☰ جدول المحتويات
- الباب الثامن : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان
- المثال الثاني :اتفاق أًصحاب رسول الله ﷺ على حد شارب الخمر
- المثال الثالث : إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع
- المثال الرابع :أن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم
- المثال الخامس : إنا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود
- المثال السادس :أن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال
- المثال السابع : أنه إذا طبق الحرام الأرض
- المثال الثامن : أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد
- المثال التاسع : أن العلماء نقلوا الإتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقدإلا لمن نال رتبة الإجتهاد
- المثال العاشر : أن الغزالي قال ببيعة المفضول مع وجود الأفضل
- فصل فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة
- فصل :وأما الإستحسان فلأن لأهل البدع أيضاً تعلقاً به
- فصل : فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به
- فصل : فإن قيل : أفليس في الأحاديث
- فصل ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال
الباب الثامن : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان
هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيراً من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً ، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات . وقم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ، فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب ، وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضام على قارىء واحد .
وأيضاً ، فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين ، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ، ولا كونه قياساً بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول . وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة ، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص
وإذا ثبت هذا ، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقاً ، فاعتبار البدع المستحسنة حق ، لأنهما يجريان من واد واحد . وإن لم يكن اعتبار البدع حقاً ، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة .
وأيضاً ، فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقاً عليه ، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال . فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده ، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل . وذهب مالك إلى اعتبار ذلك ، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق ، وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح ، لكن يشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني .
وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين ، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله ، لكن بشرط ، قال : ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد . واختلف قوله في الرتبة المتوسطة ، وهي رتبة الحاجي ، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه ، وقبله في شفاء العليل كما قل ما قبله . وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله ، فالأقوال خمسة ، فإذاً الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاجتماع لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها ، لإجتماعهم عليها .
وكذلك القول في الاستحسان ، فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل ، والنافي له لا يعد الاستحسان سبباً فلا يعتبر في الأحكام البتة ، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها .
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم ، لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء ، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر ، بحول الله ، والله الموفق فنقول :
المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله ، فلا إشكال في صحته ، ولا خلاف في أعماله ، وإلا كان مناقضة للشريعة ، كشريعة القصاص حفظاً للنفوس والأطراف وغيرها .
والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله ، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها ، وإنما ذلك مذهب أهل التسحين العقلي ، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ، فحينئذ نقبله ، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال ، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى ، بل يرده ، كان مردوداً باتفاق المسلمين .
ومثال ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان ، فقال : عليك صيام شهرين متتابعين . فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على اعتاق الرقبة كيف يعدل له إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين ، وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين ؟ فقال لهم : لو قلت له عليك إعتاق رقبة لا ستحقر ذلك وأعتق عبيداً مراراً ، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين .
فهذا المعنى مناسب ، لأن الكفارة ، مقصود الشرع منها الزجر ، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام . وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير ، وقائل بالترتيب ، فيقدم العتق على الصيام ، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به ، على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ، لكنه على صريح الفقه .
قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة . فسأل مالكاً .فقال : صيام ثلاثة أيام . واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة .
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به ، فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان ، فأفتوا بالإطعام ، و إسحاق بن إبرهيم ساكت . فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه ؟ فقال له : لا أقول بقولهم ، وأقول بالصيام . فقيل له : أليس مذهبمالك الإطعام ؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك ، إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر بالإطعام لمن له مال ، وأمير المؤمنين لا مال له ، إنما هو مال بيت المسلمين ، فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه .ا هـ . وهذا صحيح .
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان ، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته . فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين . فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده ، فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام ؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود .
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله ، وكان كلامه على ظاهره ، كان مخالفاً للإجماع .
والثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة ، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه . فهذا على وجهين :
أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى ، كتعليل منع القتل للميراث ، فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه ، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر ، فلا يصح التعليل بها ، ولا بناء الحكم عليها باتفاق ، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله .
والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع ، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ، وهو الاستدلال المرسل ، المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله .
ولنقتصر على عشرة أمثلة :
ولنقتصر على عشر أمثلة للمصالح المرسلة أحدها :أن أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على جمع المصحف
أن أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على جمع المصحف ، وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضاً ، بل قد قال بعضهم : كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ ؟ فروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ارسل إلي أبو بكر رضي الله عنه [ بعد ] مقتل ( أهل ) اليمامة ، وإذا عنده عمر رضي الله عنه قال أبو بكر : ( إن عمر أتاني فقال ): إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . قال : فقلت له : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ ؟ فقال لي : هو ـ والله ـ خير .
فلم يزل عمر يراجعني في لذك حتى شرح الله صدري له ، ورأيت فيه الذي رأى عمر .
قال زيد فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ ، فتتبع القرآن فاجمعه . قال زيد : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك . فقلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدريهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاق والعسب واللخاف ، ومن صدور الرجال ، فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة .
ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان ، فأفزعه اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة : أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك ، فأرسلت حفصة بها إلى عثمان ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وغلى عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ، ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه نزل بلسانهم .
قال : ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
فهذا أيضاً إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل منها في الغالب اختلاف . لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات ـ حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن ـ فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان ، وقال : يا أهل العراق ! ويا أهل الكوفة : اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله يقول : "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" وألقوا إليه بالمصاحف ، فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه ، وإنما خالف أمراً آخر . ومع ذلك فقد قال ابن هشام : بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله ﷺ .
ولم يرد نص عن النبي ﷺ بما صنعوا من ذلك ، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً ، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة ، والأمر بحفظها معلوم ، وإلى منع الذريعة للإختلاف في أصلها الذي هو القرآن ، وقد علم النهي عن الإختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه .
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها ، إذا خيف عليها الاندراس ، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم .
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل ، لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلاً جداً إلا من النقل الجلي كما نقل ابن وضاح ، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ، ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي ، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه ، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين ، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه ، فأخذت نفسي بالعناء فيه ، عسى أن ينتفع به واضعه ، وقارئه ، وناشره ، وكاتبه ، والمنتفع به ، وجميع المسلمين ، إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته .
المثال الثاني :اتفاق أًصحاب رسول الله ﷺ على حد شارب الخمر
اتفاق أًصحاب رسول الله ﷺ على حد شارب الخمر ثمانين ، وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل ، قال العلماء : لم يكن فيه في زمان رسول الله ﷺ حد مقدر ، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير ، ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرره على طريق النظر بأربعين ، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم ، فقال علي رضي الله عنه :من سكر هذى ومن هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري .
ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات ، والمظنة مقام الحكمة ، فقد جعل الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال ، وجعل الحافر للبئر ، في محل العدوان وإن لم يكن ثم مرد كالمردي نفسه ، وحرم الخلوة بالأجنبية حذراً من الذريعة إلى الفساد ، إلى غير ذلك من الفساد ، فرأوا الشرب ذريعة إلى الإفتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان ، فإنه أول سابق إلى السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها ( يعني على الخصوص به ) وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم .
المثال الثالث : إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع
إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع . قال علي رضي الله عنه : لا يصلح الناس إلا ذاك ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع ، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال ، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين : إما ترك الاستصناع بالكلية ، وذلك شاق على الخلق ، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ضلك بدعواهم الهلاك والضياع ، فتضيع الأموال ، ويقل الاحتراز ، وتتطرق الخيانة ، فكانت المصلحة التضمين .
هذا معنى قوله : لا يصلح الناس إلا ذاك .
ولا يقال : إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء . إذ لعله ما أفسده ، ولا فرط ، فالتضمين مع ذلك كان نوعاً من الفساد . لأنا نقول : إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد ، والغالب الفوت فوت الأموال ، وأنها لا تستند إلى التلف السماوي ، بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة أو التفريط .
وفي الحديث :
"لا ضرر ولا ضرار" تشهد له الأصول من حيث الجملة ، فإن النبي ﷺ نهى عن أن يبيع حاضر لباد ، وقال :
"دع الناس يرزف الله بعضهم من بعض" وقال : "لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق" وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، فتضمين الصناع من ذلك القبيل .
المثال الرابع :أن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم
إن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم . وذهب مالك إلى جواز السجن في التهم ، وإن كان السجن نوعاً من العذاب ، ونص أصحابه على جواز الضرب ، وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع ، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب ، إذ قد يتعذر إقامة البينة ، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار .
فإن قيل : هذا فتح باب التعذيب البريء قيل : ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال . بل الإضراب عن التعذيب أشد ضرراً ، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى ، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس ، وتؤثر في القلب نوعاً من الظن . فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء ، وإن أمكن مصادفته فتغتفر ، كما اغتفرت في تضمين الصناع .
فإن قيل : لا فائدة في الضرب ، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال فالجواب :
إحداهما : أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه ، وهي فائدة ظاهرة .
والثانية : أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام . فتقل أنواع هذا الفساد .
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو الإقرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال . قالوا : وهو ضعيف . فقد قال الله تعالى : "لا إكراه في الدين " ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته ، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به . فالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخؤذ به ، وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به .
قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي : أنه لا يقول بذلك ، وعلى الجملة فالمسألة في محل الإجتهاد ـ قال ـ ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع . فإذا وقع النظر في تعارض المصالح ، كان ذلك قريباً من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة .
المثال الخامس : إنا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود
إنا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار ، وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم ، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال ، إلى أن يظهر مال بيت المال ، ثم إليه النظر في توظيف وذلك على الغلات والثمار وغير ذلك ، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب ، وذلك يقع قليلاً من كثير بحيث لا يحجف بأحد ولا يحصل المقصود .
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا ، فإن القضية فيه أحرى ، ووجه المصلحة هنا ظاهر ، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلب شوكة الإمام ، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار .
وإنما النظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله .فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة ، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها ، فضلاً عن اليسير منها ، فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم يأخذ البعض من أموالهم ، فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول . وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد .
والملائمة الأخرى ، أن الأب في طفله ، أن الوصي في يتيمه ، أو الكافل فيمن يكفله ، مأمور برعاية الأصلح له ، وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤن المحتاج إليها . وكل ما يراه سبباً لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله . ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل ، ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره .
ولو وطىء الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة ، وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة ، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة ، زيادة إلى إنفاق المال . وليس ذلك إلا لحماية الدين ، ومصلحة المسلمين .
فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الكفار الذين يخاف من جهتهم ، فلا يؤمن من انفتاح باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت ، وتوقع الفساد عتيد ، فلا بد من الحراس .
فإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم ، فلا يؤمن من انفتاج باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت ، وتوقع الفساد عتيد ، فلا بد من الحراس .
فهذه ملائمة صحيحة ، إلا أنها في محل ضرورة ، فتقدر بقدرها ، فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها . والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجي ، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحديث لا يغني كبير شيء ، فلا بد من جريان حكم التوظيف .
وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه ، وتلاه في صحيحها ابن العربي في أحكام القرآن له ، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام ، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع .
المثال السادس :أن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال
إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك حسبما ذكره الغزالي . على أن الطحاوي حكى ،أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه .
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ، ولا يلائم تصرفات الشرع ، مع هذه العقوبة الخاصة لم تتعين ، لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما ـ قال ـ فإن قيل : فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد ين الوليد في ماله ، حتى أخذ رسوله فرد نعله وشطر عمامته . قلنا : المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع ، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية وإحاطته بتوسعته ، فلعله ضمن المال فرآى شطر ماله من فوائد الولاية فيكون استرجاعاً للحق لا عقوبة في المال ، لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع . هذا ما قال . ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا ، ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال كما قال الغزالي .
وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان :
أحدهما : كما صوره الغزالي ، فلا مرية في أنه غير صحيح ، على أن ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك ، فقال : في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال . أنها على الطالب ، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه . ومال إليه ابن رشد . ورده عليه ابن النجار القرطبي ، وقال : إن ذلك من باب العقوبة في المال ، وذلك لا يجوز على حال .
والثاني : أن تكون جناية في نفس ذلك المال أو في عوضه ، فالعقوبة فيه عنده ثابتة . فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه : إنه يتصدق به على المساكين ، قل أو كثر .
وذهب ابن القاسم و مطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر ، وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء ، ووجه ذلك التأديب للغاش . وهذا التأديب لا نص يشهد له لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة . وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع .
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلاً شرعياً ، وذلك :
أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم .
وحديث العتق بالمثلة أيضاً من ذلك .
