☰ جدول المحتويات
الباب الثالث
في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ويدخل تحت هذه الترجمة جملة من شبه المبتدعة التي احتجوا بها
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه :
أحدها : أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها : كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا ، ولا شيء من هذه المعاني ، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات ، لذكر ذلك في آية أو حديث ، لكنه لا يوجد ، فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد .
والثاني : أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضيع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص ، مع تكررها ، وإعادة تقررها ، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى : "ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وما أشبه ذلك . وبسط الاستدلال على ذلك هناك ، فما نحن بصدده من هذا القبيل ، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة :
أن كل بدعة ضلالة ، وأن كل محدثة بدعة . وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة . ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها . فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها .
والثالث : إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك ، وتقبيحها والهروب عنها ، وعمن اتسم بشيء منها ، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية . فهو ـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت ، فدل على أن كل بدعة ليست بحق بل هي من الباطل .
والرابع : أن متعقل البدعة ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم ، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع . وقد تقدم بسط هذا في أول الباب الثاني . وأيضاً فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك . وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها ، إذ لو قال الشارع : المحدثة الفلانية حسنة لصارت مشروعة ، كما أشاروا إليه في الاستحسان حسبما يأتي إن شاء الله .
ولما ثبت ذمها ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل من حيث اتصف بها المتصف ، فهو إذاً المذموم على الحقيقة ، والذم خاص التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الاطلاق والعموم . ويدل على ذلك أربعة أوجه :
أحدهما : أن الأدلة المذكورة إن جاءت فيهم نصاً فظاهر ، كقوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " وقوله : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" إلى آخر الآية . وقوله عليه السلام :
"فليذادن رجال عن حوضي" الحديث . إلى سائر ما نص فيه عليهم . وإن كانت نصاً في البدعة فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال ، وإذا رجع الجميع إلى ذمهم ، رجع الجميع إلى تأثيمهم .
والثاني : أن الشرع قد دل على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع ، وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم . ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" فأثبت لهم الزيغ أولاً ،وهو الميل عن الصواب ، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى ، الذي هو أم الكتاب ومعظمه . ومتشابهه على هذا قليل ، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوماً واضحاً ابتغاء تأويله ، وطلباً لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله ، أو يعلمه الله والراسخون في العلم ، وليس إلا برده إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك . فانظروا كيف اتبعوا أهواءهم أولاً في مطالبة الشرع ، بشهادة الله .
وقال الله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم" الآية .
فنسب إليهم التفريق ، ولو كان التفريق من مقتضى الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتى به في معرضهم الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى .
وقال تعالى : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فجعل طريق الحق واضحاً مستقيماً ونهى عن البنيات . والواضح من الطرق والبنيات ، كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية ، فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البنيات في الشرع فواضح أيضاً ، فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع .
وقال تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" فهذا دليل على مجيء البيان الشافي ، وأن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل ، فهو إذاً من تلقاء أنفسهم ، وهو اتباع الهوى بعينه . والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه ، وإذا اتبع هواه كان مذموماً وآثماً . والأدلة عليه أيضاً كثيرة ، كقوله : "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" وقوله : "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد " وقوله :
"ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" وما أشبه ذلك . فإذاً كل مبتدع مذموم آثم .
والثالث : أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسن والتقبيح ، فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع ، فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل ، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر ، حتى يردوا كثيراً من الأدلة الشرعية .
وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقاً ، ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهباً ويرجعون عنه غداً ، ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث . ولو كان كل ما يقضي به حقاً لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم ، ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة ، ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثاً لا معنى له ، وهو كله باطل ، فما أدى إليه مثله .
فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع ، ولذلك سموا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن أهل الأهواء ، وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم ، لأن التسمية بالمشتق إنما يطلق إطلاق اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على المسمى بها ، فإذاً تأثيم من هذه صفته ظاهر ، لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفاً .
والرابع : أن كل راسخ لا يبتدع أبداً ، وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه ، حسبما دل عليه الحديث ويأتي تقريره بحول الله ، فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء ، وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد ، فهو على أصل العمومية ، ولما كان العامي حراماً عليه النظر في الأدلة والاستنباط ، كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهلات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به ، فإذا أقدم على محرم عليه كان آثماً بإطلاق .
وبهذه الأوجه الأخيرة ظهر وجه تأثيمه وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطىء في اجتهاده ، وسيأتي له تقرير أبسط من هذا إن شاء الله .
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملاً بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز ، وإما نائ
فصل لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهداً أو مقلداً
لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهداً فيها أو مقلداً ، والمقلد إما مقلد مع الاقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلاً والأخذ فيه بالنظر ، وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف ، فهذه ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول : على ضربين : أحدهما أن يصح كونه مجتهداً ، فالابتداع منه لا يقع إلا فلته وبالعرض لا بالذات ، وإنما تسمىغلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة تأويل الكتاب ، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة ، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقر به .
ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه ، وقال : وأول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون .
وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس . قال فمررنا على المدينة ، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالساً إلى سارية عن رسول الله ﷺ ، قال : وإذا هو قد ذكر الجهنميين قال : فقلت له : يا صاحب رسول الله ، ما هذا الذي تحدثون ؟ ـ والله يقول : "إنك من تدخل النار فقد أخزيته" و"كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها" فما هذا الذي تقولون ؟ قال : فقال : أفتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم ، قال : فهل سمعت بمقام محمد ﷺ ؟ ـ يعني الذي بعثه الله فيه ـ قلت : نعم ، قال : فإنه مقام محمد ﷺ المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار . قال : ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه . قال : وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك . قال : غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يونوا فيها . قال : يعني فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا وقلنا : ويحكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول الله ﷺ ؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد . أو كما قال .
ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث ، وثقة ابن معين ، وأبو زرعة . وقال أبو حاتم : صدوق ، وخرج عنه البخاري .
وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث ، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة ، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول : بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب ، حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره . وحكى القتيبي عنه كان يقول : إن القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب ، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب ، ومن قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين .
وسئل يوماً عن أهل القدر وأهل الإجبار ، قال : كل مصيب ، هؤلاء قوم عظموا الله ، وهؤلاء قوم نزهوا الله . قال : وكذلك القول في الأسماء ، فكل من سمى الزاني مؤمناً فقد أصاب ، ومن سماه كافراً فقد أصاب ، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ، ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني . قال : وكذلك السنن المختلفة ، كالقول بالقرعة وخلافه ، والقول بالسعاية وخلافه ، وقتل المؤمن بالكافر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب . قال : ولو قال قائل : إن القاتل في النار . كان مصيباً ، ولو قال : في الجنة . كان مصيباً ، ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيباً إذا كان إنما يريد بقوله إن الله تعبده بذلك وليس عليه علم الغيب .
قال ابن أبي خثيمة : أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال : كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريقي العنبري البصري اتهم بأمر عظيم ، وروى عنه كلام رديء .
قال بعض المتأخرين : هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب ، وقال : إذاً أرجع وأنا من الأصاغر ، ولأن أكون ذنباً في الحق ، أحب إلي أن أكون رأاً في الباطل اهـ .
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم ، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق ، لأنه بحسب ظاهر حالة فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه ، ولم يتبع عقله ، ولا صادم الشرع بنظره ، فهو أقرب من مخالفة الهوى .
ومن ذلك الطريق ـ والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق .
وكذلك يزيد الفقير فيما ذكره عنه ، لا كما عارض الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، إذ طالبه بالحجة ، فقال بعضهم : لا تخاصموه فإنه ممن قال الله فيه : "بل هم قوم خصمون" فرجحوا المتشابه على المحكم ، وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم .
وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم ، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع ، الهوى الباعث عليه في الأصل ، وهو التبعية ، إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء ، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه ، ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد ، حتى قال الصوفية : حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين ، فكيف إذا انضاف إليه الهوى من الأصل وانضاف إلى هذين الأمرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه ، فيتمكن الهوى من قلبه تمكناً لا يمكن في العادة الانفكاك عنه ، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه .
كما جاء في حديث الفرق . فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سن سنةً سيئةً .
ومن أمثلته أن الامامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي ﷺ ، وتزعم أنه مثل النبي ﷺ في العصمة ، بناءً على أصل متوهم ، فوضعوه على أن الشريعة أبداً مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع المكلفين ، إما بالمسافهة أو بالنقل ممن شافه المعصوم ، وإنما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادىء الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي ، بل بشبهة زعموا أنها عقلية ، وشبه من النقل باطلة ، إما في أصلها ، وإما في تحقيق مناطها ، وتحقيق ما يدعون ولما يرد عليهم به مذكرو في كتب الأئمة ، وهو يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى دعاو ، وإذا طولبوا بالدليل عليها سقط في أيديهم ، إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات .
