☰ جدول المحتويات
- الباب الخامس : في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما
- فصل من فصول البدع الإضافية قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة إلى آخر الآية
- والدليل على صحة الأخذ بالرفق
- فصل فأما إن التزم ذلك أحد التزاما
- فصل الإشكال الأول : أن ما تقدم في الآية
- فصل لكن يبقى النظر في تعليل النهي
- فصل إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني
- فصل قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إلى آخر الآيتين
- فصل ويتعلق بهذا الموضع مسائل إحداها أن تحريم الحلال
- فصل المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها
- فصل والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها
- فصل والمسألة الرابعة أن نقول : مما يسأل عنه
- فصل إذا ثبت هذا ، فكل من عمل على هذا ......
- فصل ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفاً أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً
- فصل قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع
- فصل من تمام ما قبله ، وذلك أنه وقعت نازلة
- فصل ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال
- فصل ثم استدل المستنصر بالقياس
- فصل ثم استدل على جواز الدعاء أثر الصلوات
- فصل ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة
- فصل ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً
- فصل فإن قيل فالبدع الإضافية هل يعتد بها
- فصل فهذه أربعة أقسام الخ ـ فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل
- فصل وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل أو غيره كالوصف للعمل المشروع
- فصل وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة
الباب الخامس : في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما
ولا بد قبل النظر في ذلك من تفسير البدعة الحقيقية والإضافية فنقول وبالله التوفيق .
إن البدعة الحقيقية : هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل ، ولذلك سميت بدعة - كما تقدم ذكره - لأنها شئ مخترع على غير مثال سابق ، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع ، إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة ، لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر . أما بحسب نفس الأمر فبالعرض ، وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست بأدلة إن ثبت أنه استدل ، وإلا فالأمر واضح .
وأما البدعة الإضافية فهي التي لها شائبتان : إحداهما لها من الأدلة متعلق ، فلا تكون من تلك الجهة بدعة . والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية . فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي البدعة الإضافية أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل ، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل ، أو غير مستندة إلى شيء .
والفرق بينهما من جهة المعنى ، أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ، ومن دهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها ، مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة . كما سنذكره إن شاء الله .
ثم نقول بعد هذا : إن الحقيقية لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكراً ، وافترقت الفرق وكان الناس شيعاً ، وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية وهي أسبق في فهم العلماء ـ تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام ، ومع ذلك فقلما تختص بحكم دون الإضافية ، بل هما معاً يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصوداً هذا الكتاب أن تشرح فيه ، بخلاف الإضافية ، فإن لها أحكاماً خاصة وشرحاً خاصاً ـ وهو المقصود في هذا الباب إلا أن الإضافية أولاً على ضربين : أحدهما يقرب من الحقيقية حتى تكاد البدعة تعد حقيقية ، والآخر يبعد منها حتى يكاد سنة محضة .
ولما انقسمت هذا الانقسام صار من الأكيد على كل قسم على حدته ، فلنعقد في كل واحد منهما فصولاً بحسب ما يقتضيه الوقت ، وبالله التوفيق .
فصل من فصول البدع الإضافية قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة إلى آخر الآية
قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون " .
فخرج عبد بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله ﷺ : هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصراً في العمل ، وإن كان يزحف على أليتيه ، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرها ، فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين الله ـ ودين عيسى ابن مريم عليهما السلام ـ فساحوا في الجبال وترهبوا فيها ، هم الذين قال الله عز وجل فيهم : "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" فالمؤمنين الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا" ، وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين . والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير لك ، ومنه لزوم الصوامع والديارة ـ على ما كان عليه أمر النصارى قبل الإسلام ـ مع التزام العبادة . وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين .
ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى : "إلا ابتغاء رضوان الله" متصلاً ومنفصلاً فإذا بنينا على الاتصال فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله . فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان ، فما رعوها حق رعايتها ، بدليل أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله ﷺ . وهو قول طائفة من المفسرين لأن قصد الرضوان إذا كان شرطاً في العمل بما شرع لهم ، فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد فإلى أين سار بهم ساروا ، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة ، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك ابتاعاً للهوى لا اتباعاً للمشروع ، واتباع المشروع هو الذي يحصل له الرضوان ، وقصد الرضوان بذلك .
قال تعالى : " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون " فالذين أمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ لم يؤمنوا برسول الله ﷺ .
إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعاً ، وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة .
والجواب أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع ، إذ شرط عليهم فلم يقوموا به . وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة ، كالمخل قصداً بشرط من شروط الصلاة ، مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها ، فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلاة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع . فيكون ترهب النصارى صحيحاً قبل بعث محمد رسول الله ﷺ ، فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته ، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ، وهو عين البدعة .
وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع ـ وهو قول فريق من المفسرين ـ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلاً ، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فلم يعملوا بها بشرطها ، وهو الإيمان برسول الله ﷺ ، إذ بعث إلى الناس كافة . وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين :
أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة .
والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية ، لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق ، بل لأنهم أخلوا بشرطها ، فمن لم يخل منهم بشرطها وعمل بها قبل بعث النبي ﷺ حصل له فيها أجر ، حسبما دل عليه قوله : "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" أي أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي ﷺ بعد بعثه وفيناه أجره .
وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية ، لأنها لو كانت حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه ، لأن هذا حقيقة البدعة ، فلم يكن لهم بها أجر ، بل كانوا يستحقون العقاب لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه ، فدل على أنهم فعلوا ما كانوا جائزاً لهم فعله ، فلا تكون بدعتهم حقيقية ، لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة وسيأتي بعد بحول الله .
وعلى كل تقدير فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم ، لأنه نسخ في شريعتنا فلا رهبانية في الإسلام . وقال النبي ﷺ :
"من رغب عن سنتي فليس مني" .
على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال : الأول ما تقدم . والثاني أن الرهبانية رفض النساء ، وهو المنسوخ في شرعنا . والثالث اتخاذ الصوامع للعزلة . والرابع السياحة . قال : وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان .
وطاهره يقتضي أنها بدعة ، لأالذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فراراً منهم بدينهم . وسميت بدعة . والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها ، فكيف يجتمعان ؟ ولكن للمسألة بيان فقد يذكر بحول الله .
وقيل : إن معنى قوله تعالى : "ورهبانية ابتدعوها" إنهم تركوا الحق ، وأكلوا لحوم الخنازير ، وشربوا الخمر ، ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ، "فما رعوها" يعني الطاعة والملة "حق رعايتها" فالهاء راجعة إلى غير مذكور ، وهو الملة المفهوم معناها من قوله : "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " لأنه يفهم منه أن ثم ملة متبعة ، كما دل قوله : "إذ عرض عليه بالعشي" على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله : "توارت بالحجاب" ، وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه ، وإنما أمرناهم بالحق . فالبدعة فيه إذاً حقيقية لا إضافية ، وعلى كل تقدير ، فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة .
وخرج سعيد بن منصور وإسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن أناساً من يني إسرائيل ابتدعوها بدعاً لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال : "ورهبانية ابتدعوها" الاية .
وفي رواية : فإن أناساً من بني إسرائيل ابتدعوها بدعة ابتغاء رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، وتلا هذه الآية : "ورهبانية ابتدعوها" الآية .
وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله ك "فما رعوها حق رعايتها" يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها .
قال بعض نقلة التفسير : وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونقل ، وأن يرعوه حق رعايته .
قال ابن العربي ـ وقد زاغ عن منهج الصواب ـ من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها . قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ، ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ، ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر . قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل ، والله أعلم .
وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وقفه ، إذ أكثر العلماء على القول الأول ، فإن هذ الملة لا بدعة فيها ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال للقطع بالدليل ، غذ كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ فالأصل أن يتبع الدليل ولا عمل على خلافه .
ومع ذلك فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي ، وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر ، وذلك أنه عد عمل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارىء واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل .
وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما ، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة ، عمل بها صاحب السنة رسول الله ﷺ ، وإنما تركها خوفاً من الافتراض ، فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته ، لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه ، وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه ، حتى تأتى النظر فوقع منه ، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر به عمل من تقدمه دائماً ، فسماه بذلك الاسم ، لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة .
فكأن أبا أمامة رضي الله عنه ، اعتبر فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثاً ، موافقة لتسمية عمر رضي الله عنه ، ثم أمر بالمداومة عليه بناءً على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب ، فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه ، لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ، ولا السنن الراتبة يقع على وجهين :
أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان ، فتارة بنشط لها وتارة لا ينشط ، أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها . وما أشبه ذلك ، كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به قيتصدق ولا يكون له ذلك غداً ، أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء ، أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له ، أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان . فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها فيه ولا لوم عليه ، إذ لو كان ثم لوم أو عتب لم يكن تطوعاً ، وهو خلاف الفرض .
والثاني : أن تأخذ مأخذ الملتزمات ، كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبه من عمل صالح في وقت من الأوقات ، كالتزام قيام حظ من الليل مثلاً ، وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص ، كعاشوراء وعرفة ، أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداوة والعشي ، وما أشبه ذلك . فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ، أنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة ، اشبهت الواجبات والسنن الراتبة ، كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع لم يصر واجباً إذ تركه أصلاً لا حرج فيه في الجملة ، أعني ترك الالتزام ، ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنها مستحبة في الأصل ، ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات .
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله ﷺ في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال :
" يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان" لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما ، فإنه ﷺ كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ، فإما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضى الواجب .
فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين ، إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف . بحسب ما فهمنا من الشرع . وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضاً الأخذ بالرفق والتيسير ، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه ، أو يحرج بالتزامه ، فإن ترك الالتزام إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء ، فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه ، والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة ، فصار الإخلال به مكروهاً .
والدليل على صحة الأخذ بالرفق
والدليل على صحة الأخذ بالرفق ، وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضاً مطلوباً عيتداً ـ في الكتاب والسنة "واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" على قول طائفة من المفسرين : أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية . ومعنى لعنتم لحرجتم ، ولدخلت عليكم المشقة ، ودين الله لا حرج فيه "ولكن الله حبب إليكم الإيمان" بالتسهيل والتيسير "وزينه في قلوبكم" الآية .
وإنما بعث النبي ﷺ بالحنيفية السمحة ، ووضع الإصر والأغلال التي كانت على غيرهم . وقال الله تعالى في صفة نبيه ﷺ :"عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم "وقال تعالى : "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقال : "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً" وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداءً فقال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" ومن الأحاديث كثير ، كمسألة الوصال ، ففي الحديث "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
نهاهم النبي ﷺ عن الوصال رحمةً لهم قالوا : إنك تواصل . قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني" .
وعن أنس رضي الله عنه قال :
" واصل رسول الله ﷺ في آخر شهر رمضان ، فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال : لو مد لنا شهر لواصلنا وصلاً حتى يدع المتعمقون تعمقهم" وهذا إنكار .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" نهى رسول الله ﷺ عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين فإنك يا رسول الله تواصل . فقال رسول الله ﷺ : وأيكم مثلي ؟ إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال بهم يوماً ، ثم يوماً . ثم رأوا الهلال ، فقال : لو تأخر الشهر لزدتكم كالمنكل ، حين أبوا أن ينتهوا.
ومن ذلك مسألة قيام النبي ﷺ بهم في رمضان . فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج ، فكان ذلك رفقاً منه بهم .
قال القاضي أبو الطيب : يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل وفقاً هذه الصلاة معهم فرضت عليهم .
و"قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :
إن كان رسول الله ﷺ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" .
وقد قيل هذا المعنى في قوله ﷺ :
"لا تخصوا يوم الجمعة بصيام" .
قال المهلب : وجهه خشيت أن يستمر عليه فيفرض .
وبهذا المعنى يجتمع النهي مع قول مالك رضي الله عنه في الموطأ ، ولا يكون به إشكال .
ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت ."قالت عائشة رضي الله عنها : دخل علي رسول الله ﷺ وعندي امرأة فقال : من هذه ؟ فقلت ؟ امرأة لا تنام تصلي . فقال ﷺ لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا" .
فأعاد لفظ لا تنام منكراً عليها ـ والله أعلم ـ غير راض فعلها ، لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق أوكد . ونحوه حديث أنس رضي الله عنه قال :" دخل رسول الله ﷺ المسجد ـ وحبل ممدود بين سارتين ـ فقال : ما هذا ؟ قالوا : حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به ، فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد" وفي رواية : " لا ، حلوه" .
و"عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنها قال : بلغ النبي ﷺ أني أصوم أسرد وأصلي الليل ، فإما أرسل إلي وإما لقيته : فقال : ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلي الليل ؟ فلا تفعل . فإن لعينك حظاً ، ولنفسك حظاً ، ولأهلك حظاً ، فصم وأفطر وصل ونم" الحديث .
وفي رواية عن ابن سلمة قال :" حدثني عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما ، قال : كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ، فإما ذكرت للنبي ﷺ وإما أرسل إلي فأتيته فقال : ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أر في ذلك إلا الخير ، قال : فإن كان كذلك ـ أو قال كذلك ـ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فقلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك . قال : فإن لزوجك عليك حقاً ولزوارك عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً ، قال : فصم صوم داود نبي الله ، فإنه كان أعبد الناس ، قال : فقلت يا نبي الله ـ وما صوم داود؟ قال : كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ـ قال واقرأ القرآن في كل شهر ، قال : فقلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك . قال : فاقرأه في كل سبع ، ولا تزد على ذلك . فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزوارك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً قال : فشددت فشدد الله علي . قال : وقال لي النبي ﷺ : إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي ﷺ . فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله ﷺ ". وفي رواية قال :" صم يوماً وأفطر يوماً ، وذاك صيام داود وهو أعدل الصيام ، قال ، فقلت : إني أطيق أفضل من ذلك . قال رسول الله ﷺ : لا أفضل من ذلك ، قال عبد الله بن عمرو : لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله ﷺ أحب إلي من أهلي ومالي"
وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال : ذكر رجل عند رسول الله ﷺ بعبادة واجتهاد ، وذكر عنده آخر بدعة . فقال النبي ﷺ :
"لا يعدل بالدعة" والدعة المراد بها هنا الرفق والتيسير . قال فيه الترمذي : حسن غريب.
وعن أنس رضي الله عنه قال :
"جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أخبروا كأنهم تقالوها . فقالوا : وأين نحن من النبي ﷺ ؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً . وقال الآخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر . وقال الآخر: إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً . فجاء رسول الله ﷺ فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وارقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام ، وإن تصور مع الالتزام فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن .
فصل فأما إن التزم ذلك أحد التزاما
فأما إن التزم أحد ذلك التزاماً فعلى وجهين : إما على جهة النذر ، وذلك مكروه ابتداء . ألا ترى إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : "أخذ رسول الله ﷺ يوماً ينهانا عن النذر ، يقول : إنه لا يرد شيئاً ، وإنما يستخرج به من الشحيح ـ وفي رواية ـ النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :
"لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً ، وإنما يستخرج به من البخيل" .
وإنما ورد هذا الحديث ـ والله أعلم ـ تنبيهاً على عادة العرب في أنها كانت تنذر ، إن شفى الله مريضي فعلي صوم كذا ، وإن قدم غائبي . أو أن أغناني الله فعلي صدقة كذا . فيقول : لا يغني من قدر الله شيئاً ، بل من قدر الله له الصحة ، أو المرض ، أو الغنى أو الفقر ، أو غير ذلك ، فالنذر لم يوضع سبباً لذلك ، كما وضعت صلة الرحم سبباً في الزيادة في العمر مثلاً على الوجه الذي ذكره العلماء ، بل النذر وعدمه في ذلك سواء ، ولكن الله يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله تعالى : "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم" وقوله ﷺ :
"من نذر أن يطيع الله فليطعه" وبه قال جماعة من العلماء ، كمالك و الشافعي .
ووجه النهي أنه من باب التشديد على النفس ، وهو الذي تقدم الاستشهاد على كراهته . وأما على جهة الالتزام غير النذري ، فكأنه نوع من الوعد ، والوفاء بالعهد مطلوب ، فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع ، فهو تشديد أيضاً ، وعليه يأتي ما تقدم من .
حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي ﷺ : وقولهم أين نحن من النبي ﷺ ؟ ألخ . وقال أحدهم : أما أنا فأفعل كذا ألخ .
ونحوه وقع في بعض الروايات :
"أن رسول الله ﷺ أخبر أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت ". وليس بمعنى النذر إذ لو كان كذلك لم يقل له : "صم من الشهر ثلاثة أيام "، صم كذا ولقال له : أوف بنذرك . لأنه ﷺ قال :
"من نذر أن يطيع الله فليطعه" .
فأما الالتزام بالمعنى النذري فلا بد من الوفاء به وجوباً لا ندباً ـ على ما قاله العلماء ـ وجاء في الكتاب والسنة ما يدل عليه ، وهو مذكور في كتب الفقه ، فلا نطيل به .
وأما المعنى الثاني فالأدلة تقتضي الوفاء به في الجملة ، ولكن لا تبلغ مبلغ العتاب على الترك ، حسبما دلت عليه الأدلة في مأخذ أبي أمامة رضي الله عنه للقيام في المسجد جماعة كان ذلك بصورة النوافل الراتبة المقتضية للدوام في القصد الأول ، فأمرهم بالدوام حتى لا يكونوا كمن عاهد ثم لم يوف بعهده فيصير معاتباً ، لكن هذا القسم على وجهين :
الوجه الأول : أن يكون في نفسه مما لا يطاق ، أو مما فيه حرج أو مشقة فادحة أو يؤدي إلى تضييع ما هو أولى . فهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبي ﷺ :
"من رغب عن سنتي فليس مني" وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله .
والوجه الثاني : أن لا يكون في الدخول فيه مشقة ولا حرج ، ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج ، أو تضييع ما هو أوكد. فها هنا أيضاً يقع النهي ابتداءً ، وعليه دلت الأدلة المتقدمة ، وجاء في بعض روايات مسلم تفسير ذلك حيث قال : فشددت فشدد علي ، وقال لي النبي ﷺ :
"إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر" .
فتأملوا كيف اعتبر في التزام ما لا يلزم ابتداء ، أن يكون بحيث لا يشق الدوام عليه إلى الموت قال : فصرت إلى الذي قال رسول الله ﷺ ، فلما كبرت وددت أنني قبلت رخصة نبي الله ﷺ .
وعلى ذلك المعنى ينغبي أن يحمل قوله ﷺ في حديث أبي قتادة رضي الله عنه كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال :
ويطيق أحد ذلك ؟ ثم قال في صوم يوم وإفطار يوم : وددت أني طوقت ذلك فمعناه ـ والله أعلم ـ وددت أني طوقت الدوام عليه وإلا فقد كان يواصل الصيام ويقول :
"إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني" .
