فصل النفس الأمّارة |
وأما النفس الأمّارة فهي المذمومة فإنها التي تأمر بكل سوء وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها اللّه وثبتها وأعنها. فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق اللّه له كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [12:53] وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾[24:21] وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [17:74] وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم خطبة الحاجة: (الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده اللّه فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له) فالشر كامن في النفس وهو يوجب سيئات الأعمال فإن خلى اللّه بين العبد وبين نفسك هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفقه اللّه وأعانه نجاه من ذلك كله فنسأل اللّه العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
و قد امتحن اللّه سبحانه الإنسان بهاتين النفسين الأمّارة واللوّامة كما أكرمه بالمطمئنة فهي نفس واحدة تكون أمّارة ثم لوّامة ثم مطمئنة وهي غاية كمالها وصلاحها وأيد المطمئنة بجنود عديدة فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها ويقذف فيها الحق ويرغبها فيه ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه ويريها قبح صورته، وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر وجعل وفود الخيرات ومداد التوفيق تنتابها وتصل إليها من كل ناحية وكلما تلقتها بالقبول والشكر والحمد للّه ورؤية أوليته في ذلك كله ازداد مددها فتقوى على محاربة الأمّارة. فمن جندها وهو سلطان عساكرها وملكها للإيمان واليقين فالجيوش الإسلامية كلها تحت لوائه ناظر إليه إن ثبت ثبتت وإن انهزم ولت على أدبارها ثم أمراء هذا الجيش ومقدمو عساكره شعب الإيمان المتعلقة بالجوارح على اختلاف أنواعها كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصيحة الخلق والإحسان إليهم بأنواع الإحسان، وشعبه المتعلقة بالقلب كالإخلاص والتوكل والإنابة والتوبة والمراقبة والصبر والحلم والتواضع والمسكة وامتلاء القلب من محبة اللّه ورسوله وتعظيم أوامر اللّه وحقوقه والغيرة للّه وفي اللّه والشجاعة والعفّة والصدق والشفقة والرحمة، وملاك ذلك كله الإخلاص والصدق فلا يتعب الصادق المخلص فقد أقيم على الصراط المستقيم فيسار به وهو راقد، ولا يتعب من حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران فإن شاء فليعمل وإن شاء فليترك فلا يزيده عمله من اللّه إلا بعدا. وبالجملة فما كان اللّه وباللّه فهو من جند النفس المطمئنة.
و أما النفس الأمّارة فجعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها فهو بعدها ويمينها ويقذف فيها الباطل ويأمرها بالسوء ويزينه لها ويطيل في الأمل ويريها الباطل في صورة تقبلها وتستحقها ويمدها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة ويستعين عليها بهواها وإرادتها فمنه يدخل عليها كل مكروه فما استعان على النفوس بشي ء وهو أبلغ من هواها وإراداتها إليه.
و قد علم ذلك إخوانه من شياطين الإنس فلا يستعينون على الصور الممنوعة منهم بشي ء أبلغ من هواهم وإراداتهم فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبه وتهواه ثم طلبوا بجهدهم تحصيله فاصطادوا به تلك الصورة فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجلسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبوا وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكم فيها فبدعوا معالم الإيمان والقرآن والذكر والصلاة. وخربوا المساجد وعمروا البيع والكنائس والحانات والمواخير وقصدوا إلى الملك فأسروه وسلبوه لأملاكه ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان، ومن عز الطاعة إلى ذل المعصية، ومن السماع الرحماني إلى السماع الشيطاني، ومن الاستعداد للقاء رب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين، فبينا هو يراعي حقوق اللّه وما أمر به إذ صار يرعى الخنازير، وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم إذ صار منتصبا لخدمة كل شيطان رجيم.
و المقصود أن الملك قرين النفس المطمئنة، والشيطان قرين الأمّارة، وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن للشيطان لمة [1] بابن آدم وللملك لمة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه وليحمد اللّه، ومن وجد الآخر فليتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ثم قرأ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾[2:268]» [2].
و قد رواه عمر عن عطاء بن السائب وزاد فيه عمر وقال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: «إذا أحس أحدكم لمن لمة الملك شيئا فليحمد اللّه وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا فليستغفر اللّه وليتعوذ من الشيطان».
هامش