وأقوى شبههم مسألة اختلاف الأمة وأنه لا بد من واحد يرتفع به الخلاف ، أن الله يقول : "ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك" ولا يكون كذلك إلا إذا أعطي العصمة كما أعطيها النبي ﷺ ، لأنه وارث ، وإلا فكل محق أو مبطل يدعي أنه المرحوم ، وأنه الذي وصل إلى الحق دون من سواه فإن طولبوا بالدليل على العصمة لم يأتوا بشيء غير أن لهم مذهباً يخفونه ولا يظهرونه إلا لخواصهم ، لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان .
قال ابن العربي في كتاب العواصم : خرجت من بلادي على الفطرة ، فلم ألق في طريقي إلا مهتدياً ، حيث بلغت هذه الطائفة ـ يعني الإمامية والباطنية من فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت ، ولو فجأتني بدعة مشبهة كالقول بالمخلوق أو نفي الصفات أو الارجاء لم آمن الشيطان . فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر ، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ، ولبثت بينهم ثمانية أشهر . ثم خرجت إلى الشام فوردت بيت المقدس فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين ـ مدرسة الشافعية بباب الأسباط وأخرى للحنفية ـ وكان فيها من رؤوس العلماء المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير ، فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة .
ثم نزلت إلى الساحل لأغراض وكان مملوءاً من هذه النحل الباطنية والإمامية ـ فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحواً من خمسة أشهر ، ونزلت بعكا ، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي ، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي ، فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين . فلما رآني صغير السن كثير العلم متدرباً ولع أبي ، فيهم ـ لعمر الله ، وإن كانوا على باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ، فكان لا يفارقني ، ويساومني الجدال ولا يفاترني ، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعليم من المعصوم بما يطول ذكره .
ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن الله في عباده أسراراً وأحكاماً والعقل لا يستقل بدركها ، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم ، فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد ؟ فقال لي : مات وليس هذا بمذهبه ولكنه تستر معي . فقلت : هل خلفه أحد ؟ فقال : خلفه وصيه علي ، قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه ؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند . قلت : فهل أنفذه حين قدر ؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت إلا أنها كانت تقوى تارةً وتضعف أخرى ، فلم يمكن إلا المدارة لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال ، قلت : وهذه المدارة حق أم لا ؟ فقال : باطل أباحته الضرورة . قلت : فأين العصمة ؟ قال : إنما نعني العصمة مع القدرة . قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا ؟ قال : لا . قلت : فالدين مهمل ، والحق مجهول مخمل ؟ قال : سيظهر . قلت : بمن ؟ قال : بالإمام المنتظر . قلت : لعله الدجال . فما بقي أحد إلا ضحك ، وقطعنا الكلام على غرض مني لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده .
ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام أن الكلام أن الإمام إذا أوصى إلى من لا قدرة له فقد ضيع فلا عصمة له . وأعجب منه أن الباري تعالى ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم وأرسله عاجزاً مضطرباً لا يمكنه أن يقول ما علم ، فكأنه ما علمه وما بعثه . وهذا عجز منه وجور ، لا سيما على مذهبهم .
فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة ، وشاع الحديث . فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي ، فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي وقال : إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك . فقلت : أنا مشغول . فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه ، وهو محرس الطبرانيين ، مسجد في قصر على البحر . وتحامل علي ، فقمت ما بين حشمة وحسبة ، ودخلت قصر المحرس ، وطلعنا إليه فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية ، فرأيت النكر في وجوههم ، فسلمت ثم قصدت جهة المحراب فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم ، والخلاص منهم ، فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم ، إن ما كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبداً . ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس ، فأقول : هذا قبري الذي يدفنوني فيه ، وأنشد في سري :
ألا ! هل إلى الدنيا معاد؟ وهل لنا سوى البحر قبر ؟ أو سوى الماء أكفان
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذني الله منها فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم عن أحوالهم عادة ، وقد اجتمعت إلي نفسي ، وقلت : أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين . فقال لي أبو الفتح ـ وأشار إلى فتى حسن الوجه ـ هذا سيد الطائفة ومقدمها . فدعوت له فسكت ، فبادرني وقال : قد بلغتني مجالسك وأنهي إلي كلامك ، وأنت تقول : قال الله وفعل ، فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه ؟ أخبرني وأخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب ، فعمدت ـ بتوفيق الله إلى كنانتي واستخرجت منها سهماً أصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم .
وشرح ذلك أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال : كنت أبغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام ، فدخلت يوماً إلى الري ، ودخلت جامعها أول دخولي واستقبلت سارية أركع عندها ، وإذا بجواري رجلان يتذكران علم الكلام ، فتطيرت بهما ، وقلت : أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما ، فعلق بي من قولهما : إن هؤلاء الباطنية أسخف خلق الله عقولاً ، وينبغي للنحرير أن لا يتكلف لهم دليلاً ولكن يطالبهم بلم فلا قبل لهم بها . وسلمت مسرعاً .
وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من الإسماعيلية القناع في الإلحاد ، وجعل يكاتب وشمكير الأمير يدعوه إليه ويقول له : إني لا أقبل دين محمد إلا بالمعجزة فإن أظهرتموها رجعنا إليكم ، وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلاً له دهاء ومنة ( أي قوة ) فورد على وشمكير رسولاً ، فقال له : إنك أمير ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العلوم ولا تقلد أحداً في عقيدة ، وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين . فقال وشمكير : أختار رجلاً من أهل مملكتي ،ولا أنتدب للمناظرة بنفسي ، فيناظرك بين يدي . فقال له الملحد : اختر أبا بكر الإسماعيلي . لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنما كان إماماً في الحديث . ولكن كان وشمكير ـ لعاميه فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم . فقال وشمكير : ذلك مرادي ، فإنه رجل جيد . فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بجرجان ليرحل إليه إلى غزنه . فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين ، وقال سيبهت الإسماعيلي الكافر مذهباً الإسماعيلي الحافظ مذهباً . ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم . فلجأوا إلى الله في نصر دينه .
قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جائني البريد ، وأخذت في المسير وتدانت لي الدار قلت : إنا لله . وكيف أناظر فيما لا أدري ؟ هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ، ويعلم بحجج الله على دينه ؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا لم أنظر في شيء من علم الكلام ، ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري فقويت نفسي ، وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي ، وبلغت البلد فتلقاني الملك ثم جميع الخلق . وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب . وقال الملك للباطني : أذكر قولك يسمعه الإمام . فلما أخذ في ذكره واستوفاه . قال له الحافظ : لم ؟ سمعها الملحد قال : هذا إمام قد عرف مقالتي . ففهمت . قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت ، وأمرت بقراءة علم الكلام ، وعملت أنه عمدة من عمد الإسلام .
قال ابن العربي : وأنا حين انتهى بي الأمر إلى ذلك قلت : إن كان في الأجل تنفس فهذا شبيه بيوم الإسماعيلي . فوجهت إلى أبي الفتح الكلام وقلت له : لقد كنت في لا شيء ولو خرجت من عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم ما رحلت إلا عرياً عن نادرة الأيام ، ونظر إلى حذقه بالكلام ومعرفته حيق قال لي : أي شيء هو الله ؟ ولا يسأل بمثل هذا إلا مثله . ولكن بقيت ها هنا نكتة ، لا بد من أن نأخذها اليوم عنه ، وتكون ضيافتنا عنده . لم قلت : أي شيء هو الله فاقتصرت من حروف الاستفهام على أي وتركت الهمزة وهل وكيف وأنى وكم وما ، هي أيضاً من ثواني حروف الاستفهام وعدلت عن اللام من حروفه ، وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية ، وهو أن لـ أي معنيين في الاستفهام . فأي المعنيين قصدت بها ؟ ولم سألت بحرف محتمل ؟ ولم تسأل بحرف مصرح بمعنى واحد ؟ هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا .
فما هو إلا أن افتتحت هذا الكلام وانبسطت فيه وهو يتغير حتى اصفر آخراً من الوجل ، كما اسود أولاً من الحقد . ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه ، وقال له : ما هذا الصبي إلا بحر زاخر من العلم ، ما رأينا مثله قط ، وهم ما رأوا واحداً به رمق إلا أهلكوه ، لأن الدولة لهم ، ولولا مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووالي عكا كان يحظينا ما تخلصت منهم في العادة أبداً .
وحين سمعت تلك الكلمة من إعظامي قلت : هذا مجلس عظيم ، وكلام طويل ، يفتقر إلى تفصيل ، ولكن نتواعد إلى يوم آخر . وقمت وخرجت ، فقاموا كلهم معي وقالوا : لا بد أن تبقى قليلاً . فقلت : لا .وأسرعت حافياً وخرجت على الباب أعدو حتى أشرفت على قارعة الطريق ، وبقيت هناك مبشراً نفسي بالحياة ، حتى خرجوا بعدي وأخرجوا لي ( لا يكي ) ولبستها ومشيت معهم متضاحكاً ، ووعدوني بمجلس آخر فلم اوف لهم ، وخفت وفاتي في وفائي .