وفي الصحيح :
"كان يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم" .
فصل إذا ثبت هذا ، فالدخول في عمل على نية الإلتزام له
إذا ثبت هذا ، فالدخول في عمل على نية الإلتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه أورث مللاً ، ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء ، إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه :
أحدها : أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير ، وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته ، وذلك يضاهي ردها على مهديها ، وهو غير لائق بالمملوك مع سيده ، فكيف يليق بالعبد مع ربه ؟
والثاني : خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع ، وقال ﷺ إخباراً عن داود عليه السلام :
"إنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، ولا يفر إذا لاقى" تنبيهاً على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء لعدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن نكيده بسبب ضعفه .
وقيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إنك لتقل الصوم ، فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة أحب إلي منه .
ولذلك كره مالك إحياء الليل كله ، وقال : لعله يصبح مغلوباً ، وفي رسوله الله ﷺ أسوة ، ثم قال : لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح .
وقد جاء في : صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ، ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل ، لأنه قوة على الوقوف والدعاء ، ولابن وهب في ذلك حكاية ، وقد جاء في الحديث :
"إن لأهلك عليك حقاً ، ولزوارك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً" فإذا انقطع إلى عباده لا تلزمه الأصل فربما أخل بشيء من هذه الحقوق .
وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه ،قال :
"آخر ما آخى رسول الله ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء ، فزارسلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة ، فقال : ما شأنك مبتذلة ؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا . قال : فلما جاء ابو الدرداء قرب إليه طعاماً . فقال : كل فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل . قال : فأكل ، فلما كان الليل ذهب ابو الدرداء ليقوم ، فقال له سلمان : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال له : نم فنام ، فلما كان عند الصبح قال له سلمان : قم الآن ، فقاما فصليا ، فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقاً ، ولربك عليك حقاً ، ولضيفك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فأعط لكل ذي حق حقه . فأتيا النبي ﷺ فذكرا ذلك له ، فقال : صدق سلمان " قال الترمذي : صحيح . وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع ، وما يرجع إليه ، والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها ، والولد يالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة . والنفس بترك إدخال المشتقات عليها ، وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم ، وبوظائف أخر ، فرائض ونوافل آكد مما هو فيه .
والواجب أن يعطى لكل ذي حق حقه ، وإذا التزم الإنسان أمراً من الأمور المندوبة ، أو أمرين أو ثلاثة ، فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها ، أو عن كماله على وجهة ، فيكون ملوماً .
والثالث : خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم ، لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه ، فتدخل المشقة بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه ، وتود لو لم تعمل ، أو تتمنى لو لم تلتزم ، وإلى هذا المعنى يشير حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال :
"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" يشبه الموغل بالعنف بالمنبت ، وهو المنقطع في بعض الطريق تعنيفاً على الظهر ـ وهو المركوب ـ حتى وقف فلم يقدر على السير ، ولو رفق بدايته لوصل إلى رأس المسافة .
فكذلك الإنسان عمره مسافة ، والغاية الموت ، ودابته نفسه ، فكما هو المطلوب الرفق بنفسه . حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف فنهى في الحديث عن التسبب في تبغيض العبادة للنفس ، وما نهى الشرع عنه لا يكون حسناً .
وخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال :
"لما نزلت : "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا" دعا رسول الله ﷺ علياً ومعاذاً فقال : انطلقا فبشرا ، ويسرا ولا تعسرا ، فإني أنزلت علي : "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا " " .
وخرج مسلم " عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده : أن النبي ﷺ بعثه ومعاذاً إلى اليمن ، فقال :
بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا" .
وعنه "أن النبي ﷺ كان إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال : بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا" وهذا نهي عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه .
وفي الطبري عن جابر بن عبد الله قال : " مر النبي ﷺ على رجل يصلي على صخرة بمكة فأتى ناحية مكة فمكث ملياً ، ثم انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله ، فقال : أيها الناس عليكم بالقصد والقسط ـ ثلاثاًـ فإن الله لن يمل حتى تملوا" .
وعن بريدة الأسلمي :
"أن النبي ﷺ رأى رجلاً يصلي ، فقال : من هذا ؟ فقلت : هذا فلان . فذكرت من عبادته وصلاته . فقال : إن خير دينكم يسره" .
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة ، وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل ، وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد .
وهو الوجه الرابع : وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه ، فإن قوله ﷺ : "فإن المنبت لا أرضا قطعً ، ولا ظهراً أبقى ، ومع قوله : ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة" يدل على أن بعض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ، ولذلك مثل ﷺ بالمنبت ـ وهو المنقطع عن استيفاء المسافة ـ وهو الذي دل عليه قول الله تعالى : "فما رعوها حق رعايتها" على التفسير المذكور .
والخامس : الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين ، فإن الغلو هو المبالغة في الأمر ، ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف ، وقد دل عليه مما تقدم أشياء ، حيث قال النبي ﷺ : "يا ايها الناس عليكم أنفسكم بالقصد" الحديث . وقال الله عز وجل : "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" .
"وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال لي رسول الله ﷺ غداة العقبة : اجمع لي حصيات من حصى الحذف فلما وضعتهن في يده قال : بأمثال هؤلاء ؟ بأمثال هؤلاء ؟ إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" .
فأشار إلى أن الآية في النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط ، واكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفاً ، اخرجها الطبري .
وخرج أيضاً عن يحيى بن جعدة ، قال : كان يقال اعمل وأنت مشفق ، ودع العمل وأنت تحبه : عمل دائم وإن قل ، خير من عمل كثير منقطع . وأتى معاذاً رجل فقال : أوصني . قال : أمطيعي أنت ؟ قال : نعم ، قال : صل ونم ، وأفطر وصم ، واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم ، وإياك ودعوة المظلوم .
وعن إسحاق بن سويد "أن رسول الله ﷺ قال لعبد بن مطرف : يا عبد الله ، العلم أفضل من العمل ، والحسنة بين السيئتين ، وخير الأمور أوسطها ، وشر السير الحقحقة " .
ومعنى قوله : "إن الحسنة بين السيئتين" ، أن الحسنة هي القصد والعدل ، والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير ، وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى : "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " الآية ، وقوله : "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الآية . ومعنى الحقحقة ارفع السير ، وإتعاب الظهر ، وهو راجع إلى الغلو والإفراط .
ونحوه عن يزيد بن مرة الجعفيقال : العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين .
وعن كعب الأحبار : إن هذا الدين متين فلا تبغض إليك دين الله وأوغل برفق ، فإن المنبت لم يقطع بعداً ولم يسبق ظهراً ، واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت اليوم ، واحذر حذر المرء الذي يرى أنه يموت غداً .
وخرج ابن وهب نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص .
وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضي المداومة عليه من غير حرج .
وعن عمر بن إسحاق ، قال أدركت من أصحاب رسول الله ﷺ أكثر ممن سبقني منهم ؟ فمارأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم .
وقال الحسن : دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو .
والأدلة في هذا المعنى جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين ، والحرج كما ينطبق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي إذ كان الحرج لازماً مع الدوام . كقصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وغيرها ـ مما تقدم ـ مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول ابي أمامة رضي الله عنه في قوله تعالى : "فما رعوها حق رعايتها" وقوله ﷺ :
"أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل" فلذلك كان ﷺ إذا عمل عملاً أثبته ، حتى قضى ركعتين ما بين الظهر والعصر بعد العصر .
هذا إن كان العامل لا ينوي الدوام فيه ، فكيف إذ عقد في نيته أن لا يتركه ؟ فهو أحرى بطلب الدوام ، فلذلك "قال رسول الله ﷺ لعبد الله بن عمرو : يا عبد الله ، لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل" وهو حديث صحيح . فنهاه ﷺ أن يكون مثل فلان ، وهو ظاهر في كراهته الترك من ذلك الفلان وغيره .
فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام ـ مطلوب الترك لعلة كثرته ففهم عند تقريره أنه إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إلى أصل العمل ـ وهو طلب الفعل ـ
فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه ، لإمكان عدم الوفاء بالشرط ، وفي المندوب إليه حملاً على ظاهر العزيمة على الوفاء .
فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ، ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه .
وحين صارت الكراهة هي المقدمة كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر ، فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها . فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة رضي الله عنه .
ومن حيث كان العمل مأموراً به ابتداء قبل النظر في المآل ، أو مع قطع النظر عن المشقة ، أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط ، أشبه صاحبه من دخل في نافلة قصداً للتعبد بها ، وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب ، ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء ، كان نذراً أو التزاماً بالقلب غير نذر . ولو كان بدعة . داخلة في حد البدعة لم يؤمر بالوفاء ، ولكان عمله باطلاً .
ولذلك جاء في الحديث "أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً قائماً في الشمس ، فقال : مابال هذا ؟ فقالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال ﷺ : مروه فليجلس وليتكلم وليستظل ، وليتم صيامه " .
فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع ، وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الأصل ، فلولا الفرق بينهما معنى لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم . وأيضاً فإذا كان الداخل مأموراً بالدوام لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل لا بد ، لأن المباح فضلاً عن المكروه والمحرم لا يؤمر بالدوام عليه ، ولا نظير لذلك في الشريعة . عليه أيد قوله ﷺ :
"من نذر أن يطيع الله فليطعه" ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه : "يوفون بالنذر" في معرج المدح وترتب الجزاء الحسن ، وفي آية الحديد: "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" ، ولا يكون الأجر إى على مطلوب شرعاً .
فتأملوا هذا المعنى فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم بمقتضى الأدلة ، وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي ، حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم ، والحمد لله . غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويان ، وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه ، فنعقد في كل إشكال فصلاً .
فصل الإشكال الأول : أن ما تقدم في الآية
الإشكال الأول : إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه ، فقد" كان رسول الله ﷺ يقوم حتى تورمت قدماه ، فيقال له : أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً" ويظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائماً ، وكان ﷺ يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ونحو ذلك من اجتهاده في عبادة ربه . وفي رسول الله ﷺ أسوة حسنة ، ونحن مأمورون بالتأسي به .
فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه ﷺ كان مخصوصاً بهذه القضية ، ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه ، وكان يطيق من العمل ما لا تطيقه أمته . فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين ، وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية ؟ حتى أن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل ، وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود .
وجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله ، وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء ، كذا كذا سنة ؟ ! وسرد الصيام كذا وكذا سنة ؟ ! وكانوا هم العارفين بالسنة لا يميلون عنها لحظة .
وروي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهما كانا يواصلان الصيام . وأجاز مالك ـ وهو إمام في الاقتداء ـ صيام الدهر ، يعني إذإ أفطر أيام العيد .
ومما يحكى عن أويس القرني رضي الله عنه أنه كان يقوم ليلة حتى يصبح ، ويقول : بلغني أن لله عباداً سجوداً أبداً أنه ينتفل بالصلاة ، فتارة يطول فيها القيام ، وتارة الركوع ، وتارة السجود .
وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر ، فكأن علقمة يقول له : ويحك لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : إن الأمر جد ، إن الأمر جد .
وعن انس بن مالك رضي الله عنه أم امرأة مسروق قالت : كانت يصلي حتى تورمت قدماه ، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه .
وعن الشعبيني قال : غشي على مسروق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
وعن الربيع بن خيثم أنه قال : أتيت أويسا القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت : لا أشغله عن التسبيح ، فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر ، فلما صلى الظهر صلى إلى العصر ، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب ، فلما صلى المغرب صلى العشاء ، فلما العشاء صلى إلى الصبح جلس فأخذته عينه ، ثم انتبه فسمعته يقول : اللهم إني أعوذ بك من عين نوامه ، وبطن لا تشبع .
والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين ، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام ولم يعدهم بذلك مخالفين للسنة ، بل عدوهم من السابقين ، جعلنا الله منهم .
وأيضاً فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة ، بل هو عن الغلو فيها ، غلواً يدخل المشقة على العامل ، فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة ، فلا ينتهض النهي في حقه ، كما إذا قال الشارع :
لا يقضي القاضي وهو غضبان ـ وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج ـ اطرد النهي مع كل مشويش ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج ، وهذا صحيح جار على الأصول .
وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فإن الخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة سيل حامل ، فالخائف إن وجد المشقة ، فالخوف مما هو أشق ، يحمله على الصبر ما هو أهون ، وإن كان العمل شاقاً ، والراجي يعمل وإن وجد المشقة ، لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقاً إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ، ويقرب عليه البعيد ، وهو القوي ، ( كذا ) ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه أقصى نهمته .
وإذا كان كذلك صح الجمع بين الأدلة ، وجاز الدخول في العمل التزاماً مع الإيغال فيه ، إما مطلقاً ، وإما مع ظن انتفاء العلة ، وإن دخلت المشقة فيما بعد ، إذا صح مع العامل الدوام على العمل ، ويكون ذلك جارياً على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح .
والجواب : أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح ، وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يحمل أنهم إنما عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام ، فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى ، أو يتركوا العمل ، أو يبغضوه لثقله على أنفسهم ، بل التزموا ما كان النفوس سهلاً في حقهم ، فإنما طلبوا اليسر لا العسر ، وهو الذي كان حال رسول الله ﷺ ، وحال من تقدم النقل عنه من المتقدمين ، بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين . وهذه طريقة الطبري في الجواب . وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح ، إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به .
والثاني : يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا ، لكن لا على جهة الالتزام ، لا بنذر ولا غيره وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال . فيغتنم نشاطه في حالة خاصة ، غير ناظر فيها فيما يأتي ، ويكون جارياً فيه على أصل رفع الحرج ، حتى إذا لم يستطعه تركه ولا حرج عليه لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة .
ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، قالت :
"كان رسول الله يصوم حتى نقول : لا يفطر. ويفطر حتى نقول : لا يصوم . وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ". الحديث .
فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من الحقوق المتعلقة . أو القوة في الأعمال وكذلك قول عبد الله بن عمرو في صيام يوم وإفطار يومين ليتني طوقت ذلك . إنما يريد المداومة ، لأنه قد كان يوالي الصيام حتى يقولوا لا يفطر . ولا يعترض هذا المأخذ بقوله ﷺ :
"أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل" وإن كان عمله دائماً ، لأنه محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام .
وأما ما نقل عنهم أدلة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل ، وصيام الدهر ونحوه ، فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور ، وهو أن لا يلتزم ذلك . وإنما يدخل في العمل ما لا يغتنم نشاطه ، فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضاً ، وإذا لم يخل بما هو أولى عمل كذلك ، فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زماناً طويلاً . وفي كل حالة هو في فسحه الترك ، لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات . فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر ، فيظنه الظان التزاماً وليس بالتزام . وهذا صحيح ، ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة ، وهو معنى قول ﷺ :
"وجعلت قرة عيني في الصلاة" فلذلك قام ﷺ حتى تورمت قدماه ، وامتثل أمر ربه في قوله تعالى : "قم الليل إلا قليلاً" الآية .
والثالث : أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمراً منضبطاً بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم . أو في قوة عزائمهم ، أو في قوة يقينهم ، أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين ، لأن أحدهما أقوى جسماً ، أو أقوى عزيمة أو يقيناً بالموعود . والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها ، وتقوى مع ضعفها .
فنحن نقول : كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهي عنه ، ولا يشق على عمرو فلا ينهى عنه . فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقاً عليهم ، وإن كان ما هو أقل منه شاقاً علينا ، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجةً لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ، إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم . وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله .
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع ، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع ، وهو الذي دلت عليه الأدلة . دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم . إلا على القليل النادر منهم .
والشاهد لصحة هذا المعنى قوله ﷺ :
"إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني" يريد ﷺ أنه لا يشق عليه الوصال ، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق . فعلى هذا : من رزق أنموذجاً مما أعطيه ﷺ فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج .
وأما رده ﷺ على عبد الله بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ، ولذلك وقع له ما كان متوقعاً ، حتى قال : ليتني قبلت رخصة نبي الله ﷺ ، ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جارياً على انهم أعطوا حظاً مما أعطيه رسول الله ﷺ ، وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات والحمد لله ، وإذا كان كذلك لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق .
فصل لكن يبقى النظر في تعليل النهي
لكن يبقى النظر في تعليل النهي ، وأنه يقتضي انتفاءه عند العلة ، وما ذكروه فيه صحيح في الجملة ، وفيه في التفصيل نظر ، وذلك أن العلة راجعة إلى أمرين :
أحدهما : الخوف من الانقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام ، والآخر : الخوف من التقصير فيما هو الآكد من حق الله وحقوق الخلق .
أما الأول : فإن رسول الله ﷺ قد أصل فيه أصلاً راجعاً قاعدة معلومة لا مظنونة ، وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفي عن الشريعة ، كما أن أصل الحرج منفي عنها ، لأنه :
ﷺ بعث بالحنيفية السمحة ، ولا سماح مع دخول الحرج . فكل من ألزم نفسه ما يلقى فيه الحرج فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه ، وصار إدخاله للحرج على نفسه من تلقاء نفسه ، لا من الشارع ، فإن دخل في العمل على شرط الوفاء ، فإن وفى فحسن بعد الوقوع ، إذ قد ظهر أن ذلك العمل إما غير شاق لأنه قد أتى به بشرطه ، وإما شاق صبر عليه فلم يوف النفس حقها من الرفق ، وسيأتي ، وإن لم يف . فكأنه نقض عهد الله وهو شديد ، فلو بقي على أصل براءة الذمة من الالتزام لم يدخل عليه ما يتقي منه .
لكن لقائل أم يقول : إن النهي ها هنا معلق بالرفق الراجع إلى العامل ، كما قالت عائشة رضي الله عنها :
"نهى النبي ﷺ عن الوصال رحمة لهم" ، فكأنه قد اعتبر حظ النفس في التعبد . فقيل له : افعل واترك . أي لا تتكلف ما يشق عليك ، كما لا تتكلف في الفرائض ما يشق عليك لأن الله إنما وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسير يشترك فيه القوي والضعيف ، والصغير والكبير ، والحر والعبد ، والرجل والمرأة ، حتى إذا كان بعض الفرائض يدخل الحرج على المكلف يسقط عنه جملة أو يعوض عنه ما لا حرج فيه كذلك النوافل المتكلم فيها .
وإذا روعي حظ النفس ، فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل . فله أن لا يمكنها من حظها ، وأن يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ـ بناءً على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ . فلا يكون إذاً منهياً ـ على ذلك التقدير ـ فكما يجب على الإنسان حق لغيره ما دام طالباً له ، وله الخيرة في ترك الطلب به فيرتفع الوجوب . كذلك جاء النهي حفظاً على حظوظ النفس . فإذا أسقطها صاحبها زال النهي ورجع العمل إلى أصل الندب .