ومن مسائل مالك في المسألة : إذا اشترى مسلم من نصراني خمراً فإنه يكسر على المسلم ، ويتصدق بالثمن أدباً للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه . وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه ، وهو كله من العقوبة في المال ، إلا أن وجهة ما تقدم .
المثال السابع : أنه إذا طبق الحرام الأرض
أنه لو طبق الحرام الأرض ، أو ناحية من الأرض يعسر الانتقال منها وانسدت طرق المكاسب الطيبة ، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة ، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن ، إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال ، ولم يزال الناس في مقاسات ذلك إلى أن يهلكوا ، وفي ذلك خراب الدين . ولكنه لا ينتهي إلى الترفه والتنعم ، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة .
وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه ، فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر ، والدم ولحم الخنزير ، وغير ذلك من الخبائث المحرمات .
وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة ، وإنما اختلفوا إذا لم تتوال . هل يجوز له الشبع أم لا ؟ وايضاً فقد أجاوزا أخذ مال الغير عند الضرورة أيضاً . فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك .
وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطاً شافياً جداً ، وذكرها في كتبه الأصولية كـ المنخول و شفاء العليل.
المثال الثامن : أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد
أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد . والمستند فيه المصلحة المرسلة ، إذ لا نص على عين المسألة ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو مذهب مالك و الشافعي . ووجه المصلحة أن القتيل معصوم ، وقد قتل عمداً ، فإهداره داع أنه إلى خرم أصل القصاص ، واتخاذ الإستعانة والإشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه ، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقاً ، والمشترك ليس بقاتل تحقيقاً .
فإن قيل : هذا أمر بديع في الشرع وهو قتل غير القاتل : قلنا : ليس كذلك ، بل لم يقتل إلا القاتل ، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك و الشافعي ، فهو مضاف إليهم تحقيقاً إضافته إلى الشخص الواحد ، وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد ، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعاً مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء ، وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة ، وقطع الأيدي في النصاب الواجب .
المثال التاسع : أن العلماء نقلوا الإتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقدإلا لمن نال رتبة الإجتهاد
إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الإجتهاد والفتوى في علوم الشرع ، كما أنهم اتفقوا أيضاً ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاة بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الإجتهاد . وهذا صحيح على الجملة ، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس ، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين ، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم ، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد ، لأنا بين أمرين ، إما أن يترك الناس فوضى ، وهو عين الفساد والهرج . وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ، ولا يبقى إلا فوت الإجتهاد ، والتقليد كاف بحسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة ، وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملائمته إلى شاهد .
هذا ، وإن كان ظاهره مخالفاً ، لما نقلوا من الإجماع في الحقيقة ، إنما انعقد على فرض أن لا يخلو الزمان من مجتهد ، فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه ، فصح الإعتماد فيه على المصلحة .
المثال العاشر : أن الغزالي قال ببيعة المفضول مع وجود الأفضل
إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل : إن رددنا في مبدأ التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها ، فيتعين تقديم المجتهد . لأن اتباع الناظر علم نفسه . له مزية على اتباع علم غيره . فالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها .
أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد المنفك عن رتبة الإجتهاد ، وقامت له الشوكة ، وأذعنت له الرقاب ، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع الشرائط ، وجب الإستمرار .
وإن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية ، وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضه لإثارة فتن واضطراب أمور ، لم يجز لهم خلعه والإستبدال به ، بل تجب عليهم الطاعة له ، والحكم بنفوذ ولايته ، وصحة إمامته ، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت الإمامة تحصيلاً لمزيد المصلحة في الإستقلال بالنظر والإستغناء عن التقليد ، وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئه الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة ، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة ، وتشويش النظام ، وتفويت أصل المصلحة في الحال ؟ تشوفاً إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد .
قال : وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد ، بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه والإستبدال به ، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة .
هذا ما قال ، وهو متجه بحسب النظر المصلحي ، وهو ملائم لتصرفات الشرع ، وإن لم يعضده نص على التعيين .
وما قرره هو أصل مذهب مالك : قيل ليحيى بن يحيى : البيعة مكروهة ؟ قال : لا . قيل له : فإن كانوا أئمة جور؟ فقال : قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان ، وبالسيف أخذ الملك . أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه .
قال يحيى : والبيعة خير من الفرقة .
قال : ولقد أتى مالكاً العمري فقال له : يا أبا عبد الله ، بايعني أهل الحرمين ، وأنت ترى سيرة أبي جعفر ، فما ترى ؟ فقال له مالك : أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلاً صالحاً ؟ فقال العمري : لا أدري ، قال مالك لكني أنا أدري ، إنما كانت البيعة ليزيد بعده ، فخاف عمر إن ولى رجلاً صالحاً أن يكون ليزيد بد من القيام ، فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح ، فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك .
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح ، فالمصلحة في الترك .
وروى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده ، فقال : إني سمعت رسول الله ﷺ يقول :
" ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة " وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه .
قال ابن العربي : وقد قال ابن الخياط : إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرهاً ، وأين يزيد من من ابن عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى . فخلع يزيد لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه تعرض للفتنة ، فكيف ولا يعلم ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء الله .
فصل فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة
فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة ، وتبين لك اعتبار أمور :
أحدها : الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله .
والثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول ، فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل ، كالوضوء والصلاة في زمان مخصوص دون غيره ، والحج ، ونحو ذلك .
فيتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المخص المنافي للمناسبات التفصيلية .
ألا ترى أن الطهارات ـ على اختلاف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جداً لما يظهر لبادي الرأي ؟ فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ، ودون جميع الجسد ، فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون المخرج فقط ،ودون أعضاء الوضوء .
ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء ، وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والأدران ، إذا فرض أنه لم يحدث .
ثم التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف .
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها ، لاستواء الأوقات في ذلك .
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضاً ، ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات ، وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس ، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ، ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد ، فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر ، أو أربع كالظهر ، فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة ، وإذا قرأ آية سجدة سجد واحدة دون اثنتين .
ثم أمر بصلاة النوافل ونهى عن الصلاة في أوقات مخصوصة ، وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى .
ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء ، دون صلاة الليل ورواتب النوافل .
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولاً ، فإنه غير مكلف ، ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد ، والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد .
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيراً كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات ، دون الملبوسات والمركوبات ، والنظر والمشي والكلام ، وأشباه ذلك ، وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراج ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد ، وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع ، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس ، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل . ثم الحج أكثر تعبداً من الجميع .