قال ابن العربي : وقد قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى : إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة الإمامية ، فشكا إليه فساد الخلق ، وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر ، فقال نصر : هل لخروجه ميقات أم لا ؟ قال الشيعي : نعم ، قال له أبو الفتح : ومعلوم هو أو مجهول ؟ قال : معلوم . قال نصر : ومتى يكون ؟ قال : إذا فسد الخلق . قال أبو الفتح : فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم فلو فسدتم لخرج ،فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا . فبهت . وأظنه سمعها عن شيخه أبي الفتح سليمان بن أيوب الرازي الزاهد .
انتهى ما حكاه ابن العربي وغيره ،وفيه غنية لمن عرج عن تعرف أصولهم ، وفي أثناء الكتاب منه أمثلة كثيرة .
القسم الثاني : يتنوع أيضاً ،وهو الذي لم يستنبط بنفسه وإنما اتبع غيره من المستنبطين ، لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها ، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه ، لانقداحها في قلبه ، فهو مثل الأول ،وإن لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى .
وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ولو على أعم ما يكون . فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وإن كان عامياً ، لأنه عرض للاستدلال ، وهو علم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ، ومع ذلك فلا يبلغ من استدل بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل ، وفرق بينهما في التمثيل :
أن الأول أخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها ، حتى إذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم تبلد وانقطع ، أو خرج إلى ما لا يعقل ، وأما الثاني فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ، ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به ، إلا تحسين الظن بالمبتدع خاصة . وهذا القسم في العوام كثير .
فمثال الأول حال حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة ، إذ كان أحد دعاة الباطنية فاستجاب له جماعة نسبوا إليه ، وكان رجلاً من أهل الكوفة مائلاً إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه ، فقال له حمدان ـ وهو لا يعرف حاله ـ : أراك سافرت عن موضع بعيد ، فأين مقصدك ؟ فذكر موضعاً هو قرية حمدان ، فقال له حمدان : اركب بقرة من هذا البقر لتستريح به عن تعب المشي ، فلما رآه مائلاً إلى الديانة أتاه من ذلك الباب ، وقال : إني لم أؤمن بل أؤمر بذلك ، فقال له : وكأنك لا تعمل إلا بأمر ، فقال : نعم ، فقال حمدان : وبأمر من تعمل ؟ قال بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة ، قال : ذلك هو رب العالمين ، قال : صدقت ، ولكن الله يهب ملكه من يشاء . قال : وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها ؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم . ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة . وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب . فقال له حمدان : أنقذني أنقذك الله ، وافض علي من العمل ما تحييني به ، فما أشد احيتاجي لمثل ما ذكرت ! فقال : فما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه ، فقال : فما عهدك ؟ فاذكره فإني ملتزم له . فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقك ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضاً . فالتزم حمدان عهده . ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله ، حتى استدرجه واستغواه ، واستجاب له في جميع ما ادعاه ، ثم انتدب للدعوة وصار أصلاً من أصول هذه البدعة ، فسمي أتباعه القرامطة .
ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله تعالى : "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" وقوله تعالى : "قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " .
وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية وكان يشار إليه بالعلم والفهم ، فبلغ خبره أحمد بن طولون ، فاستحضره وسأله عن أشياء كثيرة ، من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد أحضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ، فسألوه عن ذلك . فقال : دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية ، تدفعها العقول وتنفر منها النفوس ، لتباينها وتضادها ، لا نظر يقويها ، ولا جدل يصححها ، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها ، والفحص عنها . ورأيت مع ذلك أمماً كثيرة وملوكاً عظيمة ذوي معرفة ، وحسن سياسة ، وعقول راجحة ، قد انقادوا إليها ، وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا بدلائل شاهدوها ، وآيات ومعجزات عرفوها ، أوجبت انقيادهم إليها ، والتدين بها .
فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها ؟ وهل يدرك ذلك أم تعلم غايته ؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة . ووصفهم للأقانيم والجوهر وهو الثالوثي ، وهل الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا ؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالانسان المحدث ، وما جرى في ولادته وصلبه وقتله . وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صلب وبصق في وجهه ؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك وضرب رأسه بالقضيب ؟ وسمرت قدماه ، ونخز بالأسنة والخشب جنباه ؟ وطلب الماء فسقي الخل من بطيخ الحنظل ؟ فأمسكوا عن مناظرته ، لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده اهـ .
والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من غير برهان ولا دليل .
القسم الثالث : يتنوع أيضاً وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصلية ، فلا يخلو أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه ، بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره ، وتعظيمهم له بخلاف الغير . أو لا يكون ثم من هو أولى منه ، لكنه ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة ، فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه ، بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور . إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر ، فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم .
وهذا حال من بعث فيهم رسول الله ﷺ فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم . ولم ينظروا نظر المستبصر ، حتى لم يفرقوا بين الطريقين ، وغطى الهوى على عقولهم دون أن يبصروا الطريق ، فكذلك أهل هذا النوع .
وقل ما تجد من هذه صفته إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد .
خرج البغوي " عن أبي الطفيل الكناني أن رجلاً ولد له غلام على عهد رسول الله ﷺ ،فأتي به النبي ﷺ فدعا له بالبركة وأخذ بجبهته فنبتت شعرة بجبهته كأنها سلفة فرس . قال : فشب الغلام ، فلما كان زمن الخوارج أجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته ، فأخذه أبوه فقيده وحبسه مخافة أن يلحق بهم أحد ، قال : فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له : ألم تر بركة النبي ﷺ وقعت ؟ قال : فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم . قال : فرد الله عز وجل الشعرة في جبهته إذ تاب " .
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس ، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين ، ففي تأثيمه نظر . ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم .
ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعاً لآبائهم ، واستنامة لما عليه أهل عصرهم ، من عبادة غير الله وما أشبه ذلك . لأن العلماء يقولون في حكمهم : إنهم على قسمين : قسم غابت عليه الشريعة ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله ، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم ،فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه . وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " .
وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله ، والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوا من الباطل ، فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين ، مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة ، لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها . فكذلك ما نحن في الكلام عليه ، إذ لا فرق بينهما .
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول : كيفما كان لا يعذب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم . وهذا إن ثبت قولاً هكذا ، فنظيره في مسألتنا أن يأتي عالم أعلم من ذلك المنتصب يبين السنة من البدعة ، فإن راجعه هذا المقلد في أحكام دينه ولم يقتصر على الأول فقد أخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامة ، وإن اقتصر على الأول ظهر عناده ، لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارىء ، وإذا لم يرضه كان ذلك لهوى داخله ، وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه . وهو إذا بلغ هذا المبلغ لم يبعد أن يقتصر لمذهب صاحبه ، ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته . وحكمه قد تقدم في القسم قبله .
فأنت ترى صاحب الشريعة ﷺ ـ حين بعث إلى أصحاب أهواء وبدع ، وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فبها ، وردوا ما جاء به النبي ﷺ ، وغطى على قلوبهم رين الهوى حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها ـ كيف صارت شريعته ﷺ حجة عليهم على الإطلاق والعموم ، وصار الميت منهم مسوقاً إلى النار على العموم ، من غير تفرقة بين المعاند صراحاً وغيره ، وما ذاك إلا لقيام الحجة عليهم ، بمجرد بعثته وإرساله لهم ، مبيناً للحق الذي خالفوه . فمسألتنا شبيهة بذلك ، فمن أخذ بالحزم فقد استبرأ لدينه، ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك ، وحسبنا الله .
فصل ولنزد هذا الموضع شيئاً من البيان
ولنزد هذا الموضع شيئاً من البيان فإنه أكيد ، لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل . فنقول وبالله التوفيق :
إن لفظ أهل الأهواء وعبارة أهل البدع إنما تطلق حقيقةً على الذين ابتدعوها ، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها ، والاستدلال على صحتها في زعمهم ، حتى عد خلافهم ، وشبههم منظوراً فيها ، ومحتاجاً إلى ردها والجواب عنها . كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم ، بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنط لها وناصرلها ، وذاب عنها . كلفظ أهل السنة إنما يطلق على ناصريها ، وعلى من استنبط على وفقها ، والحامين لذمارها .
ويرشح ذلك أن قول الله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق ، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه .
وكذلك قوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" وقوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيره .
وكذلك قول النبي ﷺ :
"حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم" ، لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها . بخلاف العوام ، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم ، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقةً ، ولا هم متبعون للهوى . وإنما يتبعون ما يقال لهم كائناً ما كان ، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا . وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد ، وهو أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيرها وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤساهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا .
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به . فالمقتدي به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع ، والمبتدع هو المخترع . أو المستدل على صحة ذلك الاختراع ، وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم ، أو كان من قبيل الاستدلال العامي ، فإن الله سبحانه ذم أقواماً قالوا : "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي ، وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ، وقد كانوا على هذا الدين ، وليس إلا لأنه صواب ، فنحن عليه ، لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه .
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل . ولكن مثل هذا يعد استدلالاً في الجملة من حيث جعل عمدةً في اتباع الهوى واطراح ما سواه . فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ، ودخل في مسمى أهل الابتداع ، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ، ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه ، أو الباطل فيجتنبه . ولذلك قال تعالى رداً على المحتجين بما تقدم : " قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم " وفي الآية الأخرى : "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" فقال تعالى : " أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " وفي الآية الأخرى : " أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير " وأمثال ذلك كثير .
وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ، ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره ، وهو عين اتباع الهوى . فهو المذموم حقاً . وعليه يحصل الإثم ، فإن من كان مسترشداً مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده ، وهو المعتاد في طالب الحق . ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله ﷺ حين تبين لهم الحق .
فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ، ولم يدخل مع المتعاصيين لكنه عمل بها ، فإن قلنا : إن أهل الفترة معذبون على الاطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم ، فالمتبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقاً مؤخذون أيضاً .وإن قلنا : لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤخذون ما لم يكن فيه محق ، فإذا ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين : إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه . وإما أن لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة ( أهل الأهواء ) فيأثمون .
وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي اشتهرت عند العلماء مقلداً فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها ، فهو في الإثم مع من اتبع ، فقد زعم أن معبوده في صورة الإنسان وأنه يهلك كله إلا وجهه ثم زعم أن روح الإله حل في علي ثم في فلان ، ثم في بيان نفسه .
وكذلك من اتبع المغيرة بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يحيى الموتى بالإسم الأعظم ، وأن لمعبوده أعضاء على حروف الهجاء على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن إلى إلحادات أخر .
وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب ، فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصراً لها ومحتجاً عليها . وقانا الله شر التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته .
فصل إذا ثبت أن المبتدع آثم
إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الواقع عليه على رتبة واحدة ، بل هو على مراتب مختلفة ، من جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً ، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ، ومن جهة كونها بينة أو مشكلة ، ومن جهة كونها كفراً أو غير كفر ، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمة ، إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن .
وهذا المعنى وإن لم يخف على العالم بالأصول فلا يترك التنبيه على وجه التفاوت بقول جملي ، فهو الأولى ي هذا المقام .
فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعياً للاجتهاد أو مقلداً فظاهر ، لأن الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها ، أمكن منه في قلب المقلد وإن ادعى النظر أيضاً ، لأن المقلد الناظر لا بد من استناده إلى مقلده في بعض الأصول التي يبنى عليها . أو المقلد قد انفرد بها دونه . فهو آخذ بخط ما لم يأخذ فيه الآخر ، إلا أن يكون هذا المقلد ناظراً لنفسه ، فحينئذ لا يدعي رتبة التقليد فصار في درجة الأول ، وزاد عليه الأول بأنه أول من سن تلك السنة السيئة ، فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها . وهذا الثاني ممن عمل بها فيكون على الأول من إثمه ما عينه الحديث الصحيح فوزره أعظم على كل تقدير ، والثاني دونه لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه ، فليس له إدلة جملية لا تفصيلية . والفرق بينهما ظاهر ، فإن الأدلة التفصيلية أبلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الأدلة الجملية ، فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال .
وأما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها فالإشارة إليه ستأتي عند التكلم على أحكام البدع .
وأما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان ، فظاهر أن المسر بها ضرورة مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره ، فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة ، هي باقية على أصل حكمها . فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدع إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به .
وسيأتي ـ بحول الله ـ أن الذريعة قد تجري مجرى المتذرع إليه أو تفارقه ، فانضم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدي به فيها ، والوزر في ذلك أعظم بلا إشكال .
ومثاله ما حكى الطرطوشي في أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أبي محمد المقدسي ، قال : لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان . وأول ما أحدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة : قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء ، وكان حسن التلاوة ، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع ، فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ، ثم جاء في العالم القابل فصلى معه خلق كثير ، وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ، ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا . فقلت له : فرأيتك تصليها في جماعة .
قال : نعم ! وأستغفر الله منها .
وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضاً ، لأن غير الداعي وإن كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدى به ، ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به ، إذ قد يكون خامل الذكر ، وقد يكون مشتهراً ولا يقتدي به ، لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه .
وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر ، ولا سيما المبتدع اللسان الفصيح الآخذ بمجامع القلوب ، إذا أخذ في الترغيب والترهيب ، وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها ، كما كان معبد الجهني يدعو الناس إلى ما هو عليه من القول بالقدر ، ويلوي بلسانه نسبته إلى الحسن البصري .
فروي عن سفيان بن عيينة أن عمرو بن عبيد عن مسألة فأجاب فيها وقال : هو من رأي الحسن فقال له رجل : إنهم يروون عن الحسن خلاف هذا . فقال : إنما قلت لك هذا من رأيي الحسن يريد نفسه .
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : كان عمرو بن عبيد إذا سئل عن شيء قال : هذا من قول الحسن فيوهم
أنه الحسن بن أبي الحسن وإنما هو قوله .
وأما الاختلاف من جهة كونه خارجاً على أهل السنة أو غير خارج ، فلآن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليه إثم ، والخارج زاد الخروج على الأئمة ـ وهو موجب للقتل ـ والسعي في الأرض بالفساد ، وإثارة الفتن والحروب ، إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق ، فله من الإثم العظيم أوفر حظ .
ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله ﷺ :
"يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ، وأخبارهم شهيرة .
وقد لا يخرجون هذا الخروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه أدعى إلى الإجابة ، لأن فيه نوعاً من الإكراه والإخافة ، فلا هو مجرد دعوة ، ولا هو شق العصا من كل وجه . وذلك أن يستعين على دعوة بأولي الأمر من الولاة والسلاطين ، فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة في الإيقاع بالآبي سجناً أو ضرباً أو قتلاً ، كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون ، ولأحمد بن أبي داؤد في خلافة الواثق ، وكما اتفق لعلماء المالكية بالأندلس إذ صارت ولايتها للمهديين ، فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي ، ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب أخذهم في الشريعة بمذهب مالك . وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة ، التي هي عند العلماء بدعةً ظهرت بعد المائتين من الهجرة . ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه ! لكنهم تعدوا ذلك إلى أن قالوا برأيهم ووضعوا للناس مذاهب لا عهد لهم بها في الشريعة ، وحملوهم عليها طوعاً أو كرهاً ، حتى عم داؤها في الناس ، وثبتت زماناً طويلاً ، ثم ذهب منها جملة وبقيت أخرى إلى اليوم . ولعل الزمان يتسع إلى ذكر جملة منها في أثناء الكتاب بحول الله .
فهذا الوجه ، الوزر فيه أعظم من مجرد الدعوة من وجهين : الأول الإخافة والإكراه بالإسلام والقتل ، والآخر كثرة الداخلين في الدعوة ، لأن الإعذار والإنذر الأخريين قد لا يقوم له كثير من النفوس ، بخلاف الدنيوي . ولأجل ذلك شرعت الحدود والزواجر في الشرع ، و إن الله ليزع بالسلطان ، ما لا يزعه بالقرآن بالمبتدع إذا لم ينتصر بإجابة دعوته بمجرد الإعذار والإنذار الذي يعظ به ، حاول الانتهاض بأولي الأمر ، ليكون ذلك أحرى بالإجابة .
وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ، فإن الحقيقية أعظم وزراً ، لأنها التي باشرها المنتهي بغير واسطة ، ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر . كالقول بالقدر ، والتحسين والتقبيح ، والقول بإنكار خبر لواحد ، وإنكار الإجماع ، وإنكار تحريم الخمر ، والقول بالإمام المعصوم ، وما أشبه ذلك .
فإذا فرضت غضافية : فمعنى الإضافية أنها مشروعة من وجه ، ورأي مجرد من وجه .
إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض أحوالها فلم تناف الأدلة من كل وجه . هذا وإن كانت تجري مجرى الحقيقة ، ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأتي إن شاء الله .
وبحسب ذلك الاختلاف يختلف الوزر . ومثاله جعل المصاحف في المساجد للقراءة آخر صلاة الصبح بدعة .
قال مالك : أول من جعل مصحفاً الحجاج بن يوسف . يريد أنه أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح في المسجد . قال ابن رشد : مثل ما يصنع عندنا إلى اليوم .
فهذه محدثة ـ أعني وضعه في المسجد ـ لأن القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به ، إلا أن تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه هو المحدث .
ومثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد .
وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة . فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة ، فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة ، لإمكان أن لا تكون بدعة والإقدام على المحتمل ، أخفظ رتبة من الإقدام على الظاهر ، ولذلك عذ العلماء ترك المتشابه من قبيل المندوب إليه في الجملة . ونبه الحديث على أن ترك المتشابه لئلا يقع في الحرام ، فهو حمى له ، وإن الواقع في المتشابه واقع في الحرام ، وليس ترك الحرام في الجملة من قبيل المندوب بل من قبيل الواجب ، فكذلك حكم الفعل المشتبه في البدعة ، فالتقارب بينهما بين .
