الرئيسيةبحث

كتاب الاعتبار/الباب الأول/مكافحة الأسود وسائر الضواري

كتاب الاعتبار
مكافحة الأسود وسائر الضواري
المؤلف: أسامة بن المنقذ



مكافحة الأسود وسائر الضواري



حياة أسامة البينية

وما رأيت الوالد رحمه الله نهاني عن قتال ولا راكبو خطر مما كان يرى في وأري من إشفاقه وايثاره لي، ولقد رأيته يوماً وكان عندنا بشيزر رهائن عن بغدوين ملك الإفرنج على قطيعة قطعها لحسام الدين تمرتاش بن إيغازي رحمه الله فرسان إفرنج وأرمن. فلما وفوا ما عليهم وأردوا الرجوع إلى بلادهم نفذ خيرخان صاحب حمص خيلاً كمنوا لهم في ظاهر شيزر. فلما توجه الرهائن خرجوا عليهم أخذوهم ووقع الصائح، فركب عمي وأبي رحمهما الله ووقفا وكل من يصل إليهما قد سيراه من خلفهم. واستخلصوا رهائنكم. فتبعتهم وأدركتهم بعد ركض اكثر النهار واستخلصت من كان معهم وأخذتهم بعض خيل حمص. وعجبت من قولهارموا نفوسكم عليهم. ومرة كنت معه رحمه الله وهو واقف في قاعة داره وإذا حية عظيمة قد أخرجت رأسها على إفريز رواق القناطر التي في الدار فوقف يبصرها، فحملت سلماً كان في جانب الدار أسندته تحت الحية وصعدت إليها، وهو يراني فلا ينهاني، وأخرجت سكيناً صغيرة من وسطي وطرحتها على رقبة الحية وهي نائمة وبين وجهي وبينها دون ذراع وجعلت أخرز رأسها - وخرجت التفت على يدي - إلى ان قطعت رأسها وألقيتها إلى الدار وهي ميتة. بل رأيته رحمه الله وقد خرجنا يوماً لقتال أسد ظهر على الجسر. فلما وصلناه حمل علينا من أجمة كان فيها، فحمل على الخيل ثم وقف وأنا وأخي بهاء الدولة منقذ رحمه الله بين الأسد وبين موكب فيه أبي وعمي رحمهما الله ومعهما جماعة من الجند، والأسد قد ربض على حرف النهر يتضرب بصدره على الأرض ويهدر فحملت عليه، فصاح علي أبي رحمه الله لا تستقبله يا مجنون فيأخذك! فطعنته، فلا والله ما تحرك من مكانه، فمات موضعه. فما رأيته ينهاني عن قتال منذ ذلك اليوم.

جرح سطحي

خلق الله عز وجل خلقه اطواراً مختلفين الخلق والطبائع الأبيض والأسود والجميل والقبيح، والطويل والقصير، والقوي والضعيف، والشجاع والجبان، بمقتضى حكمته وعموم قدرته. رأيت بعض أولاد الأمراء التركمان الذين كانوا في خدمة ملك الأمراء أتابك زنكي رحمه الله أصابته نشابة ما دخلت في جلده مقدار شعيرة فاسترخا وانحلت أعضائه وانقطع كلامه وغاب ذهنه وهو رجل مثل الأسد، أجسم ما يكون من الرجال، فاحضروا له الطبيب والجرائحي. فقال الطبيب ما به بأس. بل متى جرح ثانية مات، فهدأ وركب وتصرف كما كان، ثم أصابته نشابة أخرى بعد مدة أحقر من الأولى وأقل نكاية، فمات.

طحان يموت من لسعة زنبور

ورأيت ما يقرب ذلك أيضاً كان عندنا بشيزر أخوان يقال لهما بنو ماجوج، لواحد اسمه أبو المجد ولآخر محاسن وهمت ضمان رحاة الجسر بثمان مائة دينار. وعند الرحا مذبح فيه جزاروا البلد ويجتمع الزنابير على أثار الدم. فاجتاز محاسن بن مجادو يوماً إلى الرحا فلسعه زنبور فانفلج وانقطع كلامه وأشرف على الموت، وبقي كذلك مدة، ثم أفاق وانقطع عن الرجا مدة فعاتبه أخوه أبو المجد وقال له يا أخي معنا هذه الرحى بثمان مائة دينار ولا تشرف عليها ولاتبصرها؟ وغداً ينكسر علينا ضمانها ونموت في الحبس. فقال له محاسن أنت مقصودك ان يلسعني زنبور آخر فيقتلني. واصبح جاء إلى الرحا فلسعه زنبور فمات. فأيسر الأشياء يقتل إذا فرغ الأجل، والفأل موكل بالمنطق.

