العبد لاكتفى بفكرة نفسه، واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته. ثم أخبر سبحانه عن إحاطة عمله به حتى علم وساوس نفسه، ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والإحاطة، وأن ذلك أدنى إليه من العرق الذي هو داخل بدنه، فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق. وقال شيخنا: المراد بقوله: «نحن» أي ملائكتنا، كما قال: « فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» الآية 18 من سورة القيامة. أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل، قال: ويدل عليه قوله: « إذ يتلقى المتلقيان» الآية: 17 من سورة ق. فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطل. ثم أخبر سبحانه أنه على يمينه وشماله ملكان يكتبان أعماله وأقواله، ونبه بإحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال التي هي أقل وقوعاً وأعظم أثراً من الأقوال، وهي غايات الأقوال ونهايتها.
القيامة قيامتان- صغرى وكبرى
ثم أخبر عن القيامة الصغرى، وهي سكرة الموت، وأنها تجيء بالحق، وهو لقاؤه سبحانه، والقدوم عليه، وعرض الروح عليه، والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى. ثم ذكر القيامة الكبرى بقوله: « ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد» الآية 20 من سورة ق ثم أخبر عن أحوال الخلق في هذا اليوم، وأن كل أحد يأتي الله سبحانه ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه. وهذا غير شهادة جوارحه وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه وغير شهادة رسله والمؤمنين، فإن الله سبحانه يستشهد على العباد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر، والجلود التي عصوه بها، ولا يحكم بينهم بمجرد عمله وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من إقرارهم وشهادة البينة لا بمجرد عمل، فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد عمله من غير بينة ولا إقرار. ثم أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بألا يغفل عنه وألا يزال على ذكره وباله، وقال: « في غفلة من هذا» الآية 22 من سورة ق ولم يقل عنه كما قال: « وإنهم لفي شك منه مريب» الآية: 110 من سورة هود ولم يقل في شك فيه، وجاء هذا في المصدر وإن لم يجئ في الفعل، فلا يقال: غفلت منه ولا شككت منه، كأن غفلته وشكه ابتداء منه فهو مبدأ غفلته وشكه. وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه، وشك فيه، فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشؤهما مبدأ للغفلة والشك. ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ، وعن العين فتنفتح، فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه. ثم أخبر سبحانه أن قرينه وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة يكتب عمله وقوله، يقول لما يحضره: هذا الذي كنت وكلتني به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به. هذا قول مجاهد . وقال ابن قتيبة: المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي. والتحقيق أن الآية تتضمن الأمرين. أي هذا الشخص الذي وكلت به هذا عمله الذي أحصيته عليه؛ فحينئذ يقال: « ألقيا في جهنم...» الآية: 24 من سورة ق وهذا إما أن يكون خطاباً للسائق والشهيد، أو خطاباً للملك الموكل بعذابه وإن كان واحداً. وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها، أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفية ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.
ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات: «أحدهما:» أنه كفار لنعم الله وحقوقه، كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته. «الثانية:» أنه معاند للحق يدفعه جحداً وعناداً. «الثالثة:» أنه مناع للخير، وهذا يعلم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله، والخير الذي هو إحسان إلى الناس، فليس فيه خير لنفسه ولا لبني جنسه، كما هو حال أكثر الخلق . «الرابعة:» أنه مع منعه للخير معتد على الناس، ظلوم غشوم، معتد عليهم بيده ولسانه. «الخامسة:» أنه مريب، أي صاحب ريبة. «السادسة:» أنه مع ذلك مشرك بالله قد اتخذ مع الله إلهاً آخر يعبده ويحبه ويغضب له، ويرضى له ويحلف باسمه وينذر له، ويوالي فيه ويعادي فيه. فيختصم هو وقرينه من الشياطين ويحيل الأمر عليه، وأنه هو الذي أطغاه وأضله، فيقول قرينه: لم يكن لي قوة أن أضله وأطغيه، ولكن كان في ضلال بعيد اختاره لنفسه، وآثره على الحق، كما قال إبليس لأهل النار: «وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي» الآية: 22 من سورة إبراهيم، وعلى هذا فالقرين هنا هو شيطانه يختصمان عند الله. وقالت طائفة: بل قرينه هاهنا هو الملك فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى، وأنه لم يفعل ذلك كله، وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة ولم يمهله حتى يتوب، فيقول الملك: ما زدت في الكتابة عن التوبة «ولكن كان في ضلال بعيد» الآية: 27 من سورة ق، فيقول الرب تعالى: «لا تختصموا لدي» الآية: 28 من سورة ق، وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورة الصافات والأعراف، وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة الزمر، وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة الشعراء وسورة ص .
