→ كتاب الفوائد - 1 | كتاب الفوائد المؤلف: ابن القيم |
كتاب الفوائد - 3 ← |
كتاب الفوائد |
☰ جدول المحتويات
- نظرة إلى سورة الفاتحة
- طريقان لمعرفته تعالى
- كيف يفعل من أصابه هم أو غم
- من معاني العبودية
- القضاء والحكم والفرق بينهما
- أنزه الموجودات وأشرفها
- عظمته سبحانه وتعالى
- قبول المحل لما يوضع مرهون بأن يفرغ من ضده
- الكلام في ألهاكم التكاثر:
- من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه
- مراتب التقوى
- مشاهد العبد إذا جرى عليه مقدور يكرهه
- من معاني الإنصاف له تعالى
- أنواع الغيرة
- فوائد قيمة إياك والمعاصي
نظرة إلى سورة الفاتحة
للإنسان قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة عملية إرادية، وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه: العلمية والإرادية، واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره، وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق الذي توصل إليه، ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها، فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية، وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها. واستكمال القوة العلمية الإرادية لا تحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد والقيام بها إخلاصاً وصدقاً ونصحاً وإحساناً ومتابعة وشهوداً لمنته عليه، وتقصيره هو في أداء حقه، فهو مستحي من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقه عليه ودون ذلك، وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته فهو يهديه الصراط إما المستقيم الذي هدي إليه أولياؤه وخاصته، وأن يجنبه الخروج عن ذلك الصراط إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال، وإما قوته العملية فيوجب له الغضب. فكمال الإنسان وسعادته لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور، وقد تضمنتها سورة الفاتحة و انتظمتها أكمل انتظام فإن قوله: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين» يتضمن الأصل الأول وهو معرفة الرب تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهي: اسم الله والرب والرحمن. فاسم الله متضمن الصفات الألوهية، واسم الرب متضمن لصفات الربوبية، واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور على هذا. وقوله: «إياك نعبد وإياك نستعين» يتضمن معرفة الطريق الموصلة إليه وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه، واستعانته على عبادته. وقوله: «اهدنا الصراط المستقيم» يتضمن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته. وقوله: «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطريق الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل. فأول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة. فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته. والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته، فلا يكون إلا رحيماً منعماً وذلك من موجبات إلهيته فهو الإله الحق وإن جحده الجاحدون وعدل به المشركون. فمن تحقق بمعاني الفاتحة علماً ومعرفة وعملاً وحالاً فقد فاز من كماله بأوفر نصيب، وصارت عبوديته عبودية الخاصة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين، والله المستعان.
طريقان لمعرفته تعالى
الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين: «أحدهما:» النظر في مفعولاته. «ثانيهما:» التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة. فالنوع الأول: كقوله: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس ...» الآية: 164 من سورة البقرة، إلى آخرها، وقوله: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب» الآية: 190 من سورة آل عمران، وهو كثير في القرآن. «والثاني:» كقوله: «أفلا يتدبرون القرآن» الآية: 82 من سورة النساء، وقوله: «أفلم يدبروا القول» الآية: 68 من سورة المؤمنون، وقوله: «كتاب أنزلناه مباركا ليدبروا آياته» الآية: 29 من سورة ص، وهو كثير أيضاً. فأما المفعولات فإنها دالة على الأفعال، والأفعال دالة على الصفات، فإن المفعول يدل على فاعل فعله، وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا إرادة. ثم ما في المعلومات من التخصيصات المتنوعة دالّ على إرادة الفاعل وأن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحداً غير متكرر. وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى. وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته. وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دال على غضبه. وما فيها من الإكرام والتقريب والعناية دال على محبته. وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دال على بغضه ومقته. وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد. وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على إمكان المعاد. وما فيها من ظهر آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحة النبوات. وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها. فمفعولاته من أدل شيء على صفاته، وصدق ما أخبرت به رسله عنه. فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعات منبهة على الاستدلال بالآيات المصنوعات. قال تعالى: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» الآية: 53 من سورة فصلت، أي أن القرآن حق. فأخبر أنه لا بد من أن يريهم من آياته المشهودة ما يبين لهم أن آياته المتلوة حق. ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين على صدق رسوله، فآياته شاهدة بصدقه، وهو شاهد بصدق رسوله بآياته، فهو الشاهد والمشهود له، وهو الدليل والمدلول عليه. فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على ما هو دليل لي على كل شيء، فأي دليل طلبته عليه فوجوده أظهر منه. لهذا قال الرسل لقومهم: «أفي الله شك» الآية: 10 من سورة إبراهيم، فهو أعرف من كل معروف وأبين من كل دليل. فالأشياء عرفت به في الحقيقة، وإن كان عرف بها في النظر والاستدلال بأفعاله وأحكامه عليه.