حوادث الأسود

فمن ذلك أنه ظهر عندنا بأرض شيزر سبع، فركبنا إليه فوجدنا غلاماً للأمير سابق بن وثاب بن محمود بن صالح في ذلك المكان يرعى فرسه اسمه شماس فقال له عمي أين الأسد؟ قال في تلك الغلفاء. قال سر قدامي إليها. قال أنت مقصودك ان يخرج الأسد يأخذني. ومشى قدامه. فخرج الأسد كأنه مرسل إلى شماس فأخذه فقتله دون الناس وقتل الأسد. وشاهدت من الأسد ما لم أكن لأظنه، ولا اعتقد ان الأسد كالناس فيها الشجاع وفيها الجبان. وذلك ان جوبان الخيل جاءنا يوماً كان يركض وقال في أجمة تل التلول ثلاثة سباع. فركبنا فخرجنا إليها، وإذا لبوءة خلفها أسدان، فدرنا في تلك الأجمة، فخرجت علينا اللبوءة خلفها أسدان، فدرنا في تلك الأجمة، فخرجت علينا اللبوءة فحملت على الناس ووقفت فحمل عليها أخي بهاء الدولة أبو المغيث منقذ رحمه الله طعنها قتلها وتكسر رمحه فيها. ورجعنا إلى الأجمة فخرج علينا أحد السبعين فطرد الخيل، ووقفت أنا وأخي بهاء الدولة في طريقه عند عودته من طرد الخيل. فإن الأسد إذا خرج من موضع لا بد له من الرجوع إليه شبهة، وجعلنا إعجاز خيلنا إليه، ورددنا رماحنا نحوه ونحن نعتقد انه يقصدنا فننشب الرماح فيه فنقتله، فما راعنا إلا وهو عابر علينا كالريح إلى رجل من أصحابنا يقال له سعد الله الشيباني فضرب فرسه فرماها فطعنته وسطت القنطارية فيه فمات مكانه. ورجعنا إلى الأسد الآخر ومعنا نحو من عشرين راجلاً من الأرمن الأجياد رماة. فخرج السبع الأخر وهو أعظمها خلقة يمشي وعارضه الأرمن بالنشاب، وأنا معارض الأرمن انتظره يحمل عليهم يأخذ واحداً منهم فطعنه وهو يمشي. وكلما وقعت به نشابة قد هدر ولوح بذنبه فأقول الساعة يحمل ثم يعود يمشي. فما زال كذلك حتى وقع ميتاً، فرأيت من ذلك الأسد شيئاً ما ظننته. ثم شاهدت من الأسد أعجب من ذلك. كان بمدينة دمشق جرو أسد قد رباه سباع معه حتى كبر وصار يطلب الخيل وتأذى الناس به فقيل للأمير معين الدين رحمه الله وأنا عنده هذا السبع قد آذا الناس والخيل تنفر منه وهو في الطريق. وكان على مصطبة بالقرب من دار معين الدين رحمه الله في النهار والليل. فقال قولوا للسباع يجيء به. فقال للخوان سلار أخرج من ذبائح المطبخ خاروفاً إلى قاعة الدار حتى نبصر كيف يكسره السبع. فاخرج خاروفاً إلى قاعة الدار، ودخل السباع ومعه السبع. فساعة رآه الخروف، وقد أرسله السباع من السلة التي في رقبته حمل عليه فنطحه فانهزم السبع وأخذ يدور حول البركة والخاروف خلفه يطرده وينطحه، ونحن قد غلبنا الضحك عليه. فقال الأمير معين الدين رحمه الله هذا السبع منحوس! أخرجوه اذبحوه واسلخوه وهاتوا جلده. فذبحوه وسلخوه وأعتق ذلك الخروف من الذبح.