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدَّل القول لديه، فقيل: المراد بذلك قوله: «لأملأن جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين» الآية: 119 من سورة هود، ووعده لأهل الإيمان بالجنة، وأن هذا لا يبدل ولا يخلف. قال ابن عباس: يريد: ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا لأهل معصيتي. قال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض، وهذا أصح القولين في الآية. وفيها قول آخر: أن المعنى: ما يغير القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغير عند الملوك والحكماء، فيكون المراد بالقول: قول المختصمين، وهو اختيار الفراء ، وابن قتيبة قال الفراء: المعنى: ما يكذب عندي لعلمي بالغيب، وقال ابن قتيبة: أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، قال: لأنه قال: القول عندي، ولم يقل: قولي. وهذا كما يقال: لا يكذب عندي، فعلى القول الأول يكون قوله: «وما أنا بظلام للعبيد» الآية: 29 من سورة ق، من تمام قوله: «ما يبدل القول لدي» الآية: 29 من سورة ق، في المعنى؛ أي: ما قلته ووعدت به لا بد من فعله، ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور، وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين:
«أحدهما:» أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه، وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده.
ثم أخبر عن سعة جهنم وأنها كلما ألقى فيها تقول: «هل من مزيد» الآية: 30 من سورة ق، وأخطأ من قال: إن ذلك للنفي؛ أي ليس من مزيد. والحديث الصحيح يرد هذا التأويل.
الصفات الأربع لأهل الجنة
ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين، وأن أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع: «الأولى:» أن يكون أواباً أي رجَّاعاً إلى الله من معصيته إلى طاعته ،ومن الغفلة عنه إلى ذكره. قال عبيد بن عمير: الأواب: الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها، وقال مجاهد: هو الذي إذا ذكر ذنبه استغفر منه. وقال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. «الثانية:» أن يكون حفيظاً. قال ابن عباس: لما ائتمنه الله عليه وافترضه. وقال قتادة : حافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته. ولما كانت النفس لها قوتان: قوة الطلب وقوة الإمساك، كان الأواب مستعملاً لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته، والحفيظ مستعملاً لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه، فالحفيظ: الممسك نفسه عما حرم عليه، والأواب: المقبل على الله بطاعته. «الثالثة:» قوله: «من خشي الرحمن بالغيب» الآية: 33 من سورة ق، يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته،وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه، ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه، فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله. «الرابعة:» قوله: «وجاء بقلب منيب» الآية: 33 من سورة ق، قال ابن عباس: راجع عن معاصي الله مقبل على طاعة الله. وحقيقة الإنابة: عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله: «ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود . لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد» الآيتان: 34، 35 من سورة ق ثم خوَّفهم بأن يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم، وأنهم كانوا أشد منهم بطشاً، ولم يدفع عنهم الهلاكَ بطشُهم، وأنهم عند الهلاك تقلبوا وطافوا في البلاد، وهل يجدون محيصاً ومنجى من عذاب الله؟! قال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا، وقال الزجاج « الزجاج هو: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو اللغة، ولد ومات ببغداد، توفي سنة 311هـ - 923م. » طوفوا وفتشوا فلم يروا محيصاً من الموت. وحقيقة ذلك: أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوه. ثم أخبر سبحانه أن في هذا الذي ذكر «لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» الآية: 37 من سورة ق
ثم أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولم يمسه من تعب ولا إعياء، تكذيباً لأعدائه من اليهود حيث قالوا: إنه استراح في اليوم السابع. ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود: أنه استراح، ولا أحد أصبر على أذى يسمعه منه، ثم أمره بما يستعين به على الصبر، وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وبالليل وأدبار السجود، فقيل: هو الوتر، وقيل: الركعتان بعد المغرب، والأول: قول ابن عباس، وعن ابن عباس رواية ثالثة: أنه التسبيح باللسان أدبار الصلوات المكتوبات. ثم ختم السورة بذكر المعاد ونداء المنادي برجوع الأرواح إلى أجسادها للحشر، وأخبر أن هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد: «يوم يسمعون الصيحة بالحق» الآية: 42 من سورة ق، بالبعث ولقاء الله، يوم تشقق الأرض عنهم كما تشقق عن النبات فيخرجون سراعاً من غير مهلة ولا بطء، ذلك حشر يسير عليه سبحانه. ثم أخبر سبحانه أنه عالم بما يقول أعداؤه، وذلك يتضمن مجازاته لهم بقولهم إذ لم يخف عليه. وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء، ثم أخبره أنه ليس بمسلط عليهم ولا قهار، ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام ويكرههم عليه، وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده، فهو الذي ينتفع بالتذكير، وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير.