وإن قلنا : إن ترك المتشابه من باب المندوب ، وإن مواقعته من باب المكروه فالاختلاف أيضاً واقع من هذه الجهة ، فإن الإثم في المحرمة هو الظاهر . وأما المكروهة فلا إثم فيها في الجملة ، ما لم يقترن بها ما يوجبها ، كالإصرار عليها ، إذ الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ، فكذلك الإصرار على المكروه فقد يصيره صغيرة ، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة في مطلق التأثيم ، وإن حصل الفرق من جهة أخرى . بخلاف المكروه مع الصغيرة . والشأن في البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ في الدوام عليها وإظهارها من المقتدى بهم في مجامع الناس وفي المساجد . فقلما تقدم بل تقع منهم على أصلها من الكراهية إلا ويقترن بها ما يدخلها في مطلق التأثيم من إصرار أو تعليم أو إشاعة أو تعصب لها أو ما أشبه ذلك . فلا يكاد يوجد في البدع ـ بحسب الوقوع ـ مكروه لا زائد فيه على الكراهية . والله أعلم .
وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيراً فيعظم بالإصرار عليه . كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها . فإذا كانت فلته فهي أهون منها إذا داوم عليها . ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها ، نظير الذنب إذا تهاون به . فالمتهاون أعظم وزراً من غيره .
وأما الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه فظاهر أيضاً . لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا الله ـ وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي ، فلا بدعة أعظم وزراً من بدعة تخرج عن الإسلام ، كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الإسلام . فبدعة الباطنية والزنادقة ، ليس كبدعة المعتزلة والمرجئة وأشباههم ، ووجوه التفاوت كثيرة ، ولظهورها عند العلماء لم نبسط الكلام عليها . والله المستعان بفضله .
فصل
ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين ، وفسادهم في الأرض . وخروجهم عن جادة الإسلام ، إلى بنيات الطريق التي نبه عليها قول الله تعالى : "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم . لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة ، منها ما تكلم عليها العلماء ، ومنها ما لم يتكلموا عليها ، لأن ذلك حدث بعد موت المجتهدين ، وأهل الحماية للدين ، فهو باب يكثر التفريغ فيه بحيث يستدعي تأليفاً مستقلاً ، فرأينا أن بسط ذلك يطول ، مع أن العناء فيه قليل الجدوى في هذه الأزمنة المتأخرة لتكاسل الخاصة ، عن النظر فيما يصلح العامة ، وغلبة الجهل على العامة ، حتى إنهم لا يفرقون بين السنة والبدعة .
بل قد انقلب الحال إلى أن عادت السنة بدعة ، فقاموا في غير موضع القيام ، واستقاموا إلى غير مستقام ، فعم الداء ، وعدم الأطباء ، حسبما جاءت به الأخبار . فرأينا أن لا نفرد هذا المعنى بباب يخصه ، وأن لا نبسط القول فيه ، وأن نقتصر من ذلك على لمحة تكون خاتمة لهذا الباب ، في الإشارة إلى أنواع الأحكام التي يقام عليهم بها في الجملة لا في النفصيل ، وبالله التوفيق .
فنقول : إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكائر هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين ، أم لا ، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا ، وداعياً إليها أو لا ، ومستطيراً بالأتباع وخارجاً عن الناس أو لا ، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا .
وكل من هذه القسام له حكم اجتهادي يخصه ، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، كما جاء في كثير من المعاصي ، كالسرقة والحرابة والقتل والقذف والجراح والخمر وغير ذلك . لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل ، وحكموا باجتهاد الرأي ، تفريعاً على ما تقدم لهم في بعضها من النص ، كما جاء في الخوارج من الأثر بقتلهم ، وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صبيغ العراقي .
فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع .
أحدهما : الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس رضي الله عنه حين ذهب إلى الخوارج فكلمهم حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف .
والثاني : الهجران وترك الكلام والسلام حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة ، وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي .
والثالث : كما غرب عمر صبيغاً . ويجري مجراه السجن وهو :
الرابع : كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة .
والخامس : ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يحذروا ، ولئلا يغتر بكلامهم ، كما جاء عن كثير من السلف في ذلك .
السادس : القتل إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج ، وغيره من خلفاء السنة .
والسابع : القتل إن لم يرجعوا من الاستتابة ، وهو قد أظهر بدعته وأما من أسرها وكانت كفراً أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة وهو :
الثامن : لأنه من باب النفاق كالزنادقة .
والتاسع : تكفير من دل الدليل على كفره ،كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية والقائلين بالحلول كالباطنية ، أو كانت المسألة في باب التكفير بالمآل ، فذهب المجتهد إلى كابن الطيب في تكفيره جملةً من الفرق . وينبني على ذلك :
والعاشر : وذلك أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحداً منهم ، ولا يغسلون إذا ماتوا ، ولا يصلون عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين ، ما لم يكن المستتر ، فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر ، وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث .
والحادي عشر : الأمر بأن لا يناكحوا ، وهو من ناحية الهجران ، وعدم المواصلة .
والثاني عشر : تجريحهم على الجملة ، فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ، ولا يكونون ولاةً ولا قضاةً ، ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة . إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم ، واختلفوا في الصلاة خلفهم من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه .
والثالث عشر : ترك عيادة مرضاهم ، وهو من باب الزجر والعقوبة .
والرابع عشر : ترك شهود جنائزهم كذلك .
والخامس عشر : الضرب كما ضرب عمر رضي الله عنه صبيغاً .
وروي عن مالك رضي الله عنه في القائل بالمخلوق : أنه يوجع ضرباً ويسجن حتى يموت .
ورأيت في بعض تواريخ بغداد عن الشافعي أنه قال : حكم في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد ، ويحملوا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأخذ في الكلام ، يعني أهل البدع .
فصل فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة
فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات وفرع العلماء منها كثيراً من المسائل وأصلوا منها أصولاً يحتذى حذوها ، على وفق ما ثبت نقله ؟ إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد ، وبالحري إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيساً على محل التخصيص . فلذلك قسم الناس البدع ولم يقولوا بذمها على الإطلاق .
وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه :
أحدها : ما في الصحيح من قوله ﷺ :
"من سن سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً" .
وخرج الترمذي وصححه أن رسول الله ﷺ قال :
"من دل على خير فله أجر فاعله" .
وخرج أيضاً عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :
"من سنة سنةً خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئاً ، ومن سن سنةً شر فاتبع عليها كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئاً" حسن صحيح .
فهذه الأحاديث صريحة في أن من سن سنةً خير فذلك خير ، ودل على أنه فيمن ابتدع من سن فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المراد : من عمل سنةً ثابتة في الشرع لما قال : من سن ويدل على ذلك قوله ﷺ :
"ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" فسن ـ ها هنا ـ على حقيقته لأنه اخترع ما لم يكن قبل معمولاً به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام .
فكذلك قوله : "من سن سنةً حسنةً" أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة فله من الأجر ما ذكر ، فليس المراد : من عمل سنةً ثابتة .
وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال : من عمل بسنتي أو سنة من سنتي ، وما أشبه ذلك . كما خرج الترمذي "أن النبي ﷺ قال لبلال بن الحارث :
أعلم قال : أعلم يا رسول الله ( ؟ ) ، قال : اعلم يا بلال قال : أعلم يا رسول الله ، قال : إنه من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعةً ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئاً" حديث حسن .
"وعن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله ﷺ :
يا بني ، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ـ ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة" حديث حسن .
فقوله : "من أحيا سنةً من سنتي قد أمييت بعدي" واضح في العمل بما ثبت أنه سنة ، وكذلك قوله : "من أحيا سنتي فقد أحبني" ، ظاهر في السنن الثايتة ، بخلاف قوله : من سن كذا ، فإنه في الاختراع أولاً من غير أن يكون ثابتاً في السنة .
وأما قوله لبلان بن الحارث ، "ومن ابتدع بدعة ضلالة" فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق بل بشرط أن تكون ضلالة ، وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله ، فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا لم تكن لم يلحقها ذم ، ولا تبع صاحبها وزر ، فعادت إلى أنها سنةً حسنةً ، ودخلت تحت الوعد بالأجر .
والثاني : أن السلف الصالح رضي الله عنهم ـ وأعلاهم الصحابة ـ قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسناً وأجمعوا عليه ، ولا تجمتع أمة محمد ﷺ على ضلالة ، وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن .
فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف ، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية ، واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله ﷺ ، ولم يكن في ذلك نص ولا حظر ، ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن ، فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ، ومن سباقهم في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه ، وقد كان من أشدهم اتباعاً وأبعدهم من الابتداع .
هذا وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره ، فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عن الحفظ والتحصيل ، وما على ما كان رأياً دون ما كان نقلاً من كتاب أو سنة .
ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر ، وقل المجتهدون في التحصيل ، فخافوا على الدين جملةً .