ومن عجيب أمور السباع أن أسداً ظهر عندنا في أرض شيزر، فخرجنا إليه ومعنا رجالة من أهل شيزر فيهم غلاماً للمعبد الذي كان يطيعه أهل الجبل ويكاد يعبد. ومع ذلك الغلام كلب له. فخرج الأسد على الخيل فجلت قدماه جافلة ودخل في الرجالة، فأخذ ذلك الغلام وبرك عليه، فوثب الكلب على ظهر الأسد فنفر عن الرجل وعاد إلى الأجمة. وخرج الرجل بين يدي والدي رحمه الله يضحك وقال يا مولاي ما جرحني ولا آذاني وقتلوا الأسد ودخل الرجل فمات تلك الليلة من غير جرح أصابه إلا أنه انقطع قلبه. فكنت أعجب من إقدام ذلك الكلب على الأسد وكل حيوان ينفر من الأسد ويتجنبه. ولقد رأيت رأس الأسد يحمل إلى بعض دورنا فترى السنانير تهرب من تلك الدار وترمي نفوسها من السطوحات، وما رأت الأسد قط، وكنا نسلخ الأسد ونرميه من الحصن إلى سفح الباشورة فلا يقربه الكلاب ولاشيء من الطير. وإذا رأت القيقان اللحم نزلت إليه ثم دنت منه صاحت وطارت. وما أشبه هيبت الأسد على الحيوان بهيبة العقاب قط فيصبح وينهزم، هيبة ألقها الله تعالى في قلوب الحيوان لهذين الحيوانين. وعلى ذكر السباع كان عندنا أخوان من أصحابنا يقال لهما بنو الرعام رجال يترادون من شيزر إلى اللاذقية واللاذقية لعمي عز الدولة أبى المرهف نصر، وفيها أخوه عز الدين أبو العساكر سلطان رحمهما الله. بالكتب بينهما قال اخرجنا من اللاذقية فأشرفنا من عقبة المنة وهي عقبه عالية تشرف على ما تحتها من الوطا، فرأينا السبع وهو رابض على النهر تحت العقبة، فوقفنا مكاننا ما نجسر على النزول من خوف الأسد، فرأينا رجلاً قد أقبل فصحنا إليه ولوحنا بثيابنا إليه نحذره من الأسد فما سمعنا، وأوتر قوسه وطرح فيه نشابة ومشى، فرآه الأسد فوثب إليه فضربه ما أخطاء قلبه فقتله، ومشى إليه فتمم قتله، وأخذ نشابته وجاء إلى ذلك النهر ونزع زربوله وقلع ثيابه ونزل اغتسل في الماء، ثم طلع لبس ثيابه ونحن نراه، وجعل ينفض شعره لينشفه من الماء، ثم لبس فردة زربوله واتكى على جنبه وطول في الاتكاء، فقلنا والله ما قصر، ولكن على من يتيه؟ ونزلنا إليه وهو على حاله فوجدناه ميتاً ما ندري ما أصابه، فنزعنا فردة الزربول من رجله وإذا فيه عقرب صغير قد لسعته في إبهامه فمات لوقته، فعجبنا من ذلك الجبار الذي قتل الأسد وقتلته عقرب مثل الإصبع، فسبحان الله القادر النافذ المشيئة في الخلق.

قد تقاتلت السباع في عدة مواقف لا احصيها، وقتلت عدة منها ما شاركني في قتلها أحد سوى ما شاركني فيه غيري. فمن ذلك أن الأسد مثل سواه من البهائم يخاف ابن أدم ويهرب منه وفيه غفلة وبله ما لم يجرح فحينئذ هو الأسد، وذلك الوقت يخاف منه وإذا خرج من غاب أو أجمة وحمل على الخيل فلابد له من الرجوع إلى الأجمة التي خرج منها، ولو أن النيران في طريقه. وكنت أنا قد عرفت هذا بالتجربة، فمتى حمل على الخيل وقفت في طريق رجوعه قبل أن يجرح، فإذا رجع تركته إلى أن يتجاوزني وطعنته قتلته.