والجواب : أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال : إنه من حقوق الله على العباد ، وقد يقال : إنه من حقوق العباد ، فلا ينهض ما قلتم ، إذ ليس للمكلف خيرة فيه . فكما أنه متعبد بالرفق بغيره كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله ﷺ :
"إن لنفسك عليك حقاً" إلى آخر الحديث . فقرن حق النفس بحق الغير في الطلب في قوله : "فأعط كل ذي حق حقه" ثم جعل ذلك حقاً من الحقوق .
ولا يطلق هذا اللفظ إلا على ما كان لازماً . ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه . ولا قطع طرف من أطرافه ، ولا إيلامه بشيء من الآلام ، ومن فعل ذلك إثم واستحق العقاب . وهو ظاهر .
وإن قلنا : إنه من حق العبد ، وراجع إلى خيرته . فليس ذلك على الإطلاق ، إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله .
والدليل على ذلك ـ فيما نحن فيه ـ أنه لو كان إلى خيرتنا بإطلاق لم يقع النهي فيه علينا . بل كنا نخير فيه ابتداء ، وإلى ذلك ( ؟ ) فإنه لو كان بخيرة المكلف محضاً لجاز للناذر العبادة أن يتركها متى شاء ويفعلها متى شاء .
وقد اتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالنذر ، فيجري ما يشبه مجراه . وايضاً فقد فهمنا من الشرع أنه حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، ومن جملة التزيين تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ، ولا يكون هذا مع شرعية المشقات . وإذا كان الإيغال في الأعمال من شأنه في العادة أن يورث الكلل والكراهية والانقطاع ـ الذي كالضد لتحبيب الإيمان وتزيينه في القلوب ـ كان مكروهاً لأنه على خلاف وضع الشريعة ، فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه .
وأما الثاني : فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة ، وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة ، ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان ولم يمكن الجمع بينهما ، فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل ، فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على المندوب ، وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب بل صار واجب الترك عقلاً أوشرعاً ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به .
وبقي النظر في المندوب : هل وقع موقعه في الندب أم لا ؟ فإن قلت : إن ترك المندوب هنا واجب عقلاً ، فقد ينهض المندوب سبباً للثواب مع ما فيه من كونه مانعاً من أداء الواجب . وإن قلت : إنه واجب شرعاً ، بعد من انتهاضه سبباً للثواب إلا على وجه ما ، وفيه أيضاً ما فيه .
فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير فرضاً إذا كان مؤدياً للحرج وهذا كله إذا كان الالتزام صاداً عن الوفاء بالواجبات مباشرة ، قصداً أو غير قصد ، ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما إذ كان التزام قيام الليل مانعاً له من أداء حقوق الزوجة ، من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار .
ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلاً بقيامه على مريضه ، المشرف والقيام على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك ويجري مجراه ـ وإن لم يكن في رتبته ـ أن لو كان ذلك الالتزام يفضي به إلى ضعف بدنه ، أو نهك قواه ، حتى لا يقدر على الاكتساب لأهله ، أو أداء فرائضه على وجهها ، أو الجهاد ، أو طلب العلم . كما نبه عليه حديث داود عليه السلام ، أنه كان يصوم يوماً ويفطر ولا يفر إذا لا قى .
وقد جاء في مفروض الصيام في السفر من التخيير ما جاء ، ثم "إن رسول الله ﷺ قال عام الفتح : إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم . قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر . قال : ثم سرنا فنزلنا منزلاً فقال : إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا قال : فكانت عزيمةً من رسول الله ﷺ " .
وهذه إشارة إلى أن الصيام ربما أضعف عن ملاقاة العدو وعمل الجهاد ، فصيام النفل أولى بهذا الحكم .
وعن جابر رضي الله عنه "أن النبي ﷺ رأى رجلاً يظلل عليه ، والزحام عليه ، فقال : ليس من البر الصيام في السفر" يعني أن الصيام [في السفر] وإن كان واجباً ، ليس براً في السفر ، إذا بلغ به الإنسان ذلك الحد . مع وجود الرخصة ، فالرخصة إذاً مطلوبة في مثله بحيث تصير به آكد من أداء الواجب ، فما ليس بواجب في أصله أولى .
فالحاصل أن كل من ألزم نفسه شيئاً يشق عليه فلم يأت طريق البر على حده .
فصل إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني
إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني ، وهو أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفةً للدليل ، وإذا خالفت فالمتعبد بها على ذاك التقدير متعبد بما لم يشرع وهو عين البدعة . فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا ، فإن انتظمتها أدلة الذم فهو غير صحيح لأمرين .
أحدهما : أن رسول الله ﷺ لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره وقال له : إني أطيق أفضل من ذلك . فقال له ﷺ : "لا أفضل من ذلك" تركه بعد على التزامه ، ولولا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه لما التزمه ودوام عليه ، حتى قال : ليتني قبلت رخصة رسول الله ﷺ ! فلو قلنا : إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ لكان مقراً له على خطاً . وذلك لا يجوز ، كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله ﷺ قصداً للتعبد بما نهاه عنه . فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أتقى لله من ذلك . وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه . وإذا كان كذلك لم يمكن أن يقال : إنها بدعة .
الثاني : أن العامل بها دائماً بشرط الوفاء ، إن التزم الشرط فأداها على وجهها فلقد حصل مقصود الشارع ، فارتفع النهي إذاً . فلا مخالفة للدليل . فلا ابتداع وإن لم يلتزم أداءها . فإن كان باختيار فلا إشكال في المخالفة المذكورة ، كالناذر يترك المندوب بغير عذر ، ومع ذلك فلا يسمى تركه بدعة . ولا عمله في وقت العمل بدعة ، ولا يسمى بالمجموع مبتدعاً . وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار . فلا نسلم أنه مخالف ، كما لا يكون مخالفاً في الواجب إذا عارضه فيه عارض ، كالصيام للمريض والحج لغير المستطيع ، فلا ابتداع إذاً .
وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم ، فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي ، بل هو مما يتعبد به ، وليس من قبيل المصالح المرسلة ، ولا غيرها مما له أصل على الجملة . وحيئنذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا ؟ لكن فحيث يكون له أصل على الجملة على التفصيل ، كتخصيص ليلة مولد النبي ﷺ بالقيام فيها ، ويومه بالصيام ، أو بركعات مخصوصة ، وقيام ليلة أول جمعة من رجب ، وليلة النصف من شعبان . والتزام الدعاء جهراً بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام ، وما أشبه ذلك مما له أصل جلي ، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله .
والجواب عن الأول ـ أن الإقرار ـ صحيح ، ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي ، فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة ، ولا في ركن من أركانها ، وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع ، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إن النهي عن الوصال كالتنكيل بهم ، ولو كان منهياً عنه بالنسبة إليهم لما فعل .
فانظر كيف اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادةً ومنهياً عنه ، لكن باعتبارين ، ونظيره في الفقهيات ، ما يقوله جماعة من المحققين في البيه بعد نداء الجمعة ، فإنه نهى عنه لا من جهة كونه بيعأً ، بل من جهة كونه مانعاً من حضور الجمعة ، فيجيزون البيع بعد الوقوع ، ويجعلونه فاسداً ، وإن وجد التصريح بالنهي فيه ، للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع ، بل إلى أمر يجاوره ، ولذلك يعلل جماعة ممن يقول بفسخ البيع لأنه زجر للمتبايعين لا لأجل النهي عنه ، فليس عند هؤلاء ببيع فاسد أيضاً ، ولا النهي راجع إلى نفس البيع .
فالأمر بالعبادة شيء وكون المكلف يوفي بها أو لا ، شيء آخر ، فإقرار النبي ﷺ لابن عمرو رضي الله عنهما على ما التزم ونهيه إياه ابتداء ، لا يدل على الفساد ، وإلا لزم التدافع ، وهو محال ، إلا أن ها هنا نظراً آخر : وهو أن رسول الله ﷺ صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمبتدىء ( ؟ ) بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح ، فلما تكلف المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس ، صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص وإن كان بتأويل ، فإن سمي في اللفظ فبهذا الاعتبار ، وإلا فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة ، وهو الدال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة .
ومن هنا قيل فيها إنها بدعة إضافية لا حقيقية ، ومعنى كونها إضافية أن الدليل فيها مرجوع بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها ، وراجح بالنسبة إلى من وفى بشرطها ولذلك وفى بها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد ما ضعف ، وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة ، بخلاف البدعة الحقيقية ، فإن الدليل عليها مفقود حقيقة ، فضلاً عن أن يكون مرجوحاً ، فهذه المسألة تشبه مسألة خطأ المجتهد ، فالقول فيهما متقارب ، وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى .
وأما قول السائل في الإشكال : إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها ـ إلى آخره ـ فصحيح ، إلا قوله : فإن تركها لعارض فلا حرج كالمريض ، فإن ما نحن فيه ليس كذلك ، بل ثم قسم آخر ، وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه . وإن ظهر أن ليس من سببه ، فإن ترك الجهاد ـ مثلاً ـ باختياره مخالفة ظاهرة وتركه لمرض أو نحوه لا مخالفة فيه ، فإن عمل في سبب يلحقه عادة بالمريض حتى لا يقدر على الجهاد فهذه واسطة بين الطرفين ، فمن حيث تسببه في المانع لا يكون محموداً عليه ، وهو نظير الإيغال في العمل الذي هو سبب في كراهية العمل أو التقصير على الواجب ، وهذا المكلف قد خالف النهي . ومن حيث وقع له الحرج المانع في العبادة من أدائها على وجهها قد معذوراً ، فصار هنا نظر بين نظرين لا يتخلص مع العمل إلى واحد منهما .
وأما قوله : ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بنمهي عنه ، فليس كما قال ، وذاك أن المندوب هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر ، ويشبه المياح من جهة رفع الحرج على التارك ، فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلى إلى واحد منهما ، إلا أن قواعد الشرع شرطت في ناحية العمل شرطاً ، كما شرطت في ناحية تركه شرطاً ، فشرط العمل به أن لا يدخل فيه مدخلاً يؤديه إلى الحرج المؤدي إلى انخرام الندب فهي رأساً ، أو انخرام ما هو أولى منه ، وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف ، فإذا دخل فيه فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا ، فإن كان كذلك ، فهو القسم الذي يأتي إن شاء الله ، وحاصله أن الشارع طالبه برفع الحرج ، وهو يطالب نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لا يستطاع ، مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات والسنن التي هي أولى مما دخل فيه ، ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة .
وإن دخل على غير ذلك القصد ، فلا يخلو أن يجري المندوب على مجراه أو لا ، فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطاً ولم يعارضه ما هو أولى مما دخل فيه ، فهو محض السنة التي لا مقال فيها ، لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل ، إذ قد أمر فهو غير تارك ، ونهى عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز ، فلا إشكال في صحته ، وهو كان شأن السلف الأول ومن بعدهم ، وإن لم يجره على مجراه ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام والدوام ، فذلك الرأي مكروه ابتداءً .
لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو ـ إن شاء الله ـ كفارة النهي ، فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة ، لأن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وإن لم يحصل الوفاء تمحض وجه النهي ، وربما أثم في الالتزام غير النذري ، ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ، لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه ، بل الدليل عليه قائم .
ولذلك إذا التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلاً ـ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المبنه عليها ـ لم يقع في نهي ، بل في محض المندوبات ،كالنوافل الرواتب مع الصلوات ، والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها ، والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار ، وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ، ولا يدخل حرجاً بنفس العمل به ولا بالدوام عليه .
وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحاً ، ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد ، ومضى عليه الناس ، لأنه كان أولاً سنة ثابتة من رسول الله ﷺ ، ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه ، وفي شهر واحد من السنة لا دائماً ، وموكولاً إلى اختيارهم ، لأنه قال : والتي ينامون عنها أفضل .
وقد فهم السلف الصالح أن القيام في البيوت أفضل ، فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ، ومع ذلك فقد قال : نعمت البدعة هذه . فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظراً ـ والله أعلم ـ إلىاعتبار الدوام ، وإن كان شهراً في السنة ، وأنه لم يقع فيمن قبله عملاً دائماً ، أو أنه أظهره في المسجد الجامع مخالفاً لسائر النوافل ، وإن كان ذلك واقعاً في أصله كذلك ، فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحاً قال : نعمت البدعة هذه . فحسنها بصيغة نعم التي تقتضي من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب ، لو قال : ما أحسنها من بدعة ! وذلك يخرجها قطعاً عن كونها بدعة .
وعلى هذا المعنى جرى كلام أبي أمامة رضي الله عنه مستشهداً بالآية حيث قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم . إنما معناه ما ذكرناه . ولأجله قال : فدوموا عليه . ولو كان بدعة على الحقيقة لنهى عنه ، ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى ﷺ عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل ، واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية ، تنبيهاً على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها ، حتى لا يغتر بها مغتر فيأخذها على غير وجهها ، ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياساً عليها ولا يدري ما عليه في ذلك ، وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا ، وكان ينبغي أن لا يفعل لولا الضرورة ، وبالله التوفيق .
فصل قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إلى آخر الآيتين
قال الله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" "وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون" روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد ، وهو يتحريم ما أحل الله من الطيبات تديناً أو شبه التدين والله نهى عن ذلك وجعله اعتداء ، والله لا يحب المعتدين . ثم قرر الإباحة تقريراً زائدة على ما تقرر بقوله : "وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " ثم أمرهم بالتقوى ، وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى .
فخرج إسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة رضي الله عنه قال : "أراد ناس من أصحاب رسول الله ﷺ أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا . فقام رسول الله ﷺ فغلظ فيهم المقالة ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وحجوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم بكم" قال : نزلت فيهم : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " .
وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
"إن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله ! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم . فأنزل الله الآية " . حديث حسن .
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
"نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله ﷺ ، منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسودالكندي وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون الجمحي فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم ، بأن يعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحماً ولا دسماً ، وأن يلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتاً ، وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان ، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ من أمرهم ، فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده فيه ، ولا إياهم ، فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبي أمية بن حارثة السلمي : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ قالت : ما هو يا رسول الله ؟ فأخبرها ، فكرهت أن لا تحدث رسول الله ﷺ وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت إن كان أخبرك عثمان فقد صدق . فقال لها رسول الله ﷺ : قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا : إن رسول الله يقول لكم : إني آكل وأشرب وآكل اللحم والدسم وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله ﷺ ، فقالوا : لقد بلغ رسول الله ﷺ أمرنا فما أعجبه ، فذروا ما كره رسول الله ﷺ ، ونزل فيها : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" " قال : من الطعام والشراب والجماع "ولا تعتدوا" قال : في قطع المذاكير . "إن الله لا يحب المعتدين" قال : الحلال إلى الحرام .
وفي الصحيح "عن عبد الله قال :
كنا نغزو مع رسول الله ﷺ ليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك ، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل "، يعني ـ والله أعلم ـ نكاح المتعة المنسوخ ،" ثم قرأ ابن مسعود : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" ".
ثم ذكر إسماعيل عن يحيى بن يعمر : "أن عثمان بن مظعون هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل ، وكانت امرأته عطرة فتركت الكحل والخضاب ، فقالت لها امرأة من أزواج النبي ﷺ : أشهيد أنت أم مغيب ؟ فقالت : بل شهيد ، غير أن عثمان لا يريد النساء ، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فلقيه رسول الله ﷺ فقال له : أتؤمن بما نؤمن به ؟ قال : نعم . قال : فاصنع مثل ما نصنع، "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" " الآية .
وخرج سعيد بن منصور عن خضير عن أبي مالك ، قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا عليهم كثيراً من الطعام والنساء ، وهم بعضهم أن يقطع ذكره ، فأنزل الله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا" الآية .
وعن قتادة ، قال : نزلت في ناس م نأصحاب رسول الله ﷺ أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ، وتركوا النساء وترهبوا ، منهم علي بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون .
وخرج ابن المبارك "أن عثمان بن مظعون أتى النبي ﷺ ،فقال : أئذن لي في الإختصاء ،فقال النبي ﷺ : ليس منا من خصى أو اختصى إن اختصاء أمتي الصيام ، قال يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة . قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ، قال : يا رسول الله ! ائذن لي في الترهب . قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة " .
وفي الصحيح :
رد رسول الله ﷺ التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصى .
وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع ، وإهمال لما قصد الشارع إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة ـ لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام .
وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم ، إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه فلا كفارة ، وإن كان محلوفاً عليه ، ففيه الكفارة ، ويعمل الحالف بما أحل الله له .
ومن ذلك ما ذكر إسماعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود رضي الله عنه فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة . فتلا عبد الله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا" الآية ، ادن فكل وكفر عن يمينك ، ونم على فراشك .
وفي رواية : كان معقل يكثر الصوم والصلاة ، فحلف أن لا ينام على فراشه ، فأتى ابن مسعود رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الآية .
وعن المغيرة قال : قلت لإبراهيم في هذه الآية : "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" أهو الرجل يحرم الشيء ،مما أحل الله له ؟ قال : نعم .
وعن مسروق قال : أتى عبد الله بضرع فقال للقوم : ادنوا ، فأخذوا يطعمون . فقال رجل : إني حرمت الضرع . فقال عبد الله : هذا من خطوات الشيطان "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" ادن فكل ، وكفر عن يمينك .
وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام : إن كل من حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فليس ذلك التحريم بشيء ، فليأكل إن كان مأكولاً ، وليشرب إن كان مشروباً ، وليلبس إن كان ملبوسأً ، وليملك إن كان مملوكاً . وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك و أبي حنيفة و الشافعي وغيرهم ، واختلفوا في الزوجة . ومذهب مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث ، وما سوى ذلك فهو باطل ، لأن القرآن شهد بكونه اعتداء ، حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصداً به العتق فوطؤها حلال . وكذلك سائر الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء . وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائماً في الشمس ساكتاً ، فإنه تحريم للجلوس والكلام والاستظلال ، والنبي ﷺ أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال . قال مالك : أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية .
فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية ! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى : "ولا تعتدوا" الآية . ومقتضى قول ابن مسعود رضي الله عنه لصاحب الضرع : هذا من خطوات الشيطان .
وقد ضعف ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث ، وتفسير مالك له ، وذكر أن قوله في الحديث : ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية ، وقد أخبر الله تعالى أنه نذر مريم ـ قال ـ وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس ، وقد يستحب للحاج أن لا يستظل . فإن قيل : فيه معصية . فالقياس على ما نهي عنه من التعب لا بالنص ، والأصل فيه أنه من المباحات .
وما قاله ابن رشد غير ظاهر ، ولم يقل مالك في الحديث ما قال استنباطاً منه ، بل الظاهر أنه استدل بالآية المتكلم فيها ، وحمل الحديث عليها بترك الكلام ، وإن كان في الشرائع الأول مشروعاً فهو منسوخ بهذه الشريعة ، فهو عمل في مشروع بغير مشروع . وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال ، وإن استحب في موضع ، فلا يلزم استحبابه في آخر .