قال اللخمي لما ذكر كلاممالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه ، وخرج عليه الإجارة على كتبه ، وحكى الخلاف وقال : لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز ، لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت ، وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب .
قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب ، وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ، ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم ؟ فقال : لا ، فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث ؟ فقال : لا . فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيرتهم لضاع العلم ولم يكن بيننا منه ولو رسمه أو اسمه ، وهكذا الناس اليوم يقرؤون كتبهم ، ثم هم في التقصير على ما هم عليه .
وأيضاً فإنه خلاف عندنا في مسائل الفروع أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب ، وإذا كان كذلك كان إهمال كتبها وبيعها يؤدي إلى التقصير في الاجتهاد وأن لا يوضع مواضعه ، لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوى وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه .
انتهى ما قاله اللخمي ، وفيه إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم لأن له وجهاً صحيحاً ، فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم ، بل هو محمود ، وصاحبه الذي سنه ممدوح ، فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور .
فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث الأقضية واحترعها على قدر اختراع الفجار للفجور ، وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل ، وقتل الجماعة بالواحد وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم .
وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت : دمي عند فلان ، ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعي ، وإنما علل بأمر مصطلحي ، وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة ، فإن كان ذلك جائزاً مع أنه مخترع ، فلم لا يجوز مثله ـ وقد اجتمعا في العلة ـ لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة ، وإن لم يكن شيء من ذلك جائزاً فلم اجتمعوا على جملة وفرع غيرهم على بعضها ؟ ولا يبقى إلا أن يقال : إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيرهم وإن اجتمعا في العلة المسوغة للقياس ، وعند ذلك يصير الاقتصار تحكماً ، وهو باطل فما أدى إليه مثله ، فثبت أن البدع تنقسم .
فالجواب وبالله التوفيق أن يقول :
أما الوجه الأول : وهو قوله ﷺ :
"من سن سنةً حسنةً" الحديث . فليس المراد به الاختراع البتة ، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ـ إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به ، فإن زعم أنه مظنون فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به ، فيلزم التعارض بين القطعي والظني ، والاتفاق من المحققين ، ولكن فيه بحثاً ـ أو نظراً ـ من وجهين :
أحدهما : أنه يقال : إنه من قبيل المتعارضين ، إذ تقدم اولاً أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص ، وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص ، لم يقبل بعد ذلك التخصيص .
والثاني : على التنزل لفقد التعارض ، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع ،وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية ، وذلك لوجهين :
أحدهما : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة ، بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
"كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار ـ أو العباء ـ متقلدي السيوف ، عامتهم مضر ، بل كلهم من مضر ، فتعمر وجه رسول الله ﷺ لما رآهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام ، فصلى ثم خطب فقال :
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" والآية التي في سورة الحشر : "اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد" تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة ،قال : فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت . قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل كأنه مذهبة ، فقال رسول الله ﷺ : من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" .
فتأملوا أين قال رسول الله ﷺ من سن سنةً سيئة ؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة ، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، فسر بذلك رسول الله ﷺ حتى قال : "من سنة في الإسلام سنةً حسنةً" الحديث ، فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي وهو العمل ، بما ثبت كونه سنة ، وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر : "من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي ـ الحديث إلى قوله ـ ومن ابتدع بدعة ضلالة" فجعل مقابل تلك السنة الابتداع ، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة ، وكذلك قوله ﷺ : "ومن أحيا سنتي فقد أحبني" .
ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر لأنه ﷺ لما مضى على الصدقة أولاً ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية ، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله . فليس معناه من اخترع سنةً وابتدعها ولم تكن ثابتة .
ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضع معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال :" قام سائل على عهد رسول الله ﷺ فسأل ، فسكت القوم . ثم إن رجلاً أعطاء فأعطاه القوم ، فقال رسول الله ﷺ :
من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً ، ومن استن شراً فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم" فإذاً قوله : "من سنة سنةً" معناه من عمل بسنة ، لا من اخترع سنة .
والوجه الثاني من وجهي الجواب : أن قوله : "من سن سنةً حسنةً ومن سن سنةً سيئةً" لا يمكن حمله على الاختراع من أصل ، لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع ، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع ، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة . وإنما يقول به المبتدعة . أعني التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإنا قبيحة بالشرع ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة ، وما أشبهها من السنن المشروعة . وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي ، كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه السلام : "لأنه أول من سن القتل" وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم .
وأما قوله : "من ابتدع بدعة ضلالة" فهو على ظاهره ، لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب . ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله : "ومن سن سنةً سيئةً" أي من اخترعها . وشمل ما كان منها مخترعاً ابتداءً من المعاصي كالقتل من أحد ابني آدم ، وما كان مخترعاً بحكم الحال ، إذ كانت قبل مهملة متناساة ، فاثارها عمل هذا العامل .
فقد عاد الحديث ـ والحمد لله ـ حجةً على أهل البدع من جهة لفظه ، وشرح الأحاديث الأخر له .
وإنما يبقى النظر في قوله : "ومن ابتدع بدعة ضلالة" وإن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوماً ، والأمر فيه قريب لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوماً . وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول ، فإن الدليل دل على تعطليه في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيرة على تعطيل المفهوم في قوله الله تعالى : " لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق ، بالأدلة المتقدمة ، فلا مفهوم أيضاً .
والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة المحدثة . والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم . فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم . ولكن لا يعد ذلك قدحاً على ما نحن فيه .
أما جمع لمصحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب ، إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف تسهيلاً على العرب المختلفات اللغات ، فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة ، إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله ﷺ فتح لباب الاختلاف في القرآن ، حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله تعالى ، فخاف الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ اختلاف الأمة في ينبوع الملة ، فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه ، واطرحوا ما سوى ذلك ، علماً بأن ما اطرحوه ، مضمن فيما أثبتوه لأنه من قبيل القراءات التي يؤدي بها القرآن .
ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ، ودخل في الإسلام أهل العجمة خوفاً من فتح باب آخر من الفساد ، وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها فيستعينوا بذلك في بث إلحادهم . ألا ترى أنه لما لم بمكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن ، حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
فحق ما فعل أصحاب رسول الله ﷺ ، لأن له أصلاً يشهد له في الجملة . وهو الأمر بتبليغ الشريعة ، وذلك لا خلاف فيه ، لقوله تعالى : "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" وأمته مثله . وفي الحديث :
"ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وأشباهه . والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، وكذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل بإبطال كمسألة المصحف ولذلك أجمع عليه السلف الصالح .
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة كتابة العلم . ففي الصحيح قوله ﷺ :
"اكتبوا لأبي شاه" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ليس أحد من أصحاب رسول الله ﷺ أكثر حديثاً مني عن رسول الله ﷺ إلا عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب .
وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله ﷺ كتاب يكتبون له الوحي وغيره ، منهم عثمان وعلي معاوية والمغيرة بن شعبة وأبي كعب وزيد بن ثابت وغيرهم ، وأيضاً فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ ، وخوف اندراس العلم ، كما خيف دروسه حينئذ . وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم .
وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة ، وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين ، فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه . وإذا ثبت اعتبارها في صورة ثبت اعتبارها مطلقاً . ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع .
وفي الصحيح قوله ﷺ :
"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور" فأعطى الحديث ـ كما ترى ـ أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله ﷺ . لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين : إما أن يكون مقصوداً بدليل شرعي ، فذلك سنةً لا بدعة . وإما بغير دليل ـ ومعاذ الله من ذلك ـ ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة ، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة ﷺ . ودليله من الشرع ثابت فليس ببدعة . ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق . ولو كان عملهم ذلك بدعةً لوقع في الحديث التدافع .
وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أحد الخلفاء الراشدين ، وتضمين الصناع وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم .
وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز فلم أره ثابتاً من طريق صحيح . وإن سلم فراجع إما لأصل المصالح المرسلة ـ إن لم نقل : إن أصله قصة البقرة . وإن ثبت أن المصالح المرسلة مقول بها عند السلف ، مع أن القائلين بها يذمون البدع وأهلها ويتبرؤن منهم ـ دل على أن البدع مباينة لها وليست منها في شيء ولهذه المسألة باب تذكر فيه .
فصل ومما يورد في هذا الموضع
ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة ولم يعدوها قسماً واحداً مذموماً ، فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم ، وبسط ذلك القرافي بسطاً شافياً ـ وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام ، وها أنا آتي به على نصه ـ فقال :
اعلم أن الأصحاب ـ فيما رأيت ، متفقون على إنكار البدع ، نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره ، والحق النفصيل وأنها خمسة أقسام :
قسم واجب . وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع ، كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع ، وأن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعاً ، وإهمال ذلك حرام إجماعاً فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه .
القسم الثاني المحرم : وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة ، كالمكوس والمحدثات من المظالم ، والمحدثات المنافية لقواعد الشريعة ، كتقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح بطريق التوريث ، وجعل المستند في ذلك كون المنصب كان لأبيه ، وهو في نفسه ليس بأهل .