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا ( ؟ ) إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته ، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة ، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه ، وسواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد ، أم لم نقله : اللهم إلا قليلاً من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه ، والمسكوت عنه ، فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، فهو العروة الوثقى للمتفقه في لاشريعة والوزر الأحمى .
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه : كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله ﷺ ، فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا بطريق من كان قبلكم ونحوه لابن مسعود أيضاً ، وقد تقدم من ذلك كثير .
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي ، وقوفاً مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ، ورفع الأحداث ، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره ، حتى اشترط في رفع الأحداث النية ، ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق ، وامتنع من إقامة التكبير والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد ، وما أشبه ذلك .
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات وندوره ، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول ، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية ، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلاً من أصوله ، حتى لقد استشنع العلماء كثيراً من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة ، وفتح باب التشريع ، وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحمه الله ، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع ، بحيث يخيل لبعض أنه مقلد لمن قبله ، بل هو صاحب البصيرة في دين الله ـ حسبما بين أصحابه في كتاب سيره ـ .
بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال : إذا رأيت الرجل يبغض مالكاً فاعلم أنه مبتدع ، وهذه غاية في الشهادة بالاتباع .
وقال أبو داود : أخشى عليه البدعة ( يعني المبغض لـ مالك ) .
وقال ابن المهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة ، وإذا رأيت أحداً يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة .
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام : ما سمعت ابا داود لعن أحداً قط إلا رجلين : أحدهما : رجل ذكر له أنه لعن مالكاً ، والآخر : بشر المريسي .
وعلى الجملة فغير مالك أيضاً موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل ، فالأصل متفق عليه عند الأمة ، ما عدا الظاهرية ، فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات ، بل الكل غير معقول المعنى ، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلاً عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة .
والثالث : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ، ورفع حرج لازم في الدين ، وأيضاً مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به ... فهي إذاً من الوسائل لا من المقاصد ، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد .
أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة .
وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم ، وهو إما لاحق بالضروري ، وإما من الحاجي ، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة ، فإن جاء من ذلك شيء : فإما من باب آخر منها ، كقيام رمضان في المساجد جماعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح ـ كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة ـ وهو من قبيل ما يلائم .
وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل و ما لا يتم الواجب إلا به إن نص على اشتراطه ، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب ، لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه .
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ، فلا يلزم أن يكون شرعياً ، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ، فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطرداً لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل .
وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضاً ، وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج ، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف ، والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضاً .
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل . وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق .
وأيضاً ، فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع . بل إنما تتصور على أحد وجهين : إما منقاضة لمقصوده ـ كما تقدم في مسألة المفتي بصيام شهرين متتابعين ـ وإما مسكوتاً عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به .
وقد تقدم نقل الإجماع على اطراح القسمين وعدم اعتبارهما . ولا يقال : إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه . إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة . ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه ، إن قيل بذلك ، فهي تفارقها . إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها ، لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به بخلاف العادات ، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة . وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى . وقد أشير إلى هذا المعنى في كتابالموافقات وإلى هذا .
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف ، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات ، لأن البدع من باب الوسائل . لأنها متعبد بها بالفرض . ولأنها زيادة في التكليف وهو مضادة للتخفيف .
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء . وحسبك به متعلقاً . والله الموفق .
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئاً من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده . والزيادة عليه بدعة ، كما أن النقصان منه بدعة . وقد مر لهما أمثلة كثيرة وسيأتي أخيراً في إثناء الكتاب بحول الله .
فصل :وأما الإستحسان فلأن لأهل البدع أيضاً تعلقاً به
وأما الاستحسان ، فلأن لأهل البدع أيضاً تعلقاً به ، فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن ، وهو إما العقل أو الشرع .
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ، لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحساناً ، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع ، وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال ، فلم يبق إلا العقل هو المستحسن ، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية ، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها ، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن .
ويشهد لذلك قول من قال في الاستحسان : إنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ويميل إليه برأيه قالوا : وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد ، وتميل إليه الطباع فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما بين أن ثم من التعبدات ما لا يكون عليه دليل ، وهو الذي سمى بالبدعة ، فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، إذ ليس كل استحسان حقاً .
وأيضاً ، فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان . وهو أن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره . وهذا التأويل ، فالاستحسان لبعده في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له . بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي . لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه ـ وهو الأغلب ـ فهذا مما يحتجون به .
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون ، وقد أتو بثلاثة أدلة :
أحدها : قول الله سبحانه : "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" وقوله تعالى : "الله نزل أحسن الحديث" وقوله تعالى : "فبشر عباد*الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" هو ما تستحسنه عقولهم .
والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام :
"ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم ، وإلا لو كان حسنة بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون ، إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم ، فلم يكن للحديث فائدة ، فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم .
والثالث : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل ، ولا سبب لذلك إلا ان المشاحة في مثله قبيحة في العادة ، فاستحسن الناس تركه ، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة ، أو مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جهل فإنه ممنوع ، وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل ، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلاً .
فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضاً لمن أراد أن يبتدع ، فله أن يقول : إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء استحسن . وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل ، حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم ، وبالله التوفيق ، فنقول :
إن الاستحسان يراه معتبراً في الأحكام مالك و أبو حنيفة ، بخلاف الشافعي فإنه منكر له جداً حتى قال : من استحسن فقد شرع والذي يستقرىء من مذهبها أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين . هكذا قال ابن العربي ـ قال ـ فالعموم إذا استمر ، والقياس إذا اطرد ، فإن مالكاً و أبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ـ قال ـ ويريان معاً تخصيص القياس ونقص العلة ، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تخصيصاً .
هذا ما قال ابن العربي . ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى .
وقال بعض الحنفية : إنه القياس الذي يجب العمل به ، لأن العلة كانت علة بأثرها : سموا الضعيف الأثر قياساً والقوي الأثر استحساناً ، أي قياساً مستحسناً ، وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين ، وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية .
بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم . رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك ، قال أصبغ في الاستحسان : قد يكون أغلب من القياس . وجاء عن مالك : إن المفرق في القياس يكاد يفارقه السنة .
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل ، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه ، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم ، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة .
وقال ابن العربي في موضع آخر : الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص ، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته . وقسمه أقساماً عد منها أربعة اقسام ، وهي ترك الدليل للعرف ، وتركه للمصلحة ، وتركه لليسير ، وتركه لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة .
وحده غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك : استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ـ قال ـ فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس .
وعرفه ابن رشد فقال : الإستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون طرحاً لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع .
وهذه تعريفات ، قريب بعضها من بعض .
وإذا كان هذا معناه عن مالك و أبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة ، لأن الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضاً ، كما في الأدلة السنية مع القرآنية . ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلاً . فلا حجة في تسميته استحساناً لمبتدع على حال .
ولا بد من الإتيان بأمثلة تبي المقصود بحول الله ، ويقتصر على عشرة أمثلة :
أحدها : أن يعدل بالمسألة عن نظائرنا بدليل الكتاب . كقوله تعالى : "خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها" فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به ، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة ، فلو قال قائل : مالي صدقة . فظاهر لفظه يعم كل مال ، ولكنا نحمله على مال الزكاة ، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب . قال العلماء : وكأن هذا يرجع إلى تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن . وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلاً لما قاله في الاستحسان .
والثاني : أن يقول الحنفي : سؤر سباع الطير نجس ، قياساً على سباع البهائم . وهذا ظاهر الأثر ، ولكنه ظاهر استحساناً ، لأن السبع ليس بنجس العين ، ولكن لضرورة تحريم لحمه ، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير ، لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه ، فوجب الحكم بطهارة سؤره ، لأن هذا أثر قوي وإن خفي ، فترجع على الأول ، وإن كان أمره جلياً ، والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه .
والثالث : أن أبا حنيفة قال : إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها ( الآخر ) ، فالقياس أن لا يحد ، ولكن استحسن حده . ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة ، فإذا عين كل واحد داراً ، فلم يأت على كل مرتبة بأربعة . لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة . فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ، ويمكن التزاحف .
فإذا قال : القياس أن لا يحد ، فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ، ولكنه يؤول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول ، فإنه إن لم يكن محدوداً صار الشهود فسقه ، ولا سبيل إلى التفسيق ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلاً فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد ، فليس هذا حكماً بالقياس ، وإنما هو تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن ، وهذا يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى تحيقي مناطه .
والرابع : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف ، فإنه رد الأيمان إلى العرف ، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف ، كقوله : والله لا دخلت مع فلان بيتأً : فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتاً في اللغة ، والمسجد يسمى بيتاً فيحنث على ذلك ، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه ، فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث .
والخامس : ترك الدليل لمصلحة ، كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعاً ، فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين ، كتضمين صاحب الحمام الثياب ، وتضمين صاحب السفينة ، وتضمين السماسرة المشتركين ، وكذلك حمال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ، ولاحق عنده بالصناع . والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع .
فإن قيل : فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان ، قلنا : نعم ! إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد . بخلاف المصالح المرسلة . ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين . فإن الإجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية . فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل . فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر .
والسادس : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي . يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها . ووجه ذلك ظاهر . فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب . وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب . حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم . فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع .
وهو متجه بحسب الغرض الخاص . وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة . لكن استحسنوا ما تقدم .
وهذا الإجماع مما ينظر فيه . فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب .
والسابع : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة . وإيثار التوسعة على الخلق . فقد أجازوا التفاصيل اليسير في المراطلة الكثيرة . وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعاً للآخر . وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما . بينهما . والأصل المنع في الجميع ، لما في الحديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلاً بمثل سواءً بسواء ، ولأن من زاد أو ازداد فقد أربى . ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم ، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب ، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة ، وهما مرفوعان عن المكلف .
والثامن : أن في العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر ، أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به ، فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره ، وكان كما لو اشتركا فيه ، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به ، فقال أصبغ : إني أستحسن ها هنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا سواء ، فلعله غلب ولا يدري .
وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد ينقلب ـ قال ـ والاستحسان ها هنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا في العلم ، قد يكون أغلب من القياس (؟) ـ ثم حكى عن مالك ما تقدم . ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل : من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لحق به وإن كان له منكراً ، وجب على قياس ذلك إذا كانت بين رجلين فوطئاها جميعاً في طهر واحد وعزل أحدهما عنها فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعاً يعزلان أو ينزلان . والاستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل ، وتبرأ منه الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل ، لأن الولد يكون مع الإنزال غالباً ولا يكون مع العزل إلا نادراً ، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه وكان ينزل ، لا الذي أنكره وهو يعزل ، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام ، وله في هذا الحكم تأثير ، فوجب أن يصار إليه استحساناً ـ كما قال أصبغ ـ وهو ظاهر فيما نحن فيه .
والتاسع : ما تقدم أولاً من أن الأمة استسحنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل . والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا ، لا كما قال المحتجون على البدع ، بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة ، فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير ، وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدراً بالعرف أيضاً فإنه يسقط للضرورة إليه .
وذلك لقاعدة فقهية ، وهي أن نفي جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه ، وهو يضيق أبواب المعاملات ، وهو تحسيم ابواب المفاوضات ( ؟ ) ، ونفي الضرر إنما يطلب تكميلاً ورفعاً لما عسى أن يقع من نزاع ، فهو من الأمور المكملة والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات سقطت جملة ، تحصيلاً للمهم ـ حسبما تبين في الأصول ـ فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها ، إذ يشق طلب الانفكاك عنها ، فسومح المكلف بيسير الغرر ، لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل من الغرر ، ولم يسامح في كثيرة إذ ليس في محل الضرورة ، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر ، لكن الفرق بين القليل والكثير ، غير منصوص عليه في جميع الأمور ، وإنما نهى عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر ، فجعلت أصولاً يقاس عليها غير القليل أصلاً في عدم الاعتبار وفي الجواز ، وصار الكثير في حكم المنع ودار في الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها ، فإذا قل الغرر وسهل الأمر وقل النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها ، ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث .
قال العلماء : ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه ، فيجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة ، وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه ، وبين تطرقه للثمن فمنعه ، فقال : يجوز للانسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ ، وإن كان اليوم بعينه لا ينضبط ، ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز ، والسبب في التفرقة ، المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف ، ولا مضايقة في الأجل . إذ قد يسامح البائع في التقاضي الأيام . ولا يسامح في مقدار الثمن على حال .
ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بشراء الإبل إلى خروج المصدق . وذلك لا يضبط يومه ولا يعين ساعته . ولكنه على التقريب والتسهيل .
فتأملوا كيف وجه الاستثناء من الإصول الثابتة بالحرج والمشقة .
وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط ؟ فتبين لك بون ما بين المنزلتين .
العاشر : أنهم قالوا : إن من جملة أنواع الإستحسان مراعاة خلاف العلماء . وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة .
منها : أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه . فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام في الوقت . ولم يعد بعد الوقت . وإنما قال : يعيد في الوقت مراعاة لقول من يقول : إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء . وكان قياس هذا القول أن يعيد أبداً . إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم .
ومنها : قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه : إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق . ويكون فيه الميراث . ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح . فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق . ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق .
ومنها : مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام وجب أن يتمادى . لقول من قال : إن ذلك يجزئه . فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم .
وهذا المعنى كثير جداً في المذهب ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال ، لأنه ترجح عنده ، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه .
ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد أفريقية لإشكال عرض فيها من وجهين : أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها ، وهو ما أصلها من الشريعة وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه ؟ فإن الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ، ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول ، فإذاً رجوعه ـ أعني المجتهد ـ إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده ، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد .
فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد ، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث ، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب رحمه الله عليه ، فكتب إلي بما نصه :
وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف ، وقلتم إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقاً ، واستشنعتم أن يقول المفتي هذا لا يجوز ابتداءً ، وبعد الوقوع يقول بجوازه ، لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزاً . وقلتم : إنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم ، إلى غير ذلك مما أوردتم في المسألة .
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان ، وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار ، حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : من استحسن فقد شرع .
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه ، فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه ، فكيف ما يبنى عليه ؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق .
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بنى عليه ، ولولا أنه أعتضد وتقوى لوجدانه كثيراً في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير ، فتقوى ذلك عندي غاية . وسكنت إليه النفس ، وانشرح إليه الصدر ، ووثق به القلب ،فلأمر باتباعهم والاقتداء بهم ، رضي الله عنهم .
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء ، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم . وكل ما أوردتم في قضية السؤال وأرد عليه ، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول ، فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره ، وكيف يكون غلطة على زوج غيره مبيحاً على الدوام ، ومصححاً لعقده الذي لم يصادف محلاً ، ومبطلاً لعقد نكاح مجمع على صحته ، لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً ؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة . لا إباحة زوج غيره دائماً . ومنع زوجها منها .
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود : أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها ، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت ، وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان ، فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعاً لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها ، أو ليس بقاطع للعصمة ، فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود ؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا : إذا قدم المفقود يخير بين امرأته أو صداقها ، فإن اختار صداقها بقيت للثاني ، فأين هذا من القياس ؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما ، ونقل عن علي رضي اله عنه أنه قال بمثل ذلك ، أو أمضى الحكم به ، وإن كان الأشهر عنه خلافه ، ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك .
قال ابن المعدل لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة ، فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجاناً (؟) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يقاربه (؟) مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة (؟) عامداً جمع الناس أنه لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة ، وممن نقله اللخمي ، والمازري ، وصححه الباجي ، وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه .
وعلى الطريقة التي أوردتم ، أن المنهي عنه ابتداء غير معتبر ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل ، لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه ، والآخر لم يعمل كما أمر ، ولا قضى شيئاً . وليس كل منهي عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه .
وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ أنه قال : "لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" وأخرج أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها : "أيما امرأة نكحت بغيرإذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها" .فحكم أولاً ببطلان العقد ، وأكده بالتكرار ثلاثاً ، وسماه زنا . وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة . لكنه ﷺ عقبة بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله : "ولها مهرها بما أصاب منها ومهر البغي حرام" .
وقد قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" . فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى ، الذي لا يصح معه عبادة ، ولا يقبل عمل ، وإن كان هذا الحكم الآن منسوخاً ، فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى .
ومن ذلك قول الصديق رضي الله عنه : وستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له . ولهذا لا يسبى الراهب وترك له ماله أو ما قل منه ، على الخلاف في ذلك ، وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك ، وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له ، وهي عبادة الله تعالى ، وإن كانت عبادته أبطل الباطل ، فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطأ فيه ، وإن كان يظن ذلك ظناً . وتتبع مثل هذا يطول .
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع : هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم ، فكيف بهذا ؟ .
وإذا خرجت المسألة المخلف فيها إلى أصل مختلف فيه ، فقد خرجت عن حيز الإشكال . ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل . ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له . ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة .
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان ، فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلاً .
فصل : فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به
فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولاً : فأما من حد الاستحسان بأنه : ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه ، فكان هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك ، بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام ـ مثلاً ـ فهو حكم الله عليهم ، فيلزمهم العمل بمقتضاه ، ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون ، فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل .
وأيضاً ، فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموا من الأصول الثابتة . ولم يقل أحد منهم : إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه ، أو لأنه يوافق محبتي ورضائي . ولو قال ذلك لاشتد عليه التكبير ، وقيل له : من أين لك أن تحكم على عبادة الله بمحض ميل النفس وهوى القلب ؟ هذا مقطوع ببطلانه .
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضاً على مأخذ بعض ، ويحصرون ضوابط الشرع .
وأيضاً ، فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة ، لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضاً : لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر ؟ والشريعة ليست كذلك .
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحداً . ولا يفاتحون عالماً ولا غيره فيما يبتغون ، خوفاً من الفضيحة أن لا يجدوا مستنداً شرعياً ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالماً أو لقوة أن يصانعوا ، وإذا وجدوا جاهلاً عامياً ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات ، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ، ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس . ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئاً فشيئاً ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها ، وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصيته . وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم ، حتى يهووا بهم في نار جهنم ، وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا .
وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم ، تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم ، والتحيل عليهم بأنواع الحيل ، حتى يخرجونهم من السنة ، أو عن الدين جملة .ولولا الإطالة لأتيت بكلامه ، فطالعه في كتابه فضائح الباطنية .
وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء ، واكتفى بمجرد القول ، فألجأ الخصم إلى الإبطال . وهذا يجر فساداً لا خفاء له . وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسداً فلا عبرة به ، وإن كان صحيحاً فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه .
وأما الدليل الأول فلا متعلق به ، فإن أحسن الاتباع إلينا ، اتباع الأدلة الشرعية ، وخصوصاً القرآن ، فإن الله تعالى يقول ك "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً" . وجاء في صحيح الحديث ـ خرجه مسلم ـ "أن النبي ﷺ قال في خطبته : أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله" فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا ، فضلاً عن أن يقول من أحسنه .
وقوله تعالى : "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" الآية . يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولاً . وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد .
ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله ، وأنه ليس بحجة ، وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع .
وأيضاً ، فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر ، إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع ، وذلك محال ، للعمل بأن ذلك مضاد للشريعة ، فضلاً عن أن يكون من أدلتها .
وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه :
أحدها : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن ، والأمة لا تجتمع على باطل . فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعاً ، لأن الإجتماع يتضمن دليلاً شرعياً ، فالحديث دليل عليكم لا لكم .
والثاني :أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع .
والثالث : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام ، وهو باطل بإجماع . لا يقال : إن المراد استحسان أهل الاجتهاد ، لأنا نقول : هذا ترك للظاهر ، فيبطل الاستدلال . ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد ، لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة ، فأي حاجة إلى اشتراط الاجتهاد ؟
فإن قيل : إنما يشترط حذراً من مخالفة الأدلة فإن العامي لا يعرفها . قيل : بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة ، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع .
فالحاصل ، إن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة ، لكن ربما يتعلقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ، ومنها ما قد مضى .
فصل : فإن قيل : أفليس في الأحاديث
فإن قيل : أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويجري في النفس ، وإن لم يكن ثم دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ، ولا غير صريح ؟ فقد جاء في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول : "دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة" .
وخرج مسلم "عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه" ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " قال رجل يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن . قال : يا رسول الله ! فما الإثم ؟ قال : إذا حاك شيء في صدرك فدعه" . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، و"عن وابصة رضي الله عنه قال : سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم فقال : يا وابصة ! استفت قلبك ، واستفت نفسك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك" وخرج البغوي في معجمه عن عبد الرحمن بن معاوية :
"أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله ! ما يحل لي مما يحرم علي ؟ فسكت رسول الله ﷺ ، فرد عليه ثلاث مرات ، كل ذلك يسكت رسول الله ﷺ ، ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله . فقال : ـ ونقر بأصبعه ـ : ما أنكر قلبك فدعه" .
وعن عبد الله قال : الإثم حواز القلوب ، فما حاك من شيء في قلبك فدعه ، وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعاً ، وقال أيضاً : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن الخير طمأنينة ، وأن الشر ريبة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وقال شريح : دع ما يريبك إلى ما يريبك ، فوالله ما وجدت فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله .
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر ، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدم عليه صحيح ، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور ، وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر ، وإن لم يكن ثم دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيداً بالأدلة الشرعية لم يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب ، مع أنه عندكم عبث وغير مفيد ، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية ، أو الأفعال التي لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام . فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثراً في شرعية الأحكام ، وهو المطلوب .
والجواب : أن هذه الأحاديث وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب الآثار أن جماعة من السلف قالوا بتصحيحها ، والعمل بما دل عليه ظاهرها . وأتى بالآثار المتقدمة عن عمر وابن مسعود وغيرهما ، ثم ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها .
وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه ، فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله ، فحكى عن جماعة أنهم قالوا : لا شيء من أمر الدين إلا وقد بينه الله تعالى بنص عليه بمعناه ، فإن كان حلالاً فعلى العامل به إذا كان عالماً تحليله ، أو حراماً فعليه تحريمه ، أو مكروهاً غير حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنزيهاً .
فأما العامل بحديث النفس والعارض في القلب فلا ، فإن الله حظر ذلك على نبيه فقال : "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه وحدثته به نفسه ، فغيره من الشرك أولى أن يكون ذلك محظوراً عليه . وأما إن كان جاهلاً فعليه مسألة العلماء دون ما حدثته نفسه .
ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال : إيها الناس ! قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، ان تضلوا بالناس يميناً وشمالاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كان في القرآن من خلال أو حرام فهو كذلك ، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه .
وقال مالك : قبض رسول الله ﷺ وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فينبغي أن تتبع آثار رسول الله ﷺ وأصحابه ولا ينبع الرأي ، فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه ، فكلما غلبه رجل اتبعه ، أرى أن هذا بعد لم يتم .
واعملوا من الآثار بما روي عن جابر رضي الله عنه . أن النبي ﷺ قال : "قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض" .
وروي عن عمرو بن [ شعيب عن أبيه عن جده ] ـ " خرج رسول الله ﷺ يوماً وهم يجادلون في القرآن ، فخرج و وجهه أحمر كالدم فقال : يا قوم ! على هذا هلك من كان قبلكم جادلوا في القرآن وضربوا بعضه ببعض ، فما كان من حلال فاعملوا به ، وما كان من حرام فانتهوا عنه ، وما كان من متشابه فآمنوا به" .
و"عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فيه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً : "وما كان ربك نسيا" " .
قالوا : فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله ، والإعلام بأن العامل به لن يضل ، ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة ، ولو كان ثم ثالث لم يدع بيانه ، فعدل على أن لا ثالث ، ومن ادعاه فهو مبطل .
قالوا : فإن قيل : فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجهاً ثالثاً وهو قوله : "استفت قلبك" وقوله : "الإثم حواز القلوب" إلى غير ذلك ، قلنا : لو صحت هذه الأخبار لكان ذلك إبطالاً لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذ صحا معاً ، لأن أحكام الله ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته ، وإنما كان يكون وجهاً ثالثاً لو خرج شيء من الدين عنهما ، وليس بخارج ، فلا ثالث يجب العمل به .
فإن قيل : قد يكون قوله : "استفت قلبك" ونحوه أمراً لمن في مسألته نص من كتاب ولا سنة ، واختلفت فيه الأمة ، فيعد وجهاً ثالثاً . قلنا : لا يجوز ذلك لأمور :
أحدها : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة ، فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلاً لم يكن لنصت الدلالة الشرعية عليه معنى ، فيكون عبثاً ، وهو باطل .
والثاني : أن الله تعالى قال : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" . فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب .
والثالث : أن الله تعالى قال : "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" . فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من أمر محمد ﷺ ، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم .
والرابع : أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجاً على من أنكر وحدانيته : "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" . إلى آخرها . فأمرهم بالإعتبار بعبرته ، والإستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ، ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ، ويصدوا عما اطمأنت إليه قلوبهم ، وقد وضع الأعلام والأدلة ، فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت ، دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله .
وهذا ما حكاه الطبري عمن تقدم ، ثم اختار إعمال تلك الأحاديث ، إما لأنها صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها ، كحديث :
"الحلال بين والحرام بين" إلى آخر الحديث ، فإنه صحيح خرجه الإمامان . ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه ، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات ، فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال : إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر ، أو : استفت قلبك في إحداث هذا العمل ، فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا .
وكذلك في النسبة إلى التشريع التركي ، لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه بأن يقال : إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه ، وإلا فدعه . أي فدع الترك واعمل به . وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : "الحلال بين والحرام بين" الحديث .
وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء والطعام والشراب والنكاح واللباس ، وغير ذلك مما في هذا المعنى ، فمنه ما هو بين الحلية وما هو بين التحريم ، وما فيه إشكال ، وهو الأمر المشتبه الذي لا يدرى أحلال هو أم حرام ؟ فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهلة بحاله ، نظير قوله عليه السلام :"إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي ، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها" ، فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين : إما من الصدقة وهي حرام عليه ، وإما من غيرها وهي حلال له ، فترك أكلها حذراً من أن تكون من الصدقة في نفس الأمر .
قال الطبري : فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو سعة من تركه والعمل به ، أو مما هو غير واجب ـ أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ، إذ يزول بذلك عن نفسه الشك ، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها ولا يعلم صدقها من كذبها ، فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة ، وليس تزوجه إياها بواجب ، بخلاف ما لو أقدم ، فإن النفس لا تطمئن إلى حلية تلك الزوجة .
وكذلك قول عمر إنما هو فيما أشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم حرام ؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب ، كما في الإقدام شك : هل هو آثم أم لا ؟ وهو معنى قوله عليه السلام للنواس ووابصة رضي الله عنهما . ودل على ذلك حديث المشتبهات ، لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعلموا بما رأته أنفسهم ، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم .
قال الطبري ، فإن قيل : إذا قال الرجل لامرأته : أنت علي حرام . فسأل العلماء فاختلفوا عليه . فقال بعضهم : قد بانت منك بالثلاث : وقال بعضهم : إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين . وقال بعضهم : ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق . أو الظهار فهو ظهار . أو يميناً فهو يمين . وإن لم ينو شيئاً فليس بشيء : أيكون هذا اختلافاً في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق ، كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفاً من الوقوع في المحظور أو لا ؟ قيل : حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح . فهذا ممكن ، والحزازة مرتفعة بهذا البحث . بخلاف ما إذا بحث مثلاً عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول . وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة ، فهما على هذا مختلفان . وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده ، لم يثبت له ترجيح لأحدهم ، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة بالرضاع سواء ، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير . انتهى معنى كلام الطبري .
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير ، بل حكمه حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام ؟ فلا خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به . وإلا فالترك . إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة .
فصل ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال
ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقاً أو بقيد ، وهو الذي رآه الطبري . وذك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية ، وهو التشريع بعينه ،فإن طمأنينة النفس القلب مجرداً عن الدليل ، إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعاً ،فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار ، وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة وإن كانت معتبرة فقد صار ثم قسم ثالث غير الكتاب والسنة ، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره .
وإن قيل : إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام . لم تخرج تلك عن الإشكال الأول ، لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لا بد أن يتعلق به حكم شرعي ، وهو الجواز وعدمه ، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها . فإن كان ذلك عن دليل ، فهو ذلك الأول بعينه ، باق على كل تقدير .
والجواب : أن الكلام الأول صحيح . وإنما النظر في تحقيقه .
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين : تظر في دليل الحكم ، ونظر في مناطه ، فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة ، أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما ، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ، ولا نفي ريب القلب ، إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلاً أو غير دليل . ولا يقول أحد ( ؟ ) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها ، أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس ( ؟ ) أن الأمر كما زعموا ، وهو مخالف لإجماع المسلمين . أ
وأما النظر في مناط الحكم ، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل شرعي فقط ، بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل ، فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد ، بل لا يشترط فيه العلم فضلاً : عن درجة الاجتهاد : ألا ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي : هل تبطل به الصلاة أم لا ؟ فقال العامي : إن كان يسيراً فمغتفر ، وإن كان كثيراً فمبطل ، لم يغتفر في ا لسير إلى أن يحققه له العالم . بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير . فقد انبنى ها هنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس
العامي ، وليس واحداً من الكتاب أو السنة ، لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلاً على الحكم ، وإنما هو مناط الحكم ، فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق ، فهو الملطوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي .
وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة ، وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة ، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير ، فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب ، لأنه نظر في مناط الحكم .
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله ، لأن حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه : أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله ، لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية ، فتحقق مناطها بالنسبة إليه . وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه ، واطمأنت إليه نفسه ، لا بحسب الأمر في نفسه . الا ترى أن اللحم قد يكون واحداً بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ، فيأكل أحدهما حلالاً ويجب على الآخر الاجتناب ، لأنه حرام ؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالاً ، لأن أدلة الشرع لا تناقض أبداً . فإذا فرضنا لحماً أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين ، كاختلاط الميتة بالذكية ، واختلاط الزوجة بالأجنبية .
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة .
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه ، وهي تلك الأحاديث المتقدمة ، كقوله : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وقوله : "البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك" كأنه يقول : إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة ، فالحكم فيه من الشرع بين .
وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به . وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : "استفت قلبك " وإن أفتوك فإن تحقيك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك .
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك ، لأنه لم يعرض له ما عرض لك .
وليس المراد بقوله : "وإن أفتوك" أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك ، فإن هذا باطل ، وتقول على التشريع الحق . وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط .
نعم قد لا يكون ذلك درية أو أنساً بتحقيقه لك غيرك ، وتقلده فيه ، وهذه الصورة خارجة عن الحديث ، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضاً موقوفاً على تعريف الشارع ، كحد الغنى الموجب للزكاة ، فإنه يختلف باختلاف الأحوال ، فحققه الشارع بعشرين ديناراً ومائتي درهم وأشباه ذلك ، وإنما النظر هنا فيما وكل تحقيقه إلى المكلف .
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل ، وهو تحقيق بالغ . والحمد لله الذي بنعته تتم الصالحات .