فضيلة لأهل بدر
قول النبي لعمر: «وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . أشكل على كثير من الناس معناه فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع. فقالت طائفة _ منهم ابن الجوزي_ : ليس المراد من قوله: «اعملوا» الاستقبال، وإنما هو للماضي، وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته. قال: ويدل على ذلك شيئان: «أحدهما:» أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله: فأستغفر لكم. «ثانيهما:» أنه كان يكون إطلاقاً في الذنوب ولا وجه لذلك.
وحقيقة هذا الجواب: أني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم، لكنه ضعيف من وجهين: «أحدهما:» أن لفظ «اعملوا» يأباه؛ فإنه للاستقبال دون الماضي. وقوله: «قد غفرت لكم» لا يوجب أن يكون «اعملوا» مثله، فإن قوله «قد غفرت» تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل، كقوله: «أتى أمر الله» الآية: 1 من سورة النحل - «وجاء ربك» الآية: 22 من سورة الفجر، ونظائره. «ثانيهما:» أن نفس الحديث يرده، فإن سببه قصة حاطب وتجسسه على النبي وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر ، لا قبلها، وهو سبب الحديث فهو مراد منه قطعاً. فالذي نظن في ذلك -والله أعلم- أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يفارقون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب ، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرِّين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح، واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد. وهذا محال.
ومن أوجب الواجبات: التوبة بعد ذلك. فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا: قوله في الحديث الآخر: «أذنب عبد ذنباً فقال: أي رب أذنبت ذنباً فاغفر لي؛ فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنباً آخر، فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي؛ فغفر له. ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفره لي؛ فقال الله: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فقد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء» رواه الشيخان ، فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات والجرائم، وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب تاب. واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب حكم يعم كل من كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لأهل بدر، وكذلك كل من بشره رسول الله بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له، لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له، ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة. وكذلك عمر فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها، والاستمرار عليها إلى الموت ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يفهم أحد منهم من ذلك إطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال.
فائدة جليلة
قوله تعالى: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور» الآية: 15 من سورة الملك. أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقها والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها، وأخبر سبحانه أنه جعلها مهاداً وفرشاً وبساطاً وقراراً و كفاتاً وأخبر أنه دحاها و طحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وثبَّتها بالجبال ونهج فيها الفجاج والطرق، وأجرى فيها الأنهار والعيون، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها، و من بركتها أنك تودع فيها الحب فتخرجه لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها فتوارى منه كل قبيح وتخرج له كل مليح، ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها وتضمه وتؤويه، وتخرج له طعامه وشرابه فهي أحمل شيء للأذى وأعوده بالنفع. فلا كان من التراب خير منه وأبعد من الأذى وأقرب إلى الخير. والمقصود أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد. وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجها؛ لما تقدم من وصفها بكونها ذلولاً. فالماشي عليها يطأ على مناكبها وهو أعلى شيء فيها، ولهذا فسرت المناكب بالجبال، كمناكب الإنسان؛ وهي أعاليه. قالوا: وذلك تنبيه على أن المشي في سهولها أيسر. وقالت طائفة: بل المناكب: الجوانب والنواحي، ومنه مناكب الإنسان، لجوانبه. والذي يظهر: أن المراد بالمناكب الأعالي، وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له، فإن سطح الكرة أعلاها، والمشي إنما يقع في سطحها، وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدم من وصفها بأنها ذلول.
ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها فذللها لهم ووطأها وفتق فيها السبل والطرق التي يمشون فيها وأودعها رزقهم، فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقليب فيه بالذهاب والمجيء والأكل مما أودع فيه للساكن. ثم نبه بقوله: «وإليه النشور» على أنا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين، بل دخلناه عابري سبيل، فلا يحسن أن نتخذه وطناً ومستقرًّا، وإنما دخلناه لنتزود منه إلى دار القرار، فهو منزل عبور لا مستقر حبور، ومعبر وممر لا وطن ومستقر. فتضمنت الآية الدلالة على ربوبيته وقدرته وحكمته ولطفه والتذكر بنعمه وإحسانه، والتحذير من الركون إلى الدنيا واتخاذها وطناً ومستقرًّا بل نسرع فيها السير إلى داره وجنته، فلله ما في ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده والتذكير بنعمه، والحث على السير إليه، والاستعداد للقائه والقدوم عليه، والإعلام بأنه سبحانه يطوى هذه الدار كأن لم تكن، وأنه يحيي أهلها بعدما أماتهم وإليه النشور.