فصل ويتعلق بهذا الموضع مسائل إحداها أن تحريم الحلال
ويتعلق بهذا الموضع مسائل .
إحداها : أن تحريم الحلال وما أشبه ذلك يتصور في أوجه .
الأول : التحريم الحقيقي ، وهو الواقع من الكفار ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وجيمع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأي المحض . ومنه قوله تعالى : "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" وما أشبهه من التحريم الواقع في الإسلام رأياً مجرداً .
الثاني : أن يكون مجرد ترك لا لغرض ، بل لأن النفس تكرهه بطبعها ، أو لا تكرهه حتى تستعمله ، أو لا تجد ثمنه أو تشتغل بما هو آكد ، وما أشبه ذلك . ومنه ترك النبي ﷺ لأكل الضب لقوله فيه :
"إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" ، ولا يسمى مثل هذا تحريماً ، لأن التحريم يستلزم القصد إليه ، وهذا ليس كذلك .
الثالث : أن يمتنع لنذره التحريم ، أو ما يجري مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر ، كتحريم النوم على الفراش سنة ، وتحريم الضرع وتحريم الادخار لغد ، وتحريم اللين من الطعام واللباس ، وتحريم الوطء والاستلذاذ بالنساء في الجملة ، وما أشبه ذلك .
الرابع : أن يحلف على بعض الحلال أن لا يفعله ، ومثله قد يسمى تحريماً .
قال إسماعيل القاضي : إذا قال الرجل لأمته : والله لا أقربها . فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين . وأتى بمسألة ابن مقرن في سؤاله ابن مسعود رضي الله عنه إذ قال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ـ قال ـ فتلا عبد الله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية ، وقال له : كفر عن يمينك ، ونم على فراشك .
فأمره أن لا يحم ما أحل الله له ، وأن يكفر من أجل اليمين .
فهذا الإطلاق يقتضي أنه نوع من التحريم ، وله وجه ظاهر ، فقد أشار إسماعيل إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئاً من الحلال لم يجز له أن يفعله حتى نزلت كفارة اليمين ، لأجل ما كان قبل من التحريم ، ولما وردت الكفارة سمي تحريماً ، ومن ثم ـ والله أعلم ـ سميت كفارة .
فصل المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها
المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم . أما الأول فلا مدخل له ها هنا ، لأن التحريم تشريع كالتحليل ، والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع ، اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأياً كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام ، فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله فضلاً عن أصحاب رسول الله ﷺ على الخصوص .
وقد وقع للمهلب في شرح البخاري ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول . فقال : التحريم إنما هو لله ولرسوله ، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئاً ، وقد وبخ الله من فعل ذلك ، فقال : "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" فجعل ذلك من الاعتداء ، وقال : "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء .
وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية ، وليس كما تقرر ، ولذلك لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول ، فصار مقصوراً على المحرم دون غيره .
وأما التحريم بالمعنى الثاني فلا حرج فيه في الجملة ، لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم ، فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ، ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به ، حتى يحرمه على نفسه ، لا بمعنى التحريم الأول ، ولا الثالث ، بل بمعنى التوقي منه كما تتوقى سائر المؤلمات .
ويدخل ها هنا بالمعنى :
امتناع النبي ﷺ من أكل الثوم ، لأنه كان يناجي الملائكة ، وهي تتأذى من رائحته ، وكذلك كل ما تكره رائحته .
ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع . والمعنيان متقاربان ، وكلاهما غير داخل في معنى الأمر .
وأما التحريم بالمعنى الرابع فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم ، فيكون قوله تعالى : "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" قد شمل التحريم بالنذر ، والتحريم باليمين ، والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها بقوله تعالى : "فكفارته إطعام عشرة مساكين" إلخ .
وما تقدم من أنه كان تحريماً مجرداً قبل نزول الكفارة ، وأن جماعة من المفسرين قالوا في قوله تعالى : "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" : إن التحريم كان باليمين حين حلف النبي ﷺ أن لا يشرب العسل ، وسيأتي ذكر ذلك بحول الله .
فإن قيل : هل يكون "قول الرجل لرسول الله ﷺ : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء" ـ الحديث ـ من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث ـ لأن الرجل قد يحرم الشيء للضرر الحاصل به ، وقد تقدم آنفاً أنه ليس بتحريم حقيقة ، فكذلك ها هنا لا يريد بالتحريم النذر ، بل يريد به التوقي ، أي إني أخاف على نفسي العنت ، وكان هذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو مقصود الصحابي رضي الله عنه .
فالجواب : أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئاً يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم ، والتارك لأمر لا يلزمه أن يكون محرماً له ، فكم من رجل ترك الطعام الفلاني أو النكاح لأنه في ذلك الوقت لا يشتهيه ، أو لغير ذلك من الأعذار ! حتى إذا زال عذره تناول منه .
وقد : ترك ﷺ أكل الضب ، ولم يكن تركه موجباً لتحريمه .
والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر ، وأنه لا يصح ، وإن كان تقدم أن النبي ﷺ رد عليه بالآية ، فلو كان وجود مثل تلك الأعذار مبيحاً للتحريم بالمعنى الثالث لوقع التفصيل في الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر أو غير عذر .
وأيضاً فإن الانتشار للنساء ليس بمذموم ، فإن النبي ﷺ قال :
"من استطاع منكم الباءة فليتزوج" الحديث ، فإذا أحب الإنسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له ما في الحديث زيادة إلى النسل المطلوب في الملة ، فكأن محرم ما يحصل به الانتشار ساع في التشبه بالرهبانية ، وكان ذلك منتفياً عن الإسلام كسائر ما ذكر في الآية .
فصل والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها
والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها مع قوله تعالى : "كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة" الآية ،فإن الله أخبر عن نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرم على نفسه حلالاً ، ففيه دليل لجواز مثله .
والجواب : أنه لا دليل في الآية ، لأن ما تقدم يقرر أن لا تحريم في الإسلام ، فيبقى ما كان شرعاً لغيرنا منفياً عن شرعنا كما تقرر في الأصول .
خرج القاضي إسماعيل وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما :
أن إسرائيل النبي يعقوب عليه السلام أخذه عرق النسا ، فكان يبيت عليه زقاء ، فجعل عليه إن شفاه الله ليحرمن عليه العروق . وذلك قبل نزول التوراة . قالوا : فلذلك نسل اليهود لا يأكلونها . وفي رواية : جعل على نفسه أن لا يأكل لحوم الإبل ـ قال ـ فحرمته اليهود .
وعن الكلبي أن يعقوب عليه السلام قال :
إن الله شفاني لأحرمن أطيب الطعام والشراب ـ أو قال : ـ أحب الطعام أو الشراب إلى . فحرم لحوم الإبل وألبانها .
قال القاضي : الذي نحسب ـ والله أعلم ـ أن إسرائيل حين حرم على نفسه من الحلال ما حرم لم يكن في ذلك الوقت منهياً عن ذلك ، وأنهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئاً من الحلال لم يجز لهم أن يفعلوه حتى نزلت كفارة اليمين . قال الله تعالى : "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم"
والحالف إذا حلف على شيء ولم يقل : إن شاء الله كان بالخيار ، إن شاء فعل وكفر ، وإن شاء لم يفعل . قال : وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ ، فكان الناسخ في هذا قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" قال : فلما وقع النهي لم يجز للإنسان أن يقول : الطعام علي حرام ، وما أشبه ذلك من الحلال . فإن قال إنسان شيئاً من ذلك كان قوله باطلاً ، وإن حلف على ذلك بالله كان له أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه .
فصل والمسألة الرابعة أن نقول : مما يسأل عنه
والمسألة الرابعة : أن نقول : مما يسأل عنه قوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " الآية . فإن فيها إخباراً بأنه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه ما أحله الله ، وقد يدل عليه : "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" . ومثل هذا يجل مقام النبي ﷺ عم مقتضى الظاهر فيه ، وأن يكون منهياً عنه ابتداء ثم يأتيه ، حتى يقال له فيه : لم تفعل ؟ فلا بد من النظر في هذه المصارف .
والجواب : أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود ، فظاهر أنها مختصة بالنبي ﷺ ، إذ أريد الأمة ـ على قول من قال من الأصوليين ـ لقال : (لم تحرمون ما أحل الله لكم ) ؟ كما قال : "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" . وهو بين لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب ، لذلك لما آلى إلى النبي ﷺ من نسائه شهراً بسبب هذه القصة نزل عليه في سورة الأحزاب : "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن" . إلخ . وأيضاً فيحتمل التحريم يمعنى الحلف على أن لا يفعل ،والحلف إذا وقع فصاحبه مخير بين أن يترك المحلوف عليه وبين أن يفعله ويكفر . وقد جاء في آية التحريم : "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" فدل على أنه كان يميناً حلف ﷺ بها . وذلك أن الناس اختلفوا في هذا التحريم فقال جماعة : إن كان تحريماً لأم ولده مارية القبطية . بناءً على أن الآية نزلت في شأنها ، وممن قال به الحسن و وقتادة و الشعبي و نافع مولى ابن عمر ، أو كان تحرمياً لعسل زينب ، وهو قول عطاء وعبد الله بن عتبة ، وقال جماعة : إنما كان تحريماً بيمين .
قال إسماعيل بن إسحاق : يمكن أن يكون النبي ﷺ حرمها ـ يعني جاريته ـ بيمين الله ، لأن الرجل إذا قال لأمته : والله لا أقربك . فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين . ثم أتى بمسألة ابن مقرن .
ويمكن أن يكون السبب شرب العسل ، وهو الذي وقع في البخاري من طريق هشام عن ابن جريج قال فيه :
شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً ، وإذا كان كذلك فلم يبق في المسألة إشكال . ولا فرق بين الجارية والعسل في الحكم ، لأن تحريم الجارية كيف ما كان بمنزلة تحريم ما يؤكل ويشرب .
وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم فيحتمل وجهين كالأول .
أحدهما : أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف .
والثاني : أن تكون آية العقود غير متناولة للنبي ﷺ ، وأن قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا" لا تدخل فيه بناء على قول من قال بذلك من الأصوليين ، وعند ذلك لا يبقى في القضية فيه ، ولا يكون للمجتمع بالآية متعلق ، والله أعلم .
فصل إذا ثبت هذا ، فكل من عمل على هذا ......
إذا ثبت هذا ، فكل من عمل على هذا القصد فعمله غير صحيح ، لأنه عامل أما بغير شريعة لأنه لم يتبع أدلتها ، وإما عامل بشرع منسوخ ، والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ باطل بلا خلاف ، لأن الترهب والامتناع من النساء وغير ذلك إن كان مشروعاً ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع ، وقد تقدم قول النبي ﷺ :
"لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وهو معنى البدعة .
فإن قيل : فقد تقدم من نقل ابن العربي في الرهبانية أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة ـ قال ـ وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان . وقد بسط الغزالي هذا الفصل في الإحياء عند ذكر العزلة . وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية . وحاصله أن ذلك مشروع ، بل هو الأولى عند عروض العوارض ، وعندما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالاً على الإنسان ، ومؤدباً إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز ، كما جاء في الصحيح من قوله ﷺ :
"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" وسائر ما جاء في هذا المعنى . وأيضاً فإن الله تعالى قال لنبيه ﷺ : "واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا" والتبتل ـ على ما قاله زيد بن أسلم ـ رفض الدنيا من قولهم : بتلت الحبل بتلاً إذا قطعته ، ومعناه القطع من كل شيء إلا منه .
وقال الحسن وغيره : بتل إليه نفسك واجتهد . وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلى عبادة الله ورفض أسباب الدنيا . والتخلي عن الحواضر إلى البوادي ، واتخاذ الخلوات في الجبال والبراري حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه ، فما وجه ذلك .
فالجواب : أن الرهبانية إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأول فلا نسلم أنها في شرعنا ، لما تقدم من الأدلة على نسخها ، كانت لعارض أو لغير عارض ، إذ لا رهبانية في الإسلام ، وقد رد ﷺ التبتل حسبما تقدم .
وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول الله ﷺ وهو التخاطب بقوله : "وتبتل إليه تبتيلاً" فهذا هو الذي نحن في تقريره وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم ، وليس في كلام زيد بن أسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى ، لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها ، بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية .
واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله ﷺ ، فلقد كانوا رضي الله تعالى عنهم مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم منفقين له حيث ندبوا لم يتعلق بقلوبهم منه شيء ، إذا عن لهم أمر أو نهي ، بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه ، وهو التوسط الذي تقدم ذكره .
ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد فبادروا إلى الامتثال ، ولم يقولوا : هو شاغل لنا عما أمرنا به . لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به ، فإن الأصل الشرعي أن كل مطلوب هو من جملة ما يتعبد به إلى الله تعالى ويتقرب به إليه ، فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك ، والعادات كلها إذا قصدت بها امتثال أمر الله عبادات ، إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ، ويجيء بها نحو الحظ مجرداً ، فإذا ذاك لا تقع متعبداً بها ، ولا مثاباً عليها ، وإن صح وقوعها شرعاً .
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ولا يمكن مع فهمهم أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا منها ، فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريان على السنة ، وكذلك كلام الحسن وغيره في تفسير الآية. صحيح إذا أخذ هذا المأخذ ، أي اتبع الهدى واتبع أمر ربك فإنه العليم بما يصلح لك والقائم على تدبيرك ، ولذلك قال على أثرها : "رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً" أي بك ، وإنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك ، فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت كسبك ، مما هو تكليف في حقك ، ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالاً ومالاً .
وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص ، وهو قول مجاهد والضحاك ، وقال قتادة : أخلص له العبادة والدعوة ، فعلى هذا التفسير لا تعلق فيها لمورد السؤال .
وإذا تقرر هذا فالسياحة واتخاذ الصوامع وسكنى الجبال والكهوف إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان ، بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس : لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم ، فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية ، غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز ، أو النقل العرفي الذي لم يجز عليه معتاد اللغة ، فلا تدخل في مقتضى قو له تعالى : "ورهبانيةً ابتدعوها" لا في الإسم ولا في المعنى .
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ، فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح ، بل هو مما لا يجوز ، لأنه كالشرع بغير شريعة محمد ﷺ ، فلا ينتظمه معنى قوله ﷺ :
"من رغب عن سنتي فليس مني" .
وأما ما ذكره الغزالي وغيره من تفصيله على المخالطة ، وترجيح الغربة على اتخاذ أهل عند اعتوار العوارض ، فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا .
وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادراً على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهي عنه أو لا ، فإن كان قادراً في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم ، فلا إشكال في كون الطلب متوجهاً عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن ، وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ، ففي بقاء الطلب هنا تفصيل ـ بحسب ما يظهر من كلام أبي حامد رحمه الله تعالى ـ إذ يكون المطلوب مندوباً ، لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع ، فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال ، كالمندوب للصدقة على المحتاج لا مال بيده إلا مال الغير ، فلا يجوز له العمل بالندب ، لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه ، وذلك لا يجوز فهو كالفاقد لما يتصدق به ، وكالقادم على مريضه المشرف ، أو دفن ميت يخاف تغييره بتركه ، ثم يقوم يصلي نافلة ، والمتزوج لا يجد إلا مالاً حراماً ، وأشباه ذلك .
وقد يكون المطلوب واجباً إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه ، وهذا غير معتد به ، لأن القيام بالواجب آكد ، أو يوقعه في ممنوع ، فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة ، إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد كما أن المحرمات كذلك ، فلا بد من الموازنة ، فإن ترجح جانب الواجب صار المحرم في حكم العفو ، أو حكم التلافي إن كان مما تتلافى مفسدته ، وإن ترجح جانب المحرم سقط حكم الواجب ، أو طلب بالتلافي ، وإن تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين ، والأولى ـ عند جماعة ـ رعاية جانب المحرم لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح ، فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة فهي الأولى في أزمنة الفتن ، والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا ، وضابطها ما صد عن طاعة الله ، ومثل هذا يجري بين المندوب والمكروه ، وبين المكروهين .
وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعيات والجماعات ، والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنها أيضاً سلامة من جهة أخرى ، ويقع التوازن بين المأمورات والمنهبات ، وكذلك النكاح ، إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ولم يكن في تركه معصية كان تركه أولى .
ومن أمثلة ذلك ـ غير أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إلى حبيب بن مسلمة أنه قال لـمعن بن ثور : هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات ؟ قال معن : ولم ؟ قال : إنه لما أحدث الملوك البدع ، وضيعوا أمر النبيين ، وأكلوا الخنازير ، اعتزلوهم في الديارات وتركوهم وما ابتدعوا ، فتخلوا للعبادة ، قال حبيب لـ معن : فهل لك ؟ ..... قال :
ليس بيوم ذلك .
فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ، ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبه الأهواء على حد ما شرع في ديننا ، لا أن نفس ما فعلت النصارى في رهبانيتها متيسر لنا ، لما ثبت من نسخه ، فعلى هذه الأحرف جرى كلام الإمام أبي حامد وغيره ممن نقل هو عنهم واحتج بهم ، ويدل على ذلك أن جماعة ممن نقل عنهم الترغيب في العزلة كانوا متزوجين ولم يكن ذلك مانعاً من البقاء على ما هم عليه ، بناءً منهم على التحري في الموازنة بين ما يلحقهم بسبب التزوج ، فلا إشكال إذا على هذا التقرير في كلام الغزالي ولا غيره ممن سلك مسلكه ، لأنهم بنوا على أصل قطعي في الشرع ،محكم لا ينسخه شيء وليس من مسألتنا بسبيل ، ولكن ثم تحقيق زائد لا يسع إيراده ها هنا ، وأصله مأخوذ من كتاب الموافقات من تمرن فيه حقق هذا المعنى على التمام ، وبالله تعالى التوفيق .
والحاصل ، أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا الإضافية ، لرد رسول الله ﷺ لها أصلاً وفرعاً .
فصل ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفاً أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً
ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفاً أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً ـ وإن كان قد ثبت أيضاً في الأصول الفقهية على وجه من البرهان أبلغ ـ فلنبن عليه فنقول :
قد فهم قوم من السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممن ثبت ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم ، ويلزمون غيرهم الشدة أيضاً والتزام الحرج ديدناً في سلوك طريق الآخرة ، وعدوا من لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصراً مطروداً ومحروماً ، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية ، فرشحوا بذلك ما التزموه ، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية .
فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة ، أحدهما سهل والآخر صعب ، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد ، فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله ، ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس ، كالذي يجد للطهارة ماءين : سخناً وبارداً فيتحرى البارد الشاق استعماله ، ويترك الآخر ، فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه ، وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد ، فالشارع لم يرض بشرعية مثله ، وقد قال الله تعالى : "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " فصار متبعاً لهواه ، ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام :
"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات " الحديث .