القسم الثالث : أن من البدع ما هو مندوب إليه ، وهو ما تنالولته قواعد الندب وأدلته ، كصلاة التراويح ، ولإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس . وكان الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسبق الهجرة .
ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن ، وحدت قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح .
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأكل خبز الشعير والملح ، ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم ، لعلمه بأن الحالة التي هو عليها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه ، وتجاسروا عليه بالمخالفة ، فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى تحفظ النظام . ولذلك لما قدم الشام وجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب واتخذ المراكب النفسية والثياب الهائلة العلية ، وسلك ما سلكه الملوك ، فسأله عن ذلك ، فقال : إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا . فقال له : لا آمرك ولا أنهاك . ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إليه . فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأمصار والقرون وأحوال . فكذلك يحتاج إلى تجديد زخارف وسيايات لم تكن قديمة ، وربما وجبت في بعض الأحوال .
القسم الرابع : بدعة مكروهة وهي ماتناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة . ولذلك ورد في الصحيح ـ خرجه مسلم وغيره :
أن رسول الله ﷺ نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام ، أو ليلة بقيام .
ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات .
كما ورد في التسبيح عقب الفريضة ثلاثاً وثلاثين ، فتفعل مائة .
وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة أصواع ، بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع وقلة أدب معه . بل شأن العظماء إذا حددوا شيئاً وقف عنده وعد الخروج عنه قلة أدب .
ولازيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع ، لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه ، ولذلك نهى مالك رضي الله عنه عن إيصال ستة أيام من شوال ، لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في سننه "أن رجلاً دخل إلى مسجد رسول الله ﷺ فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك ، فهكذا من قبلنا . فقال رسول الله ﷺ : اصاب الله بك يا ابن الخطاب" يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الجميع واجباً ، وذلك تغيير للشرائع ، وهو حرام إجماعاً .
القسم الخامس : البدع المباحة ، وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة ، كاتخاذ المناخل للدقيق ، ففي الآثار : أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله ﷺ اتخاذ المناخل . لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة .
فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته ، فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرها . وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعةً مع قطع النظر فيما يتقاضاها كرهت ، فإن الخير كله في الاتباع ،والشر كله في الابتداع .
وذكر شيخه في قواعده في فصل البدع منها ـ بعد ما قسم أحكامها إلى الخمسة ـ أن الطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة إلى أن قال : وللبدع الواجبة أمثلة .
أحدها : الاشتغال بالذي يفهم به كلام الله تعالى وكلاك رسوله ﷺ ، وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب .
والثاني : حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة .
والثالث : تدوين أصول الفقه .
والرابع : الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم .
ثم قال : والبدع المحرمة أمثلة ( منها ) مذهب القدرية ومذهب الجبرية والمرجئة والمجسمة . والرد على هؤلاء من البدع الواجبة .
قال : وللمندوب أمثلة . ( منها ) إحداث الربط والمدارس وبناء القناطر . ( ومنها ) كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول . ( ومنها ) الكلام في دقائق التصوف والكلام في الجدل . ( ومنها ) جمع المحافل ، للاستدلال في المسائل ، إن قصد بذلك وجهه تعالى .
قال : وللكراهة أمثلة . ( ومنها ) زخرفة المساجد وتزويق المصاحف . وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فالأصح أنه من البدع المحرمة .
قال : وللبدع المباحة أمثلة . ( ومنها ) المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ، ( ومنها ) التوسع في اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس والمساكن ، ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام . وقد اختلف في بعض ذلك ، فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ، وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله ﷺ فما بعده كالاستعاذة والبسملة في الصلاة . انتهى محصول ما قال .
وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة ، فلا يصح أن تحمل أدلة ذم البدع على العموم بل لها مخصصات .
والجواب : أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو نفسه متدافع ، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمورة بها أو المخير فيها . فالجميع بين عد تلك الأشياء بدعاً ، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين .
أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهة أخرى ، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة ، لإمكان أن يكون معصية ، كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها . فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة ، إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه .
فما ذكر القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح ، وما قسمه فيها غير صحيح . ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع . وكأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل . فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعاً ، بناءً ـ والله أعلم ـ على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة . وإن كانت تلائم قواعد الشرع . فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها بتسمية لها بلفظ البدع وهو من حيث فقدان الدليل المعين على المسألة ، واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد . ولما بنى على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة . وصار من القائلين بالمصالح المرسلة ، وسماها بدعاً في اللفظ ، كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه ، ولا على مراد الناس ، لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفاً للإجماع .
ثم نقول : أما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفاً فلا نعيده ، وأما قسم التحريم فليس فيه ما هو بدعة هكذا بإطلاق ، بل ذلك كله مخالفة للأمر المشروع . فلا يزيد على تحريم أكل المال بالباطل إلا من جهة كونه موضوعاً على وزان الأحكام الشرعية اللازمة، كالزكوات المفروضة ، والنفقات المقدرة ، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، وقد تقدم في الباب الأول منه طرف .
فإذاً لا يصح أن يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعة أن يقسم الأمر ذلك .
وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد . فقد قام بها النبي ﷺ في المسجد واجتمع الناس خلفه .
فخرج أبو داود عن أبي ذر قال :
"صمنا مع رسول الله ﷺ رمضان ، فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ؟ فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ ـ قال ـ فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة ، قال : فلما كانت الرابعة لم يقم ، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ـ قال ـ قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور ". ثم لم يقم بنا بقية الشهر ، ونحوه في الترمذي ، وقال فيه حسنً صحيح .
لكنه ﷺ لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك ، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : "أن النبي ﷺ صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم النبي ﷺ ، فلما أصبح قال :
قد رأيت الذي صنعتم ، فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم " ، وذلك في رمضان ، وخرجه مالك في الموطأ .
فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة ، فإن قيامه أولاً بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً ، لأن زمانه كان زمان زحي وتشريع ، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالألزام ، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله ﷺ رجع الأمر إلى أصله ، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له .
وإنما لم يقم ذلك أبو بكر رضي الله عنه لأحد أمرين : إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي ، وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع ، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح .
فلما تمهد الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه ورأى الناس في المسجد أوزاعاً ـ كما جاء في الخبر ـ قال : لو جمعت الناس على قارىء واحد لكان أمثل ، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ، ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره ، والأمة لا تجتمع على ضلالة .
وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي .
فإن قيل : فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسنها بقوله : نعمت البدعة هذه وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع .
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله ﷺ ، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه ، لا أنها بدعة في المعنى ، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأساسي ، وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه ، لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه ، فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :
إن كان رسول الله ﷺ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .
وقد نهى النبي صلى ا لله عليه وسلم عن الوصال رحمةً بالأمة وقال :
"إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة النهي حسبما يأتي إن شاء الله تعالى .
وذكر القرافي من جملة الأمثلة إقامة صور الأئمة والقضاة إلخ ما قال ، وليس ذلك من قبيل البدع بسبيل ، أما أولاً فإن التجمل بالنسبة إلى ذوي الهيئات والمناصب الرفيعة مطلوب ، وقد كان للنبي ﷺ حلة يتجمل بها للوفود ، ومن العلة في ذلك ما قاله القرافي من أن ذلك أهيب وأوقع في النفوس ، من تعظيم العظماء ، ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء في حديث أشج عبد القيس ، وأما ثانياً : فإن سلمنا أن لا دليل عليه بخصوصه فهو من قبيل المصالح المرسلة ، وقد مر أنها ثابتة في الشرع . وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعير ويفرض لعامله نصف شاة ، فليس فيه تفخيم صورة الإمام ولا عدمه ، بل فرض له ما يحتاج إليه خاصة ، وإلا فنصف شاة لبعض العمال قد لا يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يحتاج إليه من لباس وركوب وغيرهما ، فذلك قريب من أكل الشعير في المعنى ، وأيضاً فإن ما يرجع إلى المأكول والمشروب لا تجمل فيه بالنسبة إلى الظهور للناس .
وقوله : فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة ، وربما وجبت في بعض الأحوال ، مفتقر إلى التأمل ، ففيه ـ على الجملة ـ أنه مناقض لقوله في آخر الفصل : الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع مع ما ذكره قبله .
فهذا كلام يقتضي أن الابتداع شر كله ، فلا يمكن أن يجتمع مع فرض الوجوب . وهو قد ذكر أن البدعة قد تجب ، وإذا وجبت لزم العمل بها ، وهي لما فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الأمر بها والأمر بتركها ، ولا يمكن فيهما الانفكاك ـ وإن كانا من جهتين ـ لأن الوقوع يستلزم الاجتماع ، وليسا كالصلاة في الدار المغصوبة . لأن الانفكاك في الوقوع ممكن ، وها هنا إذا وجبت فإنما تجب على الخصوص ، وقد فرض أن الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض ، وأما على التفصيل فإن تجديد الزخارف فيه من الخطأ ما لا يخفى .