كيف يفعل من أصابه هم أو غم
في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ : « ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً.» قالوا: « يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن » . فتضمن الحديث العظيم أموراً من المعرفة والتوحيد والعبودية: منها أن الداعي به صدَّر سؤاله بقوله: إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك. وهذا يتناول مَن فوقه من آبائه وأمهاته إلى أبويه : آدم وحواء، وفي ذلك تملق له و استخزاء بين يديه، واعتراف بأنه مملوكه وآباؤه مماليكه. وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك ولم يُؤوه أحد ولم يعطف عليه بل يضيع أعظم ضيعة، فتحت هذا الاعتراف أني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده. وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد، بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتصرفهم على محض العبودية، فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان» الآية: 42 من سورة الحجر، وقوله: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً» الآية: 63 من سورة الفرقان، ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه. وإضافة ناقته إليه وداره التي هي الجنة إليه، وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله: «وأنه لما قام عبد الله يدعوه» الآية: 19 من سورة الجن.
من معاني العبودية
وفي التحقيق بمعنى قوله: « إني عبدك » التزام عبوديته من الذل، وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه واللجوء إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وعياذ العبد به و عياذه به، وألا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاء. وفيه أيضاً أني عبد من جميع الوجوه صغيراً وكبيراً، حيًّا وميتاً، مطيعاً وعاصياً، معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح. وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده. وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك. وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة. ثم قال: ْ « ناصيتي بيدك» ، أي أنت المتصرف فيَّ، تصرفني كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي، وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته، ولهذا قال هود لقومه: «إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم» الآية: 56 من سورة هود. وقوله: « ماض فيَّ حكمك عدل في قضاؤك» تضمن هذا الكلام أمرين: «أحدهما:» مضاء حكمه في عبده. «ثانيهما:» يتضمن حمده وعدله، وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وهذا معنى قول نبيه هود: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها» الآية: 56 من سورة هود، ثم قال: «إن ربي على صراط مستقيم» الآية: 56 من سورة هود، أي مع كونه مالكاً قاهراً متصرفاً في عباده نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم: في قوله وفعله، وقضاءه وقدره، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسده، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله ورحمته.
القضاء والحكم والفرق بينهما
وفرق بين الحكم والقضاء وجعل المضاء للحكم والعدل للقضاء، فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكوني القدري، والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه. شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه. ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه، قال: «عدل فيَّ قضاؤك» أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه، وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان كونيًّا: فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه، فهو سبحانه يقضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمراً ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والإمضاء. وقوله: « عدل فيَّ قضاؤك » يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك. قال تعالى: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» الآية: 30 من سورة الشورى، وقال: «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور» الآية: 48 من سورة الشورى، فكل ما يقضي على العبد فهو عدل فيه. «فإن قيل» : فالمعصية عندكم بقضائه وقدره، فما وجه العدل في قضائها؟ فإن العدل في العقوبة عليها غير ظاهر. قيل: هذا سؤال له شأن ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا: لأن الظلم هو المتصرف في ملك الغير والله له كل شيء، فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلاً. وقالت طائفة: بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم إما في الدنيا وإما في الآخرة. وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل. ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات، فزعموا أنه لا يمكنهم إثبات التوحيد إلا بإنكار الصفات، فصار توحيدهم تعطيلاً وعدلهم تكذيباً بالقدر. وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية وألغى على من شاء فذلك محض العدل فيه لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى «العدل » الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله. ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان: «أحدهما:» ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه وتناسي ذكره وشكره فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه. «ثانيهما:» ألا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليه، ولا يثني عليه بها ولا يحبها فلا يشاؤها له لعدم صلاحيته محله. قال تعالى: «وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين» الآية: 53 من سورة الأنعام، وقال: «ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم» الآية: 23 من سورة الأنفال، فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان في محض العدل، كما إذا قضى على الحية بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور كان ذلك عدلاً فيه، وإن كان مخلوقاً على هذه الصفة. وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر. والمقصود: أن قوله ﷺ: « ماض في حكمك عدل في قضاؤك » رد على الطائفتين: القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عباده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره، ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون كل مقدور عدل فلا يبقى لقوله: «عدل في قضاؤك» فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال: ماض ونافذ فيَّ قضاؤك، وهذا هو. وقوله: « أسألك بكل اسم ...» إلى آخره، توسل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم، وهذه أحب الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه. وقوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري» الربيع: المطر الذي يحيي الأرض. شبه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبهه الله بالمطر وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية...» الآية: 17 من سورة الرعد، في قوله: «مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم» الآية: 17 من سورة البقرة، ثم قال: «أو كصيب من السماء» الآية: 19 من سورة البقرة، وفي قوله: «الله نور السموات الأرض مثل نوره...» الآيات الآية: 35 من سورة النور، ثم قال: «ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه» الآيات الآية: 43 من سورة النور. فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وأن ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور. وقال تعالى: «أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» الآية: 122 من سورة الأنعام. ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب؛ لأنه قد حصل لما هو أوسع منه، ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها، ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى ألا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم، والله أعلم.