حوادث النمور

أما النمور فقتالها أصعب من قتال الأسد لخفتها وبعد ثباتها، وهي تدخل في الغارات والمحاجر كما تدخل الضباع، والأسد ما تكون إلى في الغابات والآجام وقد كان ظهر عندنا نمر في قرية يقال لها معرزوف من أعمال شيزر. فركب إليه عمي عز الدين رحمه الله وأرسل إلي فارساً وأنا راكب في شغل لي يقول ألحقني إلى معرزوف، فلحقته وجئنا إلى الموضع الذي زعموا أن النمر فيه، فما رأينه وكان هنا جب، فنزلت عن حصاني ومعي قنطارية وجلست على فم الجب، وهو قصير نحو القامة وفي جانبه خرق كل حجر، فحركت القنطارية في ذلك الخرق الذي في الجب فخرج النمر برأسه من ذلك الخرق ليأخذ القنطارية فلما علمنا انه في ذلك الموضع نزل معي بعض أصحابنا، وصار بعضنا يحرك ذلك الموضع بالرمح حتى قتلناه، وكان خلقة عظيمة، إلا أنه كان أكل من دواب القرية حتى عجز عن نفسه، وهو دون سائر الحيوان يقفز إلى فوق أربعين ذراعاً.

وقد كان في كنيسة حناك طاقة في ارتفاع أربعين ذراعاً، فكان يأتيها نمر في الهاجرة يثب إليها ينام فيها إلى أخر النهار ويثب منها ينزل ويمضي ومقطع حناك ذلك الوقت فارس إفرنجي يقال له سير آدم من شياطين الإفرنج فأخبروه خبر النمري فقال إذا رأيتموه أعلموني. فجاء النمر كعادته وثب على تلك الطاقة. فجاء بعض الفلاحين أخبر السير آدم، فلبس درعه وركب حصانه، وأخذ ترسه ورمحه وجاء إلى الكنيسة وهي خراب، وإنما هي حائط قائم فيه تلك الطاقة. فلما رآه النمر وثب من الطاقة عليه وهو فوق حصانه، فكسر ظهره وقتله ومضى. فكان فلاحو حناك يسمونه النمر المجاهد.

ومن خواص النمر انه إذا جرح إنسان وبالت عليه فأر مات. ولا ترد الفأرة عن جريح النمر، حتى انه يعمل له سرير يجلس في الماء ويربط حوله السنانير خوفاً عليه من الفأر. والنمر لا يكاد يألف بالناس ولا يستأنس بهم. وقد كنت مرة مجتازاً بمدينة حيفا من الساحل وهي للإفرنج. فقال لي إفرنجي منهم تشتري مني فهداً جيداً؟ قلت نعم. فجاءني بنمر قد رباه حتى صار قد الكلب. قلت لا ما يصلح لي، هذا نمر ما هو فهد، فعجبت من أنسه وتصرفه مع الإفرنجي. والفرق بين النمر والفهد ان وجه النمر طويل مثل وجه الكلب وعيناه زرق والفهد وجهه مدور وعيناه سود. وقد كان بعض الحلبيين أخذ نمراً وجاء به في عدل إلى صاحب القدموس وهو لبعض بني محرز وهو يشرب، ففتح العدل فخرج النمر على من في المجلس. فأما الأمير فكان عند طاقة في البرج قد دخل منها وغلق عليه الباب. وجال النمر في البيت قتل بعضهم وجرح بعضهم إلى أن قتلوه. وسمعت وما رأيت في السباع الببر وما كنت أصدق ذلك. فحدثني الشيخ الإمام حجة الدين أبو هاشم محمد بن محمد بن ظافر رحمه الله قال سافرت من المغرب ومعي غلام شيخ كان لوالدي سافر وجرب الأمور، ففرغ الماء الذي كان معنا وعطشنا وليس معنا ثالث، إنما نحن أنا وهو على نجيبين، فصدنا ماء في طريقنا فوجدنا عليه ببر وهو نائم فاعتزلنا عنه. ونزل صاحبي عن جمله وأعطاني زمامه وأخذ سيفه وترسه وقربه معنا وقال لي احتفظ برأس النجيب ومشي إلى الماء. فلما رآه الببر قام ووثب مستقبله حتى تجاوزه، ثم صاح فثارت إليه مجريات له عدواً لحقوه. وما عارضنا ولا آذانا، فشربنا واسقينا ثم مضينا. هكذا حدثني رحمه الله وكان من خيار المسلمين في دينه وعلمه.