من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سبباً لمحو الخطايا ورفع الدرجات ، ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ، ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها ، لأنا نقول : لا دليل في الحديث على ما قلتم ، وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ، ففيه أمر زائد ، كالرجل يجد ماء بارداً في زمان الشتاء ولا يجده سخناً فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ .
وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه ، بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد ، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه وهي قطعية وخبر الواحد ظني ، فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعي ، ومثل الحديث قول الله تعالى : "ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة " الآية .
ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه ، فهو من النمط المذكور فوقه ، لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف ، وهو أيضاً مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام :
"إن لنفسك عليك حقاً" .
وقد كان النبي ﷺ : يأكل الطيب إذا وجده .
وكان يحب الحلواء والعسل .
ويعجبه لحم الذراع ، ويستعذب له الماء ، فأين التشديد من هذا؟ .
ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى : "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح ، بدليل ما تقدم ، فإذاً الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر تنطع ، وقد مر ما فيه قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية .
ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة ، فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم ، وفيه أيضاً من قصد الشهرة ما فيه .
وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أغد بي على أخي عاصم . قال : ما باله ؟ قال : لبس العباء يريد النسك . فقال علي رضي الله عنه : علي به . فأتي به مؤتزراً بعباءة ، مرتدياً بالأخرى ، شعث الرأس واللحية ، فعبس في وجهه وقال : ويحك ! أما استحييت من أهلك ؟ أما رحمت ولدك ؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئاً ؟ بل أنت أهون على الله من ذلك ، أما سمعت الله يقول في كتابه : "والأرض وضعها للأنام" إلى قوله : "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" ؟ أفترى الله أباح هذه لعبادة إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثبتهم عليه ؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول . قال عاصم : فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك ، قال : ويحك ! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس .
فتأملوا كيف لم يطالب الله ا لعباد بترك الملذوذات ! وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها ، فالمتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتات على الشارع وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة . وإنما امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره ، كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده ، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع ، أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه . وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها ، لاحتمالها في أنفسها . وهذه المسألة مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات .
ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء ، فهو من قبيل التشديد . ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها ؟ فلو كانت مخالفتها براً لشرع ، ولندب الناس إلى تركه ، فلم يكن مباحاً ، بل مندوب الترك أو مكروه الفعل .
وأيضاً ، فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجاباً أو ندباً أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور ، كما جعل في الأوامر إذا امتثلت وفي النواهي إذا اجتنبت أجوراً منتظرة ولو شاء لم يفعل ، وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاء على خلاف الأول ، ليكون جميع ذلك منهضاً لعزائم المكلفين في الامتثال ، حتى إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعاً من اللذات العاجلة ، والأنوار الشارحة للصدور ، ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء ، حتى يكون سبباً لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها ، فيخف على العامل العمل حتى يتحمل منه ما لم يكن قادراً قبل على تحمله إلا بالمشقة المنهي عنها ، فإذا سقطت سقط النهي .
بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذات مختلفات الألوان ، وللأشربة كذلك ، وللوقوع الموضوع سبباً لاكتساب العيال ـ وهو أشد تعباً عن النفس ـ لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب ، إلى غير ذلك من الأمور الخارجية عن نفس المتناول ، كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل ، والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم وهي أيضاً تقتضي لذات تستصغر جنبها لذات الدنيا .
وإذا كان كذلك ، فأين هذا الموضوع الكريم من الرب اللطيف الخبير ؟ فمن يأتي متعبداً بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته ، فيأخذ بالأشق والأصعب ، ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص هل ذها كله إلاغاية في الجهاله ، وتلف في تيه الضلالة ؟ عافانا الله من ذلك بفضله فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديداً على هذا السبيل ، أو يظهر منها تنطع أو تكلف فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح ، أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت إعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء ، فإن كان الأول فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادي الرأي ـ كما تقدم ـ إن كان الثاني فلا حجة فيه ، وإنما الحجة في المقتدين برسول الله ﷺ . فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها .
فصل قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع
قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع ، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره . وبيانه أن العمل يكون مندوباً إليه ـ مثلاً ـ فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن بأس ، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائماً ، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم ، فهذا صحيح لا إشكال فيه . وأصله ندب رسول الله ﷺ لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت ، وقوله :
"أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة" فاقتصر في الإظهار على المكتوبات ـ كما ترى ـ وإن كان ذلك في مسجده عليع السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس ، حيث قالوا : إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث . وجرى الفرائض في الإظهار السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك ، فبقي ما سوى ذلك حكمة الإخفاء ، ومن هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خف عليهم الاقتداء بالحديث وبفعله عليه الصلاة والسلام ، لأنه القدوة والأسوة .
ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائماً أن يقام جماعة في المساجد البتة ، ما عدا رمضان ـ حسبما تقدم ـ ولا في البيوت دائماً ، وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط كقيام ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الله ﷺ عندما بات عند خالته ميمونة ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام :
"قوموا فلأصل لكم" .
وما في الموطأ من صلاة يرفأ ـ هو خادم عمر ـ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الضحى ، فمن فعله في بيته وقتاً ما فلا حرج ، ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور ، وإن كان الجواز قد وقع في المدونة مطلقاً ، فما ذكره تقييد له ، وأظن ابن حبيب نقله عن مالك مقيداً ، فإذا اجتمع في النافلة أن يلتزم السنن الرواتب إما دائماً وإما في أوقات محدودة ، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض ، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع . والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله ﷺ ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعاً ، وإن أتى مطلقاً من غير تلك التقييدات . فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع ، فكيف إذا عارضه الدليل ، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلاً؟ .
ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله ﷺ من النوافل وأظهره في لجماعات فهو سنة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً . ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة . وهذا فساد عظيم ، لأن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبدليل الشريعة ، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض ، أو فيما ليس بفرض أنه فرض ، ثم عمل وفق اعتقاده فإنه فاسد ، فهب العمل في الأصل صحيحاً فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية ، ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سنناً قصداً لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية وغيرها ـ كما تقدم ذلك ـ .
ولأجله أيضاً نهى أكثرهم عن اتباع الآثار ، كما خرج الطحاوي و ابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال : وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : "ألم تر كيف فعل ربك" و "لإيلاف قريش" ثم رأى ناساً يذهبون مذهباً ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله ﷺ .فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها .
وقال ابن وضاح : سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ ، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة .
قال ابن وضاح : وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي ﷺ ما عدا قباء وحده . وقال : وسمعتهم يذكرون أن سفياندخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان .
قال ابن وضاح : فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى .
وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير .
وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ماليس بسنة ، أو يعد مشروعاً ماليس معروفاً .
وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء خوفاً من ذلك ، مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه .
ولكن لما خاف العلماء عاقبه ذلك تركوه .
وقال ابن كتانة وأشهب : سمعنا مالكاً لما أتاه سعد بن أبي وقاص قال : وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل .
وسئل ابن كتانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال : أثبت ما في ذلك عندنا قباء . إلا أن مالكاً كان يكره مجيئها خوفاً من أن يتخذ سنة .
وقال سعيد بن حسان : كنت أقرأ على ابن نافع ، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء قال لي : حوق عليه قلت : ولم ذلك يا أبا محمد ؟ قال : خوفاً من أن يتخذ سنة .
فهذه امور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفاً من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك .
فإن قيل : كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية ؟ والظاهر منها أنها بدع حقيقية ! لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله ﷺ على هذا الوجه ، فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال،
هذا إذا نظرنا إليها بمآلها ، وإذا نظرنا إليها أولاً فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أًصلاً .
فالجواب : أن السؤال صحيح ، إلا أن لوضعها أولاً نظرين :
أحدهما : من حيث هي مشروعة فلا كلام فيها .
والثاني : من حيث صارت كالسبب الموضوع الاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة ، فهي من هذا القبيل غير مشروعة ، لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس ـ مثلاًـ سبباً لأن تتخذ سنة فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع ، فكان ابتداعاً .
وهذا معنى كونها بدعة إضافية . أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة ، والعمل على وفقه ، فذلك بدعة حقيقية لا إضافية ، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام ، فلا معنى للتكرار .
وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعاً بالإضافة ، فما ظنك بالبدع الحقيقية ، فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معاً ، لكن من جهتين ، فإذاً بدعة أصبح ولله الحمد في نداء الصبح ظاهرة . ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظباً عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها ، كان تشريعاً أولاً يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة ، وهذا ابتداع ثان إضافي . ثم إذا اعتقد فيها ثانياً السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه ، ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت . وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف ، فيا لله ويا للمسلمين ! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه ؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله .
فصل من تمام ما قبله ، وذلك أنه وقعت نازلة
من تمام ما قبله :
وذلك أنه وقعت نازلة : إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام ، وهو أيضاً معهود في أكثر البلاد ، فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون . وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله ﷺ ، ولا فعل الأئمة حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء . أما أنه لم يكن من فعل رسول الله ﷺ فظاهر ، لأن حاله عليه السلام في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل ،كانت بين أمرين : إما أن يذكر الله تعالى ذكراً هو العرف غير دعاء فليس للجماعة منه حظ ، إلا أن يقولوا مثل قوله ، أو نحواً من قوله كما في غير أدبار الصلوات ، كما جاء أنه كان يقول في دبر كل صلاة :
" لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" ، وقوله :
"اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام" ، وقوله : "سبحان ربك رب العزة عما يصفون" ونحو ذلك ، فإنما كان يقول في خاصة نفسه كسائر الأذكار ، فمن قال مثل قوله ، فحسن ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع .
وإن كان دعاء فعامة ما جاء عن دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين ، كما في الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، " عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه ".. الحديث . إلى قوله :" ويقول عند انصرافه من الصلاة : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت" حسن صحيح . وفي رواية أبي داود :" كان رسول الله ﷺ إذا سلم من الصلاة قال :
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " .
وخرج أبو داود :" كان رسول الله ﷺ يقول دبر كل صلاة :
اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة ، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله نور السموات والأرض ، الله أكبر ، الله أكبر ، حسبي الله ونعم الوكيل" .
ولـأبي داود في رواية :
"رب أعني ولا تعن علي ، وانصرني ولاتنصر علي ، وأمكن لي ولا تمكن علي ، واهدني ويسر هداي إلي وانصرني على من بغى علي" إلى آخر الحديث .
وفي النسائي "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى :اللهم اغفر إني أسألك علماً نافعاً ، وعملاً متقبلاً ، ورزقاً طيباً" . وعن بعض الأنصار قال :" سمعت رسول الله ﷺ يقول في دبر الصلاة : اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" ، حتى يبلغ مائة مرة ، وفي رواية ، أن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى .
فتأملوا سياق هذه الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس! فيكون مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم إلا أن يقال : قد جاء الدعاء للناس في مواطن ، كما في الخطبة التي استسقى فيها ، ونحو ذلك . فيقال : نعم : فأين التزام ذلك جهراً للحاضرين في دبر كل صلاة .
ثم نقول : إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على أثر الصلاة ، إنه مستحب لا سنة ولا واجب . وهو دليل على أمرين :
أحدهما : أن هذه الأدعية لم تكن منه عليه والسلام على الدوام .
والثاني : أنه لم يكن يجهر بها دائماً ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم ، إذ لو كانت على الدوام وعلى الإظهار لكانت سنة ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنة ، إذ خاصيته ـ حسبما ذكروه ـ الدوام والإظهار في مجامع الناس . ولا يقال : لو كان دعاؤه عليه السلام سراً لم يؤخذ عنه . لأنا نقول : من كانت عادته الإسرار فلا بد أن يظهر منه إما بحكم العادة وإما بقصد التنبيه على التشريع .
فإن قيل : ظواهر الأحاديث تدل على الدوام بقول الرواة : كان يفعل فإنه يدل على الدوام كقولهم : كان حاتم يكرم الضيفان . قلنا . ليس كذلك ، بل يطلق على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة ، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة" . وروت أيضاً أنه :
"كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء" . بل قد يأتي في بعض الأحاديث :
"كان يفعل فيما لم يفعله إلا مرة واحدة" نص عليه أهل الحديث .
ولو كان يدوام المداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيره ، ولو سلم : فأين هيئة الاجتماع ؟ .
فقد حصل أن الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله ﷺ . كما لم يكن قوله ولا إقراره .
وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه ﷺ :
" كان يمكث إذا سلم يسيراً ". قال ابن شهاب : حتى ينصرف الناس فيما نرى . وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها :
"كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" .
وأما فعل الأئمة بعده نقل الفقهاء من حديث أنس في غير كتب الصحيح :
صليت خلف النبي ﷺ ، فكان إذا سلم يقوم ، وصليت خلف أبي بكر رضي الله عنه فكان إذا سلم وثب كأنه على رفضه ( يعني الحجر المحمى ) ، ونقل ابن يونس الصقلي عن ابن وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد السلام وقال : إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم ، وقال ابن عمر : جلوسه بدعة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك . وقال مالك في المدونة : إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو في فنائه .
وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة ، ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل عليه فيه كبر وترفع على الجماعة ، وانفراده بموضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم ، وأما انفراده به حال الصلاة فضروري . قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم ، وإذا كان هذا في انفراده في الموضع ، فكيف بنا انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهراً ؟ قال : ولو كان هذا حسناً لفعله النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم ولم ينقل ذلك أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره حتى : هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال ؟
وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله بما فيه كفاية .
هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائماً بدعة قبيحة ، واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول بسرعة القيام والانصراف ، لأنه مناف للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه ، بخلاف الذكر ، ودعاء الإنسان لنفسه ، فإن الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير مناف لهما .
فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر ، فرد على ذلك الإمام رداً أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون ، وبلغ من الرد ـ على زعمه ـ إلى أقصى غاية ما قدر عليه . واستدل بأمور إذا تأملها الفطن عرف ما فيها ، كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآناً وسنة ، وهو ـ كما تقدم ـ لا دليل فيه ، ثم ضم ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلا في أدبار الصلوات ولا دليل فيه أيضاً ـ كما تقدم ـ لاختلاف المتأصلين .
وأما في التفصيل فزعم أنه ما زال معمولاً به في جميع أقطار الأرض أوفي جلها من الأئمة في مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبي عبد الله ، ثم أخذ في ذمه وهذا النقل تهور بلا شك ، لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع ، لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن ، هذا أمر مقطوع به . ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة .
وقوله : من غير نكير تجوز ، بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة فقد نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة فحصل إنكار مالك لها في زمانه ، وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه ، واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه ، ثم القرافي قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك ، وسلمه ولم ينكره عليه أهل زمانه ـ فيما نعلمه ـ مع وعمه أن من البدع ما هو حسن .
ثم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين جخلتها هذه البدعة ـ حسبما يذكر بحول الله ـ وقد أنكروها ، وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك . وكان الزاهد أبو عبد الله بن مجاهد وتلميذه أبوعمران الميرتلي رحمهما الله ملتزمين لتركها ، حتى اتفق للشيخ أبي عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله .
قال بعض شيوخنا راداً على بعض من نصر هذا العمل : فإنا قد شاهدنا العمل من الأئمة الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ، ولم نر من ترك ذلك إلا من شذ في احواله ـ فقال ـ وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشيء ، لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت أنهم لم يكونوا يفعلونه . قال ولما كانت البدع والمخالفات وتواطؤ الناس عليها صار الجاهل يقول : لو كان هذا منكراً لما فعله الناس . ثم حكى أثر الموطأ : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ـ قال : فإذا كان هذا في عهد التابعين يقول : كثرت الإحداثات فكيف بزماننا ؟ ثم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه محظور ، لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه ، فصار نسخ إجماع بإجماع ، وهذا محال في الأصول .
وأيضاً فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك السنة أبداً ، فما أشبه هذه المسألة بما حكى عن أبي علي بشاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري ، قال : كان عبد الله بن الحسن ـ يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ يكثر الجلوس إلى ربيعة ، فتذكروا يوماً فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا فقالعبد الله أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء انتهى . إلا أني أقول : أرأيت إن كثر المقلدون ثم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها ، أفهم الحجة على السنة ولا كرامة ؟ .
ثم عضد ما ادعاه بأشياء من جملتها قوله . ومن أمثال الناس : أخطىء مع الناس ولا تصب وحدك أي أن خطأهم هم الصواب ، وصوابك هو الخطأ . قال ، ومعنى ما جاء في حديث :
"عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" . فجعل تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفاً للإجماع ـ كما ـ ترى ـ وحض على اتباع الناس وترك المخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام :
"لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" ، وكل ذلك مبني على الإجماع الذي ذكروا ، وأن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا . وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في حديث الفرق ، وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلاً واحداً في العالم .
قال بعض الحنابلة : لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدعي فيها الصحة بمجرد التهويل أو بدعوي أن لا خلاف في ذلك : وقال ذلك لا يعلم أحداً قال فيها بالصحة فضلاً عن نفي الخلاف فيها ، ليس الحكم فيها من الجليات التي لا يقدر المخالف ، قال : وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل : من ادعى الإجماع فهو كاذب وإنما هذه دعوى كثير ، وابن عليه يريدون أن يبطلوا السنن بذلك . يعني أحمد أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا : هذا خلاف الإجماع . وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة ـ مثلاً ـ فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء ، حتى كان بعضهم يسرد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام فلا يجد لها معتصماً إلا أن يقول : هذا لم يقل به أحد من العلماء ، وهو لا يعرف إلا أبا حنيفة أو مالكاً ، لم يقولوا بذلك ، ولو له علم لرأي من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقاً كثيراً .
ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه ، وأنه لا ينبغي أن ينقل حكم شرعي عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت ، لأنه مخبر عن حكم الله ، فإياكم والتساهل فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى السيئات .
ثم عد من المفاسد في مخالفة الجمهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل ، وهذا دعوى من خالفه فيما قال ، وعلى تسليمها ، فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة ، وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق ، وعدم الاستيحاش من قلة أهله .
وأيضاً فمن شنع على المبتدع بلفظ الابتداع فاطلق العبارة بالنسبة إلى المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة ـ إلى نظائرها ـ فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إلى بشر المريسي ومعبد الجهني وفلان ، ولا يدخل بذلك ـ إن شاء الله ـ في حديث :
"من قال : هلك الناس . فهو أهلكهم" لأن المراد أن يقول ذلك ترفعاً على الناس واستحقاراً ، وأما إن قاله تحزناً وتحسراً فلا بأس . قال بعضهم : ونحن نرجو أن نعرج على ذلك ـ إن شاء الله ـ فالاستدلال به ليس على وجهه .