أنزه الموجودات وأشرفها
أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتاً وقدراً وأوسعها: عرش الرحمن جل جلاله، لذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنات وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير. وخلق الله القلوب وجعلها محلاًّ لمعرفته ومحبته وإرادته فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وإرادته. قال تعالى: «للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم» الآية: 60 من سورة النحل.وقال تعالى: «وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم» الآية: 27 من سورة الروم، وقال تعالى: «ليس كمثله شيء» الآية: 11 من سورة الشورى، فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه.
وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها، فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل مغموم في الحال. وقد روى الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: « إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» ، قالوا: « فما علامة ذلك يا رسول الله؟» قال: «الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله» ، والنور الذي يدخل القلب إنما هو آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق.
عظمته سبحانه وتعالى
تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد كله، أزِمَّة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها و جليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه. فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أولياءه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، أنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين. ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم. والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير. فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جميلاً، هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل سواه، وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها وداؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت، ولم تنتفع بحياتها.
قبول المحل لما يوضع مرهون بأن يفرغ من ضده
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره. ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه. وسر ذلك: أن صفاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه. كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان. ولهذا في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: « لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يَرِيَهُ خير له من أن يملأ شعراً» فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات، ونحوها، وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً فتعدته وجاوزته إلى محل سواه. كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة، ولذلك قيل:
نزه فؤادك من سوانا تلقنا * * * فجنابنا حل لكل منزه
والصبر طلسم لكنز وصالنا * * * من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
وبالله التوفيق
الكلام في ألهاكم التكاثر:
قوله تعالى: « ألهاكم التكاثر» الآية الأولى من سورة التكاثر إلى آخرها. أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى: «ألهاكم» أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه. فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه. فإن كان بقصده فيه فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد كقوله ﷺ في الخميصة: « إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي» رواه الشيخان كان صاحبه معذوراً وهو نوع من النسيان، وفي الحديث « فلها ﷺ عن الصبي» أي ذهل عنه، ويقال: لَهَا بالشيء: أي اشتغل به، ولها عنه: إذا انصرف عنه. واللهو للقلب، واللعب للجوارح؛ ولهذا يجمع بينهما، ولهذا كان قوله: « ألهاكم التكاثر» أبلغ في الذم من شغلكم، فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به، فاللهو هو ذهول وإعراض، والتكاثر تفاعل من الكثرة، أي مكاثرة بعضكم لبعض، وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذه التكاثر. فالتكاثر كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم، ولا سيما إذا لم يحتج إليه. والتكاثر في الكتب: التصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها. والتكاثر: أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذموم إلا فيما يقرب إلى الله. فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومسابقة إليها. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه انتهى إلى النبي ﷺ وهو يقرأ: «ألهاكم التكاثر» قال: « يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت».
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه، للعبد ستر بينه وبين الله وبينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس. للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه. إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها. الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر. محبوب اليوم يعقب المكروه غدا، ومكروه اليوم يعقب المحبوب غدا. أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل الوقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها. كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة. يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه. المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه، والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه. لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين. دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهِمَّة. فإن لم تدافعها صارت فعلا.
مراتب التقوى
«إحداها: » حمية القلب والجوارح عن الآثار المحرمات. «الثانية:» حميتها عن المكروهات. «الثالثة:» الحمية عن الفضول وما لا يعني. فالأولى تعطى العبد حياته، والثانية تفيد صحته وقوته، والثالثة تكسيه سروره وفرحه وبهجته.
غموض الحق حين تذب عنه * * * تضل عن الدقيق فهوم قوم
يقلل ناصر الخصم المحق * * * فتقضى للمجل على المدق
بالله أبلغ ما أسعى وأدركه * * * لا بي ولا بشفيع لي من الناس
إذا أيست وكاد اليأس يقطعني * * * جاء الرجاء مسرعاً من جانب اليأس
من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه للنار لم تزل هداياه من الشهوات.
لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها.
ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين.
مشاهد العبد إذا جرى عليه مقدور يكرهه
الأول- مشهد التوحيد وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني- مشهد العدل وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه.