وأما السياسات ، فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع ، وإن خرجت عن ذلك فكيف يندب إليها ؟ وهي مسألة النزاع .
وذكر في قسم المكروه أشياء هي من قبيل البدع في الجملة ولا كلام فيها ، أو من قبيل الاحتياط على العبادات المحضة أن لا يزداد فيها ولا ينقص منها ، وذلك صحيح ، لأن الزيادة فيها والنقصان منها بدع منكرة . فحالتها وذرائعها يحتاط بها في جانب النهي .
وذكر في قسم المباح مسألة المناخل ، وليست ـ في الحقيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ، ولا يقال فيمن تنعم بمباح : إنه قد ابتدع ، وإنما يرجع ذلك ـ إذا اعتبر ـ إلى جهة الإسراف في المأكل ، لأن الإسراف كما يكون في جهة الكمية يكون في جهة الكيفية ، فالمناخل لا تعدو القسمين ، فإن كان الإسراف من ماله ، فإن كره ، وإلا اغتفر مع أن الأصل الحواز .
ومما يحكيه أهل التذكير من الآثار أو أول ما أحدث الناس أربعة أشياء : المناخل ، والشبع ، وغسل اليدين بالأشنان بعد الطعام ، والأكل على الموائد ، وهذا كله ـ إن ثبت نقلاً ـ ليس ببدعة ، وإنما يرجع إلى أمر آخر ، وإن سلم أنه بدعة فلا نسلم أنها مباحة ، بل هي ضلالة ومنهي عنها ، ولكنا نقول بذلك .
فصل وأما ما قاله عز الدين
وأما ما قاله عز الدين ، فالكلام فيه على ما تقدم ، فأمثلة الواجب منها من قبل ما لا يتم الواجب إلا به ـ كما قال ـ فلا يشترط أن يكون معمولاً به في السلف ولا أن يكون له أصل في الشريعة على الخصوص ، لأنه من باب المصالح المرسلة لا البدع .
أما هذا الثاني فقد تقدم ، وأما الأول لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيراناً في الهواء أو مشياً على الماء لم يعد مبتدعاً بمشيه كذلك ، لأن المقصود إنما هو التوصل إلى مكة لأداء الفرض وقد حصل على الكمال . فكذلك هذا .
على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من المصنفين في طريقة التصوف وعدها من جملة ما ابتدع الناس ، وذلك غير صحيح ، ويكفي في رده إجماع الناس قبله على خلاف ما قال .
على أنه نقل عن القاسم بن مخيمرة : أنه ذكرت عنده العربية فقال : أولها كبر ، وآخرها بغي ، وحكي أن بعض السلف قال : النحو يذهب الخشوع من القلب ، ومن أراد أن يزدري الناس كلهم فلينظر في النحو ، ونقل نحو من هذه ، وهذه كلها لا دليل فيها على الذم لأنه لم يذم النحو من حيث هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد ، كما يذم سائر علماء السوء لا لأجل علومهم بل لأجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به والعجب وغيرهما ، ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة ، فتسمية العلوم التي يكتسب بها أمر مذموم بدعاً إما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها أولاً ثم احيتج بعد ، أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة ، إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكبر والزهو وغيرهما ، ولا يعود ذلك عليها بذم .
ومما حكى بعض هذه المتصوفة عن بعض علماء الخلف قال : العلوم تسعة . أربعة منها سنة معروفة من الصحابة والتابعين ، وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف ، فأما الأربعة المعروفة . فعلم الإيمان ، وعلم القرآن ، وعلم الآثار ، والفتاوى ، وأما الخمسة المحدثة : فالنحو ، والعروض ، وعلم المقاييس ، والجدل في الفقه ، وعلم المعقول بالنظر .
وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولاً كما قال ، فإن أهل العربية يحكون عن أبي الأسود الدؤلي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء في النحو حين سمع أعرابياً قارئاً . "أن الله بريء من المشركين ورسوله" ـ بالجر ـ وقد روي عن ابن مليكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة ، وأمر أبا الأسود فوضع النحو ، والعروض من جنس النحو ، وإذا كانت الإشارة من واحد من الخلفاء الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنة الخلفاء الراشدين ، وإن سلم أنه ليس كذلك ، فقاعدة المصالح تعم علوم العربية ، أي تكون من قبيل المشروع ، فهي من جنس كتب المصحف وتدوين الشرائع ، وما ذكر عن القاسم بن مخيمرة قد رجع عنه .
قال أحمد بن يحيى ثعلباً ( ؟ ) قال : كان أحد الأئمة في الدين يعيب النحو ويقول : أول تعلمه شغل ، وآخره يزدري العالم به الناس ، فقرأ يوماً : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" برفع الله ونصب العلماء فقيل له : كفرت من حيث لا تعلم : تجعل الله يخشى العلماء ؟ فقال : لا طعنت ( ؟ ) قال عن علم يدل إلى معرفة هذا أبداً .
قال عثمان بن سعيد الداني : الإمام الذي ذكره أحمد بن يحيى هم القاسم بن بن مخيمرة . قال : وقد جرى لعبد الله بن أبي إسحاق مع محمد بن سيرين كلام ، وكان ابن سيرين ينتقص النحويين ، فاجتمعا في جنازة فقرأ ابن سيرين "إنما يخشى الله من عباده العلماء" برفع اسم الله ، فقال له ابن أبي إسحاق : كفرت يا أبا بكر .تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله ؟ فقال ابن سيرين : إن كنت أخطأت فأستغفر الله .
وأما علم المقاييس فأصله في السنة ، ثم في علم السلف بالقياس . ثم قد جاء في ذم القياس أشياء حملوها عل
فصل ومما يتعلق به بعض المتكلفين
ومما يتعلق به بعض المتكلفين أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة ، المقتدون أفعال السلف الصالح ، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك ، ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على أكل الحلال ، واتباع السنة والإخلاص وهذا هو الحق . ولكنهم في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنة ، ولا عمل بأمثالها السلف الصالح . فيعملون بمقتضاها ، ويثابرون عليها ، ويحكمونها طريقاً لهم مهيعاً وسنة لا تخلف ، بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال فلولا أن في ذلك رخصة لم يصح لهم ما بنوا عليه .
فمن ذلك أنهم يعتمدون في كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة ، وخرق العادة ، فيحكمون بالحل والحرمة ، ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام ،كما يحكى عن المحاسبي أنه كان إذا تناول طعاماً في شبهة ينبض له عرق في أصبعه فيمتنع منه .
وقال الشبلي : اعتقدت وقتاً أن لا آكل إلا من حلال ، فكنت أدور في البراري ، فرأيت شجرة تين فمددت يدي إليها لآكل فنادتني الشجرة : احفظ عليك عهدك ، لا تأكل مني فإني ليهودي .
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله : دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع عظيم فخفت ، فهتف بي هاتف : اثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك .
فمثل هذه الأشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها ، إذ المكاشفة ، أو الهاتف المجهول ، أو تحرك بعض العروق ، لا يدل على التحليل ولا التحريم لإمكانه في نفسه ، وإلا لو حضر ذلك حاكم أو غيره لكان يجب عليه أو يندب البحث عنه حتى يستخرج من يد واضعة بين أيديهم إلى مستحقه . ولو هتف هاتف بأن فلاناً قتل المقتول الفلاني ، أمر أخذ مال فلان ، أو زنى ، أو سرق . أكان يجب عليه العمل بقوله ؟ و يكون شاهداً في بعض الأحكام ؟ شرعي ؟ هذا مما لا يعهد في الشرع مثله .
ولذلك قال العلماء : لو أن نبياً من الأنبياء ادعى الرسالة . وقال : إنني إن أدع هذه الشجرة تكلمني ، ثم دعاها فأتت وكلمته وقالت : إنك كاذب . لكان ذلك دليلاً على صدقة لا دليلاً على كذبه ، لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه . وكون الكلام تصديقاً أو تكذيباً أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له .
فكذلك نقول في هذه المسألة : إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراماً ، لا يدل ذلك على أن الحكم بالأمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم .
فكذلك مسألة الخواص . فإن التوقي من مظان المهلكات مشروع ، فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع ، وهو معتاد في أهل هاته الطريقة .
وكذلك كلام الشجرة للشبلي من جملة الخوارق وبناء الحكم عليه غير معهود .
ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة ، حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيري قال في باب وصية المريدين من رسالته : إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ، ويقصد أبداً الخروج عن الخلاف ، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال ، وهؤلاء الطائفة ـ يعني الصوفية ـ ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه . ولهذا قيل : إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة ، فقد فسخ عقده ، ونقص عهده فيما بينه وبين الله .
فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع ، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ ، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين . فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التيي قال فيها رسول الله عليه وسلم :
"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" فيه ما فيه . وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعاً للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة وإيثاراً إلى ما يبني عليه من المجاهدة .
ومن ذلك