وعد من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها ، فكأنه يقول : اترك اتباع السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب . وهذا شديد من القول وهو معارض بمثله ، فإن انتصابه لأن يكون داعياً للناس بأثر صلواتهم دائماً مظنة لفساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة ، وهو تعليل القرافي ، وهو أولى في طريق الاتباع ، فصار تركه للدعاء لهم مقروناً بالاقتداء بخلاف الداعي فإنه في غير طريق من تقدم فهو أقرب إلى فساد النية .
وعد منها ما يظن به من القول برأي أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع ، وهذا كالذي قبله ، لأنه يقول للناس : اتركوا اتباع النبي ﷺ في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات لئلا يظن بكم الابتداع .وهذا كما ترى .
قال ابن العربي : ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه ، وهو مذهب مالك و الشافعي ، وتفعله الشيعة ـ قال ـ فحضر عندي يوماً في محرس أبي الشعراء بالثغر موضع تدريس عند صلاة الظهر . ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخرة قاعداً على طاقات البحر ، أتنسم الريح من شدة الحر ، ومعي في صف واحد أو ثمنة رئيس البحر وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة . ويتطلع على مراكب المنار ، فلما رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه . قال . قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترى إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد ، فطار قلبي من بين جوانحي ؟ وقلت : سبحان الله ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت ، فقالوا لي : ولم يرفع يديه ؟ فقلت : كذلك كان النبي ﷺ يفعل ، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه ، وجعلت أسكنهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغير وجهي فأنكر ، وسألني فأعلمته فضحك ، وقال : من أين لي أن أقتل على سنة ؟ فقلت له : ويحل لك هذا ، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك ، وربما ذهب دمك . فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره .
فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء . إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة السنة ، وقد حصلت النسبة إلى البدعة ، ولكن الطرطوسي رحمه الله لم ير ذلك شيئاً فكلامه للاتباع أولى من كلام هذا الراد ، إذ بينهما في العلم ما بينهما .
وأيضاً فلو اعتبر ما قال لزم اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة الاجتماع يوم عرفة في غير عرفة ، ومنهم نافع مولى ابن عمر و مالك و الليث وغيرهم من السلف ، ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك .
ثم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله : وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة : فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية .
فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائماً لا يترك كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا المفروضة ـ فقد تقدم ما فيه .
فصل ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال
ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم ، وهو أن الدعاء على ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهي عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة ، ووجود العمل به . فإن صح أن السلف لم يعملوا به ، فالترك ليس بموجب لحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة ، لا تحريم ولا كراهية .
وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصاً في العبادات ـ التي هي مسألتنا ـ إذ ليس لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمراً لايوجد عليه منها دليل ، لأنه عين البدعة ، وهذا كذلك ، إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهراً للحاضرين في آثار الصلوات دائماً ، على حد ما تقام ، بحيث يعد الخارج عنه خارجاً عن جماعة أهل الإسلام متحيزاً ومتميزاً إلى سائر ما ذكر ، وكل ما لا يد ل عليه دليل فهو البدعة .
وعلى هذا فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف ، ولو كان في أحد جائزين ، فكيف إذا كان أمرين أحدهما متيقن أنه صحيح والآخر مشكوك فيه ؟ فيتبع المشكوك في صحته ، ويترك ما لا مرية في صحته ، ولو لعا من يتبعه .
ثم إطلاقه بأن الترك لا يوجب حكماً في المتروك إلا جواز الترك ، غير جار على أًول الشرع الثابتة . فنقول إن هنا أصلاً لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف في نفسه ، وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة أو تركه لأمر ما على ضربين :
أحدهما : أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه ، ولا موجب يقرر لأجله ، ولا وقع سبب تقريره . كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي ﷺ فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك ، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين ، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله ﷺ على الخصوص مما هو معقول المعنى ، كتضمين الصناع ، ومسألة الحرام والجد مع الأخوة ، وعول الفرائض . ومنه المصحف ثم تدوين الشرائع ، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره للتقديم كلياته التي تستنبط بها منها ، وإذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام ، فلم يذكر لها حكم مخصوص .
فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات ، أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع ، كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات . ولا إشكال في هذا الضرب ، لأن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي ، فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك ، بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها ولا يجدها من ليس بمجتهد ، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه .
والضرب الثاني : أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمراً ما من الأمور ، وموجبه المقتضى له قائم ، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه ، لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً ، ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا كان صريحاًفي أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع ، إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه .
ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس في سماع أشهب و ابن نافع هو غاية فيما نحن فيه ، وذلك أن مذهبه في سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بمشروع ، وعليه بنى كلامه . قال في العتبية : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكراً ؟ فقال لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس . قيل له : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ـ فيما يذكرونه ـ سجد يوم اليمامة شكراً لله . أفسمعت ذلك قال : ما سمعت ذلك وأنا أرى أنهم قد كذبوا على أبي بكر . وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول : هذا لم تسمعه مني . قد فتح الله على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين بعده . أفسمعت أن أحداً منهم فعل مثل هذا ؟ إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء ، فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر ، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحداً منهم سجد ؟ فهذا إجماع . وإذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه ـ تمام الرواية ـ وقد احتوت على فرض سؤال والجواب بما تقدم .
وتقرير السؤال أن يقال في البدعة ـ مثلاً ـ إنها فعل سكت الشارع عن حكمه في الفعل والترك ، فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص ، فالأصل جواز فعله ، كما أن الأصل جواز تركه ، إذ هو معنى الجائز ، فإن كان له أصل جملي فأحرى أن يجوز فعله حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهته ، وإذا كان كذلك ، فليس هنا مخالفة لقصد الشارع ، ولا ثم دليل خالفه هذا النظر ، بل حقيقة ما نحن فيه أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع ، والسكوت عند الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ، ولا يعين الشارع قصداً ما دون ضده وخلافه ، وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بمخالف إذ لم يثبت في الشريعة نهي عنه .
وتقرير الجواب : معنى ما ذكره مالك رحمه الله ، وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى له إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان . إذ لو كان ذلك لائقاً شرعاً أو سائغاً لفعلوه ، فهم كانوا أحق بإداركه والسبق إلى العمل به وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة فإنه لا يخلو إما أن يكون في هذه الأحداث مصلحة أو لا ، والثاني لا يقول به أحد . والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من المصلحة الموجودة في زمان التكليف أو لا . ولا يمكن أن يكون مع كون المحدثة زيادة تكليف ، ونقصه عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة لما يعلم من قصور الهمم واستيلاء الكسل ، ولأنه خلاف بعث النبي ﷺ بالحنفية السمحة ، ورفع الحرج عن الأمة وذلك في تكليف العبادات ، لأن العادات أمر آخر ـ كما سيأتي ـ وقد مر شيء منه فلم يبق إلا أن تكون المصلحة الظاهرة الآن مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها . وعند ذلك تصير الأحداث عيثاً أو استدراكاً على الشارع ، لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان التشريع إن حصلت للأولين من غير هذا الإحداث فهي إذا عبث إذ لا يصح أن يحصل للأولين دون الآخرين ، فقد صارت هذه الزيادة تشريعأً بعد الشارع إلا بسبب الآخرين ما فات الأولين فلم يكمل الدين إذاً دونها ، ومعاذ الله من هذا المأخذ .
وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لأمر ما من غير أن يعينوا فيه وجهاً مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة دليل على أن ذلك الأمر لا يعمل به ، وأنه إجماع منهم على تركه .
قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية : الوجه في ذلك أنه لم يرد مما شرع في الدين ـ يعني سجود الشكر ـ فرضاً ولا نفلاً ، إذ لم يأمر بذلك النبي ﷺ ولا فعله ، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله ، والشرائع لا تثبت إلا من أحج هذه الأمور . قال : واستدلاله على أن رسول الله ﷺ لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده ، بأن ذلك لو كان لنقل صحيح ، إذ يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمر بالتبليغ . قال : وهذا أصل من الأصول وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود الزكاة فيها ، لعموم قول النبي ﷺ :
"فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" ، لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي ﷺ الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها . فكذلك نزل ترك نقل السجود عن النبي ﷺ في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها . ثم حكي خلاف الشافعي والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة ، ولا توجيه أنها بدعة على الإطلاق .
وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل ، وأنه بدعة منكرة فمن حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا كما كان أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها . وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به ما نحن بصدده لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات جهراً للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحاً شرعاً أو جائزاً لكان النبي ﷺ أولى بذلك أن يفعله .
وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضي المشروعية ، وبنى على فرض أنه لم يأت ما يخالفه وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه .
أما أن الأصل الجواز فيمتنع ، لأن طائفة من العلماء يذهبون إلى أن الأشياء قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة ، فما الدليل على ما قال من الجواز ؟ وإن سلمنا له من قال : فهل هو على الإطلاق أم لا ؟ أما في العاديات فمسلم ، ولا نسلم أن ما نحن فيه من العاديات بل من العبادات ، ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد : إنه مختلف فيه على قولين هل هو على المنع ؟ أم هو على الإباحة ؟ بل هو أمر زائد على المنع . لأن التعبدبات إنما وضعها للشارع فلا يقال في صلاة سادسة ـ مثلاً ـ إنها على الإباحة ، فللمكلف وضعها ـ على أحد القولين ليتعبد بها لله . لأنه باطل بإطلاق ، وهو اصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع . ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه ، فلا يصح العمل به أيضاً لأن ترك العمل به من النبي ﷺ في جميع عمره ، وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في الترك وإجماع من كل من ترك ، لأن عمل الإجماع كنصه ، كما أشار مالك في كلامه .
وأيضاً فيما يعلل له لا يصح التعليل به ، وقد أتى الراد بأوجه منه :
أحدهما : أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء . وأنه بآثار الصلوات مطلوب . وما قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في الجماعات والمساجد وليس بسنة اتفاقاً منا ومنه ، فانقلب إذاً وجه التشريع .
وأيضاً فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي ﷺ أولى ، فكانت تلك الكيفية المتكلم فيها أولى للإظهار ، ولما لم يفعله عليه الصلاة والسلام دل على ترك مع وجود المعنى المقتضي ، فلا يمكن بعد زمانه في تلك الكيفية إلا الترك .
والثاني : أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى الإجابة . وهذه العلة كانت في زمانه عليه الصلاة والسلام ، لأنه لا يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه ، إذ كان مجاب الدعوة بلا إشكال ، بخلاف غيره ، وإن عظم قدره في الدين فلا يبلغ رتبته ، فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم .
وأيضاً فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البكطة من اجتماع يكون فيه سيد المرسلين ﷺ وأصحابه ، فكانوا بالتنبيه لهذه المنقبة أولى .
والثالث : قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا يدعوا بما لا يجوز عقلاً أو شرعاً ، وهذا التعليل لا ينهض فإن النبي ﷺ كان المعلم الأول ، ومنه تلقينا ألفاظ الأدعية ومعانيها ، وقد كان من العرب من يجهل قدر الربوبية فيقول :
رب العباد ما لنا وما لك أنزل علينا الغيث لا أباً لك
وقال الآخر :
لا هم إن كنت الذي بعهدي ولم تغيرك الأمور بعدي
وقال الآخر :
أبني ليتني لا أحبكم وجد الإله بكم كما أجد
وهي ألفاظ يفتقر أصحابها إلى التعليم ، وكانوا أقرب عهد بجاهلية تعامل الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه ، ولا تنزهه كما يليق بجلاله ، فلم يشرع لهم دعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات دائماً ليعلمهم أو يعنيهم على التعلم إذ صلوا معه ، بل علم في مجالس التعليم ، ودعا لنفسه إثر الصلاة حين بدا له ذلك . ولم يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة ، وهو كان أولى الخلق بذلك .
والرابع : أن في الاجتماع على الدعاء تعاوناً على البر والتقوى ، وهو مأمور به ، وهذا الاجتماع ضعيف ، فإن النبي ﷺ هو الذي أنزل عليه : "وتعاونوا على البر والتقوى" وكذلك فعل ، ولو كان الاجتماع للدعاء إثر الصلاة جهراً للحاضرين من باب البر والتقوى لكان أول سابق إليه ، لكنه لم يفعله أصلاً ولا أحد بعده حتى حدث ما حدث . فدل على أنه ليس على ذلك الوجه بر ولا تقوى .
والخامس : أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، فربما لحن فيكون اللحن سبب عدم الإجابة . وحكي عن الأصمعي في ذلك حكاية شعرية لا فقهية ، وهذا الاجتماع إلى اللعب أقرب منه إلى الجد ، وأقرب ما فيه أن أحداً من العلماء لا يشترط في الدعاء أن لا يلحن كما يشترط الإخلاص وصدق التوجيه وعزم المسألة ، وغير ذلك من الشروط . وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء ، وإن كان الإمام أعرف به هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من أمر دينه . فإن كان الدعاء مستحباً فالقراءة واجبة ، والفقه في الصلاة كذلك ، فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلاة مطلوباً ، فتعليم فقه الصلاة آكد ، فكان من حقه أن يجعل ذلك من وظائف آثار الصلاة .
فإن قيل بموجبه في المحرف المتعارف . فهذه القاعدة تجتث أصله ، لأن السلف الصالح كانوا أحق بالسبق إلى فضله لجميع ما ذكر فيه من الفوائد ، ولذلك قال مالك فيها : أترى الناس اليوم كانوا أرغب في الخير ممن مضى ؟ وهو إشارة إلى الأصل المذكور ، وهو أن المعنى المقتضى للإحداث ـ وهو الرغبة في الخير ـ كان أتم في السلف الصالح وهم لم يفعلوه ، فدل على أنه لا يفعل .
وأما ما ذكر من آداب الدعاء فكله لا يتعين له إثرالصلاة . بدليل أن رسول الله عليه وسلم علم منها جملة كافية ولم يعلم منها شيئاً إثر الصلاة ، ولا تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه في آخر الصلاة ، أو ليستغنوا بدعائه عن تعليم ذلك ، ومع أن الحاضرين للدعاء لا يحصل لهم في الإمام في ذلك كبير شيء ، وإن حصل فلمن كان قريباً منه دون من بعد .
فصل ثم استدل المستنصر بالقياس
ثم استدل المستنصر بالقياس فقال : وإن صح أن السلف لم يعملوا به فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير ـ ثم قال بعد ـ قد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور .
وهذا الاستدلال غير جار على الأصول :
أما أولاً : فإنه في مقابلة النص ، وهو ما أشار إليه مالك في مسألة العتبية ، فذلك من باب فساد الاعتبار .
وأما ثانياً : فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي ، وهذا ليس كذلك .
وأما ثالثاً : فإن كلام عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل مجتهد يمكن أن يخطىء فيه كما يمكن أن يصيب ، وإنما حقيقة الأصل أن يأتي عن النبي ﷺ أو عن أهل الإجماع ، وهذا ليس عن واحد منهما .
وأما رابعاً : فإنه قياس بغير معنى جامع أو بمعنى جامع غير طردي ، ولكن الكلام فيه سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع .
وقوله : إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم حاش لله أن يكونوا ممن يدخل تحت هذه الترجمة .
وقوله : مما هو خير أما بالنسبة إلى السلف فما عملوا خير ، وأما فرعه المقيس فكونه خيراً دعوى ، لأن كون الشيء خيراً أو شراً لا يثبت إلا بالشرع ، أو لأن الدعاء على تلك الهيئة خير شرعاً .
وأما قياسه على قوله : تحدث للناس أقضية فمما تقدم يعلم بطلانه وفيه أمر آخر ، وهو التصريح بأن إحداث العبادات جائز قياساً على قول عمر ، وإنما كلام عمر بعد تسليم القياس عليه في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم ، كتضمين الصناع ، أو الظنة في توجيه الأيمان ، دون مجرد الدعاوى ، فيقول
إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة ، فلما حدثت أضدادها اختلف المناط فوجب اختلاف الحكم ، وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم ، فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب بخلاف ما نحن فيه ، فإنه على الضد من ذلك ، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلاً عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون فيها ، ويحضون على استعمالها ، فلا شك أن الوطائف تتكاثر حتى يؤدي إلى أعظم من الكسل الأول ، وإلى ترك الجميع ،فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته ، أو لمن شايعه فيها . فلا بد من كسله مما هو أولى .
فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل فيخل بصلاة الصبح ، وكذلك سائر المحدثات فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال ، وقد مر أن ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها .
وأيضاً ، فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعي ، وهو طلب النبي ﷺ السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد ، وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر ويعمل بها دائماً في مواطن السنن ، فهو تشديد بلا شك ، وإن سلمنا ما قال ، فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع ، وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهاناً على صحة ما يحدثه كائناً ما كان ، وهو مرمى بعيد .
فصل ثم استدل على جواز الدعاء أثر الصلوات
ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة ، ونقل في ذلك عن مالك وغيره أنواعاً من الكلام ، وليس هذا محل النزاع بل جعل الأدلة شاملة لتلك الكيفية المذكورة . وعقب ذلك بقوله : وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس وكلام العلماء على هذا المعنى ، كما قد ظهر ـ قال ـ ومن المعلوم أنه عليه السلام كان الإمام في الصلوات ، وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات ، إذ قد جاء من سنته :
" لا يحل لرجل أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم" . فتأملوا يا أولي الألباب ! فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه ، وهذا الكلام يقول فيه : إنه لم يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الجماعة ، وهذا تناقض ، ومن الله نسأل التوفيق .
وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود وغيره ، لا فيما حمله عليه هذا المتأول ، ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند مالك أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين . ذكره في النوادر ، ولما اعترضه كلام العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره ، أخذ يتأول ويوجه كلامهم على طريقتة المرتبكة ووقع له في كلام على غير تأمل لا يسلم ظاهره من التناقض والتدافع لوضوح أمره ، وكذلك في تأويل الأحاديث التي نقلها ، لكن تركت هنا استيفاء الكلام عليها لطوله ، وقد ذكرته في غير هذا الموضع ، والحمد لله على ذلك .
فصل ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة
ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه ؟ أم غير بدعة فيعمل به ؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذراً من الوقوع في المحظور . والمحظور هنا هو العمل بالبدعة ، فإذاً العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة ، كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة ، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية ، ولا يقال أيضاً : إنه خارج عن العمل بها جملة .
وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام ، فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلاً للميتة في الاشتباه ، فالنهي الأخف إذاً منصرف نحو الميتة في الاشتباه ، كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقق .
وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية : النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقق ، وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه ، فإذاً الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة إذا نهي عنه في باب الاشتباه نهي عن البدعة في الجملة ، فمن أقدم على منهي عنه في باب البدعة لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر ، فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها ، وقد مر أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين ، فلذلك قيل : إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية ، ولهذا النوع أمثلة :
أحدهما : إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به ، أو غير مشروع فلا يتعبد به ، ولم يتبين جمع بين الدليلين ، أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما ، فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف ، فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملاً بمتشابه ، لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية ، فالصواب الوقوف عن الحكم رأساً ، وهو الفرض في حقه .
والثاني : إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها ، فقال بعض العلماء : يكون العمل بدعة ، وقال بعضهم : ليس ببدعة ، ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمية أو غيرها ، فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخر ،فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح ، فالمثالان في المعنى واحد .
والثالث : أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بأشياء من رسول الله ﷺ ، ففي البخاري عن "أبي جحيفة رضي الله عنه قال :
خرج علينا رسول الله ﷺ بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به " الحديث ، وفيه : كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه .
وعن المسور رضي الله عنه في حديث الحديبية : "وما انتخم النبي ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده" ، وخرج غيره من ذلك كثيراً في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما ، حتى أنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلام حتى مات .
وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم حجامته إلى أشياء كهذا كثيرة ، فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاً في حق ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم ، وأن يتبرك بفضل وضوئه ، ويتدلك بنخامته ، ويستشفى بآثاره كلها ، ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل ﷺ .
إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه ، مشكل في تنزيله ، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه ، إذ لم يترك النبي ﷺ بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فهو كان خليفته ، ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنهما ، وهو كان في الأمة ، ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها ، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي ﷺ ، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء .
أحدهما : أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير ، لأنه عليه السلام كان نوراً كله في ظاهره وباطنه ، فمن التمس منه نوراً وجده على أي جهة التمسه ، بخلاف غيره من الأمة ـ وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ، ولا تقاربه فصار هذا النوع مختصاً به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع ، وإحلال بضع الواهبة نفسها له ، وعدم وجوب القسم عليه للزوجات وشبه ذلك ، فعلى هذا المأخذ : لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها ، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة ، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة .
الثاني : أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفاً من أن يجعل ذلك سنة ـ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار ـ والنهي عن ذلك ، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد ، بل تتجاوز فيه الحدود ، وتبالغ بجهلها في التماس البركة ، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد فيالمتبرك به ما ليس فيه ، وهذا التبرك هو أصل العبادة ، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله ﷺ ، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية ـ حسبما ذكره أهل السير ـ فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله ، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم .
ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته ، حتى ادعوا فيه الإلهية تعالى الله عنا يقولون علواً كبيراً .
ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار فقد يخفى أمرها ، لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله ، فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولي ، أو ادعاها هو لنفسه ، أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة ، أو من باب السحر ، أو الخواص أوغير ذلك ، والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بمن لا قدوة فيه ـ وهو الضلال البعيد ـ إلى غير ذلك من المفاسد ، وتركوا العمل بما تقدم ـ وإن كان له أصل ـ لما يلزم عليه من الفساد في الدين .
وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح ، لما ثبت في الأًصول العلمية أن كل قربة أعطيها الني ﷺ فإن لأمته أنموذجاً منها ، ما لم يدل دليل على الاختصاص .
إلا أن الوجه الأول راجح من جهة أخرى ، وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل بع بعضهم بعده ، أو عملوا به ولو في بعض الأحوال إما وقوفاً مع أصل المشروعية ، وإما بناء على اعتقاد انتقاء العلة الموجبة للامتناع .
وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس ين يزيد ، عن ابن شهاب قال :
حدثني رجل من الأنصار :
"أن رسول الله ﷺ كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم ، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم : لم تفعلون هذا ؟ قالوا : نلتمس الطهور والبركة بذلك . فقال رسول الله ﷺ : من كان منكم يحب الله ورسوله فليصدق الحديث ، وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره" فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو آكد والأحرى من وظائف التكليف ، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ، ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله .
فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين : أن تكون مشروعة ، فدخلت تحت حكم المتشابه أو تكون غير مشروعة والله أعلم .
فصل ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً
ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل ، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي ، أو يطلق تقييدها ، وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حد لها .
ومثال ذلك أن يقال : إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت ، ولا حد فيه زماناً دون زمان ، ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين ، وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول ، فإذا خص منه يوماً من الجمعة بعينه ، أو أياماً من الشهر بأعيانها ـ لا من جهة ما عينه الشارع ـ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف ، كيوم الأربعاء مثلاً في الجمعة ، والسابع والثامن في الشهر ، وما أشبه ذلك ، بحيث لا يقصد بذلك وجهاً بعينه مما لا ينثني عنه . فإذا قيل له : لم خصصت تلك الأيام دون غيرها ؟ لم يكن له بذلك حجة غير التصميم ، أو يقول : إن الشيخ الفلاني مات فيه أو ما أشبه ذلك ، فلا شك أنه رأي محض بغير دليل ، ضاهى به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها ، فصار التخصيص من المكلف بدعة ، إذ هي تشريع بغير مستند .
ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً ، كتخصيص اليوم بكذا وكذا من الركعات ، أو بصدقة كذا وكذا ، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة ، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ، كان تشريعاً زائداً .
ولا حجة له في أن يقول : إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره فيحسن فيه إيقاع العبادات لأنا نقول : هذا الحسن هل ثبت له أصل أم لا ؟ فإن ثبت فهو مسألتنا كما ثبت الفضل في قيام ليالي رمضان ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصيام الأثنين والخميس ، فإن لم يثبت فما مستندك فيه العقل لا يحسن ولا يقبح ولا شرع يستند إليه ؟ فلم يبق إلا أنه ابتداع في التخصيص ، كإحداث الخطب وتحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان .
ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه ، فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها ، فسامعها إنا أن يفهمها على غير وجهها ـ وهو الغالب ـ وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق ، وإلى العمل بالباطل . وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم ، ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون ، بل صار التحدث بها كالعابث بنعمة الله .
ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق . وقد جاء النهي عن ذلك . فخرج أبو داود حديثاً عن النبي ﷺ :
"أنه نهى عن الغلوطات " . قالوا : وهي صعاب المسائل أو شرار المسائل ، وفي الترمذي ـ أو غيره ـ "أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله ! أتيتك لتعلمني من غرائب العلم ، فقال عليه السلام : ما صنعت في رأس العلم ؟ قال : وما رأس العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ قال : نعم .قال : فما صنعت في حقه ؟ قال : ما شاء الله ، فقال رسول الله ﷺ : اذهب فأحكم ما هنالك ثم تعال أعلمك من غرائب العلم" ، وهذا المعنى هو مقتضى الحكمة ، لا تعلم الغرائب إلا يعد إحكام الأصول ، وإلا دخلت الفتنة ، وقد قالوا في العالم الرباني : إنه الذي يربي بصغار العلم قبل كباره .
وهذه الجملة شاهدها في الحديث الصحيح مشهور . وقد ترجم على ذلك البخاري فقال : ( باب من رخص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا ) ، ثم أسند عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حدثوا الناس بما يعرفون ، اتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ثم ذكر حديث معاذ الذي أخبر به عند موته تأثيما ، وإنما لم يذكره إلا عند موته لأن النبي ﷺ لم يأذن له في ذلك لما خشي من تنزيله غير منزلته ، وعلمه معاذاً لأنه من أهله .
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة : قال ابن وهب : وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه على غير وجهه .
وخرج شعبة عن كثير بن مرة الحضرمي أنه قال : إن عليك في عملك حقاً كما أن عليك في مالك حقاً ، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل ، ولا تمنع العلم أهله فتأثم ، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك .
وقد ذكر العلماء هذا المعنى في كتبهم وبسطوه بسطاً شافياً والحمد لله . وإنما نبهنا عليه لأن كثيراً ممن لا يقدر قدر هذا الموضع يزل فيه فيحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم ، وهو على خلاف الشرع ، وما كان عليه سلف هذه الأمة .
ومن ذلك أيضاً جميع ما تقدم في فضل السنة ، التي يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة ، من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة .
ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة ، فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه ولا أن يخص من القرآن شيئاً دون شيء لا في صلاة ولا في غيرها ـ فصار المخصص لها عاملاً برأيه في التعبد لله .
وخرج ابن وضاح عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة : "قل هو الله أحد" لا يقرأ غيرها كما يقرؤها ، فكرهه وقال : إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين ، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا . وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء .
وخرج أيضاً ـ وه في العتبية من سماع ابن القاسم ـ عن مالك رحمه الله أنه سئل على قراءة "قل هو الله أحد" مراراً في الركعة الواحدة فكره ذلك وقال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا .
ومحمل هذا عند ابن رشد من باب الذريعة ، ولأجل ذلك لم يأت مثله عن السلف .
وإن كانت تعدل ثلث القرآن ـ كما في الصحيح ـ وهو صحيح فتأمله في الشرح .
وفي الحديث أيضاً ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل محدث في مشروع الأصل بناء على ما قاله ابن رشد فيه .
ومن ذلك قراءة القرآن بهيئة الاجتماع عشية عرفة في المسجد للدعاء تشبهاً بأهل عرفة ، ونقل الأذان يوم الجمعة من المنار وجعله قدام الإمام . ففي سماع ابن القاسم وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة : أيخطب بهم ؟ قال : نعم ! لا تكون الجمعة إلا بخطبة ، فقيل له : أفيؤذن قدامه ؟ قال : لا ، واحتج على ذلك بفعل أهل المدينة .
قال ابن رشد : الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه لأنه محدث . قال وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك ، وإنما كان رسول الله ﷺ إذا زالت الشمس وخرج فرقى المنبر ، فإذا رآه المؤذن ـ وكانوا ثلاثة ـ قاموا فأذنوا في المشرفة واحداً بعد واحد كما يؤذن في غير الجمعة ، فإذا فرغوا أخذ رسول الله ﷺ في خطبته . ثم تلاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فزاده عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس أذاناً بالزوراء عند زوال الشمس ، ويؤذن الناس فيه بذلك أن الصلاة قد حضرت ، وترك الأذان في المشرفة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه ، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام ، فنقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة ونقل الأذان الذي كان بالمشرفة بين يديه ، وأمرهم أن يؤذنوا صفاً . وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا . قال ابن رشد : وهو بدعة . قال : والذي فعله رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدون بعده هو السنة .
وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه السلام وفعل الخلفاء بعده كما ذكر ابن رشد وكأنه نقله من كتابه ، وذكر قصة هشام . ثم قال : والذي كان فعل رسول الله ﷺ هي السنة . وثد حدثني أسد بن موسى ، عن يحيى بن سليم ، عن حعفر بن محمد بن جابر بن عبيد الله "أن رسول الله ﷺ قال في خطبته :أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة" .
وما قاله ابن حبيب من أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقياً في زمان عثمان رضي الله عنه موافق لما نفله أرباب النقل الصحيح ، وأن عثمان لم يزد على ما كان قبله إلا الأذان على الزوراء ، فصار إذاً نقل هشام الأذان المشروع في المنار إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع .
فإن قيل : فكذلك أذان الزوراء محدث أيضاً ، بل هو محدث من أصله غير منقول من موضعه ، فالذي يقال هنا يقال مثله في أذان هشام ، بل هو أخف منه.
فالجواب : أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله من الإعلام بوقت الصلاة وجعله بذلك الموضع لأنه لم يكن ليسمع إذا وضع بالمسجد كما كان في زمان من قبله ، فصارت كائنة أخرى لم تكن فيما تقدم ، فاجتهد لها كسائر مسائل الاجتهاد ، وحين كان مقصوداً الأذان الإعلام فهو باق كما كان ، فليس وضعه هنالك بمناف ، إذ لم تخترع فيه أقاويل محدثة ، ولا ثبت أن الأذان بالمنار أ وفي سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى ، فهو الملائم من أقسام المناسب ، بخلاف نقله من المنار إلى ما بين يدي الإمام ،فإنه قد أخرج بذلك أولاً عن أصله من الإعلام ، إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة ، وأذان جمع الصلاتين موقوف على محله ، ثم أذانهم على صوت واحد زيادة في الكيفية .
ومن ذلك الأذان والإقامة في العيدين ، فقد نقل ابن عبد البر اتفاق الفقهاء على أن لا أذان ولا إقامة فيهما ، ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل ، وإنما الأذان للمكتوبات ، وعلى هذا مضى عمل الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وجماعة الصحابة رضي الله عنهم ، وعلماء التابعين ، وفقهاء الأمصار ، وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين ـ فيما ذكر ابن حبيب ـ هشام بن عبد الملك أراد أن يؤذن الناس بالأذان بمجيء الإمام ، ثم بدا بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان ، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه . ( قال ) : ولم يرد مروان وهشام إلا الاجتهاد فيما رأيا ، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله ﷺ ( قال ) : وقد حدثني ابن الماجشون أنه سمع مالكاً يقول : من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها ، فقد زعم أن رسول الله ﷺ خان الرسالة ، لأن الله يقول : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً .
وقد روي أن الذي أحدث الأذان معاوية ، وقيل : زياد ، وأن ابن الزبير فعله آخر إمارته ، والناس على خلاف هذا النقل .
ولقائل أن يقول : إن الأذان هنا نظير أذان الزوراء لعثمان رضي الله عنه ، فما تقدم فيه من التوجيه الاجتهادي جار هنا ، ولا يكون بسبب ذلك مخالفاً للسنة ، لأن قصة هشام نازلة لا عهد بها فيما تقدم ، لأن الأذان إعلام بمجيء الإمام لخفاء مجيئه عن الناس لبعدهم عنه ، ثم الإقامة للإعلام بالصلاة ، إذ لولاها لم يعرفوا دخوله في الصلاة فصار ذلك أمراً لا بد منه كأذان الزوراء .
والجواب : أن مجيء الإمام لم يشرع فيه الأذان وإن خفي على بعض الناس لبعده بكثرة الناس ، فكذلك لا يشرع فيما بعد ، لأن العلة كانت موجودة ثم لم تشرع ، إذ لا يصح أن تكون العلة غير مؤثرة في زمان النبي ﷺ والخلفاء بعده ثم تصير مؤثرة ، وأيضاً فإحداث الأذان والإقامة انبنى على إحداث تقديم الخطبة على الصلاة ، وما انبنى على المحدث محدث ، ولأنه لما لم يشرع في النوافل أذان ولا اقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بين النفل والفرض لئلا تكون النوافل كالفرائض في الدعاء إليها ، فكان إحداث الدعاء إلى النوافل لم يصادف محلاً ، وبهذه الأوجه الثلاثة يحصل الفرق بين أذان الزوراء وبين ما نحن فيه ، فلا يصح أن يقاس أحدهما على الآخر ، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة .
ومن نوادرها التي لا ينبغي أن تغفل ما جرى به عمل جملة ممن ينتمي إلى طريقة الصوفية من تربصهم ببعض العبادات أوقاتاً مخصوصة غير ما وقته الشرع فيها ، فيضعون نوعاً من العبادات المشروعة في زمن الربيع ، ونوعاً آخر في زمن الصيف ، ونوعاً آخر في زمن الخريف ، ونوعاً آخر في زمن الشتاء .
وربما وضعوا لأنواع من العبادات لباساً مخصوصاً ، وأشباه ذلك من الأوضاع الفلسفية يضعونها شرعية ، أي متقرباً بها إلى الحضرة الإلهية في زعمهم ، وربما وضعوها على مقاصد غير شرعية ، كأهل التصريف بالأذكار والدعوات ليستجلبوا بها الدنيا من المال والجاه والحظوة ورفعة المنزلة ، بل ليقتلوا بها إن شاؤوا أو يمرضوا ، أو يتصرفوا وفق أغراضهم . فهذه كلها بدع محدثات بعضها أشد من بعض ، لبعد هذه الأغراض عن مقاصد الشريعة الإسلامية الموضوعة مبرأة عن مقاصد المتخرصين ، مطهرة لمن تمسك بها عن أوضار اتباع الهوى ، إذ كل متدين بها عارف بمقاصدها. ينزهها عن أمثال هذه المقاصد الواهية ، فالاستدلال على بطلان دعاويهم فيها من باب شغل الزمان بغير ما هو أولى . وقد تقرر ـ بحول الله ـ في أصل المقاصد من كتاب الموافقات ما يؤخذ منه حكم هذا النمط والبرهان على بطلانه ، لكن على وجه كلي مفيد وبالله التوفيق .
وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعاً ، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة كالأذكار والأدعية بزعم العلماء أنها مبنية على علم الحروف . وهو الذي اعتنى به البوني وغيره ممن حذا حذوه أو قاربه . فإ ن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الأول وهو أرسطاطاليس ، فردوها إلى أوضاع الحروف ، وجعلوها هي الحاكمة في العالم . وربما أشاروا عند العمل بمقتضى تلك الأذكار وما قصد بها إلى تحري الأوقات والأحوال الملائمة لطبائع الكواكب ليحصل التأثير عندهم وحياً ، فحكموا العقول والطبائع ـ كما ترى ـ وتوجهوا شطرها ، وأعرضوا عن رب العقل والطبائع ، وإن ظنوا أنهم يقصدونه اعتقاداً في استدلالهم لصحة ما انتحلوا على وقوع الأمر وفق ما يقصدون ، فإذا توجهوا بالذكر والدعاء المفروض على الغرض المطلوب حصل ، سواء عليهم أنفعاً كان أو ضراً ، وخيراً كان أم شراً ، ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية في إجابة الدعاء . أو حصل نوع من كرامات الأولياء ، كلا ! ليس طريق ذلك التأثير من مرادهم ، ولا كرامات الأولياء أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم ، فلا تلاقي بين الأرض والسماء ، ولا مناسبة بين النار والماء .
فإن قلت : فلم يحصل التأثير حسبما قصدوا؟ فالجواب : إن ذلك في الأصل قبيل الفتنة التي اقتضاها في الخلق "ذلك تقدير العزيز العليم" فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات ، على نحو ما يظهر على المعيون عند الإصابة ، وعلى المسحور عند عمل السحر ، بل هو بالسحر أشبه لاستمدادهما من أصل واحد ، وشاهده ما جاء في الصحيح خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : "قال رسول الله ﷺ : إن الله يقول : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني " ـ وفي بعض الروايات ـ " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" وشرح هذه المعاني لا يليق بما نحن فيه .
والحاصل : أن وضع الأذكار والدعوات ، على نحو ما تقدم من البدع المحدثات ، لكن تارة تكون البدعة فيها إضافية ، بإعتبار أصل المشروعة .
فصل فإن قيل فالبدع الإضافية هل يعتد بها
فإن قيل : فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقرباً بها إلى الله تعالى أم لا تكون كذلك ؟ فإن كان الأول فلا تأثير إذاً لكونها بدعة ، ولا فائدة في ذكره ، إذ لا يخلو من أحد الأمرين : إما أن لا يعتبر بجهة الابتداع في العبادة المفروضة . فتقع مشروعة يثاب عليها ، فتصير جهة الابتداع مغتفرة ، فلا على المبتدع فيها أن يبتدع . وإما أن يعتبر الابتداع ، فقد صار للابتداع أثر في ترتب الثواب ، فلا يصح أن يكون منفياً عنه بإطلاق ، وهو خلاف ما تقرر من عموم الذم فيه . وإن كان الثاني فقد تحدث البدعة الإضافية مع الحقيقية بالتقسيم الذي انبنى عليه الباب الذي نحن في شرحه ولا فائدة فيه .
فالجواب : أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة ، بل ينحاز بها الأصلان ـ أصل السنة وأصل البدعة ـ لكن من وجهين . وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق للذهن أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع . إلا أن هذا النظر لا يتحصل لأنه مجمل .
والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل : لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فلا تخلو أن تصير وصفاً للمشروع غير منفك ، إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أو لا تصير وصفاً ، وإن لم تصر وصفاً فإما فإن أن يكون وضعها إلى أن تصير وصفاً أولاً .
فصل فهذه أربعة أقسام الخ ـ فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل
فهذه أربعة أقسام لا بد من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول الله .
فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر مما تقدم ، إلا إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية ، وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه ، فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه . مثاله الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلاً أو يتمخط أو يمشي خطوات أو يفعل شيئاً ولا يقصد بذا وجهاً راجعاً إلى الصلاة ، وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززاً . فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة ، وهو من جملة العادات الجائزة ، إلا أنه يشترط فيه أيضاً أن لا يكون بحيث يفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملاً أو قصداً ،فإنه إذ ذاك يصير بدعة . وسيأتي بيانه إن شاء الله .
وكذلك أيضاً إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب مما لم يشرع أصلاً ، ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة ولم يقصد فعله لأجل الصلاة ، ولا كان مظنة لأن يفهم منه انضمامه إليها ، فلا يقدح في الصلاة ، وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد . ومثله لو أرادالقيام إلى العبادة ففعل عبادة مشروعة من غير قصد الانضمام ، ولا جعله عرضة لقصد انضمامه ، فتلك العبادتان على أصالتهما، وكقول الرجل عند الذبح أو العتق : اللهم منك وإليك . على غير التزام ولا قصد الانضمام ، وكقراءة القرآن في الطواف لا بقصد الطواف ولا على الالتزام ، فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها فلا حرج فيها .
وعلى ذلك نقول : لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً ، لأنه على الشرط المذكور ، إذ لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد ، كما دعا رسول الله ﷺ دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب ، وكما أنه دعا أيضاً في غير أعقاب الصلوات على هيئة الاجتماع ، لكن في الفرط وفي بعض الأحايين كسائر المستحبات التي لا يتربص بها وقتاً بعينه وكيفية بعينها.
وخرج عن أبي سعيد مولى أسيد ... قال كان عمر رضي الله عنه إذا صلى العشاء أخرج الناس من المسجد ، فتخلف ليلة مع قوم يذكرون الله فأتى عليهم فعرفهم ، فألقى درته وجلس معهم ، فجعل يقول : يا فلان ! ادع الله لنا ، يا فلان ادع الله لنا ، حتى صار الدعاء إلى غير ( ؟ )فكانوا يقولون : عمر فظ غليظ ،فلم أر أحداً من الناس تلك الساعة أرق من عمر رضي الله عنه لا ثكلى ولا أحداً .
وعنسلم العلوي قال : قال رجل لأنس رضي الله عنه يوماً : يا أبا حمزة ! لو دعوت لنا بدعوات ...فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ـقال ـ فأعادها مراراً ثلاثاً . فقال يا أبا حمزة ! لو دعوت ...فقال مثل ذلك لا يزيد عليه . فإذا كان الأمر على هذا فلا إنكار فيه ، حتى إذا دخل فيه أمر زائد صار بتلك الزيادة مخالفاً للسنة ، فقد جاء في دعاء الإنسان لغيره الكراهية عن السلف ، لا على حكم الأصالة بل بسبب ما ينضم إليه من الأمور المخرجة عن الأصل . ولنذكره هنا لاجتماع أطراف المسألة في التشبيه على الدعاء بهيئة الاجتماع بآثار الصلوات في الجماعات دائماً .
فخرج الطبري عن مدرك بن عمران ، قال : كتب رجل إلى عمر رضي الله عنه : فادع الله لي . فكتب إليه عمر : إني لست بنبي ، ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك . فإباية عمر رضي الله عنه في هذا الموضع ليس من جهة أصل الدعاء ، ولكن من جهة أخرى ، وإلا تعارض كلامه مع ما تقدم فكأنه فهم من السائل أمراً زائداً على الدعاء فلذلك قال : لست بنبي . وبذلك على هذا ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه لما قدم الشام أتاه رجل فقال : استغفر لي . فقال : غفر لك . ثم أتاه آخر فقال : استغفر لي . فقال : لا غفر الله لك ولا لذاك ، أنبي أنا ؟ فهذا أوضح في أنه فهم من السائل أمراً زائداً ،وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النبي ، أو أنه وسيلة إلى أن يعتقد ذلك ، أو يعتقد أنه سنة تلزم ، أو يجري في الناس مجرى السنن الملتزمة .
ونحوه عن زيد بن وهب أن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه : استغفر لي . فقال : لا غفر الله لك . ثم قال : هذا يذهب إلى نسائه فيقول استغفر لي حذيفة أترضين أن أدعو الله أن تكن مثل حذيفة ؟ فدل هذا على أنه وقع في قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حتى يخرج عن أصله ، لقوله بعد ما دعا على الرجل : هذا يذهب إلى نسائه فيقول كذا . أي فيأتي نساؤه لمثلها ، ويشتهر الأمر حتى يتخذ سنة ، ويعتقد في حذيفة ما لا يحبه هو لنفسه ، وذلك يخرج المشروع عن كونه مشروعاً ، ويؤدي إلى التشيع واعتقاد أكثر مما يحتاج إليه .
وقد تبين هذا المعنى بحديث رواه ابن علية عن ابن عون ، قال : جاء رجل إلى إبراهيم . فقال : يا أبا عمران ! دع الله أن يشفيني . فكره ذلك إبراهيم وقطب وقال : جاء رجل إلى حذيفة فقال : ادع الله أن يغفر لي . فقال : لا غفر الله لك . فتنحى الرجل فجلس ،فلما كان بعد ذلك ، قال : فأدخلك الله مدخل حذيفة أقد رضيت ؟ الآن يأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصر شأنه. ثم ذكر إبراهيم السنة فرغب فيها وذكر ما أحدث الناس فكرهه .
وروى منصور عن إبراهيم قال : كانوا يجتمعون فيتذاكرون فلا يقول بعضهم لبعض : استغفر لنا .
فتأملوا يا أولي الألباب ما ذكره من هذه الأصنام المنضمة إلى الدعاء ، حتى كرهوا الدعاء إذا انضم إليه ما لم يكن عليه سلف الأمة ، فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون في دعائنا بآثار الصلاة ، بل في كثير من المواطن ، وانظروا إلى اسبتارة ( ؟ ) إبراهيم ترغيبه في السنة وكراهيته ما أحدث الناس ، بعد تقرير ما تقدم .
وهذه الآثار من تخريج الطبري في تهذيب الآثار له ، وعلى هذا ينبني ما خرجه ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن ناساً من أهل الكوفة يقرأون عليك السلام ويأمرونك أن تدعو لهم وتوصيهم ، فقال : اقرأوا عليهم السلام ومرورهم أن يعطوا القرآن حقه ، فإنه يحملهم ، أو يأخذ بهم على القصد والسهولة ، ويجنبهم الجور والحزونة ، ولم يذكر أنه دعا لهم .
فصل وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل أو غيره كالوصف للعمل المشروع
وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع . ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه الصلاة والسلام :
"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره عليه الصلاة والسلام ، فهو إذاً رد ، كصلاة الفرض مثلاً إذا صلاها القادر الصحيح قاعداً أو سبح في موضع القراءة ، أو قرأ التسبيح ، وما أشبه ذلك .
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد الصبح ، وبعد العصر ، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ، فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهي ، حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلاً تحت النهي ، فباشر النهي الصلاة لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص ،كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض ، فلا تصلى الظهر قبل الزوال ، ولا المغرب قبل الغروب .
ونهى عليه الصلاة والسلام عن صيام الفطر والأضحى ، والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج . فكل من تعبد لله تعالى بشيء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية ، فلا جهة لها إلى المشروع بل غلبت عليها جهة الابتداع ،فلا ثواب فيها على ذلك التقدير ، فلو فرضنا قائلاً يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية ، أو صحة الصوم الواقع يوم العيد ، فعلى فرض أن النهي راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف بل الأمر منفك منفرد ـ حسبما تبين بحول الله .
ويدخل في هذا القسم ما جرى به العمل في بعض الناس كالذي حكى القرافي عن العجم في اعتقاده كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات ، فإن قراءة سورة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة ، فصارت السجدة إذاً وصفا لازماً وجزءاً من صلاة صبح الجمعة ، فوجب أن تبطل .
وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تجري العبادات المشروعة إذا خصت بأزمان مخصوصة بالرأي المجرد ، من حيث فهمنا تلبساً بالأعمال على الجملة ، فصيروا ذلك الزائد وصفاً فيه مخرج له عن أصله ، وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته .
وذلك لأنا نقول : إن الصفة هي عين الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقةً أو اعتباراً ، ولو فرضنا ارتفاعها عنه لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها ، كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو الضاحك ، فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة صار المجموع منهما غير مشروع ، فارتفع اعتبار المشروع الأصلي .
ومن أمثلة ذلك أيضاً قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد ، فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة ، وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا وربما لطف اعتبار الصفة فيشك في بطلان المشروعية ، كما وقع في العتبية عن مالك في مسألة الاعتماد في الصلاة لا يحرك رجليه ، وأن أول من أحدثه رجل قد عرف ـ قال ـ وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) فقيل له : أفعيب ؟ قال : قد عيب عليه ذلك ، وهذا مكروه من الفعل ، ولم يذكر فيها أن الصلاة باطلة وذلك لضعف وصف الاعتماد أن يؤثر في الصلاة ، ولطفه بالنسبة إلى كمال هيئتها ، وهكذا ينبغي أن يكون النظر في المسألة بالنسبة إلى اتصاف العمل بما يؤثر فيه أو لا يؤثر فيه ، فإذا غلب الوصف على العمل كان أقرب إلى الفساد ، وإذا لم يغلب لم يكن أقرب وبقي في حكم النظر ، فيدخل ها هنا نظر الاحتياط للعبادة إذا صار العمل في الاعتبار من المتشابهات .
واعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفاً لها أو كالوصف ، فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما القصد ، وإما بالعادة ، وإما بالشرع أو النقصان .
أما بالعادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان ، فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً ، إذ هما كالمتضادين عادة ، وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشراً وهللوا عشراً : فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد ﷺ أو أضل بل هذه ( يعني أضل) ، وفي رواية عنه أن رجلاً كان يجمع الناس فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله ـ قال ـ فيقول القوم ، ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله ـ قال ـ فيقول القوم ـ قال ـ فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال لهم : هديتم لما لم يهد نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة .
وذكر له أن ناساً بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد ، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوماً من حصى ـ قال ـ فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ، ويقول : لقد أحدثتم بدعة وظلماً ، وقد فضلتم أصحاب محمد ﷺ علماً ؟ فهذه أمور أخرجت الذكر المشروع كالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة ، أوالصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها ، فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها ، والمنهي عنه لا يكون متعبداً به وكذلك صيام يوم العيد .
وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أبي عباس ، قال : لقيت طلحة بن عبيد الله الخزاعي ، فقلت له : قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين ، يجتمعون في بيت هذا يوماً وفي بيت هذا يوماً ، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونها ، فقال طلحة : بدعة من أشد البدع ، والله لهم أشد تعظيماً للنيروز والمهرجان من عبادتهم . ثم استيقظ أنس بن مالك رضي الله عنه فرقيت إليه وسألته كما سألت طلحة ، فرد علي مثل قول طلحة ،كأنهما كان على ميعاد . فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه المجوس وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة فكذلك ما كان نحوه .
وعن يونس بن عبيد أن رجلاً قال للـ حسن : يا أبا سعيد ! ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوماً ، وفي بيت هذا يوماً ، فنقرأ كتاب الله وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ قال : فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي .
والنقل في هذا المعنى كثير ، فلو لم يبلغ العمل الزائد ذلك المبلغ كان أخف . وانفرد العمل بحكمه ، والعمل المشروع بحكمه ، كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن أبي بكرة ، قال : كنت جالساً عند الأسود بن سريع ، وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع ، فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ : (وكبره تكبيراً) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوساً ، فجاء مجالد بن مسعود متوكئاً على عصاه ، فلما رآه القوم قالوا : مرحباً اجلس ، قال : ما كنت لأجلس إليكم ، وإن كان مجلسكم حسناً ، ولكنكم صنعتم قبلي شيئاً أنكره المسلمون ، فإياكم وما أنكر المسلمون ، فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن ، وأما رفع الصوت فكان خارجاً عن ذلك ، فلم ينضم إلى العمل الحسن ، حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع .
ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعاً فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك ، وأنكر أن يكون من عمل الناس .
وسئل ابن القاسم أيضاً عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ، ونهى عنها ورآها بدعة .
وقال في رواية أخرى عن مالك : وسئل عن القراءة بالمسجد ، فقال : لم يكن بالأمر القديم ، وإنما هو شيء أحدث ، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، والقرآن حسن .
قال ابن رشد : يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله ما يجامع قرطبة إثر صلاة الصبح . ( قال ) : فرأى ذلك بدعة .
فقوله في الرواية : والقرآن حسن يحتمل أن يقال : إنه يعني أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن ، ويحتمل ـ وهو الظاهر ـ أنه يقول : قراءة حسن على غير ذلك الوجه بدليل قوله في موضع آخر : ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد ، لا في الأسواق والطرق ، فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي يقرؤه السلف ، وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده فلا تفعل أصلاً وتحرز بقوله : والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقاً ، فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة والله أعلم .
فصل وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة
وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أوجزء منها ، فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع ، وهو إن كان في الجملة متفقاً عليه ، ففيه في التفصيل نزاع بين العلماء ، إذ ليس كل ما هو ذريعة إلى ممنوع يمنع ، بدليل الخلاف الواقع في بيوع الآجال ، وما كان نحوها ، غير أن أبا بكر الطرطوشي يحكي الاتفاق في هذا النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سداً للذريعة ، وإذا ثبت الخلاف في بعض التفاصيل لم ينكر أن يقول به قائل في بعض ما نحن فيه ، ولنمثله أولاً ثم نتكلم حكمه بحول الله .
فمن ذلك .
ما جاء في حديث من : نهي رسول الله ﷺ أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين . ووجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك من جملة رمضان .
ومنه ما ثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يقصر في السفر ، فيقال له : ألست قصرت مع النبي ﷺ ؟ فيقول : بلى ! ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين ، فيقول : هكذا فرضت ، فالقصر في السفر سنة أو واجب ، ومع ذلك تركه خوف أن يتذرع به لأمر حادث في الدين غير مشروع .
ومنه قصة عمر رضي الله عنه في غسله من الاحتلام حتى أسفر ، وقوله لمن راجعه في ذلك ، وأن يأخذ من أثوابهم ما يصلي به ، ثم يغسل ثوبه على السعة : لو فعلته لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت ، وأنصح ما لم أر .
وقال حذيفة بن أسيد : شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة .
ونحو ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة .
وكثير من هذا عن السلف الصالح .
وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال ، وواقفه أبو حنيفة فقال : لا أستحبها ، مع ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح ، وأخبر مالك عن غيره ممن يقتدى به أنهم كانوا لا يصومونها ويخافون بدعتها .
ومنه ما تقدم في اتباع الآثار كمجيء قبا ونحو ذلك .
وبالجملة ، فكل عمل أصله ثابت شرعاً إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة ، فتركه مطلوب في الجملة أيضاً ، من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة ، وكره غسل اليد قبل الطعام ، وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف .
ولنرجع إلى ما كنا فيه ، فاعلموا أنه إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص مما يتضمنه هذا الباب ، فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره ، ومن ذهب إلى سدها ـ ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ـ فلا شك أن ذلك العمل ممنوع ، ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه ، وموجب للذم إلا أن يذهب إلى أن النهي فيه راجع إلى أمر مجاور ، فهو محل نظر واشتباه ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين ، بحيث يصح أن يكون العمل مأموراً به من جهة نفسه ، ومنهياً عنه من جهة مآله . ولنا فيه مسلكان :
أحدهما : التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة كقوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا" وقوله تعالى : "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام :
"نهى عن أن يجمع بين المتفرق ، ويفرق المجتمع ، خشية الصدقة ".
و" نهى عن بيع السلف " وعلله العلماء بالربا المتذرع إليه في ضمن السلف . ونهى عن الخلوة بالأجنبيات ، وعن سفر المرأة مع غير ذي محرم ، وأمر النساء بالاحتجاب عن أبصار الرجال ، والرجال بغض الابصار ، إلى أشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهي بالتذرع لا بغيره.
والنهي أصله أن يقع على المنهي عنه وإن كان معللاً ، وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل ، فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل ، فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة ، إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها ، فالعامل بها عامل بغير مشروع ، فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعاً بها .
لا يقال : إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة ، وإن الذي نهي عنه غير الذي أمربه ، وانفكاكهما متصور . لأنا نقول : قد تقرر أن المجاور إذا صار كالوصف اللازم انتهض النهي عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده ، وهو مبين في القسم الثاني .
المسلك الثاني : ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه ، ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله ﷺ :
"من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله ! وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه " ، فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه ، حتى ترجمه عنها بقوله : "أن يسب الرجل والديه" ولم يقل : أن يسب الرجل والديه ، أو نحو ذلك . وهو غاية معنى ما نحن فيه .
ومثله حديث عائشة رضي الله عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه ، وقولها : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ أن لم يبت ، وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له ، لا مما فعله كبيرة حتى ترغب آخراً بالآية : "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف " .
وهي نازلة في غير العمل بالربا ، فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل بالربا ، مع أنا نقطع أن زيد بن أرقم وأم ولده لم يقصدوا قصد الربا ، كما لا يمكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب .
وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ثبت في الجميع ، إذ لا فرق فيما لم يدع مما لم ينص عليه ، إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه . فلا عبادة أو مباحاً يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز إلا وهو غير عبادة ولا مباح .
لكن هذا القسم إنما يكون النهي بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهي ، إن كانت البدعة من قبيل الكبائر ، فالوسيلة كذلك ، أو من قبيل الصغائر فهي كذلك ، والكلام في هذه المسألة يتسع ، ولكن هذه الإشارة كافية فيها ، وبالله التوفيق .