الثالث-مشهد الرحمة وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه ورحمته حشوه.
الرابع- مشهد الحكمة وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى ولا قضاه عبثاً.
الخامس- مشهد الحمد وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.
السادس- مشهد العبودية وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيده و أقضيته بحكم كونه ملكه وعبده، فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
قلة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، و نفرة الخلق والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم ولباس الذل، و إهانة العدو وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة وكسف البال: تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء، والاحتراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة.
من معاني الإنصاف له تعالى
طوبى لمن أنصف ربه فأقر بالجهل في عمله والآفات في عمله والعيوب في نفسه والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله وإن لم يؤخذ بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.
ونكتة المسألة وسرها: أنه لا يرى ربه إلا محسناً، ولا يرى نفسه إلا مسيئاً أو مفرطاً أو مقصراً فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوءه من ذنوبه وعدل الله فيه. المحبون إذا خربت منازل أحبائهم قالوا سقياً لسكانها. وكذلك المحب إذا أتت عليه الأعوام تحت التراب ذكر حينئذ حسن طاعته له في الدنيا وتودده إليه وتجدد ورحمته وسقياه لمن كان ساكناً في تلك الأجسام البالية.
أنواع الغيرة
الغيرة غيرتان: غيرة على الشيء، وغيرة من الشيء، فالغيرة على المحبوب حرصك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتم إلا بالغيرة من المزاحم، وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق.
وأما من تحسن المشاركة في حبه سبحانه فلا يتصور غيره المزاحمة عليه بل هو حسد، والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له أن يصرفها إلى غيره، أو يغار عليها أن يطلع عليها الغير فيفسدها عليه، أو يغار على أعماله أن يكون فيها شيء لغير محبوبه، أو يغار عليها أن يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أو إعجاب أو محبة لإشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليه فيها.
وبالجملة: فغيرته تقتضي أن تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله، وكذلك يغار على أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضا محبوبه، فهذه الغيرة من جهة العبد، وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه. وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية أن ينصرف قلبه عن محبته إلى محبة غيرة بحيث يشاركه في حبه، ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرم الفاحشة ما ظهر وما بطن؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه- ولله المثل الأعلى- ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها.
من عظم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقره الله في قلوب الخلق أن يذلوه.
إذا علقت شروش المعرفة في أرض القلب نبتت فيه شجرة المحبة، فإذا تمكنت وقويت أثمرت الطاعة فلا تزال الشجرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. أول منازل القوم: «اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا » الأحزاب: 42 ، وأوسطها: «هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور» الأحزاب 43. وآخرها: «تحيتهم يوم يلقونه سلام» الأحزاب: 44 .
أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها، فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبدان، وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مر. ارجع إلى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك، ولا تشرد عنه من هذه الأربعة فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلا منها، وما شرد من شرد عنه بخذلانه إلا منها، فالموفق يسمع ويبصر ويتكلم ويبطش بمولاه، والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه.
مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه، وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال: فمن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها. ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوك بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.
كفى بك عزًّا أنك له عبد * * * وكفى بك فخراً أنه لك رب
فوائد قيمة إياك والمعاصي
إياك والمعاصي فإنها أذلت عِزَّ « اسجدوا» وأخرجت إقطاع : « اسكن» . يا لها لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة ما زال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيعُ: «فتاب عليه» . فرح إبليس بنزول آدم من الجنة وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف الدر صعود، كم بين قوله لآدم: «إني جاعل في الأرض خليفة» وقوله لك: « اذهب فمن تبعك منهم» الآية: 63 من سورة الإسراء ما جرى على آدم هو المراد من وجوده لو لم تذنبوا. يا آدم لا تجزع من قولي لك: «اخرج منها» فلك ولصالح ذريتك خلقتها. يا آدم كنت تدخل عليَّ دخول الملوك على الملوك، اليوم تدخل عليَّ دخول العبيد على الملوك. يا آدم لا تجزع من كأس زال كانت سبب كيسك فقد استخرج منك داء العجب، وألبست خلعة العبودية « وعسى أن تكرهوا...» الآية: 216 من سورة البقرة.
يا آدم لم أخرج أقطاعك إلى غيرك، وإنما نحيتك عنه لأكمل عمارته لك وليبعث إلى العمال نفقة « تتجافى جنوبهم» الآية: 16 من سورة السجدة تالله ما نفعه عند معصيته عز «اسجدوا» ولا شرف « وعلم آدم» ولا خصيصة « لما خلقت بيدي» ولا فخر «ونفخت فيه من روحي» الآية: 29 من سورة الحجر وإنما انتفع بذل «ربنا ظلمنا أنفسنا» الآية: 23 من سورة الأعراف لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه، فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة .